بعد يومَين، في مقهى الضباطِ بالدائرةِ الباريسيةِ السابعة، وجدتُ نفسي جالساً مع محمود حسين، متفاجِئاً أنّهُ ليسَ رجلاً واحداً، بل رَجُلَيْن: عادل رفعت وبهجت النادي. رَجُلانِ دُمِجا في كاتبٍ واحدٍ اسمُه "محمود حسين"، بعد أن نَحتا معاً هذا الاسمَ قبلَ خمسةِ عقودٍ وعُرِفا به حتى كادَت أسماؤُهما الحقيقيةُ أن تُنسَى. دامت صداقتُنا منذ ذلكَ اللقاءِ، وشَرعتُ بعد إلحاحٍ منّي وصَدٍّ منهما في كتابةِ سيرتِهما مع صديقي تميم. وفي سبيل ذلك عكفتُ على قراءة كتبهما بدءاً من "الصراع الطبقيّ في مصر" الصادرِ عن دارِ ماسبيرو سنةَ 1969، وكتابِ "السفح الجنوبيّ للحرية" الذي صدر سنةَ 1989، و"صحوة المحكومين في مصر الحديثة" الذي تَرجمَتْه دارُ الشروقِ إلى العربيةِ سنةَ 2023. وبين ذلك ما كَتَباه عن الإسلام: "السيرة" (2005) و''التفكير في القرآن" (2009) و"ما لم يقله القرآن" (2013). واكتشفتُ من كل تلك الكتبِ مفكرَيْن جسورَيْن جاوَزا التخصّصات، ويملكانِ تفكيراً واسعَ الأفقِ عن قضايا لا يجمع بينها سوى آنيّتها الحسّاسة والتصاقها بتوق الناس إلى الحرية من كل سلطةٍ وقيد. فبهجت وعادل، وإن جاءا من خلفيةِ علم الاجتماعِ السياسيّ، إلّا أنهما يبدوان لي متجاوزَين ضيقَ التخصّص إلى اهتمامٍ بفلسفة التاريخ وعلاقتها بالواقع.
دَفَعَهما تحرّرُهما من اختصاصهما العلميّ إلى تجريب الأفكار والمناهج. وتجلّى في مسيرتهما الفكرية والشخصية تحوّلاتٌ سياسيةٌ طَبَعَتْ مشروعَهما الفكريَّ الخارجَ من سجنِ الشيوعيةِ إلى رحابة التحليل المتنوِّع والشامل للمجتمعِ المصريِّ والعلاقاتِ بين حُكّامِه ومحكومِيه. وقد ظَهَرَ ذلك في ثلاثةٍ من كُتُبِهما، "الصراع الطبقيّ في مصر" و"السفح الجنوبيّ للحرية" و"صحوة المحكومين في مصر الحديثة". في هذه المحطّاتِ الفكريةِ الثلاثِ كان محمود حسين "ابنَ زمانِه"، متغيِّراً في أفكارِه وفي تفكيرِه أيضاً. لكن الثابت في هذه المسيرةِ الطويلةِ من التفكيرِ والكتابةِ والتغيّراتِ هو الصداقةُ الفكريةُ والإنسانيةُ الفريدةُ سبعةَ عقودٍ، خلاف الشائعِ في الأوساطِ الثقافيةِ والفكريةِ من فردانيةٍ وعزلة.
