استمع لهذه القصة
تُظهِرُ تلك المرافَعةُ من فيلم "ضد الحكومة" (1992) رؤيةَ مُخرِجِه عاطف الطيب نفْسَه وجيلَه. ففيها تعبيرٌ عن سِماتٍ طالما تميّزَ بها إنتاجُه السينمائيّ. فَحْوَى هذه السِماتِ البطلُ الفردُ بإزاءِ السُلطةِ الغاشمة، ومثقّفُ الطبقة الوسطى المعبِّرُ عن الشَعب، والعلاقةُ المُركَّبةُ بأجهزةِ الدولة. برزَ الطيب منذ فيلمِه الأَوّلِ "الغيرة القاتلة" (1982)، وفي الثلاث عشرة سنةً التاليةِ أنتَج عشرين فيلماً، ما أَهَّلَه ليكون واحداً من أهمّ أفرادِ مدرَسةِ ما سيُعرَفُ فيما بعد بالواقعيّة الجديدة. برزَ هذا الجيلُ من المُخرِجين في الثمانينيات وقدّموا أفلاماً ذاتَ محتوىً اجتماعيٍّ يعبِّر عن شريحةٍ واسعةٍ من الطبقة الوسطى المصرية. عُدَّ الطيب حينَها "مُخرِج الغَلابة والمهمَّشين" أو "المُخرِج المناهِض للسُلطة على طول الخط".
إلّا أنّنا إذا وَضعْنا هذه التصنيفاتِ تحتَ المِجهرِ وقَرَأْنا الخطابَ السياسيَّ والاجتماعيَّ في مجموعةٍ من أفلام عاطف الطيب التي تمثِّل نمطاً عاماً في أسلوبه السينمائي، نجدُ تناقضاً بين هذا "الخطاب الثوري" المُدَّعَى والواقِع. يمكن تسميةُ هذا الخطابِ السياسيِّ الثوري في أفلامِ الطيّب "الناصريةَ الثقافيةَ". وأقصِدُ الخطابَ السُلطويَّ المُحافِظَ الذي تبنَّتهُ الفئاتُ المثقَّفةُ، خاصةً الفنّانون والكُتّابُ المعارِضون للنظام وأغلبُهم مِن أبناءِ الطبقةِ الوُسطى المُزدهِرةِ في عهد عبد الناصر التي تَراجَع وضعُها في عهد السادات. يَتمثّل هذا الخطابُ في ثلاثةِ مواقف: الخطابُ المُحافِظُ فيما يتعلّقُ بالمرأةِ، والنظرةُ الطبقيةُ للفئاتِ الأُخرى من الشَعبِ، وأخيراً علاقةُ الفردِ بالسُلطة. في تحليلِ السرديّات وتفكيكِها أَرصُدُ التصالحَ التبريريَّ مع هذه المواقف الثلاثة في آخِرِ أعمالِ عاطف الطيب قبل وفاتِه في منتصفِ التسعينيات.
هذا التحيّزُ أصلُه عقيدةٌ سياسيةٌ تُبرِزُ رؤيةً عامةً سادَتْ بين مثقَّفي الطبقةِ الوسطى منذ بدايةِ السبعينيات وبدأَتْ في التدهور منذ التسعينيات. لِتلك العقيدةِ تسمياتٌ مختلفةٌ. فالمؤرِّخُ شريف يونس يُسمّيها الأيديولوجية الوطنية في كتابه "سؤال الهوية". ويطلِقُ عليها الأنثروبولوجي والتر أرمبرست اسمَ أيديولوجيا الحداثةِ في كتابه "الثقافة الجماهيرية والحداثة في مصر". ومن أجْلِ التمييز بين تلك الأفكار والمثقَّفين الذين ينتمون إليها، أُطلِقُ عليها في هذا المقالِ اسمَ "الناصرية الثقافية".
