كان خبرُ مقتل السنوار مفاجئاً، ومشهدُ القتل مثيراً لأسئلةٍ كثيرة. أوّلُ ما خطر ببالي هو أن حادثة السنوار كانت "قتلاً مستهدفاً" لرئيس المكتب السياسي لحماس، كما حصل لسَلَفه إسماعيل هنيّة في طهران نهاية يوليو 2024، ضمن سلسلة الاغتيالات الإسرائيلية التي تصاعدت وتيرتُها منذ السابع من أكتوبر مستهدِفةً قياداتِ الصفّ الأوّل والثاني من حزب الله. ولِاستيعابِ ما جرى وفهمِه عُدتُ إلى السياق الأوسع زمانياً ومكانياً. وتَبادَر إلى ذهني كتابٌ مهمٌّ للصحفيّ والكاتب الإسرائيليّ رونين بيرغمان "انهض واقتل أوّلاً: التاريخ السرّي للاغتيالات الإسرائيلية". صدر الكتاب سنة 2018 في ثمانمئة صفحةٍ تقريباً. وهو مترجَمٌ من مُسَوَّدةٍ أصليةٍ كُتبَت بالعبرية، ويَظهر على صفحتها الداخلية توقيعُ المترجِم روني هوب، الذي أسهم أيضاً بتحرير الكتاب واقتراح عنوانه.
يغطّي الكتابُ حقبةً تزيد على قرنٍ ومساحةً جغرافيةً تمتدّ من أوروبا الشرقية إلى الأرجنتين. ويجادِلُ كاتبُه بأنّ المنطق الاستراتيجيّ للاغتيالات الإسرائيلية مَعيب. فالاغتيالاتُ لَم تُحقِّق الأمنَ الموعودَ لإسرائيل، بعد كلّ هذه المدّة والعمليّات، بل لعلّها أضعفَتْه. وبينما تنشغل إسرائيل في عمليّاتها تَبرزُ بين حينٍ وآخَرَ أشكالُ مقاومةٍ جديدةٍ، عسكرياً وسياسياً، على غير ما تتوقّع وتأمُل. ومع وصول المؤلّف لهذه النتيجة النقدية، تظلُّ روايتُه منحازةً لإسرائيل ورؤيتِها للأحداث. ويتّضح انحيازُه في اكتفائه بالمصادر الإسرائيلية دون غيرها. ولذلك فصعوبة إثبات معلوماته وشواهده يثير التساؤل عن موثوقية روايتِه وصحّتِها.
مع أن موضوع بحث بيرغمان في كتابه هو الاغتيالات، إلّا أن بحثَه الطويلَ والمفصّلَ يروي كذلك قصّة "جيش الدفاع الإسرائيلي" بفِرَقه وأَلْوِيَته ووحداته المختلفة وأجهزة استخباراته، ويروي قصّة صناعة "الأمّة" و"الدولة" في إسرائيل. ولعلّ إسحاق شامير رئيسَ الوزراء الإسرائيلي السابقَ مثالٌ واضحٌ على ذلك: شابٌّ قاد ميليشيا "لِيحِي"، أو عصابة "شتيرن" كما تسمّى، التي نفّذَت عدّةَ اغتيالاتٍ وهجماتٍ ضدّ البريطانيين واغتالت المبعوثَ الأمميَّ فولك برنادوت، ما دفع مؤسّسَ الدولة ديفيد بن غوريون لملاحقة عناصرها وتفكيكها.