وقد فَتَحَ كتابُهما "الصراع الطبقيّ في مصر" أُفُقاً للمثقّفين في مصرَ والعالَمِ العربيِّ لإعادةِ التفكيرِ في الأنظمةِ "الثوريّة". وكتابُهما "السيرة: نبيّ الإسلامِ على لسانِ أصحابِه"، من الكتبِ القليلةِ التي قدّمت سيرةَ النبيّ وعالجَتها بأسلوبٍ معاصر. إذ ركّزَ الكتابُ على بُعدَين جوهريَّين. أمّا الأول فهو النسبية الزمنية لحياة النبيّ عليه الصلاة والسلام، التي امتدّت عقدَيْن من النبوّة، بإبراز العلاقةِ بين نزولِ الآيات والأحداثِ على الأرض في السيرة. وأما الثاني فهو البعد الإنساني والزمني لحياة النبيّ عليه الصلاة والسلام وشخصيّته بكلّ أبعادها البشرية. فقد فَصَلَ الكتابُ بين النبيّ رسولاً للّه ومُحَمَّدٍ الإنسان، فأنتج ذلك رؤيةً أعمق لعبقرية هذا الرجل إنساناً ورسولاً معاً. أمّا آخِرُ كُتبِهما "صحوة المحكومين في مصر الحديثة"، فهو كتابٌ يخالِفُ السرَديّاتِ التاريخيةَ في معالجةِ علاقةِ الشعوبِ بحُكّامِها، إذ يؤرِّخُ لمصرَ واصفاً المصريين وتَحوُّلَهم الطويلَ والشاقَّ مِن رعايا إلى مواطِنين.
كان نشرُ الكتابِ معضِلةً، إذ يَصعُبُ على الناشرين المجازفةُ بالنشرِ لمغمورَيْن مثلَ عادل وبهجت. ولَم يتحمّسْ لنشرِه إلّا اليساريُّ فرانسوا ماسبيرو، صاحبُ دارِ ماسبيرو للنشرِ، واقترَحَ عليهما نحتَ اسمٍ واحدٍ ليَنشُرا به الكتابَ فاختارا "محمود حسين" على عَجَلٍ، وذلك في خريفِ سنةِ 1969 في مكتبٍ لدارِ ماسبيرو للنشرِ بالحيِّ اللاتينيِّ في باريس.
منذ منتصفِ الستينياتِ أصبحَت الشيوعيةُ الماويّةُ، نسبةً إلى الزعيمِ الصينيِّ ماو تسي تونغ، صَرْعَةً فِكريةً وسياسيةً. فقد فقدَت الشيوعيةُ السوفييتيةُ مكانتَها الفكريةَ مرجعيةً ثوريةً، لا سيّما بعد أن قادَ الاتحادُ السوفييتيُّ حلفَ وارسو لغزوِ تشيكوسلوفاكيا سنةَ 1968. حدثٌ عَدَّهُ كثيرٌ من الشيوعيين في العالَمِ غزواً استعمارياً. بينما كان النموذجُ الصينيُّ أكثرَ سِحراً وتأثيراً بالشبابِ في العالَمِ. انحازَ محمود حسين مبكِّراً إلى الماويّةِ منذ سنواتِ اعتقالِ صانعَيْهِ، بهجت وعادل، خلافَ التيّارِ السائدِ في الحركةِ الشيوعيةِ المصريةِ الموالي للسوفييت.
لذلك اعتمَدَ كتابُ "الصراع الطبقيّ في مصر" على منهجٍ شيوعيٍّ ماويٍّ لتحليلِ المجتمعِ المصريِّ والنظامِ الناصريِّ الحاكمِ. فقد سادَ في التحليلاتِ الشيوعيةِ حينذاك أنَّ نظامَ الرئيسِ عبدِ الناصرِ نظامٌ اشتراكيّ. واعتَمدَت التحليلاتُ على نظرياتٍ أَنتَجَها الاتحادُ السوفييتي مثلَ نظريةِ طريقِ التطوّرِ غيرِ الرأسماليِّ التي تُطلِقُ اسمَ "الأنظمةِ الشعبيةِ الثوريةِ" على النظامِ المصريِّ والسوريِّ والعراقيِّ، وتَعُدُّها أنظمةً غيرَ رأسماليةٍ. كان السوفييتُ يَفرِضون على الحركاتِ الشيوعيةِ في هذه البلدانِ التحالفَ مع الأنظمةِ الحاكمةِ.
