استمع لهذه القصة
بهذا المشهد الافتتاحي الجذّاب، تأخذ أحدثُ روايةٍ لأحمد فال الدين القارئَ في رحلةٍ إلى العالَم الداخليّ لِعَلَمٍ مشهور في التاريخ الإسلامي؛ الفيلسوف والعارف بالله أبو حامد الغزالي، المتوفّى سنة 1111 ميلادية. تَعرِض الروايةُ في مراحلها الخمسِ المسلكَ الذي اقتفاه الغزالي في علوم الشريعة مهتدياً بسراج القلب المتجرّد من زخرف الدنيا. فقد عابَ الغزاليُّ على علماء زمانه قسوةَ قلوبهم بسبب تحويلهم علومَ الدينِ القلبيةَ إلى تقنياتٍ قانونيةٍ يابسة. أحمد فال الدين مراسلٌ مخضرمٌ لشبكة الجزيرة، ولكن اهتماماته تتجاوز غرفةَ الأخبار إلى التاريخ وبناء جسورٍ بين الحاضر والماضي. كتابه الأول "في ضيافة كتائب القذافي" المنشور سنة 2012، روى فيه تجربته في سجن القذافي زمنَ الربيع العربيّ، ثمّ نُشِرت الترجمة الإنكليزية من الكتاب بعنوان "إن غذافيز كلتشز"؛ أي (في قبضة القذافي). كَتَبَ فال الدين بعد ذلك روايتين نشرهما في 2018 و 2019. وفي سنة 2021 عاد فال الدين إلى جذوره الصحفية ونشر دراسة عن ظهورِ طالبان في أفغانستان وسقوطِها، عنوانُها: "حَجَرُ الأرض: صراع الغُزاة والحُماة في أفغانستان". أما "دانشمند" فقد كان كتابه الخامس.
أُثِرَ منذ القِدم قول "الشِّعرُ ديوانُ العَرَب" لما يحفظُه من ذاكرتهم. ويمكن القول إن الناطقين بالعربية يقدّرون الشِعرَ أكثر من الناطقين بأية لغة أخرى. ومع ذلك، لَم يَعُد الشعرُ الأسلوبَ المهيمنَ للتعبير الأدبي بالعربية؛ فلَمْ تقتصر نتائج لقاء العالم العربي بالحداثة على دخول أنماط عيشٍ جديدة، بل شملت أيضاً تعرُّف العرب على ضروبٍ مختلفة من التعبير الأدبي، وبرزت الرواية التاريخية سريعاً في الأدب العربي الحديث. استخدم الكُتّابُ العربُ المعاصرون هذا النوع للنظر في الماضي، ولكنَّ ألمعَ أنماط هذا النظر هو تخيُّل الماضي بنباهةٍ إبداعيةٍ لتحفيز التفكير في الحاضر والتعليق عليه. في "دانشمند" يستعمل أحمد فال الدين هذا النوع الأدبي، ويُعيد تخيُّلَ فصلٍ مضطربٍ من الماضي الإسلامي ليحثّنا على التفكير مليّاً في مشكلات الحاضر.
في أول رواية له من هذا النوع، "الحَدَقي" (2018)، استكشف فالُ الدين حياةَ الأديب الموسوعي أبي عثمان عمرو بن بحر، الجاحظ، كاتب العصر العبّاسي الذهبي، في القرن التاسع الميلادي. ما زال للجاحظ مكانةٌ كبيرة، وما زال مقروءاً بكثرةٍ في العالم العربي اليوم. وهو مع ذلك مجهولٌ في الأوساط الأدبية الغربية عموماً، ولا يحظى إلا باهتمام قِلّةٍ قليلةٍ من الباحثين الأكاديميين في الأدب العربي. بَيْدَ أن الغزاليَّ – خلافَ الجاحظ – مشهورٌ في الغرب، بل يُعَدُّ في نظرهم مِن أهمّ الأعلام في التاريخ الفكري الإسلامي. فقد تُرجِمت بعضُ أعماله الفلسفية إلى اللاتينية ودُرِّست في العالم المسيحي. وإنْ لَمْ يكن الغزاليُّ أحدَ المسلمين الخمسة الذين خصّص لهم دانتي مكاناً في جحيمه في "الكوميديا الإلهية"، لكنّه مذكورٌ في كتاب "الوليمة" الذي كتب فيه الشاعرُ الإيطاليُ الشهيرُ تأملاتِه في المعارف المتنوعة المنتشرة في زمنه. ويُعتَقد أن رينيه ديكارت، مؤسّس طرائق نظريات المعرفة الحديثة، امتلَك نسخةً من الترجمة اللاتينية لكتاب السيرة الذاتية للغزالي "المنقذ من الضلال والموصل إلى ذي الجلال"، وكتَبَ عليه ملاحظاتٍ بخطّه. لذلك يرى بعضُ مؤرِّخي الفلسفة أن الفكر الإسلامي أثّر في الفلسفة الأوروبية حتى بعد العصور الوسطى وعصر النهضة. وما زالت كتب الغزالي تحظى بانتشارٍ واسعٍ اليوم. وقد كُتِبت عن حياته وأفكاره دراساتٌ عدّةٌ، منها رواياتٌ باللغتَين العربية والفارسية. ويضيف أحمد فال الدين الآن روايةً تاريخيةً جديدةً مكتوبةً بعنايةٍ وبعربيّةٍ جزلة.
