مقلِّد القادمُ من الشرق: "مستكشف" موريتانيا عربياً

عاشَ الشاعر اللبناني محمد يوسف مقلِّد في موريتانيا وتزوّج من أهلها، وكان أوّلَ من يكتب عنها من عرب المشرق

Share
مقلِّد القادمُ من الشرق: "مستكشف" موريتانيا عربياً
(تصميم: حاتم عرفة / الفِراتْس)

كانت موريتانيا منتصفَ القرن الماضي بلداً مجهولاً لم يَعرف عنه العالمُ سوى أنّ رملاً متحرّكاً يغطي جلَّ أراضيه الشاسعة، وتَحكُم نمطَ عيشِ أهلِه شروطُ الانتجاعِ والنُدرةِ والترحالِ الدائم. أمّا صلةُ موريتانيا ببلاد العرب فكانت معدومةً تماماً ما خلا رحلاتِ بعضِ علمائها وشيوخها على ظهور الإبل في القرون السابقة إلى المشرقِ العربي للحجّ والمرور ببعض عواصمِ المعرفة. لَم يسْعَ الموريتانيون للتواصلِ مع العالم الخارجيّ ولَم يهتمّ أهلُ البلاد العربية القريبة ثقافياً وحضارياً بالموريتانيين كثيراً.

استمَّر هذا الحالُ في العقود الأولى من القرن العشرين وحتى الستينيات تقريباً. ظلّت موريتانيا بعيدةً حينَها عن التحوّلاتِ السياسية والاجتماعية والثقافية في المنطقة العربية التي دفعَتها تطلّعاتُ وحدةِ الأمّة وتقاربُ قضاياها بعنفوانٍ بالغ. ولعلَّ أصلَ الزهدِ في التعرّف على موريتانيا هو موقعُها البعيدُ جغرافياً وغيرُ المتاخِمِ للمركزِ العربيّ. وإلاّ فلَنْ يكونَ هناك ما يَمنع من استكشافِ مجالٍ جغرافيٍّ ثريٍّ ثقافياً واجتماعياً واستراتيجياً لا يرى أهلُه لأنفسِهم عن العروبة بديلاً.

كانت موريتانيا تَطمحُ للاستقلال عن الاستعمار الفرنسي منتصفَ القرن العشرين عندما جاءَ عربيٌّ مشرقيٌّ اسمُه محمد يوسف مقلّد ساعياً التعرّفَ على البلادِ وثقافتِها ومؤمِناً أن في البلد ما ينبغي نقلُه وتدوينُه. جاء هذا العربيُّ المشرقيُّ متأخّراً عن القادمِ الأوروبيّ لكنه دُهِشَ واستغَربَ من ثقافة البلاد ونمطِ العيشِ فيها كما فعلَ سابقوه من الأوروبيين. ومع تشابُهِهما في الاندهاش إلا أن القادمَ العربيَّ كان عفوياً وذاتياً لا تُحرّكُه دوافعُ السياسة والتجارة الاستعمارية التي تحرّكُ القادمَ الأوروبي. 

فتحَ مقلّد قلبَه على كلّ شيءٍ في موريتانيا أثناء إقامته فيها، فقد شُغِفَ بأدبِ البلاد وثقافتِها وبطبيعتِها وناسِها. ومع أن جُلَّ اهتمامه كان جمعَ الأدبِ والاطّلاعَ على الثقافة إلا أنه لم يَنْسَ نفسَه أبداً. إذ يبدو من قصائده وخواطره أن أموراً أُخرى غيرَ الأدب متَّنَت صِلَتَه العاطفية بالبلاد. إضافةً إلى زياراته لأماكنَ متفرّقةٍ في البلاد وعلاقتِه مع عددٍ من أهلِها، فقد تزوّجَ مقلّد موريتانيةً ورُزِقَ منها ابناً سمّاه على اسمِ أبيه يوسف، ولكنّه سافرَ إلى غيرِ رجعةٍ قبل أن يراه. وقد خَصّصَ خاتمةَ كتابِه "موريتانيا الحديثة" المنشورِ سنة 1961 ليكاشِفَ ابنَه يوسف مكاشَفةً عاطفيّةً حارّةً قائلاً: "ما أَعجبَها مِن مصادفةٍ يا ثمرةَ شبابي الأُولى! كأنّي ما تغرّبتُ من أقصى الشرق إلى أقصى مغربِكَ إلا لأُنجِبَك. كأنّك ما وُلِدتَ إلا لتكون شاهداً حيّاً على تأكيد صِلاتِ الدمِ العربيِ المستمرّةِ بين عرب المشرق وعرب المغرب؟ صلةٌ قوميةٌ وروحيةٌ، قُدِّرَ لي منذ خمسةَ عشرَ عاماً أن أجعلها بك بَشراً سويّاً موريتانياً ولبنانياً، وأن أجدّدَها اليومَ كتاباً تَقرؤونَه بُكرةً وعشيّاً. وبذلك تَمّت لي ببِلادكَ رابطتان: الدمُ وهو أنتَ، والروحُ وهو ما قرأتُم وستَقرؤون … يا ولدي يا ذكرى غُربتي. الباقيان بعد شطِّ المَزارِ اثنان: حُبّي لبلدٍ عربيٍّ قَصِيٍّ زَرعْتُكَ فيه، وكتابي!"