لا تَعتمِدُ الناصريةُ الثقافيةُ على حُبِّ جمال عبد الناصر أو كُرْهِهِ بقَدْرِ اعتمادِها على ركيزتَيْن أساسيَّتين؛ المثقَّف الوطني وجهاز الدولة. ظاهرياً كان عبد الناصر يقول إن "الشعب هو المُعلِّم"، إلّا أنّ المَعنى الباطنَ في الناصرية الثقافية هو أنّ الشعبَ جاهلٌ لا يستطيع الحصولَ على حرّيتِه بمَلَكَتِه وَحْدَهُ. ومِن هنا يأتي دَوْرُ المثقَّفِ الوطنيِّ من الطبقة الوسطى بمشروعِه التنويريّ الذي لا يَنْفُذُ إلّا مِن طريقِ أجهزةِ الدولةِ الكُفءِ وإنْ عابَها نموُّ طبقاتٍ فاسدةٍ بداخلها. ولذلك فدَورُ المثقَّفِ الوطنيِ أنْ يَتماهى مع أجهزة الدولة ويُقصي تلك الطبقاتِ الفاسدةِ ثمّ ينفِّذَ مشروعَه الإصلاحيَّ. تَتبنّى الناصريةُ الثقافيةُ أيضاً خطاباً أخلاقياً محافظاً يميِّز بين الطبقةِ الوسطى والطبقاتِ الأُخرى التي يَرَوْنَها أكثرَ "انحِلالاً" في أخلاقيّاتها.
وفقاً لهذا الطرحِ تصبحُ الناصريةُ الثقافيةُ تعبيراً عن التحالفِ بين المثقّف والدولة. فالدولةُ تحمي نفسَها والمثقّف يحمي ثقافتَها وهُويّتَها وأخلاقَها، حتى وإنْ عارَضَ نظامَها. فيصبحُ هذا الطرحُ سرديّةَ الطبقةِ الوسطى و"خيالَها السياسيّ". وهنا أستعيرُ تعبيرَ الكاتب عمرو عبد الرحمن في مقالتِه "بين تأميم السياسة وخصخصة الدولة". تعمل الدولةُ مِن أجلِ الطبقة الوسطى وتخدمُ الطبقةُ الوسطى الدولةَ في المقابل، وبالتالي عندما يحدثُ حراكٌ اجتماعيٌ يساهم في دخول طبقاتٍ جديدةٍ إلى فضاءِ الطبقةِ الوسطى تَرفضُ هذه الطبقةُ الطبقاتِ الجديدةَ وإنْ شاركَتْ هي نفسُها في الحراكِ ذاتِه.
ظهرَت عناصرُ الناصريةِ الثقافيةِ جليّةً في أفلام عاطف الطيب المنتمي للطبقة الوسطى. من جهةٍ يَظهرُ الطيب برداءِ المُدافِعِ عن القِيَم المُحافِظة للطبقة الوسطى، لكنّه يؤطِّرُ هذه القِيَمَ وفقَ نظرتِه للمرأةِ ودَورِها الاجتماعيّ. فهو متضامِنٌ مع المرأةِ بشُروطِ أخلاقياتِ طبقتِه. ثم يُبرِزُ الطيب في أفلامِه تحيّزاً للطبقة الوسطى، فغالِبُ أبطالِ أفلامِه موظّفون أو أعضاءُ في أجهزةِ الدولة، في حينِ ينظرُ بعَينِ الشكّ والإدانةِ بالانحلال للطبقات الدنيا مِن حِرفيِّين وعُمّالٍ خصوصاً مَن ارتقَوا اقتصادياً في ظلِّ الانفتاح. العنصرُ الثالثُ للناصريةِ الثقافيةِ هو العلاقةُ بالدولةِ وأجهزتِها، فمعَ أنّ خِطابَ الطيب موجَّهٌ ضدَّ الفسادِ، إلّا أنّ هذا الخِطابَ لا يَلتزمُ بذلك تماماً بل قد يَدعمُ هذه الأجهزةَ أحياناً.