يبدأ الجزء الأول بالطفلين، محمّد وشقيقه أحمد، المكافِحَيْن مع أمّهما حياةً بائسةً بعد وفاة والدهما الذي أَورَثَهما تركةً صغيرةً، مع صديقٍ وفيٍّ، للإنفاق على تعليم الصبيَّيْن. ولكن المال ينفدُ سريعاً، فيرسِل الرجلُ إليهما وهو يُحتضَر، للنظر في مآلِهما بعد وفاته. يبوحُ صديقُ العائلة بحسرته لأنه عَيِيَ عن إعالتهما لإملاقه وسقمه. ولكنه أشار برأيٍ ليتلقّيا تعليماً دينياً يُدِرُّ لهما بعضَ المال فتُجاب دعوةُ أبيهما بأن يصبحا عالِمَيْن راسخين؛ وذلك بإلحاقِهما بمدرسةٍ تُجري الغذاء والكساء والإيواء على طلاب العلم فيها، وتأذن لهما بزيارة أمّهما أيّام الجُمَع مما أزاح عنها عبء الإعالة. ما لبث أن فاقَ محمدٌ الصغيرُ أقرانَه بألمعيّته وذكائه الحادّ، وتنبّأ معلّموه بنبوغه في قابِل الأيام. حصل محمد على بعثة للالتحاق بالمدرسة النظامية المرموقة في نيسابور، لينهل العلم من أشهر علماء عصره، الفقيه الصوفي المتكلم أبي المعالي الجويني.
يَتتبّعُ أحمدُ فال الدين في سردهِ الخطوطَ العريضةَ لسيرِة حياةِ الغزاليِّ الموثَّقة بدقّةٍ، ولكنه يعيد تخيّل تفاصيلَ وصْفيةٍ دقيقةٍ غيرِ واردةٍ في المصادر التاريخية، ولا سيّما أن السيرة الذاتية التي كتبها الغزالي بنفسه تركّز على مسعاه الروحي. سمّى فال الدين الجزءَ الثاني من الرواية "دانشمند" أي (عالِم العلماء)، وفيه يصير النابغةُ علّامةً يفوق بشهرته وسُمعته معلِّمَه الجويني، ويستفيد من الوزير نظامِ المُلْكِ، مؤسّسِ وراعي المدارس النظامية، المسمّاة باسمه. يدخل الغزاليُّ عالَمَ السياسة وقصورها. لَم يعُدْ للخليفة في بغداد مِن الحُكم إلا اللقب، بينما تتركز السلطة في يد السلطان السلجوقي ملك شاه بن ألب أرسلان . كان نظامُ المُلك يعمل في خدمة ألب أرسلان، وبعد مقتل السلطانِ بايعَ الوزيرُ وريثَه البالغ من العمر تسعةَ عشر عاماً. والآن بعد نحو عقدين من الزمان أصبح مُلْكُ السلاجقة آمناً نسبياً، وبلغ نفوذُ نظامِ المُلك أَوْجَهُ. لكن، كانت طائفة "الحشاشين" تطالب بالعرش، وهي طائفةٌ سرّيةٌ قويةٌ بقيادة شيخ الجبل الغامض حسن الصبّاح، العازم على انتزاع السلطة من السلاجقة. تسبّبت هذه الطائفة الشيعية الإسماعيلية، الموالية للخلافة الفاطمية في القاهرة، باضطراباتٍ كثيرةٍ في الشرق الإسلامي، بعد حملةٍ من الاغتيالاتِ المستهدفةِ سياسيين وعلماءَ. وفي هذا الموضع أيضاً التزمَت الروايةُ الدقّةَ التاريخيةَ، لكنْ جَمّلَتْها بإعادة تَصَوُّرٍ إبداعيةٍ للتفاصيل. انضمّ "عالِم العلماء" في هذه المرحلة إلى حاشية الوزير الكبير، وكتب كتاباً يردّ فيه على الفكر الإسماعيلي، وعمل مبعوثاً للبلاد في مناسباتٍ عدّة. ثم عَيَّنَ الوزيرُ الغزاليَّ أستاذاً في المدرسة النظامية في بغداد، أهمِّ مدرسة في العاصمة الثقافية والفكرية للعالَم الإسلامي، قرب ديوان الخلافة السّنية. انتشرت الفوضى بعد اغتيال نظام المُلْك في رمضان عام 1092. ثم مات السلطان فجأةً بعد شهر، وسرعان ما نشب الصراع بين أبنائه. وتورّط الغزالي بغير قصدٍ في هذا الصراع، فعمل سفيراً بين الورَثة وأمّهاتهم والخليفة.