قَدّمَ بهجت وعادل عبرَ محمود حسين في "الصراع الطبقيّ في مصر" تحليلاً جديداً للسلطةِ الناصريةِ وطَبَقَتِها الحاكمةِ عندما وصفَها بـأنها "برجوازية الدولة" أو "البرجوازية البيروقراطية"، ونمطِ إنتاجِها وهو "رأسمالية الدولة"، أي أنّ الدولةَ تَستحوذُ على وسائلِ الإِنتاج. يومئذٍ لَم يكُن هذا التحليلُ مقبولاً في الوسطِ الماركسيِّ التقليديّ. وحينَ سألتُهما عن سببِ اختلافِ تحليلِهما عن السائدِ، قال بهجت: "لَم نكُن متقبِّلَيْن أنّ هؤلاءِ الضبّاطَ يمثِّلون الاشتراكيةَ. طبعاً هُم مِن الأصلِ كانوا مِن البرجوازيةِ الصغيرةِ، ولكن عندما وصلوا إلى السلطةِ تغيَّرَ الوضعُ، في حينِ كان الماركسيون يُصِرّون على أنّ النظامَ ما زالَ يمثِّلُ البرجوازيةَ الصغيرةَ، والتي يُضفَى عليها لقبُ الوطنيةِ". وأضافَ عادل: "أمّا نحنُ فكُنّا نَرَى أنهم بعد وصولِهم السلطةَ كَوَّنوا طبقةً جديدةً تعتمدُ رأسماليةَ الدولةِ، أي احتكارَ الدولةِ الإنتاجَ. وهذه الطبقةُ هي البرجوازيةُ البيروقراطيةُ التي تتكوّنُ مِن كبارِ موظَّفِي الدولة".
فَتَحَ الكتابُ آنذاكَ أُفُقاً جديداً لتيّارٍ من اليسارِ المصريِّ والعربيِّ لإِعادةِ التفكيرِ في الأنظمةِ "الثوريةِ" الحاكمة. ذلك أنّ النموذجَ المصريَ الحاكمَ كان هو نفسه، مع اختلافاتٍ بسيطةٍ، حاكماً في سوريا والعراق وليبيا والجزائر. وصَنَعَ دليلاً لليسارِ الذي يريدُ أن يَشُقَّ طريقَه بعيداً عن التحالفِ مع السلطة. تَحدّثَ عادل وبهجت معي بحنينٍ كبيرٍ عن ذكرياتِهما نهايةَ الستينيات، وكيف استُقبِلا في كثيرٍ مِن الدولِ العربيةِ بحفاوةٍ بالغةٍ. فيقولُ بهجت: "جَعَلَنا هذا الكتابُ معروفَيْن إلى درجةٍ كبيرةٍ في العالَمِ العربيِّ، وخاصّةً في الدولِ الناطقةِ بالفرنسيةِ، وعندما نُقِلَ إلى العربيةِ أَصبحْنا أكثرَ شهرةً. وعَرَفْنا لاحقاً أن هناك حركاتٍ وأحزاباً يساريةً نشأَت بسببِ أفكارِ الكتابِ في سوريا وتونس والجزائر والمغرب. حتى أن صديقَنا ميشال فوكو (الفيلسوف الفرنسي الشهير) كان يظنُّ أن كتابَنا أكثرُ انتشاراً من كتابِه 'الكلمات والأشياء'، مع أن ذلك ليسَ صحيحاً".