يَتجلّى ذلك في فيلم "سواق الأتوبيس" (1982)، ثم يتكرّر نمطيّاً في أفلامٍ عديدةٍ لاحقة. تدور قِصّةُ الفيلمِ حولَ رحلةِ "حسن"، بطلِ حربِ أكتوبر السابقِ وسائقِ الأُتوبيسِ حالياً، والذي مثّلَ دَورَه نور الشريف، في تجميعِ مَبلغٍ معيّنٍ لإنقاذ ورشةِ والدِه. إلّا أنّه وسطَ خذلانِ أقاربِه وأخواتِه يَفشلُ ويموتُ الأبُ. في سَرديّةِ الفيلم يَلجأُ الطيب للخِطابِ النقديِّ السائدِ حولَ المرأةِ، فمنذ أَوّلِ مشهدٍ تُخبِرُه زوجتُه ميرڤت، والتي لَعِبَت دَورَها ميرڤت أمين، عن رغبتِها في التسوّق مع والدتِها، فيَرُدُّ حسن "هِيَّ مَبْتِشْبَعْش شِرا"، أيْ أنّها لا تكتفي تسوّقاً، والإشارةُ هنا للحَماةِ. بهذا تبدأُ فكرةٌ سائدةٌ في سينما عاطف خصوصاً، والواقعيةِ الجديدةِ عموماً، عن الحَماةِ المستهلِكةِ والتي لاحَظَ شيختر في كِتابِه أنها تَتّهِمُ النساءَ ضمنيّاً والحَمواتِ بالأَخَصِّ بالاستهلاكِ ورَفْعِ تكاليفِ الزواج.
تستمرّ هذه الرؤيةُ في فيلمَي "التخشيبة" (1984) و"ملف في الآداب" (1986) مع أنّ عاطف اتّخَذَ مَنحىً أكثرَ نسويّةً بهِما. فبطلَتا الفيلمَيْن يَنَلْنَ الظُلْمَ من النظام السياسيّ القائمِ مع أنّهن مِن طبقةٍ وُسطى و"محترَمات". في "التخشيبة" تُقدَّمُ الدكتورة آمال (نبيلة عبيد) في إطارٍ أخلاقيٍّ مُحافِظ. ففي أَوّلِ مشهدٍ نَجِدُها تَنصحُ ممرِّضةً بتغييرِ ملابِسها لتصبحَ أكثرَ احتشاماً. تُقدَّم الطبيبةُ باستمرارٍ أُمّاً وزوجةً "شريفة"، فهي مع التُهَمِ الموجَّهة إليها إلّا أنها تمتاز بالعفّة والشَرَف. هذا الشَرَفُ نفسُه الذي تَستغِلّه السُلطةُ وتُلطِّخُه.
أَمّا في "ملف في الآداب"، فإن القَمعَ يزدادُ اتّساعاً. فنجِدُ سعيد (صلاح السعدني) الضابطَ بالآدابِ يلفِّقُ قضيّةً كاملةً لميرڤت (مديحة كامل) المواطنةِ المصريةِ من الطبقة الوسطى الدنيا. وهنا يَجعلُ الطيبُ البطلةَ تتبعُ القواعدَ والأعرافَ الاجتماعية أَوّلاً، فهي امرأةٌ عاملةٌ مكافِحةٌ ترتدي ثياباً محتشِمة، وفوق ذلك وجدَت صورةَ الأبِ في مديرِها في العمل، وأَقصى أَمانِيها الزواجُ مَرّةً أُخرى لتجدَ لها مُعِيلاً.
