بين بول أوستر ورضوى عاشور: كيف وصَّفَ الأدبُ العلاقةَ بين الآباء والأبناء؟

حَيرةَ الأدبِ في وصفِ العلاقةِ بينَنا وبينَ أهلِنا تنتهي عندما نرى انعكاسَنا فيه. فحين نتمعَّنُ حكاياتِ الآخَرين نستطيع تمييزَ أنفسِنا أو إيجادَها

Share
بين بول أوستر ورضوى عاشور: كيف وصَّفَ الأدبُ العلاقةَ بين الآباء والأبناء؟
(تصميم: حاتم عرفة / الفِراتْس)

استمع لهذه القصة

00:00:0000:00:00

حزنٌ لاذعٌ كالملْحِ انفرَط مِن غير إيذانٍ بينما كنتُ أهمُّ بإكمالِ مذكّراتِ الكاتب الأمريكي بول أوستر "اختراع العزلة" عقبَ فراغي من روايةِ "خديجة وسوسن" للكاتبة المصرية رضوى عاشور. أتأمّلُ حبّاتِ الملْحِ هذه، أو الحزنَ، لأدركَ أنني تُرِكتُ كثيراً على هامشٍ جَعلني عالقةً بينَ أُمّي وأَبي.

تقلّبتْ علاقتي بأُمّي وأبي تقلُّبَ الموج، لكنَّ الثابتَ الوحيد فيها أنني الفتاةُ الوُسطَى بين أشقّائي ولم يكن صوتي عالياً، حتى حينٍ، ليَلتفتَ إليهِ أحَد. أدركتُ متأخّرةً أنَّنِي اعتنقتُ زمناً طويلاً أفكاراً لا تُمثِّلني، وارتديتُ ثياباً صَنعَها مَن حَولي. لاحقاً تقبّلتُ أنَّ لكلٍّ طريقتُه في الحُبّ، ولا نملك شيئاً للأسى من عدمِ التقاطِ لغةِ الحُبّ بين الآباء والأبناء سوى بتذويبه وتفكيكه بين الكلمات.

قبل سنواتٍ قليلةٍ قارَبَت الأيامُ بيني وبين صديقةٍ أمٍّ لطفلةٍ دون الخامسة من عمرها اسمُها لينا. شُدِهتُ بتعاملِ الأُمِّ مع ابنتها حتى في أبسط التفاصيل. كانت تحاورُها بعقلانيةٍ وتسألُها ماذا قرّرَت أن ترتديَ، وربّما قاطعَت محدّثيها إذا جاءتها لينا لتسألها أو تروي لها حادثةً ما. هرولَت لينا ذاتَ ظهيرةٍ نحوَ والدتها باكيةً تشكو موقفاً واجهَته، فأجابتها أُمُّها بأنَّها ورّطت نفسَها في ذلك المأزق وعليها أن تُخرِج نفسَها منه. توقّفَت لينا عن البكاء، ولم أرَها بعد ذلك تشكو من موقفٍ أربَكَها، بل فتاةً عنيدة تَسيرُ بخُطاً واثقة.

كنتُ طفلةً مشاكسةً مثلَ لينا، إلا أنني لَم أُصِرّ مثلَها. حوّلَتْني الأوامرُ والنواهي المتناثرة هنا وهناك إلى فتاةٍ هادئةٍ وشاردةٍ لا تثقُ بنفسها، وتُلجِمُ حماستَها في الكلام كلّما انصرف مُحدِّثوها عنها. انعزلتُ وعجزتُ أن أكون على سجيّتي ردحاً من الزمن، ولَم أدركْ ذلك إلا بدايةَ عشرينياتي.

