لم أخرج من الفندقِ كثيراً في تلك الأيام السبعة، لكنني مشيتُ في الحي المحيطِ مراراً وسجلتُ ملاحظاتي عن المدينة. لاحظتُ كثرةَ الجالية الهندية وسيطرتَها على الأراضي الغربية، وهي التي جاءت مع الاستعمار البريطاني للبلاد، ورأيتُ كيف يعيشُ الإفريقيُّ حياة ما بعد الاستعمار فيبدو، مثلي، حائراً ومتخبّطاً في هويّته، فنيروبي مدينة شابّة عمرها قرن، وكينيَا، بلدٌ، أصغر من عمر عاصمته بكثير.
مرّت أربع سنوات منذ لقائي ذاك بنيروبي، وفي بحثٍ تاريخيٍ عن الصحراءِ الكُبرَى أُجريه منذ أشهر، وقعت يدي على كتاب "رسائل من الصحراء" للكاتب الإيطالي آلبرتو مورافيا. خادعني عنوان الكتاب فظننتُه من عنوانِه كتابَ رحلاتٍ عن الصحراء الكُبرى، لكنني وجدتُ كتاباً عن إفريقيا الوُسطى ليس للصحراءِ فيه مكان إلا بضع مقالاتٍ مكررة لا جديد فيها. يحكي مورافيا في ذاك الكتاب عن رحلاته إلى ساحل العاج وكينيا، ومع أنّه لم يذكر نيروبي إلا قليلاً، لكنّ المقاطع التي ذكَر فيها نيروبي أعادتني إلى رحلتي تلك. فيقول مورافيا إنّه رأى في نيروبي مدينةً أوروبيةً مغروسة في قلب الغابات الإفريقية، يرتادُ نواديها الليلية فتيات وشبان يرتدون ملابس تشبه ما يرتديه أقرانهم الأوروبيون والأمريكيون آنذاك في بدايات السبعينيات. لم أرَ نيروبي التي يحكي عنها مورافيا، لكن ما رأيتُه فيها أثَّرَ بي، فقد زرتُ أحد أسواقها ورأيتُ كيف تسحق الرأسمالية الإفريقي وتجعله وحشاً، ومع أنّ مورافيا لا يذكرُ رأيه صراحةً، إلا أنّه، وفي كلِّ الكتاب، يناقش التحوّلاتِ التي أحدثتها الرأسمالية التي سمّاها "الاستعمار الجديد" في هذه المجتمعات.
صدَرَت مجلّة الفِراتْس في الثاني عشر من مايو 2024، وكان مِن أهدافِها تسهيل اطّلاع القراء على أرشيف مجلّات عصرِ النّهضة العربية نهايةَ القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ويتميّز أرشيفُ المجلّة بسهولة البحث وقراءة مقالات مجلّاتٍ عربيةٍ كثيرةٍ منها الرِسالة التي بدأتُ بقراءة مقالاتها منذ العدد الأوّل حتّى وصلتُ إلى مقالةٍ نُشِرت في العدد العشرين أوّل نوفمبر 1933 عنوانها "من صورِ بغداد"، للأستاذ أحمد حسن الزيّات، وقد لفتت مقالته انتباهي وجعَلتني أرى بغداد أخرى غير تلك التي شاهدتها عند زيارتي لها سنة 2022، أي بعد حوالي تسعين سنة من نشرِ تلك المقالة.
زرتُ مدناً عدّةَ، عشتُ أياماً في القاهرة وأشهراً في تونس وإسطنبول وعايشتُ صباحات الإسكندرية وطفتُ مدنَ غربِ أوروبا ونزلتُ بنيروبي ورأيتُ أبراجَ دُبَيْ وعجمان وتتبعتُ في كلِّ تلكِ المدنِ حركةَ التاريخِ، وكنتُ في كلِّ مدينةٍ أتوقف عندَ تاريخها وأفتّشُ عن التحولاتِ التي طرأتْ عليها. جئتُ إلى قاهرةِ نجيب محفوظ ووجدتُ قاهرةً أخرى أكثرَ قساوةً منها، وهكذا كانَ هناك صراعٌ دائمٌ بينَ ما تصوّرته عن تلك المدن التي زرتها وعن واقعها. لكنّ زيارة بغداد تلك حَفَرت في نفسي سؤالاً عظيماً جعلني أبحث، لأفهم التحولات الكبرى التي تمرّ بها مدننا، وكيف تساهمُ الأحداث الكُبرى في تشوّه بعضها وتطور مدنٍ أخرى أو حتى ميلادها. سؤالٌ ساعدني أرشيف الفِراتْس وقراءاتي في كتبِ الرحلاتِ وكتبِ التاريخ الاجتماعي والأدب أن أجد إجابته.