لَم يكتفِ الكتابُ بتحليلِ السلطةِ والمجتمعِ، بل قدَّم دليلاً للمحكومين في كيفيةِ الوعيِ بأنفسِهم، فهُم مَن يصنعُ التاريخَ، على حدِّ تعبيرِ محمود حسين. ويُفرِّقُ كلٌّ مِن بهجت وعادل بين نوعَيْن من القيادةِ الثوريةِ في نقدِهما لتجربةِ عبدِ الناصر. ففيها قيادةٌ ثوريةٌ تقودُ الجماهيرَ وتظلُّ وفيّةً لها اجتماعياً وديمقراطياً. مقابلَ قيادةٍ تقودُ الجماهيرَ للوصولِ إلى السلطةِ ثُمّ تسيطِرُ على المجتمعِ وتَحتكرُ النشاطَ العامَّ، فتنفصلُ عن الجماهيرِ وتصبحُ طبقةً أقلّيةً مسيطِرةً. والنموذجُ الثاني هو الذي سادَ في أغلبِ الدولِ العربيةِ في حقبةِ ما بعد الاستقلال.
جَعَلَ كِتابُ "الصراع الطبقيّ في مصر" محمود حسين مِن الكُتّابِ المتخصّصين في الشأنِ المصريِّ في الوسطِ المتحدِّثِ بالفرنسيةِ، لا سيّما في تحليلِ الناصريةِ، الفكرِ المهيمِنِ عربياً آنذاك. فقد استضافَت وسائلُ الإعلامِ الفرنسيةُ عادل وبهجت، فكانت هذه الشهرةُ صلةَ الوصلِ بينهما وبين أحمد مختار امبو، المديرِ العامِّ لمنظّمةِ يونِسكو من 1974 إلى 1987. تعرّفَ امبو إلى الصديقَيْن بعد أن شاهدَهما في مقابَلةٍ على التلفزيونِ الفرنسيِّ مع الكاتبِ والناقدِ الثقافيِّ الشهيرِ برنارد بيفو سنةَ 1975 عن الصراعِ العربيِّ الإسرائيليِّ، وأُعجِبَ بهما. يقولُ عادل: "توصَّلَ إلينا بقياداتِ منظّمةِ التحريرِ الفلسطينيةِ التي كُنّا ناشطَيْن في صفوفِها، وعندما عرضَ امبو أن يعيّنَ أحدُنا مستشاراً له رَفَضْنا عرضَه لأنّه لَم يشمَلْنا معاً". وظَلَّ الرجلُ عاماً كاملاً يحاولُ حتّى استطاعَ أن يجدَ صيغةً للتعاقدِ مع الاثنينِ للعملِ في مكتبِه. يقولُ لي بهجت ضاحكاً: "كان عقداً لي وعقداً لعادل بالنسخةِ نفسِها. كان الموظّفون الآخَرون مندهِشِين مِن ذلك، لأنّه أمرٌ استثنائيٌّ وغيرُ مسبوقٍ إدارياً".
فَرَضَ منطقُ الصداقةِ نفسَه على الإدارة. وقد فَرَضَ الصديقان قبل ذلك على إدارةِ جامعةِ السوربون أن يُناقشا معاً رسالةَ دكتوراه واحدةً في العلومِ الاجتماعيةِ، وقد أَقنعَ صديقُهما المفكّرُ الاقتصاديُّ سمير أمين إدارةَ السوربون بذلك. عملَ الرَجلان في اليونِسكو عشرين عاماً، وتغيَّرا في هذه التجربةِ تغيُّراً فكريّاً أخرجَهما من سجونِ الفكرِ الماركسيِّ المفسِّر العالمَ برؤيةٍ ضيقةٍ إلى أُفُقٍ واسعٍ، فقد فَتَحَت الوظيفةُ الجديدةُ لهما بابَ السفرِ والاحتكاك بالنُخَبِ الفكريةِ في العالمِ وغيَّرت نظرتَهما النمطيةَ. وكانت فرصةً لزيارةِ الدولِ الاشتراكيةِ كالاتحادِ السوفييتيِّ ودولِ أوروبا الشرقيةِ وكوبا وألبانيا، واللقاءِ مع قياداتٍ سياسيةٍ وثوريةٍ عالميةٍ مثلَ الزعيمِ الكوبيِّ فيديل كاسترو ورئيسِ جنوبِ إفريقيا نيلسون مانديلا ورئيسِ منظمةِ التحريرِ الفلسطينيةِ ياسر عرفات، واحتكّا بأدباءَ كبارٍ مثلَ الروائيِّ الكولومبيِّ غابرييل غارسيا ماركيز والشاعرِ الفلسطينيِّ محمود درويش والمفكّرِ الفرنسيِّ ريجيس ديبريه، وعايَشا مجتمعاتٍ مختلفةً في الدولِ التي زاراها، وعايَنا واقعَها بعيداً عن الكتبِ والأفكار.