يختلف نسيجُ العلاقات في العائلات من عائلةٍ لأُخرى، فترى الأدبَ حائراً في وصف المشترَكات بينها جميعاً. بيدَ أن النظرَ في مذكراتِ الروائيّ بول أوستر "اختراع العزلة" المنشورةِ سنةَ 1982، وروايةِ رضوى عاشور "خديجة وسوسن" الصادرةِ سنةَ 1989، سيُفضي إلى الإحاطة بما وراء اختلافهما الظاهريّ لغويّاً، إذ كتبَ أوستر مذكراته بالإنجليزية بينما كتبَت رضوى بالعربية. اتّفَقا على الالتفات إلى الوراء والتحديق في الماضي لاقتفاء أثرٍ انقضى وتأريخِ مشاعرَ سحقَها حضورٌ أبويٌّ طاغٍ أو غيابٌ حادٌّ، كأنهما يتفكّران في تدفّق كلِّ قطرةٍ شكّلَت نبعاً صافياً أو متعكّراً لعلاقاتٍ أبويّةٍ تأرجحَت فيها سمةُ السلطة والتملّك بين المركزية والهامش.

يَظهر التناقضُ الجذريُّ بين الروايتين في حرص الأمّ على الحضور في حياة أبنائها بقوّةٍ في روايةِ رضوى. بينما ظلَّ وجودُ الأب هامشياً في حياة أوستر وشقيقته. فكان الخيطُ الرفيعُ الذي يربط بين العملين إحساسُ شخصيةِ سوسن وبول أوستر بالرفض مِن أحد الوالدين واختبارهما مع باقي الشخصيات، شكلاً مدمِّراً من غياب الحُبّ.


تَتَّخذُ النزعةُ إلى السيطرة نبرةً أشدَّ شراسةً في رواية "خديجة وسوسن". فرضوى تسلِّمُ زمامَ السردِ إلى الأمّ خديجة أغلبَ الوقت. تمنحُها صوتاً ومنظوراً يَكتسح الشخصياتِ الأُخرى، مقسِّمةً الروايةَ بصفحاتها التي لا تتجاوز مئةً وخمسين إلى شطرين؛ تروي خديجةُ النِّصفَ الأكبرَ منه ولا يبقى لسوسن سوى واحدٍ وخمسين صفحةً فقط. والأرجحُ أن رضوى لا تفعل ذلك عبثاً بقدرِ ما تجعلُ من بطلتِها مرآةً لشخصيةٍ تؤمن بأحقّيتها في امتلاك حيواتِ أبنائها وتسييرها كما ترى، وبالتالي أسرِهم، حتى لو لم تعِ ذلك.

تجسِّد رضوى شخصيةَ الأمّ خديجة في أطوارٍ متباينةٍ، من فتاةٍ غرّةٍ مشاغبةٍ إلى امرأةٍ مستبدةٍ مسيطرة. كانت تقول في طفولتها متذمرةً: "أُمّي تتصرّف بشكلٍ غريبٍ، تُلقي الأوامرَ بلا منطق". فتتسلّل إليها هذه العبارةُ وتشبُّ عليها حتى تصيرَ عقيدةً لا تتوانَى عن تطبيقها على أولادها.

حين تكبرُ خديجةُ تتزوّج شاباً ثريّاً وتنجب ثلاثة أبناءٍ، فتصير نسخةَ أُمِّها المستبِدّةِ، وتتّسم علاقتها بابنتها الوسطى "سوسن" بالاضطراب. في المواجهة الأولى بينهما، تزجرُها خديجةُ صارخةً: "أنا الأُمُّ، أنا من آمُرُ وأَنهى وأنتم تطيعون فقط بلا نقاش". وتربطُ سوسنَ مرّةً بحبلِ غسيلٍ وتحبسُها في غرفتها خشيةَ أن تؤذي سوسنُ نفسَها أثناء ثورتها، ليصبح ذلك القيدُ غيرَ مرئيٍّ مع تتابع السرد، تُلجِم به خديجةُ رغباتِ أبنائها واحداً تلو الآخَرِ بصوتٍ عالٍ لا تَسمع فيه سوى نفسِها. وتُرضِخُ أولادَها بابتزازهم عاطفياً ومحاولة فرض رؤيتها عليهم بقطيعتهم والإجهاش في البكاء. 

تشبُّ ابنتُها سوسنُ عن ذلك الطَّوق، وتَثِبُ من ذلك السفحِ الشاهقِ ملوِّحةً بكلِّ ما تُنكِرُه خديجةُ وتخشى الاعترافَ به أو مواجهتَه، كلِّ ما يريها حقيقتَها أُمّاً وزوجةً مستبدةً لا امرأةً مُضحّيةً. لذا لا تلقى سوسنُ من والدتها سوى التجاهلِ والسُّخط.