وكان مقلّد يدعو لانضمامِ موريتانيا إلى المغرب بتحفيزٍ من الصلةِ الثقافيةِ والعاطفيةِ التي يَشعُرها نحوَ البلد وبدافعِ مَيلِه العروبيّ القوميّ الجامع. فمعَ وعيِه أنّ أصلَه ليس موريتانياً إلا أنه كان في عُمقِه يَشعرُ بذاته موريتانياً خالصاً، يُملي قلبُه عليه البحثَ عن مصلحةِ هذا البلد الذي تربطه به صلاتٌ وثيقةٌ في التوحّد مع المغرب، ويُملي عقلُه عليه الشيءَ ذاتَه. ولهذا فقد كان مندفِعاً في موقفه جاهراً به أمامَ الجميع. وحين رأى أنه يُثيرُ جدلاً كبيراً لا يَؤبَهُ به من الموريتانيين تراجَعَ في الاندفاع وبَرّرَه بنسبيةِ الموقف السياسي ومحدوديّتِه، مؤكّداً أنّ موقفَه كان اضطرارياً في وقتٍ من الأوقات وأنّ "السياسة ما كانت ولا مرّةً في يومٍ من الأيام أهلاً للنتائج السارّة، بل العكس، طالما كانت مقبرةَ الإخلاص والمخلصين". 


لم يكُن اكتشافُ موريتانيا والاطّلاعُ على ثقافتها دافعَ اللبنانيّ محمد يوسف مقلّد (1913-1965) في ثلاثينيات القرن العشرين لمغادرةِ بلادِه نحوَ شمال غرب إفريقيا. بل إنّ ما كان يحرِّكُ هذا اللبنانيَّ ومجموعةً من سكانِ بلادِه سعيٌ آخَرُ؛ إنّه حُلمُ التجارة ومزاولتها في السنغال. ولتحقيق هذا الحُلم تنقّلَ محمد يوسف مقلّد كلَّ هذه المسافات وتَكبّدَ المشاقَّ، فقد كانت التجارةُ حينذاك في مدن السنغال مثل سانت لُويس ودَكار هدفاً لعددٍ من الشاميين واللبنانيين على وجه الخصوص، بحكم نشاط هذه المدن وحيويّتها في ظلِّ الاستعمار الفرنسي.

عند مَجيئِه للسنغال في بداية الثلاثينيات زاوَلَ مقلّد النشاطَ التجاريَّ وكَوّنَ صداقاتٍ مع عددٍ من التجار الموريتانيين الذي كانوا يعملون في ذلك البلد. لم يكن وجودُ الموريتانيين في مدينة سان لويس السنغاليّةِ يومئذٍ غريباً، فمَع القربِ الجغرافيّ للسنغال والتقاربِ الثقافيّ والاجتماعيّ الكبير بينها وبين موريتانيا، كانت سان لويس أيضاً مركزاً للإدارة الاستعمارية لموريتانيا. لم تكن لحظةُ اكتشافِ مقلّد موريتانيا محدّدةَ التاريخ بدقّةٍ، ولكنّ الراجحَ أنّها تزامنَت مع اكتشافِ تجّارٍ سوريين ولبنانيين مولَعين بالأدب والشِعر لموريتانيا. فمقلّد يشترِكُ مع هؤلاءِ التجّارِ في الأصلِ الشاميِّ، وهو مِثلهم أيضاً ذوّاقٌ ممارسٌ للأدبِ والشِعر. والمهجَرُ محفِّزٌ على التلاقي وفقَ محدّداتٍ واهتماماتٍ مشترَكةٍ، لهذا فإنّني أرجّحُ أنّ لحظةَ اكتشافِه موريتانيا جاءت بعد لقائه العالِمَ والأديبَ الموريتاني المختار وِلْد حامْدُن، الذي جمعَته صلةٌ وثيقةٌ مع مجموعةٍ من الشاميّين في السنغال يومئذٍ. ففي مقابَلةٍ إذاعيةٍ قديمةٍ مع المختار وِلْد حامْدُن، يذكرُ قصّةً عن بداياتِ التواصلِ الثقافيّ في القرن العشرين بين أهل موريتانيا وأهل الشّام في السنغال، إذ قال: "كنتُ في عام 1936 أعملُ تاجراً في كولخ. فجئتُ ذاتَ عشيّةٍ إلى تاجرٍ سوريٍّ، فاشتريتُ منه كيساً من الصابون فدخلَ علينا شاميٌّ يسمّى إيميل، فقال لي التاجر: هذا شاعرُ العرب. فقلتُ له: وهل يوجد شاعرُ العربِ إلا في البِيضان؟ (يقصد الموريتانيين)  فقال لي إيميل: لعلّك شاعرٌ! فقلتُ: نعم. فقال: أنشِدْني. فأنشدتُه أبياتاً. فقال: عندي أحسنُ مِن هذا. وأنشَدَني أبياتاً فقلتُ له: هذا أحسنُ مِن أبياتِكَ، ولكنْ مِن أين لي أنها مِن إنشائك؟ فلْنَصِفْ هذا الكيسَ، فأيُّنا أسرعُ بديهةً وأحسنُ شِعراً فهو شاعرُ العرب. فقال لي: ماذا يقول واصفُ كيسِ الصابون؟ فقلتُ: يَعرفُه الشاعر. فقال: لا يَعرفه الشاعرُ ولا الناثر. فقلتُ: أنا أعرفُه. قال: ماذا تقول؟ قلتُ: أقول إنه في صندوقٍ من الخشب، مكعّبٌ معصوبٌ، وفيه انكسارٌ يبدو منه صابونٌ رديءٌ غالٍ عندَك ولا تسلّفُه لعملائِك. فقال لي: أنت ظريفٌ، وأريدُ منك لقاءً الليلةَ في دار الحاج علي بيضون السوريّ، فجئناه ونحن خمسةُ نفرٍ فوجدْنا معه جماعةً من أدباءِ العرب السوريين واللبنانيين فسَمُرنا معهم ... ثم بعد عدّةِ محاضراتٍ مع هؤلاء العرب لَقِيَني الأديبُ زكي بيضون فقال لي: اكتُبْ عن البِيضانِ لتُعرِّفَ العالَمَ العربيَّ بجزئه هذا الذي ليس له عِلمٌ به".