ثمّ استُدعي شامير ليصبح رئيسَ فريق اغتيالات الموساد، المسمّى "مفراتز"، والذي تطوّر ليصبح اسمُه "قيسارية"، وحدة الاغتيالات والعمليات الخاصّة. وكانت أُولى تحرّكات شامير عملياتِ استهداف العلماء الألمان الذين أحضرهم جمال عبد الناصر لتطوير برنامج مصر الصاروخيّ مطلع الستينيات. وفي الثمانينيات أصبح شامير وزيراً للخارجية ثمّ رئيساً للوزراء، وهو المنصب الذي دَأَب على شغلِه وزراءُ من خلفيةٍ عسكريةٍ قتالية. ومن أبرزهم أرييل شارون وإيهود باراك، اللذان تخضّبت مسيرتُهما "بالأوراق الحمراء"، أي قرارات الاغتيال المقدَّمة التي تميّز باللون الأحمر عن بقيّة القرارات التنفيذية الأخرى. وقد كان شارون وباراك من أبرز من مرّت عليهم هذه القرارات، سواءً نفّذوها من مواقعهم عناصرَ وقادةَ وحدات بلباسهم العسكريّ، أو وقَّعوا عليها ببدلاتهم الرسمية رؤساءَ للوزراء.
هذا التداخل بين تاريخ الاغتيالات ومنفّذيها وتاريخ الحركة الصهيونية وإسرائيل يلفت نظر القارئ ويَحضر مراراً في الكتاب. ففي مطلعه يشرح المؤلِّف أنّ أصلَ موضوعه كان عن جهاز الاستخبارات الخارجية الإسرائيليّ "المؤسسة للاستخبارات والعمليات الخاصّة"، واختصارُه "المؤسسة"، أو الموساد بالعبرية. كتب بيرغمان عن هذا الجهاز أطروحتَه لنَيل درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة كامبريدج. إلّا أنّ محرِّرَ كُتبِه العبرية وصديقَه المقرّب نَصَحَه بالتركيز على تاريخ إسرائيل في تنفيذ الاغتيالات، ليقدِّم لنا "أفضل صحفيِّي إسرائيل الاستقصائيّين"، كما يصفُه ديفيد ريمنك، كتابَه المطوّل هذا هجيناً بين الصحفيّ والأكاديميّ.
يفصِّل بيرغمان في ثنايا الكتاب أسرارَ آلة الاغتيالات هذه. فهو يراها وليدةَ "زواج مختلط بين حرب العصابات والقوّة العسكرية المتطوّرة تقنيّاً"، وليست محضَ أداةٍ عسكريةٍ، وإنما ركناً أساسيّاً للدولة العبرية، بل وسابقةً عليها. ويرى أن الاغتيالات نابعةٌ من "الجذور الثورية والناشطة للحركة الصهيونية، وصدمة الهولوكوست، والشعور المُلِحّ لدى زعمائها ومواطنيها أن بلدهم وشعبهم مهدَّدون دوماً بالزوال دونَ أن يهبّ أحدٌ لنجدتهم".
وانطلاقاً من ذلك، يقول الكتاب إن الهدف النهائيّ للاغتيالات هو الحفاظ على أمن إسرائيل المهدَّدة أبداً. ويتحقّق هذا بعدّة طرائق. أُولاها الردع، وهو ما يؤكّده عنوان الكتاب المأخوذ نصّاً من تعاليم التلمود. فلا يجب أن ينتظر اليهودي أن يُقتل، بل عليه أن "ينهض ويَقتل أوّلاً". أمّا الطريقة الثانية فهي الثأر والانتقام، لإيصال رسالةٍ مفادُها "إذا كنتَ عدوّاً لإسرائيل، فسنجدك ونقتلك أينما كنتَ ولو بعد حين". وأَشهرُ الأمثلة على ذلك سلسلةُ العمليات التي استَهدَفَت نازيِّين سابقِين حول العالم بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية. ومِن ذلك عملية اختطاف أدولف آيخمان سنة 1960 في الأرجنتين، وهو مسؤولٌ نازيٌّ أشرفَ على ترحيل اليهود إلى معسكرات الهولوكوست. والطريقة الثالثة هي الرغبة "بتسطير التاريخ" باغتيال شخصياتٍ فارقةٍ بعينها. مثل التدريبات الفاشلة لاغتيال صدّام حسين مطلع التسعينيات، أو الطرح المتكرّر لاحتمالية اغتيال ياسر عرفات، أو نقاش اغتيال المرشد الأعلى للثورة الإيرانية روح الله الخميني. "فليس ثمّة كثيرون يمكنهم أن يَحلّوا محلَّ نابليون أو روزفلت أو تشرشل" كما يقتبسُ الكتاب عن مائير داغان، رئيس الموساد السابق الذي وصفه بيرغمان "بالأسطوريّ"، والحاضر في رواية الكتاب بطلاً منذ الافتتاح بِاسمِه، مروراً بفصلٍ استثنائيٍّ مخصّصٍ له، وحتى ختام الفصل الأخير بموته سنة 2016.