تعترف رضوى على غلاف الرواية أن شاغلَها الأساسيَّ تصوّراتُنا الخاطئةُ عن المحبّة، وإسقاطُها في أشكالٍ لا علاقةَ للحُبّ بها. مثلَ الشكلِ الذي يجعلُ خديجةَ تتصرفُ وكأنها تملك أولادَها، فتقاوِم حرّيتَهم بالكبت. وتُدفَع سوسنُ في النهاية للإقرار بفشلِ مساعيها إلى الاقتراب من والدتها ونَيْلِ محبَّتِها ومحاولةِ جعلِها تتفهّمُها لتقول: "تُفزِعُني وأُحبُّها، تلك اللحظات التي تفاجئني نفسي وهي تسعى إليها تَطلب القربَ والقَبول". ثمّ يعلو صوتُ أخيها الصغيرِ الخافتُ والوحيدُ المسموعُ في الرواية: "لا أدري من أين أتتها هذه القدرةُ على تحويل كلِّ الأشياء إلى رمادٍ، حُبّي لها، ارتباطي بها، أحلامي، فرحي، حزني، كلُّ شيء".

ينتحر سعدُ، مُلقِياً بنفسه أمام عجلات القطار في وسيلةٍ أخيرةٍ يائسةٍ لإعلان عجزِه عن الهروب من حصارِ والدته. تُعبِّر الطريقةُ التي اختارَها لإنهاء حياته عمَّا عايَشَه. ويمثّلُ القطارُ رمزيةً لسعدٍ الذي أمضى حياتَه مُسيَّراً على قضبانٍ صنعَتها والدتُه. قضبان أوصلَته إلى نفقٍ مُظلمٍ عانى فيه من الاكتئاب ولم يجد سبيلاً إلى الخروج منه سوى بقفزةٍ أخيرةٍ واحدة. منحَت رضوى سعداً، الفتى الذي خنقَته الأحلامُ، صوتاً هزيلاً وخاطفاً فقط لتنقلَ لنا الكبتَ الذي عانى منه على يد الأم.

تنتهي الروايةُ بقرارِ سوسن الاستقلالَ في منزلٍ منفصلٍ عن عائلتها، واكتشافِها عجزَها عن توطيد علاقتها بوالدتها مع أنها تشارِكُها الحِدادَ وتزورُها. تعترف بأنها لن تَغفرَ لأُمّها ضغوطاتها على سعدٍ وإجباره على دخولِ كليّة الطبّ والتنازلِ عن حُلمِه في الالتحاق بكليّة الفنون الجميلة، وإرغامه على إعادة الثانوية العامّة لتحصيل مجموعِ علاماتٍ يؤهّلُه للالتحاق بكليّة الطبّ. ثم تزويجه فتاةً رأَتْها سليلةَ عائلةٍ كريمةٍ بعد رفضِها رفضاً قاطعاً ارتباطَ سعدٍ بزميلته في الجامعة. فعلَت خديجةُ كلَّ ذلك بإجهاشها بالبكاء والضغط على سعد عاطفياً ونفسياً. لكنَّ سوسن تُدرك حقيقةً واحدةً وتُخفيها عن أُمّها تتمثّلُ في أن أباها كان متزوّجاً امرأةً أُخرى خفْيةً أكثرَ من عشرينَ عاماً، ممّا يجعلُ سوسنَ تتعاطف مع والدتها في النهاية وتُقِرّ بمحبّتِها لها على أيّةِ حال.    