يموت الخليفة بعد عامين فيَترك الغزاليُ عملَه في التدريس، ويهرب إلى منفىً اختياريّ. هنا يبدأ الجزء الثالث من الرواية، فالعالِم الشهير ينزع ثيابه الفاخرة التي كان يرتديها في البلاط، ويختار ثياب المسافر المتقشف، بعد أزمةٍ روحانيةٍ وثّقَها في كتاب "المنقذ من الضلال"، مُيَمِّماً شَطْرَ دمشق. ها هو الغزالي يخطو بالتوازي خطواته الأولى نحو اكتشاف ذاته. وهكذا ينطلق هذا الجزء من الرواية من حيث بدأَت، وهكذا نفهم العنوان الذي اختاره الكاتب لافتتاح الرواية؛ "الميلاد الثاني".
في الجزء الرابع، نرافق الغزالي في رحلته لاسْتِكْناهِ ذاته. وفي الجزء الأخير، "بقلبٍ سليم"، نعود إلى الطابران، آخر مدينة عاش فيها عالِم العلماء. فهناك يبدو عليه الرضى، ويترك ميراثاً فريداً، دليلاً إلى السعادة والرضى. يقوده مقامه الروحي إلى عمله الأساسي العبقري "إحياء علوم الدين" الذي يمنحه عنواناً طموحاً.
يُكمّل أحمد فال الدين الوثيقة التاريخية مفصّلةً بحذقٍ؛ فيصوّر تقاليد اللباس والحياة الاجتماعية وثقافة الكتب والطبخ، مستفيداً من المصادر التاريخية وكتب الرحلات المكتوبة في تلك الحقبة التاريخية. مثلاً، تظهر السمبوسة في وليمةِ شهرِ رمضان التي يدعو إليها نظامُ المُلك قُبيل اغتياله. هذه المعجّنة المثلّثة المحشوّة باللحم المفروم، والمرتبطة اليوم بالمطبخ الهندي، ظهرت أوّلَ مرَّة في كتاب التاريخ للمؤرخ الخراساني أبي الفضل البيهقي في القرن الحادي عشر.
تُعْنَى الرواية بالتاريخ الاجتماعي، وتطرح رؤيةً لفلسفة التاريخ أيضاً. في هذا الموضوع، يخالِف فال الدين النظرةَ السائدةَ الآن، لا سيّما في السياق الغربي، التي ترى في التاريخ استمراريةً خطّيةً ثابتةً تؤدي إلى نظام اجتماعيٍ مثاليّ. فقد نظّر فرانسيس فوكوياما لفكرة "نهاية التاريخ" كما هو معروف، ولكنها فكرةٌ أقدمُ تعود إلى القرن التاسع عشر للفيلسوف الألماني هيغل، الذي اجتَرَح أوّلَ تصوّرٍ واضحٍ للتاريخ الخطّي، وبذلك تحدّث عن نهاية التاريخ التي يصل فيها المجتمع إلى ذروة الحضارة ويصبح مثالياً.