إنّ منبعَ تعاطفِنا مع بطلاتِ الفيلمَيْن هو قيمةُ الشَرَف وصيانتُه. ومع النقدِ لنظرةِ المجتمعِ للدكتورة آمال وميرڤت ولفظِ الناس لهُنّ بمجرّد عِلمِهم بالتُهَم، فإنّ خِطاب الفيلمَيْن يتّسقُ مع تلك النظرة الاجتماعية التي تُعلِي من القِيَمِ الأبويّة والعائليّة ذاتِها التي تُحاكَم بها هؤلاءِ البطلات. يَتجاهلُ الخِطابُ أنّ أصلَ القمع المؤسّساتي هو القَمعُ الأبويّ والعائليّ، وهذا المعنى بالذات تتطرّقُ إليه الباحثةُ صابرينا جوزيف في دراسةٍ صدرَت عام 2009 عنوانُها "التمثيل في المجالات العامة والخاصة". بمعنىً آخَرَ، إنّ المُخرِجَ يَتبنّى في الفيلمَيْن خِطابَ السُلطةِ، وإنْ كان بشكلٍ غيرِ مباشر، فقيمةُ الشَرَفِ ذاتُها هي تلك التي تَستغلّها السلطةُ لممارَسة قمعِها.
تُصبحُ العلاقةُ بين التحيّزِ ضدّ المرأةِ وسُلطةِ المجتمع، لا سيّما الأبويّة، أكثرَ وضوحاً في فيلم "الهروب" (1991). بطلُ الفيلم شابٌّ صعيديٌّ من سوهاج اسمُه منتصر (أحمد زكي)، يعملُ في مكتبِ سفريّاتٍ لتسفيرِ الفقراءِ إلى الخليج سعياً وراءَ فُرَصِ العملِ، ويَرفضُ النصبَ على أبناءِ قريتِه فلا يمنحُهم تأشيراتٍ مزوَّرةً. يلفِّق له صاحبُ المكتب وصديقُه السابقُ في الجيش مدحت (يوسف فوزي) تهمةً يسجَن بسببِها. عندما يخرج يقرِّر بمساعدةِ عائلتِه الانتقامَ مِن كلِّ مَن ظَلموه. هنا يكون لسُلطة العائلة نصيبُ الأسدِ من حياةِ منتصر. ومِثلَ "ملف في الآداب" و"التخشيبة"، يَنتقد خطابُ عاطف الطيب السياسيُّ السُلطةَ وفسادَها بلا موارَبةٍ، ولكنّه يُحْجِمُ عن نقدِ السُلطةِ الأبويةِ أو العائليةِ بل يدعمُها. وفي النهاية ما يَجعلُ منتصراً يَستمرُّ في كلِّ تلك المناوَراتِ والهُروبِ المُثيرِ مِن الشرطة، رَغْبَتُه في "غسْلِ عارِه بيَدِه" بقتلِ طليقته التي سافرَت وعَملَت بالدعارةِ فترةَ غيابِه خَلْفَ القُضبان.
يُعادُ رسمُ صورةِ السُلطةِ الأبويّة هذه بسياقٍ آخَرَ في فيلمِ "إنذار بالطاعة" (1993). تَربطُ علاقةٌ عاطفيةٌ المحاميَ إبراهيم (محمود حميدة) وأمينةَ (ليلى علوي) في ظروفٍ اجتماعيةٍ واقتصاديةٍ تمنعُهما من الزواج، ثم يتطوّر الأمرُ لعلاقةٍ غيرِ شرعيةٍ. بعد ضغطِ أُسرةِ أمينة عليها للزواج من رجلٍ آخَر، يقيمُ إبراهيمُ عليها إنذاراً بالطاعةِ (أي تحذير للزوجة بالعودة لطاعة زوجها ولزوم بيته) مع أن زواجَهما ليس رسمياً. الأمُّ المذهولةُ تَتحوّل لوحشٍ كاسرٍ فتَقسو على ابنتِها وتعاقبُها أشدَّ العِقاب.