لم أجد هذه الصورة في رحلتي تلك، فدجلة الذي رأيته وأنا واقفٌ قربَ تمثال أبي الطيّب المتنبّي الرابضِ نهاية شارع الكتب المسمّى باسمه، لم يكن دجلة الذي قرأتُ عنه الملاحِمَ والأساطير. فلا زوارق ملّاحين ولا قوارب صيّادين ولا بجعة ملكية تسبحُ آمنة. أمّا أنفاسُ دجَلة فقد كانت مثل أنفاسِ رجلٍ طاعنٍ في السنِّ يُحتضرُ، إذ كان النهر قد قاربَ على الجفاف، بسببِ التغيّر المناخي أولاً وبسبب السدود التركية التي تَحبسُ عنه وعن أخيه الفراتَ الماء منذُ سنةِ 1975، ولا يزال النهران في تناقصٍ مستمرٍ مع استمرارِ سعي تركيا إلى مشاريع السدود المائية. كان دجلة ذاك الذي رأيتُه صورة مخيفةً لما صارت عليه بغداد.
رأيتُ في تلك الزيارة أطلالَ بغداد التي قرأتُ عنها وتغنّى بها الشعراء. كانت المدينة القديمة تقاومُ الزّمَنَ وما فعلته بها سنوات الحصار في التسعينيات في حكم صدّام حسين والاحتلال الأمريكي ثمّ الحرب الأهلية التي اشتعلتْ فيها بعد ذلك بين السنّة والشيعة. لم تكن بغداد التي تخيّلتُها، بل كانت بغدادَ قاتِمَة وعجوزاً أنهكتها المعارك التي خاضتها. رأيتُ مدينةً تتهاوى على ما فيها من كنوزٍ ثقافيةٍ، فالبنية التحتية في المدينة قديمة منذ عقود والتلوّث فيها واضح للعيان والفوضى التي تعيشها لم تخطر على بالِ مؤسّسيها. وبدوت كأنني أمشي في مدينة هامشية لا في العاصمة العراقية التي حاولت أممٌ كُثيرةٌ منذ نشأتها أن تحكم قبضتها عليها. وزاد من وضوح الصورة التي رأيت أحاديثي مع أصحابِ سيارات الأجرة وأهل البلد، والتحذيرات التي كانت تقابلني عندما يعرف عراقيٌ ما أنني غريبٌ عن بلده، فيقول لي: "حاول قدر الإمكان ألّا تتجوّل لوحدك"، و"لا تخرج وحيداً في الليل". ومع ذلك لم ألتفتْ إلى التحذيرات والتنبيهات، فقد كنتُ عاشقاً لمدينةٍ أريد تكحيل عيني بمرآها حتى وهي منهارة، فزرتُ ضريح الشيخ عبد القادر الجيلاني وترددتُ أكثر من مرة على شارع المتنبّي والشوارع المحيطة به ومشيتُ صحبة دليلٍ سياحيٍ عراقيٍ شابٍ في المدينة نذرع أسواقها الشهيرة، ودخلتُ مناطقَ توصف بأنها خطِرة مع أصدقائي ووقفتُ ليلاً في ساحةِ الحريّة التي شهدت انتفاضة شباب العِراق في 2019 على فسادِ المسؤولين في البلد. ربما كنتُ أحاولُ حينها البحث عن بغداد المتخيّلة.
تبدو المدن التي قرأتُ عنها وزرتُها في أرشيف مجلّة الرسالة، مدناً مختلفةً، لا ترتبط بحاضرها إلا بالاسم. تظهر مدينة القاهرة في مقالة الآنسة فلك طرزي، من دمشق، بعنوان "في القاهرة" المنشورة سنة 1934 مدينةً مثالية، يحبها القلب بسرعة، وهذا ما وجدته في القاهرة عندما زرتها بعد عقود من نشر المقال ، مع اختلافِ السبب، فالقاهرة التي رأيتُها باتت مدناً عالمية تتداخل في مدينة صاخبة لا تهدأ ولا تملّ، وتجذبك إلى حواريها وأزقتها ومناطقها بقوّة عنيفة، وقد أحببتُ تلك القاهرة وعشقتُها وذبتُ مع حشودها وفي زحامها.