لَم يكن التوظيفُ الشخصيُّ والتعسّفيُّ لهذه الأداةِ الخطيرةِ ممكناً لولا وجودُ نظامَيْن قانونيَّيْن في إسرائيل؛ قانونٌ مدنيٌّ للمواطنين، وآخَرُ هو قانونُ "عالَم الظلّ" لمؤسستَي الدفاع والاستخبارات. وتحت القانون الآخَر تتبع المؤسساتُ الاستخباراتيةُ منذ تأسيسها إمّا الجيشَ أو رئاسةَ الوزراء مباشرةً دون رقابةٍ شعبيةٍ أو محاسبةٍ قضائية. فَتَحَ هذا الأمرُ البابَ لعمليات اغتيالٍ "شديدة الإشكال" أَزهقَت أرواحَ كثيرٍ من الأبرياء. وصارت قانونيّةُ الاغتيالات وأخلاقيّتُها معضلةً رئيسةً لهذه السياسة، بَلْهَ معضلةِ جدواها وتأثيرها.
وتبدو نتائجُ هاتين المعضلتين التي وصل لها الكتاب متناقضة. ففي سؤال الفاعلية والجدوى، يؤكّد بيرغمان تارةً أن "حرب إسرائيل على الإرهاب" أكثرُ فاعليةً من جهد أيّ دولةٍ غربيةٍ أخرى، وأنها أنقذت إسرائيلَ من عدّة كوارث محدِقة. بل وفوق التمثّل بها نظريّاً أضحت تلك الحربُ الإسرائيلية نموذجاً يحتذى على مستوى العمليات واستخدام آليّات الاستخبارات وإدارة الحروب والطائرات المسيَّرة وغيرها.
ولكن في مواضع أُخرى يُحجِّم الكاتبُ من تأثير الاغتيالات. فتارةً لا تَضمّ الشخصياتُ المُستهدَفةُ أسماءً مهمّةً، كما في سلسلة الاغتيالات التي باشرَتْها إسرائيل انتقاماً لضحايا عملية ميونخ التي نفّذَتها منظّمة "أيلول الأسود" سنة 1972. في هذه العملية خَطفت منظمةُ "أيلول الأسود" أحدَ عَشَرَ رياضياً إسرائيلياً رهائنَ في أثناء دورة الألعاب الأولمبية ثمّ قَتَلَتهم. فأطلقت إسرائيلُ عمليتَها العسكريةَ التي عُرفت بِاسمِ "غضب الربّ"، ووقّعت رئيسةُ الوزراء الإسرائيلية غولدا مائير عدّةَ أوراقٍ حمراءَ لاغتيال شخصياتٍ دبلوماسيةٍ وأكاديميةٍ بمنظّمة التحرير الفلسطينية يقيمون في بلدانٍ أوروبيةٍ، حتى وإن لم يكن لهم علاقةٌ بالاختطاف، مثل وائل زعيتر في روما، ومحمود همشري وباسل الكبيسي في باريس. وفي أحيانٍ أُخرى اغتيل أشخاصٌ غيرُ أولئك المستهدَفين، مثل قتل النادل المغربيّ أحمد بوشيقي في مدينة ليلهامر النرويجية ظنّاً أنه علي حسن سلامة قائد عمليات "أيلول الأسود"، في كارثةٍ كبيرةٍ اعتُقِل بعدها الفريقُ المنفِّذ في النرويج وفُكِّكت "وحدة الحربة" المعنيّةُ بالاغتيالات والتابعةُ لقسم "قيسارية" المسؤول عن عمليات القتل والاغتيالات الخاصّة السرّية خارج إسرائيل.