ينتمي أغلبُ أبطال أفلام الطيب للطبقة الوسطى، وهُم ذَوُو سحناتٍ مصريةٍ تقليدية. ويُدافِع هؤلاءِ الأبطالُ، الذين لَعِبَ أدوارَهم ممثِّلون مثلَ أحمد زكي ونور الشريف ومحمود حميدة، عن معاييرِ هذه الطبقة وتصوّراتِها وعن أحلامِها المُجهَضة. ولكنّهم أيضاً يَقِفون بوَجْهِ الطبقات الجديدة التي صعدَت مع الانفتاح. في كتابِها "السينما الشعبية المصرية"، تُسمِّي فيولا شفيق سَرديّةَ خِطاب جيلِ الواقعيةِ، بما فيهم عاطف، عن الطبقات الصاعدة "أسطورة القِطط السِمان"، أي المنتفِعين من التجّار ورجال الأعمال الذين رَكِبوا موجةَ الانفتاح وكوَّنوا ثرواتٍ طائلةً من ورائها. يُبالَغ وفقاً لهذه السَرديّة في حجم تلك الطبقةِ وتأثيرِها، وهي التي شَكّلَت من المجتمع المصريّ نسبةً ضئيلةً للغاية، قد لا تزيدُ عن 2 بالمئة فقط وفقاً لملك زعلوق في كتابها "السلطة والطبقية ورأس المال الأجنبي في مصر". ومع ذلك، أصبحَت هذه الطبقةُ السببَ في كلِّ مَصائبِ المجتمع في أفلام تلك الفترة.
إن أهمَّ سِماتِ هذا البُعد الطبقيّ في أفلام الطيّب حنينُ أبطالِه لماضٍ يَتناسبُ مع سَرديّةِ "الناصريّة الثقافيّة" التي كانت تعيشُ فيه في نعيم. ففي فيلم "سواق الأُتوبيس"، نَجِدُ حسن ابنَ الطبقةِ الوسطى المثاليَّ يعيشُ على هذه الذكريات. يقولُ حسن لزَوْجَتِه ميرڤت أنّ "الزمن اِتْغَيَّر والنّاس اِتغَيَّرت وما فاضِلْش حاجَة عَلى حالها". في موضعٍ آخَر، يبالِغ حسن في مَدى انحلال تلك "الطبقة الطُفيلية" عندما يسافِر لأُختِه في بورسعيد كَيْ تُساعِدَه في جمعِ المبلغِ اللازمِ لإنقاذِ الورشة. تبدو صورةُ بورسعيد والمنطقةِ الحُرّةِ التي أُسِّسَت في معرض الانفتاح أقربَ للرسمِ الساخرِ، حيثُ أَصبَحَ بيتُ كلِّ مُواطنٍ بورسعيديٍّ مخزَناً معبَّئاً بالبضائع المستوردة، مِن فيديو كاسيت الى تلفزيونٍ ملوَّن. الأطفالُ لا يتعلّمون بل يَعمَلون في المنطقة الحُرَّةِ سعياً وراءَ المَكسبِ السريع. ونَصِلُ إلى أعلى مَراحلِ هذا "الرسم الساخر" عندما نَجِدُ الأبَ يَشربُ الخمرَ على مَرْأَى أولادِه، بَلْ ويَعرِضُه عليهِم أثناءَ الغداءِ، فلا يصبحُ النقدُ مقصوراً على الاستهلاكِ وحسبُ، بل كيف دَمَّرَ الاستهلاكُ أخلاقياتِ الأُسرةِ أيضاً.