في باريس لَم تكُن مصرُ بعيدةً عن عادل وبهجت. فلَم يَنقطِعا عن متابعةِ أخبارِها واللقاءِ بالمثقّفين المصريّين المارّين بفرنسا، فقد كانت الروحُ المصريةُ في الطعامِ والسماعِ والذوقِ والمزاحِ طقساً يوميّاً لهُما. لكنّ باريسَ تحوّلَت مِن منفىً إلى مستقرٍّ، بعد زواجِ كلٍّ منهما. فمنذ نهايةِ الستينياتِ تزوّجَ بهجت من حبيبتِه الإنجليزيةِ سيليا، أما عادل فقد تزوّجَ نهايةَ السبعينياتِ بعد قصّةِ حبٍّ طويلةٍ مع عزيزة ذات الأصول الجزائرية. كانت باريسُ لعادل وبهجت مكاناً مناسباً للتأمّلِ والتفكيرِ والكتابةِ عن مصرَ، كأنها مرتفَعٌ يُطِلّانِ منه على الوطنِ البعيد. في مقاهي الضفّةِ اليسرَى لنهرِ السينِ كانت جلساتُهما اليوميةُ مع المثقّفين الفرنسيّين مساحةً مفتوحةً للنقاشاتِ والصداقاتِ والخلافاتِ، وفرصةً لكسرِ الصورِ النمطيّةِ التي يَحمِلُها هؤلاءُ عن المشرقِ العربيِّ ثقافةً ومجتمعاً. وكان سَيرُهما معاً في شوارعِ العاصمةِ الفرنسيةِ فرصةً للسجالِ الثنائيِّ في مدينةٍ كانَت – وما زالت – مَتحَفاً مفتوحاً يموجُ فيه خليطٌ من البَشَرِ والثقافاتِ والتماثيلِ واللوحاتِ وأنماطِ المعمار. لَم تكُن باريسُ للصديقَيْن منفىً، بل مِنبراً للكلامِ وخلوةً للتفكيرِ ومستقرّاً لإعادةِ الوصلِ مع مصرَ، لا أرضاً بل فكرةً تَستحقُّ التأمّلَ. وكانت باريسُ أيضاً لهما مكاناً للتحوّلِ والتطوّر.
تحوّلَت أفكارُ محمود حسين رويداً رويداً من دَورِ الطبقةِ الاجتماعيةِ إلى دَورِ الفردِ، فلَمْ يتنكّرْ للتحليلِ الماركسيِّ بل أضافَ إليهِ البُعدَ الفرديَّ. وفي نهايةِ الثمانينياتِ قرّرَ عادل وبهجت العودةَ إلى مصرَ بعد عشرين عاماً من المنفى. فقد برزَت هوامشُ حريةٍ بسيطةٍ في عهدِ محمد حسني مبارك، إذ لم تعُد الحركاتُ الشيوعيةُ تهدِّدُ النظامَ. لذلك عادا إلى البلادِ بلا عراقيلَ سياسيةٍ إلا بعضَ المضايَقاتِ الأَمنيّةِ في المطار. صَدَمَتهما العودةُ فقَرّرا مراجعةَ أفكارِهما عن المجتمعِ المصريِّ وعلاقتِه بالسلطة.