أمّا أسوأ العمليات استراتيجياً من منظور الكاتب فكانت بعضَ الاغتيالات التي أفسحت المجالَ لصعود شخصيّاتٍ تَعدّها إسرائيل أكثرَ تطرّفاً. مثل صعود حسن نصر الله ليصبح الأمينَ العامَّ لحزب الله اللبناني عقب اغتيال عباس الموسوي سنة 1992 بواحدةٍ من أُولى العمليات التي استُخدِمَت فيها الطائرات المسيَّرة.
وفي خضمّ هذا الخطاب الاعتذاريّ، خصّص بيرغمان عدّةَ فصولٍ حاول فيها إبرازَ حوادث اعتراضٍ أخلاقيٍّ من المؤسّسات الإسرائيلية العسكرية والاستخباراتية. كان أبرزُها فصل "انقلاب الشاباك" الذي وقع بعد حادثة "الباص 300". وهي عمليةٌ خَطَفَ فيها أربعةٌ من "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" حافلةً بركّابها، فأَعدمَ أفرادٌ من "العصافير"، وهي وحدةُ عمليات الشاباك، اثنين من المنفّذين –هُما صبحي ومجدي أبو جامع– بعد وقوعهما في الأَسْر، في مخالَفةٍ لقوانين الحرب والقوانين الإسرائيلية نفسها. لاحقاً انتشرت صورة أبو جامع وهو يُؤسَر، وفُتحت قضيةٌ داخلياً عن حقيقةِ ما جرى. وحاول الشاباك التَعْمِيةَ بسلسلةٍ من شهادات الزور والاتهامات المتبادلة. وانتهت أخيراً بإقالة رئيس الشاباك أفراهام شالوم.
ومن العمليات الأخرى التي ينقلها الكتاب وتُنسَب أوّلَ مَرّةٍ إلى الموساد، محاولةُ اغتيال علي أكبر محتشمي بور. كان محتشمي بور رفيقَ الخميني، ومن مؤسِّسي الحرس الثوري الإيراني، وسفيراً لإيران في دمشق. ومن العاصمة السورية خطّط محتشمي بور وأَشرفَ على البناء التدريجي للقدرات العسكرية لحزب الله، الذي أعلن عن وجوده بسلسلة هجماتٍ استهدَفَت الوجودَ الأمريكي والإسرائيلي، تحت القيادة العسكرية لعماد مغنية. ولأن محتشمي بور كان في "بلدٍ هدفٍ" وسفيراً بصفةٍ دبلوماسيةٍ ومحاطاً بدائرةٍ أمنيةٍ مغلقةٍ، كان على إسرائيل اللجوء لوسيلةٍ غير تقليديةٍ لاستهدافه. فأعادت استخدامَ الطرود المتفجّرة، وهي أداةٌ قديمةٌ جرّبَتها سابقاً لاستهداف العلماء الألمان في مصر. وفي بعض حالاتٍ سابقةٍ كانت هذه الطرود تنفجر في وجه الشخص الخطأِ أو تصيب الشخصَ المطلوب ولا تقتلُه. لكن مع بعض التحسينات، زيدت كمّية المتفجّرات المدسوسة في كتابٍ إنجليزيٍّ عن المقامات الشيعية في إيران والعراق. وحين وضعه السفير على طاولته وفتحه فَقَدَ يَدَه اليمنى وأصابعَ من يَدِه اليسرى وأُذنَه، وذلك سنة 1984.
لَم يمُت محتشمي بور من الطرد المفخّخ، بل واصل عملَه سفيراً عامَيْن إضافيَّيْن، وأثمرت جهودُه في العقود التالية بتطوير علاقة سوريا وإيران وحزب الله والجهاد الإسلامي ضمن ما تراه إيران "محور المقاومة". استَهدَفَت إسرائيلُ المنتسبين لهذا المحور، وكان من أبرز المستهدَفين الجنرالُ السوريّ محمد سليمان، الذي اغتيل قنصاً في طرطوس سنة 2008 في عمليةٍ لم يُعرَف منفّذوها إلى أن كَشَفَ بيرغمان أنهم من القوّات الخاصّة الإسرائيلية. وكشف بيرغمان أوّل مرّةٍ عن ملابسات قصف مفاعل الكُبَر النوويّ في دير الزور سنة 2007 في "عملية خارج الصندوق"، قبل اعتراف إسرائيل بمسؤوليتها عنها بالاسم نفسه بعد نشر الكتاب بثلاثة أعوام.