تؤكِّدُ القصّةُ الموجَزةُ بدايةَ اهتمام صاحبِها بالتأليفِ عن تاريخ بلاده وثقافتها، ولكنها توضّح أيضاً اكتشافَ مجموعةٍ من المهاجرين العرب الشاميين القادمين من المشرق العربي لبلادٍ وثقافةٍ لا يعرفون عنها كثيراً. أَتى محمد يوسف مقلّد إلى السنغال قادماً من بلاده لبنان بعد أشهرٍ من هذه القصة، ووجدَ أمامه جاليةً مهاجرةً من بلاده تراودُها الأسئلةُ عن بلادٍ تتوطّنُ في نفوسِ أهلها العربيّةُ وأَدبُها. ثّم ما هي إلاّ فترةٌ قصيرةٌ حتّى وجدَ نفسَه راغباً في التعرّف على هذه البلاد والسعيِ إلى تعريف العرب جميعاً بها. 

رَكّزَ محمد يوسف مقلّد اهتمامَه على ما وراءَ نهرِ السنغال طيلة السنوات التي أمضاها فيها، حيث توجد أرضُ "البِيضان" أي شعب موريتانيا العربيّ، ذلك الشعبُ البدويُّ والتقليديُّ الذي يُذكِّرُه بما في خياله عن العرب قديماً ويُنهِضُ في نفسِه حسَّ العروبة الباعث على التوحّدِ والثورةِ على الضعفِ والطغيان.


توحي مقاطعُ شعريّةٌ متفرقةٌ لمحمد يوسف مقلّد أن مهجرَه السنغاليَّ لم يكن دائمَ السعادة. فكثيراً ما تَحضُر مشاعرُ الضيقِ والتذمّرِ من نكدِ العيشِ وقسوةِ الاستعمار الفرنسيِّ والحنينِ الجارفِ إلى الوطن البعيد في قصائده أثناء مُقامِه في السنغال. على أنّ اكتشافَه موريتانيا مثّلَ "حظّاً أدبياً نادراً" بحسبِ تعبير الشاعر الموريتاني محمّدِن وِلْد أُشِدّو في كتابه "سفارة الأرز في إفريقيا الغربية"؛ إذ أزالَ مقلّد كلَّ تلك المشاعرِ الحزينةِ وأبدلَها شغفاً واهتماماً بالبِيضان الذين يقول عنهم في أبياتٍ له:

لِــلــضّــادِ فــي إفــريــقــيــا رايــةٌ … خــفّــاقـــةٌ رفّــاقـةٌ عــالــيــة
يـرفـعُـهـا الـعُربُ (بَنو عمّنا الـ … بِيضانُ) أَهْلُ الهِمّةِ السامِية
هُم ناشِـروها، هُم أسـاتـيذُها … هُم حِصنُها هُم دِرعُها الواقية 

هل كان الشغفُ بالبِيضان وبأدبِهم وثقافتِهم هو ما أعانَ محمد يوسف مقلّد على مهجرِه القاسي. هذا ما يؤكّده محمّدِن وِلْد أشدّو ونستشّفه أوليّاً من أبياتٍ منظومةٍ لمقلّد ذاته. المؤكَّد أن مقلّد رأى في ثقافة البيضان انعكاساً لأصالة العروبة وقِيَمِها، لا سيّما فيما يتعلّق بمهارةِ إنتاج الشِعر بلغةٍ عربيةٍ جزلةٍ تسندُها بيئةُ العيشِ وظروفُها البدويّةُ النقية. من ثمَّ فإنّ اهتمامَه باتَ معرفياً وأدبياً خالصاً منذ اللحظة التي تعرّفَ فيها عليهم، وهذا ما يبدو بعيداً عن الهمِّ الذي قادَه للهجرةِ من لبنان إلى السنغال.


لَم توشِك موريتانيا على الدخول في إرهاصات الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي منتصفَ الخمسينيات حتّى كان محمد يوسف مقلّد قد حطّ رحالَه فيها قادماً من السنغال. لقد كان مجيئُه بالتزامن مع إرهاصات الاستقلال ذا دلالةٍ بالنسبة له، فهذه بلادٌ لم تكن تحتاج إلى أن تتحرّرَ من المستعمِر الفرنسيِّ المُسيطِر عليها منذ سنة 1903 وحسب، وإنّما كانت تحتاج أيضاً إلى أن تتحرّرَ من ظُلمةِ المجهوليةِ والنسيان الجاثمة عليها منذ قرون. مثلَ أكثرِ المشارقةِ، كان مقلّد يعتقدُ أنّ الوجودَ العربيَّ الناضجَ ينحسرُ عند حدود المغرب والجزائر، وأن ما وراءَهما بلادٌ ليس للعروبة فيها أثرٌ ولا سلطان. لكن ملاقاتَه الموريتانييِّن وتلقّيَه أخبارَ بلادِهم بين حينٍ وآخَرَ كشفَ له بدهشةٍ أنّ ذلك المعتقَدَ مُجافٍ للحقيقة. ولذا فعندما وطأَت قدمُه موريتانيا أوّلَ مرّةٍ بدا للشاعر اللبناني أنّ التعريفَ بهذه البلاد وثقافتِها صارَ مهمّتَه الكُبرى التي سيكرِّسُ لها وقتَه.