وَلّدَت رضوى الشخصيات من رحمِ قلقِ كاتبةٍ باغتَتها فكرةُ الوجود في الهامش مكاناً وشعوراً أحسَّت به سوسن، كما تروي في إحدى مقالاتها بكتاب "لكلّ المقهورين أجنحة". قلقٌ لكاتبةٍ جعلَت الأُمَّ تتسيَّد المركز وتُقصي أبناءها إلى الهوامش. فقد راوغَت رضوى الهزيمةَ طويلاً ولم تدرِ كما أقرَّت في كتابها المذكور آنفاً هل عاشت هي وجيلُها ممّن عاصروا العدوانَ الثلاثيَ على مصر سنة 1956 وحرب 1967 وغيرها في ظِلِّ هامشٍ واكتهَلوا فيه، أَم استُدرجوا إلى المتنِ فدَفعوا أثماناً باهظة. باحَت رضوى على الورق أنَّ نشأَتَها جعلَتها تُدرك أنَّ "التاريخ لا يقتصر على سجّلات الماضي بل يمتدّ ليشملَ واقعَنا اليوميَّ من حروبٍ متتاليةٍ ومجازرَ وقمعٍ وقهرٍ وأمانٍ مفتقدٍ وإرادةٍ منفيةٍ في ظلّ واقعٍ قابضٍ نجاهد لفهمِه ونحلم بتملّكه". 


بعد أن تلقَّى نبأَ موتِ والدِه، شرعَ الكاتبُ والمخرجُ الأمريكيُّ بول أوستر في كتابه "اختراع العزلة"، والذي ترجمَه إلى العربيةِ أحمدُ العلي). سمّى أوستر النصفَ الأوّلَ من الكتاب "بورتريه لرجلٍ غيرِ مرئيّ"، والنصفَ الآخر "كتاب الذاكرة". وكتابُ مذكّرات أوستر بشقَّيه محاولةٌ واضحةٌ لاستدعاءِ والده من الذاكرة، والقبضِ على رجلٍ سبقَ أن ماتَ موتاً معنوياً حين اختار أن يكون حضوره ضبابياً وعابراً. 

يراوِغُ أوستر اللّغةَ ليُغيِّبَ نفسَه في النصف الأخير من الكتاب، مستعمِلاً ضمائرَ مثل "هو"، لفصلِ نفسِه عاطفياً، رغبةً في فهمِ والدِه واستبطانِ موقعِه من الحكايةِ وأملاً في الانتباه إلى الحيِّز الذي شَغلَهُ أبوه في حياته. ويتفحّص أوستر علاقتَه مع ابنه دانييل بالأسلوب نفسِه، ليتحسّس معنى الأُبوّةِ ويدركَ ما الذي سقطَ من الذاكرة وكيف سقط.

يعودُ أوستر إلى منزلِ أبيه الشاحبِ متجوّلاً في تلك الفوضى المطمورة بالغبار وخيوط العنكبوت، ويتمعّن في الخشب المتآكِل على النوافذ والمقابض التي غزاها الصدى، وفي كلٍّ مهترئٍ ينمُّ عن شخصيةٍ لا تكترث بمحيطها. يشكِّك أوستر في عجزِ أبيه عن تهيئةِ نفسِه للانتقال من المنزل كما أخبرَه قبل موته بمدّةٍ قليلة. ويعتقد أوستر أنَّ رحيلَ أبيه عن الحياة هروبٌ مشروعٌ من مواجَهة بعض الحقائق، وإنْ كانت بسيطةً، كالتجهيز لتَرك البيت الذي قضى فيه معظمَ عُمرِه، وكتحضيرِ أمتعتِه. ثم يجعلُ أوستر المنزلَ استعارةً مُتقَنَة لحياةِ والده بما فيه من أشياءَ مُتكدِّسَةٍ ومخبوءةٍ بعنايةٍ وما يَعتمرُها من أشباحِ الوحدةِ والنسيان، منزلٌ لا تتسلَّل إليه أشعَّةُ الشمس ولَم يحظَ بدفءٍ قَطّ مثلَ صاحبه.

اختار أوستر كلمةَ "اختراع" في عنوان كتابه لأن الأب اختلَقَ عزلتَه كاملةً وغَذّاها بالأكاذيب حتى يتلافى الحديثَ عن ذاته كما وردَ في الكتاب. فقد زيّفَ الأبُ صوراً لا حصر لها عن نفسه وراكَمها فوق حقيقته التي أخفاها في القعر، متمسّكاً بالوحدة بلا مغزى. ويَتكهَّن أوستر بأنَّ والدَه فَعَلَ ذلك كي لا يُضطَرَّ للنظر إلى نفسه أو رؤيتها بعيون الآخَرين.

