الانفتاحُ على الآخَرِ أوسعُ أبوابِ البِيرونيِّ في رحلتِه إلى الهند

ثمانون باباً أبرزُها الانفتاحُ على المغايِر المختلِف استكشفَ بها البيرونيُّ بلادَ الهندِ، ومنها عبرةٌ لصِدامات زماننا اليوم

Share
 الانفتاحُ على الآخَرِ أوسعُ أبوابِ البِيرونيِّ في رحلتِه إلى الهند
تصميم حاتم عرفة / مجلة الفراتس

استمع لهذه القصة

00:00:0000:00:00

في الكتابِ الشهيرِ للفيلسوفِ والرحّالةِ المسلمِ أبي الريحانِ البِيرُونيَّ "تحقيق ما للهند من مقولةٍ مقبولةٍ في العقل أو مرذولة" يكشِفُ عن عالَمِ القارّةِ الهنديةِ المُبْهِرِ الذي يَستحوذُ على زُوّارِه بِثَرائِه وتنوّعِه وخصائصِه وتحدّياتِه. لكنّ الكتابَ لا يتوقّفُ عند هذا البُعدِ الأوّلِ لعالَمِ الهندِ الأخّاذِ الذي يُقحِمُ المُقبِلَ عليهِ في اكتشافٍ مُثَنّىً: اكتشافٌ للآخَرِ المختلِفِ المُؤَدِّي إلى انكشافٍ ثانٍ إذْ يَتكشّفُ المُسافرُ على جوانبَ من ذاتِه وما يتوارى فيها. نتوصّلُ مع البُعدِ الثاني للكتابِ إلى كيفيةِ تَقبُّلِ البِيرونيِّ فِكرَ الآخَرِ واعتقاداتِه وخيالاتِه بلا رفضٍ مُطلَقٍ أو قَبولٍ متهافِت. فيصيرُ الوعيُ بالآخَرِ إقراراً بوجودِ مَنطِقٍ ثانٍ عند الهنودِ بتعدُّدِهم واختلافِهم وبما عندهم من ثروةٍ معرفيةٍ وخبرةٍ معيشيةٍ وحياةٍ روحيةٍ لا تزيدُ الباحثَ إلا شغفاً بالمعرفةِ وإقبالاً على التمحيصِ والمراجعة.

عند النظرِ في الكتابِ يتجلَّى لنا معنى "الاكتشاف" بمِحورَيْ ذاتِ الكاتبِ وثقافتِه. يَظهرُ في أَوّلِهما المَثَلُ الأَعلى في الثقافةِ الإسلاميةِ وهو "اللانهائية" التي تَعُدُّ التغيّرَ في زيادةٍ دائماً وممتدّاً. ويتعلّقُ المحورُ الثاني بما يُؤدّي إليه البحثُ عن "المنطقِ الآخَر" من إثراءِ الذاتِ وإِغناءِ الثقافةِ الخاصّة. مِن اللانهائيةِ وإِثراءِ الآخَرِ للذاتِ تتولّدُ حالةٌ جديدةٌ للإيمانِ ولِروحانيةٍ حيّةٍ مختلفةٍ عمّا يَبنيه الفكرُ النظريُّ للمجالِ النخبويِّ الضَيّقِ والمتعالي. فأهميةُ قراءةِ البيرونيِّ حضارةَ الهندِ قائمةٌ على اعترافٍ بالغَيْرِيّةِ التي لا تتحقّقُ إلّا بوَعيٍ مركَّبٍ بين التميّزِ المُنغرِسِ في إيمانٍ حيٍّ وتقديرِ الآخَرِ المختلِفِ. ويأتي هذا في زمنٍ نعيشُه اليومَ كَثُرَ فيه الصِدامُ والعنفُ في بقاعٍ عدَّةٍ حولَ المعمورةِ. والهندُ بيتُ القصيدِ ها هُنا ليست مِن هذا الصِدامِ بمَعزِلٍ، ففِيها يَشتبكُ الهندوسُ والمسلمونَ وفيها أيضاً يتعاظمُ دَورُ القوميةِ ونَبذُ الآخَرِ المُختلِفِ. وِمن هنا فنحن أَحوَجَ ما نكونُ لتَذَكُّرِ البِيرونيِّ ومذهبِه في الانفتاحِ على الآخَرِ وما لديه من عطاءاتٍ تزيدُ من إدراكِ قيمةِ الذاتِ بخصوصياتِها ورحابتِها الإنسانية. 


وتَكمنُ أهمّيةُ تَبَصُّرِ البِيرونيِّ أُمّةَ الهنودِ بما يَتَحلّونَ به من إدراكٍ للغَيْرِيّةِ، فهو يَستحضِرُ إرثاً تليداً استَأْثَرَت فيه الهندُ بمكانةٍ رفيعةٍ عند العربِ قبلَ الإسلام. لقد شَكّلَ القُربُ المكانيُّ الجامعُ بين عربِ الجزيرةِ والهندِ تجاوُراً ثقافياً وتبادُلاً تجارياً وتفاعُلاً مجتمعياً. غَذَّى هذه التعبيراتِ الحضاريةَ الضاربةِ في القِدَمِ ما نَسَجَه التُجّارُ والبَحّارةُ العربُ، خصوصاً من حضرموت، من علاقاتٍ وثيقةٍ ومصالحَ متنوعةٍ بين بلادِهم القريبةِ والمدنِ الهنديةِ المهمّةِ الواقعةِ على الساحلِ الممتدِّ لبحرِ العربِ وما وراءَ ذلك في خليجِ البنغال. 