تدْخُلُ نغمةُ التمييزِ الطبقيِّ بين الطبقةِ الوسطى والطبقةِ الصاعدة الجديدة حيّزاً آخَرَ في فيلم "الحب فوق هضبة الهرم" (1986) إذْ يُقدِّمُ الفيلمُ مَرثيّةً للطبقة الوسطى. يصبحُ بطلُ الفيلم عليّ (أحمد زكي)، وهو فتىً متعلِّمٌ من الطبقة الوسطى، مجرَّداً من كلِّ آمالِه وأحلامِه ولم يَبْقَ له سِوى الرغبةُ في إقامةِ علاقةٍ جنسيةٍ عابرةٍ. يستسلمُ لنظرتِه لِذاتِه على أنّها ضحيّةٌ ويَلجأُ إثرَ ذلك لخِطابِ التميُّز والتفوُّق ولَوْمِ الآخَرين على مُشكِلاته. يَرفضُ بَتاتاً المشارَكةَ في الحراك الاجتماعيّ الحاصِل بعد الانفتاح ويَتجنَّبُ البحثَ عن وظيفةٍ، متعلِّلاً بأنّه أصلاً في وظيفة. فيَنكفِئُ على نفسِه، حالُه في هذا حالُ الطبقةِ الوسطى التي تقوقَعَت على تصوُّراتِها لماضيها وقِيَمها، فلا يَرضَوْن بغيرِ امتيازاتِ الطبقةِ الوسطى الناصريّةِ، وكُلُّ ما دونَ ذلك "دليلٌ على انحطاطِ عصرِنا". يَصِلُ اللَّومُ والتمييزُ إلى أَوْجِهِما في علاقةِ عليّ بزوجِ أُختِه السبّاك أحمد عبد المقصود (نجاح الموجي). فالأخيرُ من الأغنياءِ الجُدُدِ ويَتقدّمُ للزواجِ مِن أُختِ عليٍّ. ومنذ اللحظةِ الأُولى تقولُ أُمُّ عليٍّ أنّ أحمد عبد المقصود "ده مِش مِن وسطِنا". إلّا أنّ الخِطبةَ تتمُّ ويَقبلُ عليٌّ أنْ يُزوِّجَ أُختَه لأحمدَ فقط لأنّ هذه قيمةُ العصرِ. وتَقبلُ الأُختُ الزواجَ نوعاً من التضحيةِ، فلا يُمكِن أن تتداخلَ الطبقاتُ دون تضحية. ولِتكريسِ هذه النظرةِ الطبقيةِ نَجِدُ عليّاً يردفُ في عِبارةٍ قد تكون كاشفةً بأن "بُكرا أحمد عبد المقصود واللي زَيُّه هَيبقى هُمّا أصل العائلات الكبيرة"، وكأنّه مِن غيرِ المسموح إلّا للطبقةِ الوسطى بأن تصبحَ هيَ "أصل العائلات الكبيرة".
إلّا أنّ هذا الخطابَ الموجَّهَ للأجهزة لا يلتزمُ نقدَها دائماً بل قد يدعمُها أحياناً. مَرَدُّ هذا إلى إيمانِ الخِطابِ الناصريِّ الثقافيِّ بقُوّةِ جهازِ الدولةِ خيراً كان أَمْ شرّاً. وفي حَيثيات هذا الخِطاب لا تَتَّخِذُ الطبقةُ الوسطى المثقَّفةُ مكانتَها ودَورَها الإصلاحيَّ في المجتمع (وفقاً للمعاييرِ التي وضعَتها لنفسِها) إلا بالدخول إلى جهاز الدولة ذاتِه. فالطبقةُ الوسطى لا تَنتقدُ هذا الجهازَ إلّا عندما تُلفَظ خارجَه، وهو ما تحقَّقَ في السبعينيات والثمانينيات متمثّلاً في مواقفَ متذبذبةٍ عن السُلطةِ في أفلام عاطف الطيب. ظهرَ هذا جليّاً في "ملف في الآداب"، فنجِدُ الفسادَ يصبحُ فرديّاً، وأنّ أجهزةَ الدولةِ لن تَفسدَ جميعُها في النهاية، وعاجِلاً أمْ آجِلاً يأتي العدلُ على يد القضاءِ وهو ما يَحكمُ ببراءةِ مديحة وصديقاتِها مِن التُهَمِ الملفَّقةِ لهم. فحين يَنتقدُ الطيبُ القانونَ ومحدوديّتَه، يأتي عند القضاءِ وتصبحُ للقانون فاعلِيَّتُه.