هكذا شرعَ محمد يوسف مقلّد في تسليط الضوء على موريتانيا في العدد رقم 287 من مجلّة "الجنديّ" الدمشقية والمنشور بتاريخ 27 ديسمبر 1956، فكتب "حيثُ هناك (موريتانيا) يعيشُ أقوامٌ يتكلّمون العربيةَ، ويعيشون حياةً ذاتَ تقاليدَ عربيةٍ أصيلة". نبعَ انخراطُ مقلّد في الكتابة عن موريتانيا مِن تصوُّرِه أنّ البلدَ التي كانت حينئذٍ تُصارِعُ من أجلِ التحرّر من المستعمِر الفرنسيِّ، في حاجةٍ ماسّةٍ لأنْ يَعرِفَها محيطُها العربيّ. ولم يكُن التعريفُ بموريتانيا سهلاً، لذا أدركَ مقلّد أنه لا بدّ من النزول للواقع والانخراط في الساحة المحلّية وبناءِ علاقاتٍ واسعةٍ مع مختلف الفاعلين الثقافيين والسياسيين وجمعِ الموادّ الأدبية والتاريخية وزيارةِ جُلِّ المناطقِ المهمّةِ في البلادِ وتلقّي المعطيات والشروحات حول مجملِ البُنَى والقِيَمِ الاجتماعية والثقافية للتعريف بالصورة الشاملة والمتناسقة المكوِّنة لموريتانيا. وهذا ما فَعَلَه تقريباً، فمنذ مجيئِه إليها رَبَطَت الشاعرَ اللبنانيَّ علاقاتٌ بنُخبةِ موريتانيا الثقافية والاجتماعية وزارَ أهمَّ مناطقِها وتعرَّفَ على تاريخها وثقافتها عن قربٍ استعداداً للكتابة عنها والتعريف بها.

قدّم محمد يوسف مقلّد موريتانيا في كتاباتِه عربيةً إسلاميةً مشدودةً لطبيعتها الصحراوية البدوية ومثقلةً بإرثِ حقبِها التاريخيّة العديدة. وينتمي غالبيةُ سكان البلدِ البِيضان، محطّ تركيزه، لعالَمِ العروبةِ وثقافتِها، وعندهم تقاليدُ غنيّةٌ ويعيشون حياةً بسيطة. كذلك قَدّمَ مقلّد صورةً عن موريتانيا السائرةِ في طريقِ التشكُّل السياسيِّ والحضريِّ، مشيراً إلى ما تمتلكُه مِن مقوِّماتٍ للنهوض والبناء، وما يعوقُ سبيلَها من عجزٍ في الخبراتِ والوسائلِ والمقدّرات. وفي كلِّ الأحوال بدا حريصاً على تقديم صورةٍ شاملةٍ عن البلد على جميع مستوياتها الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصاديّة، ولكنّه لم يُخْفِ تركيزَه الواضحَ على إبداء الجانب الثقافي والأدبي تحديداً.

يُقدِّمُ مقلّد معطياتٍ معبِّرةً عن السياق السياسي والاجتماعي والاقتصاديّ الذي تعيشُه البلادُ في كتابِه الأوّلِ "موريتانيا الحديثة"، الذي جاء متزامناً مع حدثِ الاستقلال الوطني سنة 1960. نجدُه في الكتاب معلِّقاً على مُجرَياتِ الوضع السياسي وتطوُّراته منذ نهاية الأربعينيات وحتى لحظةِ الاستقلال. ومع أنه كان طموحاً إلى رؤيةِ موريتانيا قائمةً وحاضرةً إلاّ أنه لَم يُخْفِ مَيْلَه المتحمِّس إلى خيارِ الانضمامِ للمغرب، وهو ما كان يَطرحُه جُزءٌ من النخبة السياسية الموريتانيّة في بدايات نشأةِ دولةِ الاستقلال. قَدّمَ مقلّد في هذا الكتاب وصفاً شاملاً لجميع مظاهر الحياة في البلاد، فضَمّنَ فيه عناصرَ عن تاريخِ السكانِ وفِئاتِهم وقبائلِهم وطبيعةِ الأرضِ وجغرافيتِها ومُناخِها وعُمرانِها ونباتِها وحيوانِها وتقاليدِ أهلِها في الاجتماع والثقافة ومختلف ضروب المعيشة والنشاط السائد. ففي فصلٍ عنوانُه "موريتانيا في غابرِها القبليّ" قَدّمَ مقلّد جزءاً من ملامحِ ثقافةِ البلادِ وتاريخِها، فذَكَرَ أنّها الوطنُ ذو الاسمَيْن. فمِن جهةٍ هناك اسمُها التاريخيُّ شنقيط، المرادفُ للعروبة والإسلام، ومن جهةٍ ثانيةٍ هناك اسمُها المعاصرُ موريتانيا، المرادفُ لواقعٍ سياسيٍّ مستحدَثٍ على حدِّ تعبيرِه. فشنقيطُ التي تتسمّى بها مدينةٌ أثريةٌ إسلاميةٌ قديمةٌ في شمال البلاد تُمثِّلُ خلاصةً لهُويّتِها وتاريخِها. فيما كان موريتانيا اسماً ذا أصلٍ رومانيٍ، وبالتالي استعماريٍّ، وبدا غريبَ الصلةِ بتاريخ البلاد وهويّتِها، ومن هنا فإن مقلّد يتساءلُ هل يكون الاسمُ الحديثُ نذيراً خطيراً لتغيير تاريخٍ مجيد.