زادَ من قوّةِ هذا النشاطِ البينيِّ ما في الهندِ من ثرواتٍ زراعيةٍ وصناعيةٍ ومعدنيةٍ وحيوانيةٍ فضلاً عن التعبيراتِ الدينيةِ واللغويةِ والفنيةِ والفكريةِ، ممّا فتحَ آفاقاً للوسطاءِ العربِ لنقلِها إلى الجزيرةِ العربيةِ وخارجها. تَبرزُ بعضُ الأمثلةِ الدالّةِ على هذا الحضورِ الثقافيِ الاجتماعيِ في إطلاقِ اسمِ "هند" و"هندة" على المرأةِ العربيةِ الموسومةِ بمعاني الجمالِ والعزّة. نظيرُ هذا الحضورِ واضحٌ في الاعتزازِ بنوعٍ من السيوفِ "بِيض الهند" لِما في صناعةِ حديدِها من جودةٍ وحُسنِ صَقْلٍ وهو ما أتاحَ اشتقاقَ اسمِ "المُهنَّد" لنوعٍ من السيوفِ المتميّزةِ ولبعضِ الرجالِ. 

تضاعفَت العنايةُ العربيةُ بالهندِ بعد ظهورِ الإسلامِ فازدادَت اتّساعاً لتَبْلُغَ حَدّاً حَوَّلَ الهندَ إلى عمقٍ حضاريٍّ للمسلمين أكثرَ أهمّيةً من علاقتِهم بسائرِ ثقافاتِ الشرقِ القديمِ.

بناءً على هذه الوشائجِ القديمةِ استطاعَ البيرونيُ بمقارَبتِه المُحْكَمةِ توصيفَ الحالةِ الهنديةِ وتحليلَها من وعيِه المركَّبِ الذي أَلَّفَ بين التميُّزِ المنغرسِ في إيمانٍ حيٍّ وبين تقديرِ الآخَرِ المختلف.

يعود تَصدُّرُ البيرونيِ بهذا التأليفِ لِما سَبَقَ مِن اعتباراتٍ تُفصِحُ عن نمطٍ من الروحانيةِ في الإِسلامِ حين تَمتَلِكُ توجُّهاً حضارياً. توجُّهٌ يَستوقِفُ الباحثَ لِما سادَ في سِيَرِ الصوفيةِ وسلوكِهم من سرديةٍ تَزخَرُ غالباً بالانكفاءِ والعجائبِ، ممّا يُعاكِسُ حالَ سائرِ البشرِ مثلَ "الجوعِ وتَرْكِ الشهوةِ" و"شفاءِ الأبرصِ والأَكْمَهِ" و"استكشافِ المستقبَلِ" ممّا يُزَهِّدُ في مقارَبةِ الموضوعِ بالبحثِ العِلميِ الجادِّ. لذلك يَحّقُ للدارسِ أن يتساءَلَ هل كان في حياةِ المتصوّفةِ ما يَشغَلُ باقيَ الناسِ من همومِ العيشِ ومشاغلِ الدنيا. ثمّ يتّسعُ البحثُ لنقاشِ تجلّياتٍ روحانيةٍ في الإِسلام اليومَ، هل تتمحّضُ في حياةِ الباطنِ الخاصةِ، وهل تقفُ عند الرِضَى بما تيسَّرَ سعياً إلى نجاةِ الفردِ في الآخِرةِ.

كتابُ البيرونيِ بما يَنتظِمُه من روحانيةٍ حضاريةٍ أثرٌ ماثِلٌ إلى حضورِ الآخَرِ المختلِفِ نتيجةَ ما جادَت به ذهنيةٌ قادرةٌ على التركيبِ بين سؤالِ الإِيمانِ وبين ما يتطلّبُه من حوافزِ البناءِ الحضاريِ المفتوحِ على الإنسان. هو كتابٌ وَطَّدَ سرديةً تستحضرُ الجانبَ الإنسانيَ ثم الكونيَ لروحانيةٍ إسلاميةٍ مختلفة. في كتابِ "تحقيق ما للهند" يتأكّدُ تعدُّدُ تجلّياتِ هذه الروحِ بما يكشفُ عن تراشُحٍ شديدٍ بين الصوفيِّ الباني للحياةِ والعالَمِ باختلافِ مكوِّناتِه وتوجُّهاتِه ومَناحيه. هذا ما يجعلُ عملَ البيرونيِ صالحاً ليُعَدَّ أكثرَ من غيرِه نمطاً من المقارَبةِ الإيمانيةِ الحيّةِ لبُعدِها الإنسانيِ المميَّزِ الذي يُمكنُ إيجازِه في: "أنتَ لن تَكونَ أنتَ حتى تَكونَ الآخَرَ".


وُلِدَ أبو الريحانِ محمّدٌ بنُ أحمدَ البِيرُونِيُّ سنةَ 973 في خَوارِزْمَ بِخُراسانَ، وهي ضِمنَ حدودِ أوزبكستانَ الآنَ. أَهمُّ ما يَستوقِفُ الباحثَ في سِيرتِه طابعُها الموسوعيُّ المتميّزُ بتنوّعِ اهتماماتِه العلميةِ واتّساعِ آفاقِ دراساتِه مع التبريزِ في كلِّ بابٍ طَرَقَه مِن أبوابِ العلومِ المختلفة. كان فيلسوفاً وطبيباً وفلكياً ورياضياً وجغرافياً ومؤرِّخاً وعالِماً بالطبيعياتِ ومقارِناً للمِلَلِ والنِحَلِ ومتقِناً لألسِنةٍ عِدَّةٍ. مع هذا كان رحّالةً مولَعاً بالسَفَرِ لاكتشافِ ما في البُلدانِ من مشاهَداتٍ وعلومٍ وتجارِبَ. تَرَكَ البيرونيُ عندَ وفاتِه سنة 1048 في غَزْنَةَ، بأفغانستانَ الآنَ، 146 مؤلفاً في التاريخِ والجغرافيا والفَلَكِ والطبِّ والصيدلةِ والهندسةِ، فضلاً عن بعضِ الأشعارِ والمقالاتِ الأدبيةِ. من أشهرِ مؤلّفاتِه "الآثار الباقية من القرون الخالية" الذي اهتمَّ فيه بتقاويمِ الأُممِ السالفةِ وأعيادِها ومواسمِها وموازنةِ ذلك بما كان على عصرِه. أَلَّفَ "تحقيق ما للهند" في عشرِ سنواتٍ، عَرَّفَ فيه المسلمينَ أوّلاً ثمّ الأوروبيينَ بحضارةِ الهندِ في اتّساعِها وتنوّعِها وفي غُموضِها وثَرائِها.