وجدَ عادل وبهجت مجتمَعاً مصريّاً مختلفاً عن الذي تركَاه منتصفَ الستينيات. فقد أصبحَ الدِينُ شاغِلاً المجتمعَ، وقد ظهرَت آثارُ الصحوةِ الإسلاميةِ جليّةً. آنذاك دخلَت جماعةُ الإخوانِ المسلمينَ إلى مجلسِ النُوّابِ بعد انتخاباتِ سنةِ 1984 وأصبحَت المُنافِسَ الأوَّلَ للأنظمةِ الحاكمةِ، بينما لَم يَعُد اليسارُ سوى تنظيماتٍ محدودةٍ أو خلايا صغيرةٍ في الجامعات. كان ذلك الواقعَ في كثيرٍ من الدولِ العربية.
يعتقدُ محمود حسين أن ذلك مِن نتائجِ هزيمةِ المشروعِ القوميِّ في حربِ 1967، الذي أَعقبَته الصحوةُ الإسلاميةُ في الشطرِ السُنِّيِ من العالَمِ الإسلاميِّ، والثورةُ الإيرانيةُ في شطرِه الشيعيِّ. كنتُ دائمَ الاهتمامِ بتأثيراتِ سنواتِ الصحوةِ على مجتمعاتِنا، فسألتُ الصديقيْن عن تفاصيلِ ذلك التحوّلِ فأجابَني عادل: "هذه العواملُ جعلَتْنا نعيدُ النظرَ في البعدِ الدينيِّ ودَورِه. وقد عزّزَت زيارتُنا إلى مصر في نهايةِ الثمانينياتِ ذلكَ الاعتقادَ، وبدَأْنا ندركُ أن الأمرَ أخطرُ بكثيرٍ ممّا كنّا نَظنُّ. لَم نكُن قد استوعَبْنا آنذاك البعدَ الدِينيَّ بعدُ، فقد تطلَّبَ ذلك مِنّا التحرّرَ مِن أفكارِ جيلِنا، الذي كان حتى الستينياتِ يظنُّ أنّ الدِينَ قد أصبحَ على هامشِ الحياةِ والنقاش. لذلك شَرَعْنا في دراسةِ الحضارةِ الإسلاميةِ، حتى نَصِلَ إلى تصوُّرٍ عن مفهومِ الإسلامِ في الذهنِ المصريِّ الحديث". أَثمرَتْ هذه العودةُ إلى دراسةِ الإسلامِ كتباً عدّةً، بدءاً بكتابِ "رحلة بونابرت إلى مصر" عن آكت سود سنة 1998، الذي رصدَ الصدمةَ الحضاريةَ بين الشرقِ والغربِ. ثمّ كتابِ "السيرة: نبيّ الإسلام على لسان أصحابه" المنشورِ سنة 2005 في جزئَيْن، والذي يعيدُ كتابةَ سيرةِ النبيِّ محمّدٍ عليه الصلاةُ والسلامُ بدمجِ المصادرِ القديمةِ في قالبٍ سرديٍّ حديثٍ، خالٍ من كلِّ مشكوكٍ في مصدرِه. ثمّ كتابِ "التفكّر في القرآن" المنشورِ سنةَ 2009، وكتابِ "ما لَم يقُلْهُ القرآن" سنة 2013، وكذلك كتاب "البُعد الزمني في القرآن'' سنة 2023.