ومن أمثلة المراجَعات الأخلاقية، التراجعُ عن الحلّ العسكريّ والدعوةُ إلى الحلّ السياسيّ للقضية الذي ينقله الكتاب عن مائير داغان، أحدِ أطولِ مدراء الموساد عهداً. ويَزعم بيرغمان أن آرييل شارون عاش مثلَ هذه المراجعات الفكرية والسياسية، مع أنّ شارون نفسه أَسّس الوحدةَ 101 الشهيرةَ بدمويّتها، وأشعلَ حربَ لبنان وسمحَ بوقوع مجزرة صبرا وشاتيلا، ثمّ اقتحم المسجد الأقصى مطلع سنة 2000 ممّا أسهم بانفجار الانتفاضة الثانية التي أصبح إبّانها رئيساً للوزراء، وشهدت أحداثُها عمليات قتلٍ كبيرةً ضدّ الفلسطينيين. واستمرّ شارون في هذا المسار التصعيديّ طوال مسيرته. حديث الكتاب عن مراجَعات شارون جليُّ التناقض مع توصيف متابعين أكثرَ موضوعيّةً للسياسة الإسرائيلية، مثل آفي شليم، أستاذ العلاقات الدولية الإسرائيليّ البريطانيّ في جامعة أكسفورد. فقد كَتَبَ بعد رحيل شارون أنّ إرث "الجرّافة"، كما كان يلقّب شارون، هوَ "دعم وتعزيز أشدّ العناصر تزمّتاً وعنصريةً وتوسّعيةً ورهاباً من الآخَر في النظام السياسي الإسرائيلي المختلّ".
وقصّةُ مراجَعات شارون مثالٌ على إشكاليات الكتاب الرئيسة في روايته ومصادره. فبيرغمان لا يخفي انحيازَه الشخصيّ لإسرائيل في روايتها. وهذا بائنٌ في "اللغة العسكرية" التي تتبنّى أسماءَ الحوادث من مجازر أو عملياتٍ باعتبارها عملياتٍ عسكريةً، أو بتوصيف النتائج حسب الرواية الإسرائيلية. ومن مظاهر الانحياز المقابلاتُ التي أجراها، ومنها أربعمئةٍ وثمانون مقابلةً تقريباً مع إسرائيليين، خلا مقابلةً وحيدةً مع هاني الحسن، أحد مؤسّسي حركة فتح. وعَدَا هذه المقابلة، هناك شواهدُ محدودةٌ أُخِذَتْ من مقابلاتٍ قديمةٍ أو مصادر من الجانب الفلسطيني أو اللبناني أو الإيراني أو المصري. ويبرز الانحياز كذلك في حرص الكاتب على إظهار خصوم إسرائيل في حالة ضعفٍ أو اضطرابٍ فكريٍّ أو نفسيٍّ أو أخلاقيٍّ، مثل حديثه عن صلاح شحادة وأحمد ياسين وعماد مغنية دون اعتمادٍ على مصدر.
ناهيك من انحيازه، يعوز الكتابُ دقّةَ المصادر؛ وليس المقصودُ عدمَ موضوعيّتها لأنها مأخوذةٌ من جانبٍ واحدٍ فحسبُ، بل المقصودُ أنّ ثمّة أسئلةً كثيرةً عن صحّة المصادر. فنظام المَراجع المُتّبَع في الكتاب لا يوضح بدقّةٍ مواضعَ بدء الإحالة من المَرجع ومواضع نهايتها، بل قد تنتفي المراجعُ البتّةَ، كما في مواضع سردِ المعلومات بلا مصدرٍ ودون أيّ إحالةٍ أو توضيح.