تَرْجَمَ المستشرِقُ الروسيُّ نيكولاي كانيكوف "تحقيق ما للهند" إلى الروسيةِ سنةَ 1866م وتَبِعَه المستشرِقُ الألمانيُّ إدوارد ساخاو سنةَ 1887م بترجمةِ الكتابِ إلى الألمانيةِ، وبعدَ سنةٍ إلى الإنجليزية.

يَتبيّنُ مِن جملةِ هذه الاعتباراتِ أن كتابَ "تحقيق ما للهند" بما اشتملَ عليهِ من مُعطَياتٍ اجتماعيةٍ وتاريخيةٍ ومعرفيةٍ صارَ ثروةً علميةً نادرةً لا غِنىً عنها للباحثِ المُعتَني بجزءٍ مهمٍّ من حضارةِ الشرقِ القديمِ. لقد تمكَّن البيرونيُّ أن يجمعَ خصائصَ الهندِ القديمةِ والشاسعةِ بجذورِها وخبراتِها ومكاسبِها وتبايناتِها العجيبةِ ويمحِّصَها، حتى وُصِفَت بأنها شعوبٌ في شَعبٍ واحدٍ.

لَم يكُن للبيرونيِّ أن يَبلغَ هذا العُلُوَّ في النظرِ إلا بفضلِ ما أحرزَه من علاقتِه التفاعليةِ بزمانِه من زوايا متعدِّدة. لقد كان ابناً لزمانِه المعرفيِّ، إذ أَدركَ أن البحوثَ العلميةَ التي زاوَلَها في الفَلَكِ والرياضياتِ والفلسفةِ وعِلْمِ الكلامِ والطِبِّ واللُغاتِ يأخذُ بعضُها برقابِ بعضٍ بما تُفضي إليه من ضرورةِ التفهُّمِ المتأكّدِ والتوطينِ في الواقعِ الحضاريِ والسياسيِ القائم. لذا لَم يَنفَكّ البيرونيُ متنقّلاً من خوارزمَ مسقطِ رأسِه إلى بُخارى ومنها إلى طبرستان، أي شمال بلادِ فارسَ، وبعدَها إلى غَزْنَةَ، عاصمةِ الدولةِ الغَزْنَوِيّةِ، ثمَّ إلى الهندِ. هذا الترحُّلُ جعلَه ابنَ زمانِه الحضاريِّ المنشغلِ بالعمرانِ وتنظيماتِه الاجتماعيةِ والمهنيةِ والتقنيةِ وسائرِ المعارفِ الموضوعيةِ التي يُمكنُ فحصُها.

بهذا اتّسعَ نظرُ البيرونيِ إلى البعدِ الثالثِ، بعدَ البُعدَيْن الأوّلِ والثاني المتمثِّلَيْن في اكتشافِ الآخَرِ واكتشافِ الذاتِ. عايشَ البيرونيُ هذا البعدَ الثالثَ في بلاطِ أميرِ طبرستان وحكامِ الدولةِ السامانيةِ في فارسَ وصولاً إلى عاصمةِ الدولةِ الغزنويةِ ومصاحَبةِ سلطانِها محمود الغزنوي الذي كان يشجِّعُ العلماءَ والأدباءَ ويغزو الهندَ. تجلَّى هذا البعدُ في تمثُّلِ البيرونيِّ لزَمَنِه السياسيِّ، إذ حقَّقَ عملياً شروطَ النظامِ الفكريِّ لصاحبِ السلطةِ وعَكَفَ على نقلِ المبادئِ والمقولاتِ بفعلِ الدولةِ وأَحكامِ السلطةِ من حالةِ الاعتباطِ والعفويةِ إلى مجالِ العقلِ والعلمِ واتساعِ التمدّن.

تتويجُ الأبعادِ الثلاثةِ السابقةِ كان في تفاعُلِها في ظِلِّ انتشارِ الزمنِ الروحانيِ الحضاريِ الذي مَيَّزَ رؤيةَ البيرونيِ في تحقيقِه للهندِ. إنها مُقارَبةُ "القُرْبِ والبُعْدِ" التي تُدْرِكُ بتميُّزِها الإيمانيِ حقيقةَ الوحدةِ الإنسانيةِ وحاجتَها إلى الاختلافِ والتوليفِ، فتَسعى بوعيٍ للإِعلاءِ من شأنِ المختلِفِ عنها فهماً وتمحيصاً لأن تقديرَ المبايَنةِ ومعرفتَها عن كَثَبٍ شرطُ ارتقاءِ الذاتِ على دروبِ تلك الوِحدةِ. 