ما يسمّيه مقلّد تاريخاً مجيداً في هذه البلاد كامنٌ وفقَ رؤيتِه في تقاليدها الثقافية الدينية العربية التي انطبعَت في ظلِّها منذ قرون. وذلك ابتداءً من عصر المرابطين في منتصف القرن الحادي عشر ومروراً بمَقْدَمِ قبائل بني حسّان بين القرنيْن الخامس عشر والسادس عشر وصولاً للفترة الحديثة حيث سادت في المجتمع البِيضاني طيلةَ هذه الفترة التاريخيّة منظوماتٌ ثقافيةٌ واجتماعيّةٌ مميَّزةٌ شكّلَتْه على صورتِه الحاليّةِ مجتمعاً ناطقاً باللهجة الحسّانيّة في أغلبه. وتُعَدُّ الحسّانيةُ لهجةً شديدةَ القُربِ من العربيّة على ما في لغةِ قبائلِ صنهاجةَ الأمازيغيةِ من تأثيرٍ فيها. وهي اللهجةُ التي سادت مع قُدومِ بني حسّان مع الهجرة الهلالية وبدأَت تدريجياً تحتلّ حيّزاً كبيراً في البلاد، خصوصاً على مستوى التخاطب اليومي والعادي، بينما كانت اللغة العربيّة لغة الأدب والعلم والدين التي اعتمدَها السكان. في هذا الصددِ يُعرِّج مقلّد على الخصائص الصوتية والنطقية المتعدّدة للحسّانية وفقَ تبايُن الجهات في البلاد، ويُنبِّه إلى أنها "تلتقي مع اللغة الفصحى المكتوبة التقاءً جدُّ قريبٌ"، ولكنه يَعُدّ اللغةَ العربيّةَ الفصحى هي اللغةَ الطبيعيةَ في الأساس لأهل البلاد أكثرَ من الحسّانية التي لا يَراها أكثرَ من حاجةٍ إقليميةٍ خاصةٍ بالبيت والسوق. ولا يَفتَأُ مقلّد يؤكّد أن "انطلاقَ ألسنةِ أهلِ البلاد بالفصحى متى أرادوا أمرٌ في غاية اليسر والسهولة". ولعلَّ ذلك التوكيد مُتَأَتٍّ من مُعايَنَتِه للمنتوج الشعريّ والثقافيّ لدى الموريتانيين يومَها، إذْ مِن شأنِ قوّةِ الأسلوب اللّغويّ وجزالتِه واستقامتِه في ذاك المنتوج أن يثيرَ إعجابَ الشاعرِ ذي الحسّ العروبيّ الطاغي الذي كانَهُ مقلّد.


رافَق مقلّد ظروفَ تأسيسِ موريتانيا واستقلالِها. فذَكَرَ في كتابه أسماءَ النخبةِ السياسيةِ وأحزابَهم وهيئاتِهم ومواقفَهم وخطاباتِهم، وكان متابعاً لكلِّ ما يستجدّ في شأن استقلال البلاد ونشوئِها. فإلى جانبِ ذِكرِه المنجزاتِ والتطوّراتِ الحاصلةَ على المستوى السياسي والتأسيسي حينئذٍ، ضمّن كتابَه إشاراتٍ واسعةً إلى محدوديةِ إمكاناتِ البلاد وفقرِ وسائلها وضعفِ مقوّماتها، خصوصاً على الصعيد الذي يتداخلُ فيه العاملُ التنمويُّ والعامل الاجتماعيُّ، كحاجةِ السكان إلى العنايةِ الطبّيةِ نظراً إلى أنّه "لا يوجد مستشفىً واحدٌ على الإطلاق"، بالإضافة إلى كونِ وسائل الاتصال شِبهَ معدومةٍ فعلاً، مع إشارته إلى "تخلّف" قطاعاتٍ عديدةٍ كالزراعة والتنمية الحيوانية والصناعة، على ما في الأرض من خصوبةٍ ووفرة الحيوانات وتوفُّر المعادن. 

وإذا كان مقلّد قد اندهَش بمستوى الثقافة الشعرية والأدبية والدينية في البلاد، درجةَ زهوِه الدائمِ بها، فإنه على الجانب الآخَرِ قد اندهَشَ في سياق الاستقلال من ضعفِ جاهزية البلاد و"تخلّفها" على أصعدةٍ عديدةٍ، فالبلد تكاد تكون خاليةً من أيّ وجودٍ حضريٍّ ومدنيٍّ حديث. ولهذا فإنه كان يجدُ من الطبيعيّ إزاءَ هذا الوضع الهشّ أن يدعوَ حينئذٍ لانضمام البلاد إلى المغرب، لتستفيد من تطوّرها الحضري والتنموي الحيّ، وتُحقِّقَ "استقلالها الوحدوي" في الوقت ذاته بالاندماج مع بلدٍ عربيٍّ شقيق. لكنّ موقفَ مقلّد هذا سيُثيرُ الكثيرَ من الجدال والنقد في أوساط الموريتانيين الذين أخذوا عليه تدخّلَه الزائدَ في شؤونهم ووصايتَه على مصيرِهم. إذ كيف به وهو الأديبُ المشرقيُّ المحبُّ لهم أن يُنظِّرَ لانضمامهم إلى غيرهم، داعياً إياهم إلى التخلّي عن تأسيس دولةٍ موريتانيةٍ مستقلّةٍ قوامُها هُويّتُهم المميّزة. ولَم يتأخّرْ كثيراً ردُّ محمد يوسف مقلّد على ذلك الجدل. ففي العام 1962 أصدرَ من بيروت كتابَه "شعراء موريتانيا: القدماء والمحدثون" ودافعَ في بدايته عن نفسه ودوره في التعريف بموريتانيا وإظهارها للوجود بالكتابة عنها في الوسط الأدبي والثقافي العربي بعدما كانت مجهولةً ومنسيةً في الصحراء، قائلاً: "أما هناك في كتاب 'موريتانيا الحديثة' فقد قدّمتُها صورةً سياسيةً كان لغيري غُنْمُها وعليّ غُرْمُها . . . صورةً ذاتَ ملامحَ عديدةٍ، بشريةٍ وتاريخيةٍ ومصيريةٍ، نَغّصَت عليَّ هناءةَ العيش ونَفّرَت عنّي قلوبَ الإخوان الذين عرفتُهم وأحببتُهم، بمن فيهم الذين خدمتُهم والذين أغضبتُهم على السواءِ . . .كلُّ ذلك في سبيلِ ما أردتُ إبرازَه مخلصاً عن الشخصية الموريتانية، والحقيقة الموريتانية التي شقيتُ بسببها ردحاً طويلاً من الزمن. فإذا كان ذلك الكتاب قد أرضى إخواناً وأَسخطَ إخواناً، وما ذلك أردتُ، فإنه قد أدّى الغايةَ الجوهريةَ الأساسيةَ التي وُضِعَ من أجلِها، وهي تعريفُ العالمِ على بلدٍ عربيٍّ قصيٍّ كان حتى الأمس القريب غارقاً في العدمية والمجهول".