وباختبار دقّة بعض المعلومات الغريبة الواردة في الكتاب، نجدُ معلومةً تتعلّق بيحيى عيّاش، أحدِ مهندسِي العبوات الناسفة في حماس. فقد ذكر بيرغمان أن عيّاشاً أُبعِد مع مئاتٍ من عناصر حركة حماس إلى مرج الزهور في لبنان سنة 1992، وهناك "اكتشفه" عماد مغنية وعلمه صناعة العبوات الناسفة. لكنّ قوائم المبعَدين الأربعمئة ونيّفٍ لا تتضمّن اسمَ يحيى. وبعد التواصل مع ابنه البراء، أكّد نقلاً عن العائلة أن الشاباك داهَمَ المنزلَ لاعتقالِ يحيى ونقلِه مع المبعَدين، لكنه لم يكن بالمنزل حينَها، ولم يعودوا لذلك أبداً.
ومعلومةٌ أُخرى نَقَلَها بيرغمان تفيد بعِلم الإسرائيليين أنّ أحمد ياسين كان سنة 1984 يَأتمِر بأوامر عبد الله عزّام ويُموَّل من بيشاور. يقول بيرغمان ما نصُّه أن الإسرائيليين عَلِموا أن ياسين كان "يعمل تحت إمرة جناحٍ متشدّدٍ من الإخوان المسلمين الأردنيين، يقوده فلسطينيٌّ هو عبد الله عزّام الموجود حينها في بيشاور"، وأن الأخير كان يرسل الأموالَ مع رجاله في الأردن إلى ياسين. تتعارض هذه المعلومة بوضوحٍ مع حياةِ عزّام المفصّلة في كتاب "القافلة" للباحث بجامعة أكسفورد توماس هيغامر. إذ يؤكّد، استناداً لعدّة مصادر أهمُّها "وثيقة إلى الإخوان المسلمين في الأردن" التي كَتَبَها عزّام نفسُه، أنه عند مغادرته سنة 1980 الأردنَ إلى السعودية ومنها إلى أفغانستان، كان على خلافٍ كبيرٍ مع كلٍّ من النظام الأردنيّ والإخوان الأردنيّين. وعليه يُستبعَد –بعد أربعة أعوامٍ من مغادرته– أن يكون عزّامُ قيادياً لإخوان الأردن أو قادراً على إدارة خلايا نائمةٍ في غزّة وتمويلها من موقعه في أفغانستان خصوصاً مع انشغاله عام 1984 بتأسيس خلايا نائمةٍ في بيشاور. عن ذلك العام يقول عزّام: "تفرّغتُ شبهَ تفرّغٍ للجهاد [في أفغانستان]، وصرتُ أمكثُ في إسلام آباد يومين فقط للجامعة، هُما السبت والأحد، أمّا بقية الأيام ففي بيشاور والجبهات القريبة".
في هاتين المعلومتين، يَعرض بيرغمان روايةً تُؤكّد على الجذور الخارجية لحماس، إمّا مع الجهادية الأمميّة من طريقِ عزام، أو –على طريقة نتنياهو– بربط حماس بإيران لإلباسِها ثوبَ الخطر الأكبر. لذا، بعد التحقّق من المعلومتين أصبحتُ أكثرَ تحفّظاً تجاه معلومات الكتاب، ولا سيّما تلك "الغريبة" المتناقضة مع الوقائع اللاحقة. ومِن تلك المتناقضات روايةُ انهيارِ كلٍّ من الشيخ أحمد ياسين وصلاح شحادة أثناء الاعتقالات، خصوصاً أنها بلا مرجع. واتّبعتُ التقاليد الأكاديمية والمنهجية الأكثر رصانةً بتجاهل كلّ معلومةٍ ما لم يكن لها مرجعٌ محدّدٌ أو كانت مدعومةً بمصدرٍ آخَر يؤكّدها.