بهذه العقليةِ التركيبيَّةِ تَجاوَزَ البيرونيُ بكتابِه مَن سَبَقوه أو لَحِقوا به في اكتشافِ الهندِ، لأنه لم يَتَعاطَ معها على أنها تعبيرٌ جغرافيٌ قابلٌ للتوسُّعِ. ذلك أنه كان يحملُ رؤيةً منفتحةً ونــفَساً طُلَعَةً فيما باشَرَه من علمٍ وتاريخٍ وفكرٍ ورحلاتٍ وفتحٍ تضافَرَت وانصَهَرَت لتُفرِزَ حصافةَ الفهمِ وتوليفَ التقديرِ.

اعتباراتٌ عدّةٌ تجعلُ من هذا الكتابِ دليلاً يُقدِّمُ نمطاً من الروحانيةِ المميّزةِ والمنفتحةِ بتعبيرِها المغايِرِ عن إيمانٍ مُقبِلٍ على ما في الهندِ من تنوّعٍ غيرِ معهودٍ واختلافٍ مذمومٍ لديه لكنّه مع ذلك ظَلَّ مُصِرّاً وبوعيٍ على الاعتناء به رصداً وتدقيقاً وتمحيصاً. بهذه الخاصّيةِ المنهجيةِ الأُولى التي تَخَطَّى بها البيرونيُ التوصيفَ الخارجيَ للمجتمعاتِ التي يَتعرَّفُ عليها ليقفَ على ما في الهند من أغوارٍ مُركَّبَةٍ، عُمقُها الثقافيُ الاجتماعيُ ومعارفُها المستقصِيةُ والمستفيضةُ للأشياءِ والمجالاتِ والأفكارِ وتصوّراتُها للعوالمِ والعلومِ وما وراءَ العلومِ من حقائقَ ومعانٍ وحراكٍ.

كان البيرونيُ بذلك مكتشِفاً فَذّاً لبلادِ الهندِ وما تمتلكُه من تصوّراتٍ وبنيةٍ وتنوّعٍ، لِما كان لديه من شَغَفٍ بمعرفةِ الآخَرِ المغايِرِ انطلاقاً من ركيزةٍ حضاريةٍ تُعْلِي من أهميةِ الاختلافِ والتنوّعِ. ذلك هو التميّزُ الذي يُفيدُ أننا إزاءَ مشروعٍ حضاريٍّ مفتوحٍ على الإنسانِ في كيانِه المُنجِزِ للمدنيةِ في أصقاعِ المكانِ ومَدى الأزمان. نَجِدُ هذا بيِّناً منذ الفصلِ الأَوّلِ الذي تَلا التصديرَ والمقدّمةَ والفهرسَ التفصيليَّ لأبوابِ الكتابِ الثمانين مع مدخلٍ منهجيٍ إذْ عَنْوَنَ الفصلَ بـقولِه: 

 "في ذِكرِ أحوالِ الهندِ وتقريرِها أمامَ ما نقصِدُه من الحكايةِ عنهم. يجبُ أن نتصوّرَ أمامَ مقصودِنا الأحوالَ التي يتعذّرُ استشفافُ أمورِ الهندِ (منها)، فإمّا أن يَسْهُلَ بمعرفتِها الأمرُ وإمّا أن يتمهَّد ل العذرُ، وهو أن القطيعةَ تُخفي ما تُبديه الوُصْلَةُ. ولها فيما بينَنا أسبابٌ: منها أن القومَ يُبايِنُونَنا بجميعِ ما يشتركُ فيه الأُمَمُ وأَوَّلُها اللغةُ وإن تباينَت الأممُ بمثلِها ومتى رامَها أحدٌ لإزالةِ المبايَنةِ لَم يَسهلْ ذلك لأنها في ذاتِها طويلةٌ عريضةٌ تُشابِهُ العربيةَ: يَتسمّى الشيءُ الواحدُ فيها بعدّةِ أسامٍ مُقتضَبةٍ ومشتقّةٍ، وبوقعِ الاسمِ الواحدِ على عدّةِ مسمَّياتٍ مَحْوَجَةٌ في المقاصدِ إلى زيادةِ صفاتٍ، إذْ لا يفرّقُ بينَها إلا ذو فطنةٍ لموضعِ الكلامِ وقياسِ المعنى إلى الوراءِ والأمامِ. ويفتخرون بذلك افتخارَ غيرِهم به من حيثُ هو بالحقيقةِ عيبٌ في اللغةِ".

مِن هذا المطلعِ تتبيّنُ طبيعةُ الكتابِ وخصوصيةُ موضوعِه. فهُو مِن جهةٍ أُولى كتابُ تَعَلُّمٍ يتطلّبُ تلقّي معرفةٍ جديدةٍ تُغي النظرةَ والسلوكَ. ذلك أن مَن يَسعى لتفهُّمِ أحوالِ الهندِ، في مكونِّاتها المتنوّعةِ والمركَّبِة، ستتبدَّى له في اختلافٍ كاملٍ مع ما هو معهودٌ لدى القارئِ. تبرزُ هذه المبايَناتُ في الخصوصيةِ اللُغويةِ للهندِ باتّساعِ الدلالاتِ والدقّةِ الخاصّةِ في التركيبِ الموصولِ بفهمِ نظامِ التفكيرِ والسلوكِ والمواقفِ. ومِن جهةٍ ثانيةٍ فإن لكتابِ "تحقيق ما للهند" خصوصيةً مميزةً في أنه يريدُ تخطّي هذه الحواجزِ اللغويةِ والسلوكيةِ، لأنها تقطعُ الطريقَ على ما وراءَها مِن إمكانِ التواصلِ مع أعماقِ الهندِ النابضةِ بالحياةِ والتي لا غِنىً عنها لكلِّ متعلِّمٍ وكلِّ مفكِّرٍ وكلِّ مثقّف.