في حيّزٍ آخَرَ مُشابِهٍ، يقفُ المحامي مصطفى خلف (أحمد زكي)، بطلُ المرافَعةِ الشهيرةِ في فيلم "ضد الحكومة"، ضدَّ السُلطةِ منفرداً لكنّه يستغلُّها فرصةً للمكاشَفةِ والتطهُّرِ وليس للمحاسَبةِ وتحمُّلِ المسؤولية. صيغةُ "كلّنا فاسدون" التي يصرخُ بها إزاءَ القُضاةِ والحضورِ تبدو توفيقيةً أو صَكَّ إبراءِ ذِمّةٍ. فبينما أَلقَى علي عبد الستار بطلُ "الحب فوق هضبة الهرم" اللَومَ على الجميع متحلِّلاً مِن أيِّ فرصةٍ للحراك الاجتماعي ومحتقِراً الفكرةَ ذاتَها، يُلقي مصطفى اللَومَ على المتورِّطين المباشرين في حادثة حافلة الأطفال ومنهم أصحابُ النفوذِ في جهاز الدولة. يتغيّر هدفُ مصطفى من الحصول على التعويضِ السَخِيِّ إلى الحِرصِ الوطنيِّ على المستقبَلِ وعلى أبناءِ هذا المستقبَلِ، وهو هدفٌ يحتاجُ إلى أجهزةِ الدولةِ والقضاءِ. جهازُ القضاءِ الذي يُصوِّرُه الفيلمُ أنه "هو الحصنُ الأخيرُ للمُواطِن وحقوقِه" مع محاوَلاتِ السُلطةِ رشْوَتَه أو التدخُّلَ في أَحكامِه.
يَصِلُ هذا التذبذبُ في العلاقة مع السُلطةِ إلى قِمَّتِه في فيلم "ضربة معلم" (1987). فبطلُ الفيلم رفعت حسن عبد ربّه (نور الشريف) ضابطُ شرطةٍ يَتصدّى لمحاوَلاتِ رجلِ أعمالٍ واسعِ النُفوذِ إبعادَ ابنِه عن عِقابِ الدولةِ بعد تورُّطِه في جريمةِ قتلِ عشيقِ أُمّه وتَعترِفُ الأُمُّ بذلك. يواجِه رفعت فسادَ رجلِ الأَعمالِ وحاشيتِه بتمسُّكِه بالشَرَفِ. وتُعبِّرُ زوجةُ رفعت عن ذلك بأنهم يجبُ أن يَتركوا لأولادِهم "حاجة صالحة اسمها الشرف". يصبحُ الضابطُ "مواطناً شريفاً" داخل أجهزة الدولة، وبالأخلاق ينتصرُ على الفساد ويَسُودُ العدلُ. يتكرّرُ ذلك أيضاً في "الهروب"، فمعَ النقدِ الشرسِ لجهازِ الشرطةِ، يَظهرُ الضابطُ سالم (عبدالعزيز مخيون) الذي لا يريدُ إلا تحقيقَ العدلِ والتصدّيَ للفسادِ. لكنّ هذا الشرفَ لا يُحترَمُ في عالَمِ التسعينيات الشرسِ، فيُقتَل سالم مع منتصر (أحمد زكي) معاً؛ المجرِمُ والبطلُ.