سَعْيُ أوستر المحمومُ لاختراق سياجِ الأبِ يُشبه سعيَ سوسن لعقدِ رِباطٍ مع الأُمّ، فهُما يدوران في فلكٍ يلفظُهما، ويَدرَأُ عنهما أشكالَ العاطفة كلّها، فيظلّان مُثقَلَين بالهجران.

يعتقد أوستر أن والدَه يَرفضُه لأنه يرى به نفسَه. ويقابلُه رفضٌ مساوٍ في العناد لأنْ يرى العالَمَ يرضخ لأكثر الأدلّة بداهة. توالت مواقفُ مشابهةٌ في حياته، ليحدّقَ نحو العلّةِ في وجهها ثمّ يومئَ برأسه ويلتفت قائلاً أن لا شيءَ هناك، مما يجعل الحوارَ معه أمراً مستحيلاً. ففي الوقت الذي تظنّ أنك سوّيتَ أرضاً مشترَكةً بينك وبينه، يتناول مِعولاً ويبدأُ بنقضِها تحت قدميك". هكذا بالضبط ترى سوسنُ والدتَها. يعي أوستر كما تعي رضوى أن تلك الأسوارَ شُيِّدَت بعد سنواتٍ متراكمةٍ فيحومان حول ما مضى في محاولةٍ منهما لفهم اللحظة الآنيّة. 

يكتشف أوستر أنَّ الأب عايَشَ في طفولته جريمةَ قتلِ أمِّه أَباه، ومحاولةَ عمِّه الثأرَ لأخيه، فاعتاد بعدَها حياةَ الترحال التي سَوَّرَتهم بعزلةٍ خاصةٍ، وعاش تحت ناظريْ أُمٍّ مُتحكِّمة. يستذكر أوستر موقفاً سردَه له أبوه يوماً عن طفولته حين اقتحمت أُمُّه، أي جدّةُ أوستر، ذاتَ ليلةٍ حجرةَ ابنها وهو في العاشرة محطِّمةً حصَّالةَ نقوده، بعد أن جَمَعَ مالاً من عملِه المُضني في توزيع الصحف على المنازل كي يشتريَ درَّاجةً، لتتركَه مع حُطَام الحصّالة. تعلَّم الطفلُ يومَها ألا يمنحَ ثقتَه لإنسان وألَّا يرغبَ في شيءٍ بشدّةٍ، وأن ينعزلَ في قوقعةٍ يستحيل رؤيةُ ما بداخلها.


تُهشِّم الصدماتُ يوماً فيوماً الجدارَ الذي أحاطَ والدَ أوستر ووالدةَ سوسن نفسَيهما به، يَرُضُّه الألمُ من غير أن يهدمَه. تتمنى سوسنُ ما تمنّاه أوستر، أن يُنظَرَ إليها بعينِ الُحبّ، إذ "ما من عقابٍ أشدَّ من أن ينطلقَ المرءُ ساعياً دون أن يلاحظَه أحد" كما يقولُ الفيلسوف وليم جيمس في كتابه "مبادئ السيكولوجيا". في حقبةِ السبعينيات التي كتبَ فيها بول أوستر مذكّراتِه، انهمَك علماءُ النفسِ في تحديدِ دَورِ الأُمّ في حياة أطفالِها لأن المجتمعَ ألقى بمسؤوليةِ تربيتِهم كاملةً على عاتقها وأهملَ دَورَ الأبِ في الأُسرة وأَهمية ارتباطِه بأولاده، وحُصر دورُه بالإنفاقِ أو توجيهِ الأطفال أو معاقبتِهم لئلّا يختلَّ "توازن" العائلة. تبدّلَ ذلك مع بدء الأبحاث لاحقاً بدراسة مكانة الأب وفقاً لدراسةِ "دورُ الأبِ (المُهمَلُ) في حياةِ الأطفال" المنشورةِ سنةَ 2020 في مجلة "ساينس دايركت" العِلمية.