يُمَكِّنُ هذا التأطيرُ من العبورِ إلى الخاصّيةِ المنهجيةِ الثانيةِ التي صاغَها البيرونيُ في مقولتِه الشارحةِ توجُّهَهُ الحضاريَّ وموقفَه العمليَّ، والتي أَوجَزَها في قولِه "القطيعةُ تُخفي ما تُبديه الوُصْلَةُ"، أي تَجاوز القطيعة التي تُخفي الوُصْلَةَ. هو مبدأٌ للتفكيرِ في الاختلافِ أساسُه ضرورةُ استبعادِ إنكارِ ما عليه الآخَرُ من مبايَنةٍ في أكثرَ من مجالٍ، قصدَ التوصُّلِ إلى تفهُّمِ معقوليّتِه. مِن هذه القاعدةِ أَمْكَنَ تقديمُ بيانٍ مفصَّلٍ بعقائدِ الهنودِ وكتبِهم الدينيةِ وآرائِهم الفلسفيةِ وآدابِهم وتاريخِهم وعاداتِهم وتقاليدِهم وأعرافِهم وأحوالِهم الاجتماعيةِ وجملةِ معارفِهم وحساباتِهم في التاريخِ والفلكِ والتنجيمِ والمُلْكِ. 

نَتَجَ هذا التوصيفُ الدقيقُ عن تقريرِ الأشياءِ كما هي بما أتاحَ بمقارنةِ ما عند الهنودِ بما لدى اليونانِ وسَهَّلَ إدراكَ ما عند بعضِ الصوفيةِ في تأثُّرِهم بجانبٍ من الآراءِ ذاتِ الجذورِ الهنديةِ مثل وحدةِ الوجودِ وتناسخِ الأرواحِ وما عند بعضِ أصنافِ النصارى في تأثُّرِهِم بعقيدةِ التثليثِ الموجودةِ في الهند.

من هذه المقولةِ التي أتاحَت تجاوُزَ التباينِ إلى ما يحقّقُ وُصْلَةَ التفهُّمِ أضحى ممكناً إقامةُ الخاصّيةِ المنهجيةِ الثالثةِ التي رَكَّزَ بها الكتابُ تأسيسَه الموضوعيَّ للعلاقةِ الحضاريةِ بالمُختلِفِ المبايِنِ حينَ نقرأُ: "إنما صَدَقَ قولُ القائلِ 'ليسَ الخبرُ كالعِيانِ' لأنّ العِيانَ هو إدراكُ عينِ الناظرِ عينَ المنظورِ إليه في زمانِ وجودِه وفي مكانِ حصولِهِ". ذلك أن العِيانَ، عند المفكِّرِ، يجعلُه قادراً على بيانِ أحوالِ مَن يراهُم مغايِرين له فيما يعتقدُه من صوابٍ بلا حاجةٍ إلى دحضِ ما لديهم. المنطلقُ في ذلك هو "ليسَ الخبرُ كالعِيانِ" أو قاعدةُ الرصدِ بالمعايَشةِ بناءً على أن أدواتِ التمحيصِ عند البيروني ثلاثةُ ضروبٍ هي السماعُ بما هو مشافَهةٌ، والكتابةُ بما هي تدوينٌ، والمعايَنةُ بما هي ملاحَظةٌ وتَفَكُّر.

على هذا يفضِّلُ أبو الريحانِ المصادرَ المكتوبةَ على المصادرِ الشفويةِ في مادّة الأديانِ، لكنّه يجعلُهما في مقامٍ دونَ المعايَنةِ. هو في ذلك يرى أن الأخبارَ المدوَّنةَ لمعرفةِ الآخَرِ حضارياً ودينياً تظلُّ محدودةَ الآفاقِ ومليئةً بالنقائصِ، لِما تَجمعُه من صحيحِ الأخبارِ وفاسدِها ومن الواقعِ والخيالِ فضلاً عن أن الأخبارَ المدوَّنةَ لا تستجيبُ لتطوّرِ الزمنِ وتغيُّرِ المنظوماتِ. 

بتَكامُلِ هذهِ الخصائصِ المنهجيةِ أَرْسَى البيرونيُ مشروعاً يتخطَّى القطيعةَ مع الآخَرِ باعتمادِ الوُصلةِ الثقافيةِ والدينيةِ والحضاريةِ. تَجَسَّدَ هذا التخطّي في السِمةِ الأُولى للروحانيةِ الحضاريةِ المتعيّنةِ في قولِ البيرونيِ: "لن أقدِّمَ حُجَجَ خصومِنا من أجلِ دحضِها" لأنها تجعلُ المؤمنَ منخرِطاً في علاقةٍ تفهُمِيَّةٍ للمكوِّنات المختلفةِ لذلك العالَمِ. 

بهذه الرؤيةِ للعالَمِ يمكنُ الوصولُ إلى إجاباتٍ شافيةٍ عن التساؤلاتِ عن مغزى الكونِ والوجودِ وما تُنتِجُه من وعيٍ وإرادةٍ مجتمَعيةٍ ثقافيةٍ باستتباعاتِها الأخلاقيةِ والاجتماعيةِ والسياسيةِ. 


إذا كان عنوانُ كتابِ "تحقيق ما للهند" يفيدُ أنه يشتملُ على رصدٍ دقيقٍ وفرزٍ تقديريٍ لما هو معقولٌ وما هو مرذولٌ في ما يُقالُ ويُعرَفُ عن الهند وما يكونُ مُشاهَداً فيها، فإنّ جُلَّ الأبوابِ الثمانينَ للكتابِ يتوقفُ عند ما هو مبايِنٌ وغريبٌ وأقربُ للــ"مرذول". 