يبدو مقلّد في كتابه "شعراء موريتانيا" مصمّماً على موقفِه وكلِّ ما كتبَ سابقاً، ويَستهلُّ كتابَه برسائلَ كتبَها موريتانيون في الداخل والخارج يَشكرونَه على جهوده في التعريف بهم. بل إنه يؤكِّد أن كتابَه "شعراء موريتانيا" هو الجزءُ الثاني من "موريتانيا الحديثة"، فيكتبُ قائلاً "القارئُ الذي يهمّه أن يعرفَ موريتانيا والموريتانيين معرفةً تامّةً، لا بدّ له من الاطّلاع على الكتابَين، وإلا ظَلَّ عِلْمُه عن البلادِ وأهلِها ناقصاً". وحاولَ الرجلُ أن يكونَ كتابُه الأخيرُ بعيداً عن السياسةِ مقتصراً على الأدب فقط. فإن كان كتابُه السابقُ كتاباً في السياسة فإنّ كتابَه هذا كان كتاباً في الأدب على حدّ تعبيره، فيقول: "ها أنا اليومَ أُقدِّمُ موريتانيا (شنقيط) والشعبَ الموريتانيَّ (الشناقطة) بصورةٍ أدبيةٍ خالصةٍ صافيةٍ، لا تشوبُها شائبة، ولا تعكّرُها مغبّةُ عاقبة". وكعادته، يؤكّدُ مقلّد دورَه في التعريف بموريتانيا فيَرى نفسَه سفيرَها الدائمَ في الشرق الذي تولّى تقديمَها قبلَ أيِّ شخصٍ آخَرَ، ولذلك يؤكّد أنه لا يمكنُ لَوْمُه ولا نَقْدُه على عدمِ محبّةِ موريتانيا والسعيِ في صالحِها مهما كان موقفُه وتقديرُه بشأن مصيرها.

كرّس مقلّد كتابَه "شعراء موريتانيا" لتقديم المنتوج الشعري والأدبي للموريتانيين مع عرض لمحاتٍ من ثقافتهم. فقد تضمّنَ الكتابُ نِتاجَ ما يزيدُ على خمسين شاعراً في مراحلَ زمنيةٍ متفاوتةٍ ثمّ خَلُصَ في نهايته إلى أن شعرَ الموريتانيين فطريٌ تقليديٌ بسبب نمط عيشهم وبنيتهم الاجتماعية البدوية.


ساهَم محمد يوسف مقلّد في تقديم موريتانيا إلى العالم العربيّ كاسراً بذلك عزلةً امتدّت بينها وبين العرب زمناً طويلاً. وعايَشَ عن قربٍ نشوءَ كيانِها السياسيّ الوطنيّ وساعدَ في تأسيس سرديّتها الثقافيّة سرديّةً قدّمَتْ موريتانيا موطناً للعروبة وتقاليدها الأدبية والثقافية الأصيلة. وأوّلُ أثرٍ لذلك كان مجيءَ بعثةِ مجلّة "العربي" الكويتية سنة 1967 لإعداد ملفٍ شاملٍ عن موريتانيا وَصَفَتها فيه ببلد "المليون شاعر"، وهو لقبٌ انتَشَر سريعاً في العالم العربيّ والإسلامي. فهذا اللّقبُ الذي جاءَت به مجلّةُ العربي أَوّلَ مرّةٍ، كانت كتاباتُ مقلّد تُمهِّد له منذ منتصف الخمسينيات وتهيِّئُ الظروفَ لظهوره. فكتاباتُ الشاعر اللبناني وإن ظلَّت حافلةً بادّعاء استكشاف موريتانيا عربياً، فإنها جاءت مفعَمةً بحرارةٍ وعفويّةٍ بالِغَيْن. على أنّ مجيئَه لموريتانيا كان صدفةً وعفوياً فإنّ دافعَه للكتابة عنها كان ذاتياً في المقام الأوّل وإن اصطبَغَ بالنزعة القومية. وبهذا تختلف كتاباتُ مقلّد عن كتابات الرحّالة الأوروبيين الذين توافَدوا على البلاد ضمن حملاتٍ استكشافيةٍ ابتداءً من منتصف القرن الخامس عشر، حين أسّس البرتغاليون مركزاً تجارياً على الساحل الأطلسي للبلاد في جزيرة آرغين.