ويطوّر محمود حسين في كتاب "البُعد الزمني في القرآن'' فكرةَ النسبية الزمنية لأحكام النصّ الدينيّ بطرحِه معضلةَ التعارض بين مقتضيات العصر والنصّ الدينيّ للمسلم المعاصر، ولا سيّما ذاك الذي يعتقد أن الإيمان مسألةٌ فردية. فيقول محمود حسين في كتابِه: "عند كلّ مسلمٍ، فإنّ الله لا ينطقُ بالقرآن مع أنّه كلامُه، بل ينطقُ به الرسول. ومع ذلك يمكن المؤمنَ المشبَعَ بالقِيَمِ الإنسانية أن يشعر بأنه محاصَرٌ بعقيدةٍ قويّةٍ تريد أن تجعل الأحكامَ التي يطرحها النصّ الدينيّ غيرَ ممكنةِ التقادم عموماً". وهذا يثير فيه ضائقةً وجوديةً عميقةً. فهذا المسلم الذي يَفترض مبدأَ المساواة في الحقوق بين الأفراد، أيّاً كان دينهم أو جنسهم أو عرقهم، يجد نفسَه على خلافٍ مع عددٍ من الآيات القرآنية التي تتعارض مع قيمه. ولا يمكنه إلّا أن يَرفض، على سبيل المثال، عدمَ المساواة في الوضع الاجتماعيّ بين الرجلِ والمرأةِ، أو العبوديةَ، أو العقوباتِ البدنيّةَ. ويدفع ذلك الصراع الداخلي للمسلم المعاصر إلى أوجه، لكنه مع ذلك سوف يميل إلى الانطواء على نفسه وتجنّب أي نقاشٍ في عقيدته. وسيبقى إسلامه مدفوناً في أعماق نفسه. لذلك يفرّق محمود حسين داخلَ القرآن بين تعاليم خالدةٍ وأحكامٍ ظرفيةٍ بشرحِها في ضوء البعد الزمني.
أدرك محمود حسين بدراسةِ الإسلامِ، نصّاً وفِكراً، بُعداً آخَرَ مِن أبعادِ قوّةِ السلطةِ في العالَمِ العربيِّ في سعيِها إلى السيطرةِ على المجتمعِ وهو البعدُ الدينيُّ، إذ طالما وظَّفَ الحاكمُ الشرعيّةَ الدينيّةَ أداةً لإضفاءِ شرعيةٍ على حُكمِه ووسيلةً للسيطرةِ على المحكومِين. ويَظهرُ البُعدُ جليّاً في محاولتِه الثالثةِ الأخيرةِ لتحليلِ المجتمعِ المصريِّ والسلطةِ في كتابِ "صحوة المحكومين في مصر الحديثة: من رعايا إلى مواطنين (1798 -2011)" الصادرِ أوَّلَ مَرّةٍ بالفرنسيةِ عام 2018 بعنوان "ثوّار النيل: تاريخ آخَر لمصر الحديثة".
يتجلّى البعدُ الدينيُّ في الكتابِ في "الشرعية الدينية" التي تُضفي على الحاكمِ ضرباً من "القداسة". إذ تصبحُ معارَضتُه أو الثورةُ عليه أشدَّ من حركةٍ سياسيةٍ بل خروجاً على النظامِ الإلهيِّ. لذلك فإن ثوراتِ المصريين على حكّامِهم قبل صدمةِ الغزوِ الأجنبيِّ في الحملةِ الفرنسيةِ لَم تَستهدِف تغييرَ النظامِ السائدِ، إنّما تعديلَه وإعادتَه إلى جادّةِ الصلاحِ. يقولُ محمود حسين في كتابِه "صحوة المحكومين" محلِّلاً المجتمعَ حينذاكَ: "[لَمْ] يتمتّع المحكومون المصريّون بأيِّ ذاتيةٍ أو فرديةٍ مستقلّةٍ. ففي الحيّزِ الروحانيِّ، يعتقدون بأنّهم مسيَّرون تماماً، فيَدينون بطاعةٍ مطلَقةٍ للإرادةِ الإلهيةِ، وتسليمِهم بسلطةِ السلطانِ الذي يَحكمُ بأمرِ اللهِ، والاسترشادِ بعلماءِ الأزهرِ الذين ينطقون بكلامِ اللهِ. أمّا في الحيّزِ الدنيويِّ، فلا يشعرون بوجودِهم إلّا بانتمائِهم العضويِّ لجماعتِهم التقليديةِ، فيَدينون بالولاءِ الكاملِ للشيخِ الذي يتكلّمُ بِاسمِها". وهُنا يَظهرُ البعدُ الثاني المهمُّ في الكتابِ وهو إدراكُ الأهميةِ الحاسمةِ لظهورِ الفردِ المصريِّ. فقد أدَّت التحوّلاتُ السياسيةُ والاجتماعيةُ في مصرَ من القرنِ التاسع عشر إلى ظهورِ الفرد مستقلّاً عن المجموعةِ، ثمّ انعتاقِ الفردِ من التبعيةِ المطلَقةِ للفكرِ اللاهوتيِّ السياسيِّ، بمعنى أن يحسَّ الفردُ في حياتِه بإرادتِه الحُرّةِ خارجَ سيطرةِ الجماعةِ التقليديةِ.