ومع هذه الفجوات المنهجية، يَخلص الكتاب في ختامه إلى نتيجةٍ متماسكةٍ مدعومةٍ بأحداثٍ تاريخيةٍ وبوقائع ومسنودةٍ بدراساتٍ نظريةٍ عسكريةٍ واستراتيجية. فحوى هذه النتيجة أن الاغتيالات سلاحٌ فعّالٌ على المدى القصير، ولكنّها فشلت على المدى الطويل بحلّ المشكلة التي وُجِدَت مِن أجلِها، ألا وهي تحقيقُ الأمن والسلام لإسرائيل وحمايتُها. فهي لا تزال تقاتل على سبع جبهاتٍ مختلفةٍ في آنٍ واحدٍ، كما يشيرُ محلّلوها وخبراؤها الاستراتيجيون، مثل قائد التخطيط السابق في الجيش الإسرائيلي عساف أوريون، وأورنا مزراحي التي عَمِلَت أكثرَ من ثلاثين عاماً في الجيش ومجلس الأمن القومي التابع لرئاسة الوزراء، عدا عن الاستهدافات اليومية في عمقها.
ويمكننا رؤية سمةٍ سائدةٍ من تكيّف إسرائيل في عملياتها وتعاملها مع التحوّل الفكريّ والتنظيمي والسياسي لخصومها. فإذا قسّمنا فصول الكتاب، أو فترات الصراع العربي الإسرائيلي، أمكننا الوصول لعدّة تقسيماتٍ متداخلة. فمِن النكبة إلى حرب 1973 كان خصومُ إسرائيل جيوشَ دولٍ عربيةٍ وزعماءَها. ثمّ أصبح أعداؤها من حرب أكتوبر إلى الانتفاضة الأُولى هُم تنظيماتٌ مسلّحةٌ ذاتُ امتداداتٍ دولية. ومن الانتفاضة الأُولى إلى اليوم أَصبحَت عداوةُ إسرائيل شعبيةً مُتجسّدةً في حركاتٍ اجتماعيةٍ، مثل حماس وحزب الله، ذاتِ امتداداتٍ سياسيةٍ ولها أذرعٌ عسكريةٌ فاعلةٌ ومؤثّرة. وبعد ثلاثين عاماً من بداية المرحلة الثالثة تتكشّف لنا ملامحُ مرحلةٍ رابعةٍ جديدةٍ، تتحوّل فيها الأجنحةُ المسلّحةُ لهذه الحركات إلى بنيةٍ وهيكلٍ وعددٍ وقدرات تصنيعٍ أقرب إلى شكل الجيوش النظامية وأسلوبها.
تكشف سلسلةُ التحوّلات هذه كلّاً من نقاطِ قوّة آلة الاغتيالات الإسرائيلية في عملياتها ونقاطِ ضعفها في الاستراتيجية التي لَم تَحلَّ جذورَ تهديداتِ أمنِ إسرائيل وأسبابَها. ولعلّ أهمّ أسباب ذلك إساءةُ تصوّر إسرائيل لذاتها المتّسمة بالغطرسة وفرط الثقة بالنفس، والتي كانت السببَ الرئيسَ الذي يعمي إسرائيل عن رؤية التهديدات الأخرى التالية، كما يتحدث بيرغمان نفسُه بالكتاب. وكذلك التصوّرُ للآخَرِ المنطلقُ من نظرةٍ دونيّةٍ عنصريّةٍ عُبّرَ عنها جليّاً في الحرب الجارية بنَعْت الفلسطينيين "بالحيوانات". وظهرت القناعات عملياً بالتقليل من إمكانات عدوّها العسكرية وقدرته على الصمود والحرب والمواجهة. وأباحت بذلك لنفسها أن تتوسّع في قتله تالياً، مكثّفةً قائمةَ مظالمِها في المنطقة. وستَلجأُ إسرائيل، على عادتها، إلى التعامل مع تبعاتها بالاغتيالات، لتصبح قصصُ الاغتيالات المتتالية هي الفصول التي كُتِبت بها قصّةُ إسرائيل نفسها، بشخوصها ونجاحاتها العملية وخيباتها الاستراتيجية.