جاءت كتاباتُ المستكشفين الأوروبيين لغاياتٍ تجاريةٍ وعسكريةٍ غربيةٍ ولذلك ظلَّت موجَّهةً لأهدافٍ استطلاعيةٍ وفيها وصايةٌ على أهل البلد مع ما تضمّنته من معطياتٍ بشرية. كان طابعُ الكتابات الغربية التركيزَ على أهدافٍ استعماريّةٍ واضحةٍ تطمح للسيطرة على المجال الجغرافي والاستفادة من مزاياه الاقتصاديّة ممثّلةً في تجارة الصمغ المُستخدَم في صناعات النسيج والصيدلة. وامتدّت الكتاباتُ الاستكشافيّةُ الغربيةُ على فتراتٍ طويلةٍ منذ البرتغاليين وحتّى الفرنسيين الذين أصبحَت رحلاتُهم الاستكشافيةُ أكثرَ تنظيماً منذ نهاية القرن الثامن عشر. ظلّت كتاباتُ المستكشفين تَفتقِر إلى عرض الحالة الاجتماعية والثقافيّة وفهمِها، فكُتّابُها شبّانٌ مغامِرون وضباطٌ وتجّارٌ وعلماءُ اهتمّوا بوصف مظهر الطبيعة والأنشطة الاقتصادية دون الغوص في خصوصيات البِيضان الاجتماعية والثقافية والحضارية والتاريخية، كما يقول محمدو ولد أمين في كتابه "المجتمع البيضاني في القرن التاسع عشر: قراءة في الرحلات الاستكشافية الفرنسية".

كانت الرحلاتُ الاستكشافيةُ الفرنسيةُ في مرحلتِها الأولى في النصف الأول من القرن التاسعَ عشرَ محاولاتٍ فرديةً دافعُها المغامرةُ وحُبُّ الاكتشاف؛ ولذا لَم تتجاوز المحيطَ الجنوبيَّ قربَ ضفّة نهر السنغال ولَم تَدخُل العمقَ الموريتانيَّ بل ظلَّت في الأطراف. ولعلّ افتقارَها إلى دعم الحكومة الفرنسية وتشجيعِها قد حَرَمَها من التمدّد والانتشار، ومع ذلك فقد مَهّدَت للرحلات الاستكشافية ذاتِ الطابع الاستعماريّ لاحقاً. وكانت رحلةُ كاسبار تيودور موليين سنة 1817 أوّلَ رحلةٍ فرنسيةٍ، حيث نجا من تحطُّمِ سفينته على السواحل الموريتانية ثم جمعَ أثناء زيارته للمنطقة أخباراً عن نمطِ عَيشِ البِيضان. ثمّ ما هي إلّا سنواتٌ قليلةٌ حتى جاء رنييه كايي الذي عُرِفَ محلياً بِاسم "ولد كيجه النصراني" وهو ثاني مستكشفٍ فرنسيٍ، وقد نُسِجَت في المخيال الشعبي المحلي أساطيرُ عن تعمُّقه في الثقافة المحليّة والتبحُّر في علوم الشريعة حتى تولَّى الإمامةَ في شهر رمضان. أقام كايي بين البِيضان وادَّعَى اعتناقَ الإسلام وكان حُلمُه أن يَعبرَ الصحراءَ الكبرى حتى يصلَ مدينةَ تمبكتو في الشرق. وبعد ذهابه توقّفَت الرحلاتُ الفرنسيّةُ مُدّةً من الزمن. ثم جاء الضابطُ جان فرانسوا كاي قادماً من السنغال سنة 1943 لمهمّةٍ استطلاعيّةٍ غيرَ بعيدٍ من الضفّة. وكانت الأخبارُ التي جمعَ "أولى المعطياتِ الكمّيةِ عن سكان منطقتَي التْرَارْزَة والبْراكْنَهْ الموريتانيتيْن" بحسب محمدو ولد أمين. وجان هذا هو أولُ من أطلَقَ اسمَ موريتانيا على ساكنةِ أرضِ البِيضان.

بدأَت الإدارةُ الاستعماريةُ الفرنسيةُ منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر تُفكِّرُ في دمجِ مستعمَرةِ الجزائر ومستعمَرةِ السنغال بالمرور بموريتانيا، فكان لا بُدَّ من اكتشافِ منطقتِها والتعرُّفِ على سكّانِها وما تحتويه من مخاطرَ وما تزخرُ به من مواردَ اقتصاديّةٍ، تمهيداً للسيطرة عليها. كان الرحّالةُ المستكشِفون عسكريين في جُلِّهم، مثل الجنرال فِيدْرَب الذي أرسلَ أعوانَه من العساكر والمستكشفين، كالنقيبِ فينصان والملازمِ البحري دومنيك بورل، لتهيئةِ البلادِ للمشاريع التجارية الفرنسية وجعلِها ممرّاً بين السنغال والجزائر. وكان الهدفُ تحقيقَ فرنسا طموحاتِها التجاريةَ والاستعماريةَ، لكنّ مَساعِيه ومَساعي الإدارةِ الاستعماريةِ مِن ورائِه لَمْ تتحقَّق. وابتداءً من 1861 توقّفَت الاستكشافاتُ الفرنسيّةُ عَقدَيْن من الزمن نتيجةَ ظروفِ الإمبراطورية الفرنسية الثانية المتأزّمة في عهد نابليون الثالث. وعندما عُيِّنَ بريير دو ليل والياً على السنغال خَلَفاً لفِيدْرَب في ثمانينياتِ القرن التاسعَ عشرَ، بدأَت مرحلةٌ جديدةٌ من الاكتشافات الفرنسيّة على يدِ مستكشِفين جُدُدٍ، واكتُشِفَت موريتانيا جغرافياً واقتصادياً. وكان ذلك بدايةَ تحضيرِ فرنسا الصريحِ لاستعمار البلاد، والذي أَعقَبَه وصولُ البعثات الاستكشافية المسلَّحة في مستهَلِّ القرن العشرين إلى الجنوب الموريتاني.