يتضّحُ هذا في مسائلِ عقيدةِ الهنودِ التي اعتَنَى بها، كالاعتقادِ في اللهِ والموجوداتِ العقليةِ والحِسّيةِ وحالِ الأرواحِ وتردُّدِها بالتناسخِ في العالَمِ وكيفيةِ الخلاصِ من الدنيا وصِفَةِ الطريقِ المؤدّي إليها ومواضعِ الجزاءِ من الجنّةِ والنارِ. ثمّ بما رَكّزَ عليه مِن سائرِ العلومِ، كالخطِّ والحسابِ والرسومِ وأسماءِ الكواكبِ والبروجِ ومنازلِ القمرِ وصورةِ الأرضِ والسماءِ والقُطبِ وأخبارِه فضلاً عن كتبِ النحوِ والشِعرِ. ومعَ كُلِّ هذا اتّجَهَ الاهتمامُ إلى الرؤيةِ الناظمةِ الخاصةِ بأجناسِ الخلائقِ وأسمائِهم، وإلى منبعِ السنَنِ والنواميسِ والرُسلِ ونَسْخِ الشرائع. 

يَكشفُ هذا الرصدُ عنايةَ الكتابِ بالمبايَناتِ الكثيرةِ المتعلّقةِ بالدِينِ، إذ نقرأُ: "إنهم يُبايِنُونَنا بالديانةِ مُبايَنةً كُلّيةً، لا يقعُ مِنّا شيءٌ من الإقرارِ بما عندهم ولا منهم لشيءٍ ممّا عِندَنا. وعلى قِلّةِ تنازعِهم في أمرِ المذاهبِ بينهم بما في سِوى الجدالِ والكلامِ دون الإضرارِ بالنفسِ أو البدنِ أو الحالِ". يضيفُ البيرونيُ إلى ذلكَ نظرةَ الهنودِ للمغايِرِ لهم والذي يُسمّونَه " مُليج" وهو القَذِرُ، لا يستجيزون مخالطتَه في مناكحةٍ ولا مقارَبةٍ ولا مجالَسةٍ ولا مؤاكَلةٍ ولا مشارَبةٍ من جهةِ النجاسةِ. ويَستقذِرون ما تَصرَّفَ على مائِه ونارِه وعليهما مَدارُ المَعاشِ. من هنا ينتهي التمحيصُ بالكاتبِ إلى أنه: "لا مَطمَعَ في صلاحِ ذلك بحيلةٍ كما يُطهَّرُ النجسُ بالانحيازِ إلى حالِ الطهارةِ. فليس بمُطلَقٍ لهم قَبولُ مَن ليس منهم إذا رَغِبَ فيهم أو صَبا إلى دِينِهم. وهذا ممّا يفسخُ كلَّ وُصْلةٍ ويُوجِبُ أَشدَّ قطيعةٍ". 

في تفسيرِ أسبابِ هذه المبايَناتِ يقدّمُ الكتابُ ثلاثةَ اعتباراتٍ: أَوَّلُها "إعجابُ الهنودِ بأنفسِهم واحتقارُهم لغَيرِهم". ثانيها ما واجَهوه من غزواتٍ عسكريةٍ كُبرى، كغزوةِ قائدِ الفتحِ الإسلاميِ للهندِ في عهدِ الدولةِ الأُمَويةِ، محمدٍ بنِ القاسمِ الثقفيِّ، ثمّ قدومِ السلطانِ محمود الغزنويِّ مؤسّسِ الدولةِ الغزنويةِ الذي حكمَ شمالَ الهندِ وبلادَ ما وراءِ النهرِ، أي أوزبكستان وأفغانستان الحاليتَين وأجزاءً من كازاخستان وقيرغيزستان، والذي دامَت دولَتُه أكثرَ من قرنين.

أما ثالثُ الاعتباراتِ وأَهمُّها فهو معرفيٌّ ثقافيٌّ، في ذلك نقرأُ: "ولَمْ يَكُ للهندِ أمثالـُهم ممّن يهذِّبُ العلومَ، فلا تكادُ تَجِدُ لهم خاصَّ كلامٍ إلا في غايةِ الاضطرابِ وسوءِ النظامِ ومَشوباً في آخِرِه بخرافاتِ العَوامِّ من تكثيرِ العددِ وتمديدِ المُدَدِ ومن موضوعاتِ النِحلةِ التي يَستفظِعُ أَهلُها فيها المخالَفةَ، ولِأَجلِها يَستولي التقليدُ عليهم".

مؤدَّى هذا الكلامِ أن الهندَ في معارِفِها، زمنَ البيرونيِّ، كانت أشبهَ "بصَدَفٍ مخلوطٍ بخزفٍ أو بِدُرٍّ ممزوجٍ ببَعرٍ"، وذلك لاشتمالِ تلك المعارفِ على خليطٍ من المعلوماتِ المهمّةِ والمؤكَّدةِ مع أفكارٍ ومعتقَداتٍ وآراءَ لا أساسَ لها من الصحةِ ولا علاقةَ لها بالعِلم. سببُ هذا التشويشِ المُخِلِّ، في رأيِ البيرونيِّ، هو انعدامُ التمحيصِ العِلميِّ القادرِ على الارتقاءِ المعرفيِّ السَويِّ. وهذا معنى قولِه: "لا مِثالَ لهُم لمَعارجِ البرهانِ"، مضيفاً ومؤكّداً أنّ تَوقُّفَه عند هذا الوضعِ المترَدّي ليس إلا لأنه "حاكٍ غيرُ مُنتقِدٍ إلا عن ضرورةٍ ظاهرةٍ".