فنّدَ كلٌّ من إليونورا باباليونتو لوكا وعمر العمري تلك العلاقةَ في الدراسة ليجدا أنَّ دورَ الأب أساسيٌ في تنمية استقلالية الطفل وتطوُّرِه الأخلاقيّ وترسيخِ الشعورِ بالأمان في ذهنِه، مشيرَين إلى مقولةِ عالِم النفس فرويد أن الآباء "هُم مصدرُ الأمن والقوّة والسلطة" لصغارهم.

يوضّحُ الباحثان اختلافَ الدور الحيويّ للوالدين، بسبب مرورِ الأُمّ بتغيّراتٍ جسديةٍ وعاطفيةٍ لا يمُرّ بها الأبُ أو بما يشبهُها، مثل الحَمْل والولادة. ويشيران أيضاً إلى اختلافِ طبيعةِ علاقةِ الأُمّ مع أبنائها عن الأب، وحاجتِهما المتشابهة للوصول إلى استقرارٍ نفسيٍّ وفهمِ العالم من منظورَين مختلفين. يميلُ الأبُ إلى اللعب مع الطفل بينما تعبِّرُ الأُمّ عن حُبِّها باللغة وبتعليمه وقراءةِ القصص له مثلاً. وعندَ غياب الأب يشعر الابنُ بفراغٍ يدفعُه إلى مساءَلةِ هُويّته ورغباته ومدى استحقاقه الحُبَّ، متأمّلاً قَسَماته لعلّه يَلمح الشبهَ بينه وبين أبيه، متعلّقاً من حينٍ لآخَرَ بتوقّعاتٍ تُبعِده عن مساحات الخذلان مثلما فعلَ بول أوستر. 

لَم يَمنع الألمُ أوستر من محاولة اكتشافِ أبيهِ الإنسانِ، ولم يُعِق الألمُ محاولةَ سوسن التعاطفَ مع والدتها خديجة. في العملين يبتعد كلٌّ من الأُمّ والأَبِ عن المثالية التي صَبغَت علاقةَ الأهل بالأولاد، حتى في الأدوار التي وزَّعَها المجتمعُ عليهما. فلا الأبُ كان حاضراً وداعماً في حياة أوستر، ولا الأمُّ كانت قدّيسةً في حياة سوسن. ولعلّها نقطةُ انطلاقٍ مهمّةٌ لإعادةِ التفكير في الأدوار التقليدية التي وُزّعَت على الأمّ والأَب، والتسامحِ مع معاناةِ الأهل الشخصيةِ وتخبّطِهم وإخفاقاتهم الخاصة.


ربّما لا يَمنحُنا الأدبُ عزاءاتٍ أو تصنيفاتٍ بَيّنَةً مثل تصنيفات الخيرِ المحْض والشرِّ المحْض، وإنما يسعى إلى عرضِ صورةٍ واقعيةٍ وإنسانيَّةٍ لمنظورٍ أوسعَ وأكثرَ تفهُّماً للعلاقات الأبوية.

أَعي الآن أنني كثيراً ما حَملتُ لأُمّي بعضاً من آمالِ سوسن في والدتها خديجة وبول أوستر في والدِه، محاوِلةً الخروجَ من الهامشِ الذي وُضِعتُ فيه ابنةً وُسطَى. وأجدُ نفسي أَحذو حَذوَ أوستر في التمعّن في حياةِ والدتي ووالدي، لأدركَ أنّ أُمّي ترعرعَت في كنفِ أبٍ نُسجَت الحكايا عن تجبُّرِه، وأنّ أبي عانى من علاقةٍ أبويةٍ لم أعرف منها إلا أنّ جدّي غاب سنواتٍ ثمّ عاد إلى الوطن بحضورٍ يشبهُ الغياب.

أُدركُ أيضاً أنَّ الهروبَ من الماضي وإليه يَمُدَّ جسوراً بين واقعي وواقعِ بول أوستر وسوسن، وأنَّ حَيرةَ الأدبِ في وصفِ العلاقةِ بينَنا وبينَ أهلِنا تنتهي عندما نرى انعكاسَنا فيه. فحين نتمعَّنُ حكاياتِ الآخَرين نستطيع تمييزَ أنفسِنا أو إيجادَها.

اشترك في نشرتنا البريدية