شَهدَت الاستكشافاتُ الفرنسيةُ لموريتانيا طيلةَ القرن التاسع عشر تطوّراتٍ متدرّجةً ومتّسقةً مع رهاناتِ كلِّ مرحلةٍ من مراحلها. وتنوّعَت اهتماماتُ المستكشِفين كما تنوّعَت مشاربُهم وإن ارتكزَت في المجمَل على وصفِ طبيعة الأرض الجغرافية والمناخية والنباتية ومواردِها الطبيعية. فالذي مَيّزَ كتاباتِ محمد يوسف مقلّد عن كتابات المستكشِفين الأوروبيين أمران جوهريان؛ الباعثُ الذاتيُّ البَيِّنُ الذي يُميِّز الرجلَ والفجوةُ الزمنيّةُ بين كتاباته ونصوصِ المستكشِفين. فجُلُّ كتابات المستكشفين تتوقف تقريباً في أوّل القرن العشرين، في حينِ بدأَت كتاباتُ مقلّد متأخّرةً عنهم ومتزامنةً مع الاستقلال والنشأة الحديثة. يمكن القولُ أنّ كتابات مقلّد قد استفادت من ثقةِ المجتمع الموريتاني ونُخَبِه المثقّفة بحُكمِ رابطةِ اللغة والهوية المشترَكة فانفتحَ الموريتانيون عليه وتقبّلوا التعاطيَ معه بيُسرٍ، فاحتوت كتاباتُه معطياتٍ غنيّةً عن الثقافة الاجتماعية والأدبية للبلاد، كانت قد غابت تماماً عن كتابات المستكشفين الأوروبيين. فقد ظَلَّ المستكشفون الأوروبيون يلاقَون بالصُدود ويعامَلون برِيبةٍ نتيجةَ اختلاف اللغة والمعتقَد، باستثناء رنييه كايي الذي ادّعَى الإسلامَ وتعلَّمَ اللغةَ ونُسِجَت أساطيرُ عن قُدرتِه الغريبة. 


كانت الكتابةُ عن موريتانيا رهاناً ذاتياً خالصاً عند مقلّد فجاءت كتاباتُه متنوعةً ودقيقةً مشوبةً بعاطفةٍ قويةٍ ومَيلٍ جمٍّ إلى خَلعِ صفاتِ العَظَمةِ والرقيّ على البِيضان وثقافتِهم في انطباعاته عنهم. بَيْدَ أنّ أهمَّ ما تميّزَت به كتاباتُه أنها أوّلُ تواصلٍ عربيٍّ جادٍّ في القرون الأخيرة مع ما يُسمَّى بلادَ شنقيط أو في الاصطلاح الحديث موريتانيا. فبَعد غيابٍ طويلٍ لِأَيِّ بادرةٍ عربيّةٍ للتواصل مع هذه البلاد، جاءَ هذا الشاعرُ والأديبُ اللبنانيُّ صدفةً يحملُ طموحاتٍ وآمالاً عدّةً ليكتبَ عن بلدٍ يَهيمُ بالعروبةِ ويَعيشُها دون أن يدريَ العالَمُ العربيُّ عنه شيئاً. 

لا يمكن فصلُ جهدِ محمد يوسف مقلّد في التعريف بموريتانيا عن تأثير الفكر القومي العربي المنتشر بين النخبة الثقافية العربية حينَها، فقد كان الرجلُ أحدَ تَمثُّلاتِها. وإن كانت رغبتُه الذاتيةُ هي مُحَفِّزه الأساسيّ للكتابة عن موريتانيا، فإنّ فِكرَه القوميَّ العربيَّ التقليديَّ كان هو الآخَرُ محفّزاً مهمّاً. لعلّ ذلك ما تُلخِّصُه خاتمةُ قراءةٍ في كتابِ مقلّد "موريتانيا الحديثة" نُشِرَت في إبريل 1961 في مجلّة "المشرق" بقلم المطران أغناطيوس عبده خليفة اليسوعي: "ينهض المؤلفُ إلى تحديد بعض المشاريع السياسية والاقتصادية ليُكمِّلَ الصورةَ التي أرادَ رسمَها لتلك البلاد. لكن أَتَكتمِلُ الصورةُ دون أن يعودَ المؤلفُ ويؤكدَ أنّ القومية العربية هي التي عليها احتضانُ بلادِ موريتانيا؟ هذا بعضُ ما في الكتاب المتشعّب، إنما علينا أن نزيدَ أنّ هذا التشعُّبَ تُوحِّدُه عاطفةُ المؤلفُ الجامحةُ نحو بلادٍ أَحَبَّها". هكذا إذن، كانت كتاباتُ مقلّد تمريناً على احتضان القوميّة العربية موريتانيا. وأكثر من ذلك كانت تمريناً لجُموحِ عاطفتِه نحو موريتانيا التي أَحَبَّها.

اشترك في نشرتنا البريدية