بهذا الحرصِ على ضبطِ مسائلِ الاختلافِ والتباينِ مع فرزِها وفحصِها بعينِ الأمانةِ والتأنِّي العِلميَّين يَتبيّنُ السعيُ للإحاطةِ بجوانبِ الحياةِ الهنديةِ الدينيةِ والتاريخيةِ والجغرافيةِ والجيولوجيةِ والرياضيةِ. وهي إحاطةٌ تُقِرُّ بالتعدّدِ والاختلافِ وبوجودِ بناءٍ منطقيٍّ ثانٍ ينتظمُ حياةَ الهنودِ بما يُثري الرؤيةَ الأُخرى للعالَمِ. يترسّخُ مع هذا الإقرارِ الركنُ الثاني للروحانيةِ المعتَمَدةِ في مقارَبةِ البِيرونيِّ للآخَرِ المغايِرِ، وهو الركنُ الذي يَستحضِرُ المَثَلَ الأَعلى للثقافةِ الإسلاميةِ وهو: "اللانهائية" التي يكون معها التعدّدُ والاختلافُ والتغيُّرُ من الضروراتِ الموضوعيةِ لحياةِ الإنسانِ والكونِ في استمرارِيّتِها وارتقائِها وتكامُلِها.


لقد تحوّلَت رحلاتُ البيرونيِّ بينَ بلدانٍ عدّةٍ كخَوارِزْمَ والرَيِّ وبُخارَى وجُرجانَ والهندِ في ضوءِ رؤيتِه المنفتحةِ على العالَمِ وفي ضوءِ بحثِه عن المنطقِ الآخَرِ لتصبحَ مسيرةً علميةً وسَيْرورةً في دُروبِ العالَمِ ومَسالكِ الذاتِ. هي بصورةٍ أَخَصَّ رحلةٌ مصاحِبةٌ لذواتِ الأقوامِ الذين عايَشَهم وعايَنَهم ولرؤيتِهم عالَمَهم، وإثراءٌ عِلميٌّ للفكرِ بما تؤدّي إليه من انفتاحِ روحِ مسافرٍ يرتقي به كيانُه.

هي استحضارٌ لخاصّيةٍ أُخرى أساسيةٍ في الثقافةِ الإسلاميةِ دَعَتْ إليها آياتٌ عِدّةٌ من القرآنِ الكريمِ للسَيْرِ في الأرضِ مِنْ أَجْلِ الاعتبارِ بِما حصلَ للأقوامِ والقُرى المختلِفةِ، ولأنّ التنقّلَ يُفضِي إلى اتّساعِ الوعيِ والتحرّرِ من الآحاديةِ والانغلاقِ.

فالقيمةُ الكُبرى لـتحقيقِ ما للهندِ في أنّ الاعترافَ بالغَيريةِ بما يُفصِحُه عن روحانيةٍ مُغايِرةٍ دونَ فصلٍ بين التميّزِ الإيمانيِ الخاصِّ وبين الحرصِ على التعارفِ. ذلك أنَّ الإنسانَ لا يَعي ذاتَه إلّا بوَعيِه بغيرِه وبما يشتملُ عليهِ واقعُه من تناقضاتٍ متّخِذاً لنفسِه مِن ذلكَ كلِّه موقِعاً ودافِعاً للفعلِ والمراجعةِ والارتقاءِ.

الأهمُّ في هذا الاعترافِ أنَّ فاعِلِيَّتَه تَبقى مشروطةً برُسوخِ التميّزِ الإيمانيِّ الحيِّ الذي تُغنِيه صياغةٌ ثقافيةٌ وعِدَّةٌ معرفيةٌ واسعةٌ تَستوعِبُ معارفَ زمانِه ومستلزماتِ واقعِه ليصوغَ منها توليفةً متميزةً. ورِيادةُ هذه التوليفةِ في ما تصدرُ عنه من علومٍ وفكرٍ وفي ما تؤدّي إليه من موقفٍ معرفيٍّ جديدٍ وقِيَمٍ علميةٍ ونفسيةٍ وسلوكيةٍ لا يَتطوّر بها التفكيرُ فقط بل يرتقي بها الفكرُ نفسُه، على حدِّ قولِ محمد الوقيدي في كتابِه "فلسفة المعرفة عند غاستون باشلار".

لقد تمكّن البيرونيُ في مسيرتِه من أدواتٍ معرفيةٍ لم تتوفّرْ لكثيرٍ من الرحّالةِ قبلَه وبعدَه. إذْ كان مشتغلاً بالطبِّ والفَلَكِ والرياضياتِ والجغرافيا والتاريخِ مع مشاركةٍ فاعلةٍ في الفلسفةِ وعلومِ اللغةِ والأدبِ والفقهِ. عن هذا التركيبِ المعرفيِ الفكريِ الحضاريِ استطاعَ البيرونيُ، بما لديه من روحٍ إيمانيةٍ متوثّبةٍ، أن يَسْبرَ أغوارَ ما للهندِ من مجالاتٍ ودروبٍ ودقائقَ أتاحَت له التبريزَ في كلِّ بابٍ يطرقُه من الأبوابِ المتعلّقةِ بالدِينِ والعلومِ والثقافةِ. مِن تميُّزِ هذه الرحلةِ الهنديةِ يتبيّنُ الركنُ الثالثُ لِروحانيةِ البيرونيِ الخاصةِ التي أعطَت للسفرِ، بَلْهَ أَثَرِه الذاتيِّ، طاقةً محرّكةً رَكّزَها في عبارةِ "الوُصْلَة" الواردةِ في مَطلعِ الكتابِ ضمنَ مقولةٍ جوهريةٍ: "القَطِيعَةُ تُخْفِي ما تُبدِيهِ الوُصْلَةُ".