ما يُمكِنُ تسميتُه مراجَعةً حقيقيةً جاءَ في فيلمِه قبلِ الأَخيرِ "ليلة ساخنة" (1995). ففيهِ يثورُ عاطف على أغلبِ القِيَمِ التي عَرَضَها في أفلامِه السابقة. أبطالُ الفيلمِ هُم سيّد (نور الشريف) سائقُ أُجرَةٍ، وحورية (لبلبة) بائعةُ هوى. يلتقي الاثنان في ليلةِ رأسِ السَنةِ ويحاولان تجميعَ مبلغٍ من المالِ في ليلةٍ واحدةٍ لأهدافٍ ساميةٍ. فسَيِّدُ يجمعُ ثَمَنَ عمليّةٍ لِحَماتِهِ، وحوريةُ تَحتاجُ إلى المالِ كَي لا تُطرَدَ مِن بيتِها. سيّدُ وحوريةُ مِن الفصيلِ الأَفقرِ في التركيبة الاجتماعية المصرية؛ الفصيلِ الذي هاجمَه الطيبُ في أغلبِ أفلامِه السابقةِ لأَنّه يَراهُم "الطُفَيْلِيِّين". ومع ذلكَ ولأَوّلِ مَرّةٍ يقدِّمُ الطيبُ رؤيةً متسامحةً معهم وحتى مع الحراك الاجتماعي الذي يمثّلُهم في المجمَل. فعندما يجدُ سيّدُ وحوريةُ حقيبةً مملوءةً بالأموال قد تَرَكَها راكبٌ، وكان مصدرُ الأموالِ غيرَ قانونيٍّ، يقرِّر سيّدُ تسليمَها للشرطةِ وأَخْذَ نسبتِه. لكنّ الشرطةَ تتّهمُه بقتلِ صاحبِ الأموالِ، ولا يستطيع أن يبرِّرَ لهم، بينما تُخبّئُ حوريةُ الحقيبةَ عنهم وتأخذُها لتَسُدَّ بها احتياجاتِها واحتياجاتِ أُسرةِ سيّد. عادةً يُناهِضُ عاطف هذا المسلَك غيرَ الأخلاقي، لكنّه هنا يتفهّمُه. فسيّدُ وحوريةُ لم يَعرفا بعضَهما قبل تلك الليلةِ ومع ذلك تنتهي الليلةُ بأنّ حوريةَ تصبحُ المسؤولةَ عن ابنِ سيّد وحَماتِه. لا نجِدُ خِطاباً يُسائِلُ الأخلاقيّاتِ ولا نَرَى تَشَدُّقاً بأجهزةِ الدولةِ، بل ينحازُ الطيبُ إلى الفئاتِ الأَضعفِ أيّاً كانت حُلولُها.
تتغيّرُ في الفيلم نَظرَتُه للمرأةِ والأخلاقيات. فحوريةُ بائعةُ الهوى التائبةُ عندما تُضطَرُّ للعملِ مَرّةً أُخرى تُصبحُ بائعةَ هوىً لهدفٍ سامٍ، فيضعُها في دائرةِ التعاطف. يأتي هذا التعاطفُ بتقديمِها "بنت بلد" بكُلِّ ما يستدعيه هذا المصطلحُ مِن قِيَمِ "الجَدْعَنَة" و"المُرُوءَة"، ولكنّه لا يُخضِعُها لقِيَمِ الطبقة الوسطى ولا يُحاكِمُها على أساس تلك القِيَمِ؛ أيْ أنّ التعاطفَ هنا لا يَلتزِمُ بأخلاقيّات الطبقة الوسطى المحافِظة.
أُخِذَ على عاطف الطيب أنّ أفلامَه سارَت في خطٍّ مستقيمٍ مِثْلَ "الحَدُّوتَة"، وشابَها الضعفُ التقنيُّ والافتقارُ للتعقيدِ السينمائيِّ، وهو ما يُفسِّرُ قِلَّةَ الجوائزِ التي حَصَلَ عليها في المهرجانات السينمائية في الخارج. إلّا أنّ سِماتِ الضعفِ هذه هي ذاتُها التي أَضْفَتْ على أفلامِه القوّةَ. يقولُ المُخرِجُ المصريّ محمد ياسين، الذي عَمِلَ مع عاطف الطيب في أفلامٍ عِدّةٍ، أنّ الطيب لَم يَهْتَمَّ بكمالِ الصورةِ بقدرِ ما عُنِيَ بالتعبيرِ عن اللحظة؛ أي التعبيرِ عن التغيُّراتِ الاجتماعيةِ وهُمومِ الناسِ كما يَراها، ولَمْ تَنْجُ سُلطةٌ واحدةٌ في أفلامه مِن النقدِ والمساءَلة. إلّا أنّه، على تَبَنِّيهِ خِطاباً ثَوريّاً، كان الجزءُ الأكبرُ من تاريخِه السينمائيِّ خِطاباً سُلطَويّاً ومُحافِظاً محسوباً على الناصريّةِ الثقافيّةِ.