يُركّزُ الكِتابُ أيضاً على الشرعيةِ التي اكتسبَتها السلطةُ المصريةُ في مراحلَ زمنيةٍ مختلفةٍ. إذ استحالَتْ الثورةُ عليها أو معارضتُها. فبعد ظهورِ الفردِ وتبلورِ الوطنيةِ المصريةِ عقبَ صدمةِ الاستعمارِ، لَم تَعُد الشرعيةُ الدينيةُ عمادَ الحاكمِ المصريِّ. ويُفرِّقُ محمود حسين بين نوعَيْن من قداسةِ الحاكمِ: القداسةُ الدينيةُ التي بقيَت ذاتَ جدوىً حتى نهايةِ النظامِ الملكيِّ في 1952، إذْ لَم يكُن الملكُ حاكماً فحسبُ، بل مالكَ شرعيةٍ دينيةٍ، لكنّها ضعُفَت وتفكّكَت حتى انتهت بقُدومِ عبدِ الناصرِ إلى السلطةِ، ثمّ أصبحَ للحاكمِ قداسةٌ وطنيةٌ لأنه محارِبٌ للاستعمارِ وقائدٌ وطنيٌ، و"أَبٌ" للأُمّةِ.
يوشِكُ الصديقان عند حديثِهما عن الثورةِ أن يَبكِيا. كان ينايرُ فرصةً ليكتشفَ المصريّون قوَّتَهم عندما قرَّروا أوّلَ مَرّةٍ في تاريخِهم عزلَ حاكمِهم من الميدانِ. ومن الوعيِ بالرحلةِ الطويلةِ والشاقّةِ للمصريّين في مجابهةِ حكّامِهم ونزعِ القداسةِ عنهم فإن عادل وبهجت ما زالَا محكوميْن بالأملِ مع الانتكاسةِ التي عاشتها ثورةُ يناير وانبعاثِ السلطويةِ في مصرَ أَقوى وأَشدَّ قمعاً.
كنتُ أجلسُ صباحَ كلّ اثنين على مدى عامٍ كاملٍ صحبةَ عادل وبهجت وتميم، نتحدثُ بلا خطّةٍ مسبقةٍ، مع أننا عزمنا على كتابة سيرتهما دون أن نجعل لتلك الكتابة إطاراً زمنياً أو موضوعياً واضحاً. نتجاذب الحديثَ من أطرافه بلا نهجٍ ولا هُدىً. وحين تَفْتر الهممُ تحت النور المُغبش للمقهى الباريسي يقصد كلٌّ منّا مُستقرَّه. وهكذا حتى أدركنا العام لنجدَ بين أيدينا كمّاً هائلاً من الحكايات والقصص والطرائف المضحكات والمبكيات، وتجاربَ ودروسٍ من ثمانية عقودٍ لرَجُلَين اقتحماَ معاً غمارَ الحياة، وتجاوزا معاً السجونَ والمنافي ومَشَيَا معاً خطىً كُتِبَت عليهما. وكنّا، تميم وأنا، كلّما مَضَيْنا فصلاً في السيرة وَجَدْنا أنفسَنا أمام صداقةٍ نادرةٍ، عمودُ خيمتِها "الإيثار" وهي التي أنتجت هذه المَسيرةَ الفكريةَ الغنيّةَ والمديدة.