عن هذا الحدِّ نَبلُغُ مع البيرونيِّ في كتابِه " تحقيق ما للهند" الروحَ التي تَسرِي في أبوابِه بما وَثَّقَ فيها من معارفَ وأخبارٍ وتفاصيلَ، وبفضلِ ما اعتمَدَه من خصائصَ منهجيةٍ وفي ضوءِ ما حدَّدَه من أركانٍ للروحانيةِ التي تُذْكِي تميُّزَه. عند هذا الجانبِ الأَهَمِّ يَرسُو بنا البحثُ عندَ صميمِ الداخلِ الثقافيِ الذي يَرْكَنُ إليه المؤرّخُ الفيلسوفُ بتعبيرِه الحضاريِ الذي واكَبَ به نظرياتِ الهندوسِ، وهي التي عَدَّها مبايَنَةً للحَقِّ، ومع ذلك لَم يَتردّدْ في القولِ بأنها اعتقادُهم وهُم أَبصَرُ بها.

ما القاعدةُ الموجِّهةُ لهذا الفِكرِ، وأيُّ معيارٍ إدراكيٍّ وإطارٍ نظريٍّ احتَكَمَ إليه البيرونيُّ في تحقيقِه الهنديّ بما يَعتمِلُ فيه من أصنافِ التبايُنِ والإِغرابِ والتعدُّدِ؟

هذا النمطُ الذي يبدو جديداً للتعبيرِ الإِيمانيِّ إزاءَ المخالِفِ يَستَقي صِدقِيَّتَه من "معيار الحق" في قاعدتِه القرآنيةِ المؤسِّسَةِ للتعدُّدِ والاختلافِ. وذلك ما يتعيَّنُ في الآية 29 من سُورةِ الكهفِ "وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ". وأَبرزُ ما تُفيدُه الآيةُ تأكيدُها أنّ مصدرَ الحقِّ هو اللهُ وحدُه باعتبارِه الذي خَلَقَ ورَبَّى وتَعَهَّدَ الجميعَ لا فَرْقَ في ذلك بين أَحدٍ وآخَرَ. هي قاعدةُ الحقِّ الموجِّهَةُ لوَعْيِ أبي الريحانِ وإدراكِه وإيمانِه المميّزِ، والتي انفتَحَ بها على بوابةِ التعارفِ على الشعوبِ والقبائلِ وما تَحمِلُه من قَبولٍ للتعدّدِ والاختلافِ ضمنَ صيرورةٍ تاريخيةٍ وإيمانٍ حضاريٍّ يُثري الذاتَ ويقدِّرُ الآخَرَ المختلِفَ.

وتلك هي روحانيةُ التميّزِ والتعارفِ التي حفَّزَت البيرونيَّ في رحلتِه الشهيرةِ، وهو المؤمنُ بأنّ اللهَ الذي كَشَفَ عن نفسِه بكلامِه الذي أَوحاهُ إلى الرسولِ عليهِ السلامُ في القرآنِ الكريمِ يَحُثُّ المؤمِنَ في الوقتِ ذاتِه أن يتمثّلَ ذلك الوحيَ بمعيارِ "الحقّ" الدافعِ للمعرفةِ والوعيِ الإنسانيَيْن بناءً على إدراكٍ بالعجزِ عن التوصُّلِ إلى استنفادِ ما في ذلك الكلامِ المُوحَى من غِنىً ومَعنىً. 

هو لذلك، ومهما بَلَغَ به رسوخُ الإيمانِ، يَظَلُّ في سعيٍ متواصلٍ للحقيقةِ خصوصاً بالمقارَباتِ الأُخرى للحقيقةِ في اختلافِها عمّا يحملُه ويعتقدُه.

اعتمادُ روحانيةِ البيرونيِّ الملاحظةَ بالمعايَشةِ أو "الوُصْلَةِ" نقيضاً "القطيعةِ" هي أساسُ المعيارِ الإدراكيِّ الذي تعيّنَ في مقولتِه الجوهريةِ أنّ: "القطيعة تُخفي ما تُبدِيه الوُصْلة" وهي القاعدةُ المـُستَـلَّةُ من خطابِ التعارفِ الحضاريِّ في ارتِكانِه للـحقِّ بما يحملُه من دلالاتِ الثقةِ والتميّزِ المفتوحَيْنِ على التَكافُؤِ الإنسانيِّ وعلى سعيٍ دائبٍ لا يَفْتُرُ للمعرفةِ والتعارُفِ. 

صميمُ رسالةِ البيرونيِّ ومَن ساوَقَ نهجَه من كبارِ المفكّرين والمُصلِحينَ والمؤرِّخينَ والعلماءِ والرحّالةِ هو أنّ راسخَ الإيمانِ وواثِقَ المعارفِ لا ينبغي أن يُولِّدا تقوقُعاً وانكفاءً على الذاتِ فتَضيقَ ذرعاً بالاختلافِ والتنوّعِ. وفي "تحقيق ما للهند" خطابُ تحرُّرٍ من أوزارِ المعهودِ الذي يُكرِّرُ اليقينَ ذاتَه والمعرفةَ نفسَها. إنه إعلاءٌ لمنزِلةِ الفكرِ المُقِرِّ بأهمّيةِ التعدُّدِ الذي يَعتمِلُ في أعماقِ كُلِّ مجتمعٍ وعصرٍ، والذي تُكتَشَفُ به دروبُ التطوّرِ المؤهّلةُ لصناعةِ التاريخِ بدلَ البقاءِ على هامشِه إسهاماً في الارتقاءِ الإنسانيِّ تواصُلاً وتَمَدُّناً وقِيَماً.

اشترك في نشرتنا البريدية