على النقيض من ذلك، يؤكِّد التوجّهُ السردي للرواية التصوّرَ الدائري للتاريخ، وهو الذي عبّر عنه المؤرخ والمنظّر الاجتماعي ابن خلدون حين قال إن "الحضارة مفسدةٌ للعمران". هذا الاستبصار الفريد تأتّى من الإدراك بأن الترف المادي المطلوب لتشجيع تقدّم الحضارة وتنميتها يظلّ حكراً على النخب المتنفّذة. ويترافق تنامي ثروة هذه النخب مع رغبةٍ في الحفاظ على الامتيازات التي تستدعيها الثروة، وهكذا، تُهمَل الجماهير وتُترَك لمصيرها. وعن هذه الفكرة قال ابن خلدون إن مسار التاريخ دائري، حيث تصل الحضارات إلى ذروةٍ تتدهورُ بعدها حتى تتداعى، لأن المسار الذي يؤدي إلى السلطة يخلّف وراءه كثيرين.
كانت الحضارة الإسلامية صاعدةً في الحقبة التي عاش فيها الغزالي، ويمثّل التناقضُ الذي تصوِّره الروايةُ بين سياقنا الحالي وسياق الغزالي صورةً جذّابةً لتلك الدورة الحضارية. في الرواية، يتسنّمُ العربُ والفرسُ قِمّةَ الهرم الحضاري، وسرعان ما تنضمّ الطبقات العسكرية التركية إليهما. وفي الطبقات الأدنى تقبع الجواري الروميّات المرغوبات لجمالهن، واللواتي يُهيّأنَ للخدمة. ومثّلَ بلاطاتِ الدول المسيحية الخصيانُ الذين يُباعون في أسواق النخاسة ثم يُدرَّبون على الأعمال الإدارية ليحفظوا حريمَ ذوي السلطان والنفوذ. هناك خطر العنف الجماعي، أي المتشدّدين الذين حشدهم البابا أوربان الثاني لغزو القدس وتحقيق أحلامهم الدينية. وتُرسم صورُ هؤلاء البرابرة القادمين من شمال أوروبا، الزاحفين إلى القدس، في القسطنطينية حيث المسيحيون أكثر تمدّناً، خطّاً سردياً جذاّباً يُحدّد مراتبَ المجتمع المفصولة هرَمياً. ويشعر الغزالي بتراجع الحضارة مع التناقضات الصارخة، لا سيّما في علاقته بزملائه من العلماء الذين يتنافسون على جذب اهتمام البلاط ورعايته، فأدّى انغماسُهم في الملذّات وطمعُهم بالثروة إلى هلاكهم الروحي. تحوّلت الشريعةُ إلى قانونٍ وضعيٍّ هو فقه النفع والضرر، تحكمه حيلٌ قانونيةٌ وسيولةٌ تامةٌ في التفسير والتأويل. بلسانِ أهلِ زماننا، كان إسلامُ زملاءِ الغزاليّ مُعَلْمَنَاً للغاية.
ذكر الفيلسوف الكندي تشارلز تيلر في محاجّته الرصينة أن الحداثة محدَّدةٌ بإطارٍ دُنْيَوي، وأننا نعيش حقبةً خاليةً من مرجعيةٍ أُخرويةٍ قاطعة. يقول تيلر إنّ مِن أهمّ خصائص المخيال الاجتماعي في المجتمعات المعاصرة غياب الدِّين من المجال العام. صحيحٌ أن الإله لا يغيب غياباً تاماً عن الفضاء العام، ولكنه لم يَعُدْ حاضراً في أذهان الناس كما كان في المراحل السابقة.
كان الغزالي يعي بأن العالَم من حوله يُجرَّد من جوهره الروحي، ولذلك سعى إلى استنقاذ ما أمكَنَه متوسِّلاً بالإله. من هذه الزاوية يمكن اختصار رحلة الغزالي في تجاوُزه حدود الزمن العلماني إلى زمن مقدَّسٍ عُلْوي، وهو سبب إشارته إلى العلم الجديد الذي طوّره باسم "علم طريق الآخرة"، العلم الذي يُعنى بدقائق آفات النفوس لكشف سبل السلف من فقهٍ وعِلمٍ وحكمةٍ ورُشدٍ وهدايةٍ في الإنابة إلى الله تعالى. لم يكتب أحمد فال الدين روايةً تاريخيةً فحسب، بل وثَّق بإبداعٍ قصّةَ أحد أبرز حكماء التاريخ الفكري الإسلامي، وأخذَنا معه إلى داخل رحلته الروحية. وعلَّمَنا كيف يتجاوز الخيالُ حدودَ العلماني ويأخذ أصحابَه إلى المقدَّس.