لكنّي رأيتُها أيضاً مدينةً مُلوَّثةً، فقد زرتها ثلاث مرات وفي كل مرةٍ مرضتُ ولم أستطع التخلّص من التلوّث في صدري إلا بعد أسابيع من خروجي منها. أمّا قاهرة الآنسة فلك فهي مثلما تقول "أي قلب لا تسحره هذه النسمات يرسلها الربيع في أنحائها فتنتعش الأزهار والرياحين، وتكتسي الأشجار حلتها السندسية البديعة، يداعبها النسيم فترقص أغصانها . . . وأي إنسان لم تملك عليه القاهرة حسه بسحرها، وتفتنه بطيب هوائها وعذوبة نيلها، وأي قلب لم تستلبه هذه الغادة الحسناء بفتنتها عند إشراق شمسها في الصباح الضاحي الجميل، وعند غروبها غارقة في لجة من دماء الشفق، تقتتل في حمأتها الملائكة والشياطين".
نعم فتنتني القاهرة مثلما فتنت الآنسة فلك، لكنّ هواءها لم يكن طيِّباً لا في الشتاء في أوّل زيارة لي لها في نوفمبر 2018، ولا في الربيع في ثاني زيارةٍ في مارس 2022، ولا في الصيف في يوليو من العام نفسه، ولم أرَ جمال شروقها ولا غروبها، إذ كان الدُّخان وعوادم السيارات تغطّي قرصَ الشَّمسِ كل مرة تطّلعتُ فيها إلى السماء، ولم أشّم رائحة الربيع في المدينة، بل شممتُ رائحةً كبريتيّة في الزمالك والمعادي والمهندسين والدُقّي وفي جُلِّ أحيائها ومناطقها التي رأيتُ. على ذلك كان منظر أشجار المانجو والأشجار العظيمة في المدينة أكثر ما سحرني من طبيعتها، وقد هوّن علي ذلك الخضار ما رأيتُ من تلوّثٍ فيها، وحتى ذلك اللون الأخضر تسعى أيدي الحكومة المصرية إلى اجتثاثه لتوسعة الطريق، وقد كنتُ شاهداً على بدايات سعي الحكومة إلى تقليل المساحةِ الخضراء في منطقة المعادي.
لا أذكر وجودَ مقاهي في البلدة في طفولتي إلا مقهىً واحداً أو اثنيْن، أحدهما كان على الشاطئ ويبدو من بنائه أنّه إيطالي الطّابع. وبعد الثورة الليبية سنة 2011 تغيّر كل شيء في البلدة، فعُبِّدَت طرق جديدة وصارت البساتين، مرابع الطفولة ومنتهى أحلامها، تختفي الواحدة تلو الأخرى لتُبنى بدلاً منها القصور والمنازل الواسعة الكبيرة، وندَرَ رؤية "سانية" أو بستان برتقال وسطَ البلدة، وتغلغلَ العُمران فيها وانتشرت الغابات الإسمنتية وأمكنَ للمرء أن يرى في شارعٍ رئيسٍ واحدٍ أكثر من خمسة مقاهي، فما بالك بالبلدة كُلِّها. تحوّلت البلدة أمام عيني، وكأي ابن بلد يتوق إلى زمن بلدته الجميل، وصرتُ أتحسّر على طفولةِ تاجوراء، وأتحسّر أكثر على فقدانها بساتينها البهيّة وأشجارها العظيمة التي كانت تظللنا وتحمينا من حرارة الشمس. ازدحمت تاجوراء واكتظّت بالسكّان. ومع ذلك الاكتظاظ تغيّرت، في عشر سنوات عادات السكّان وطباعهم وربما تفككت روابط اجتماعية قديمة بعد أن انتهت التجربة الاشتراكية في البَلد وتسارعت حمّى الثروة بعد ثورة فبراير، وما زالت البلدة الآن تواجه مخاضاً عسيراً لتشكّل روابط اجتماعية جديدة لم يعتَد عليها سكّانها الأصليون.
لم يؤرّخ كثرٌ لتاجوراء، وما جاء في الكتبِ عنها لا يعدو إشارات إلى أعلامها من الفقهاء وعلماء الدين أو تراجمهم. وما يظهرُ منها لم يكن بعيداً كُليًّاً عما عشته، فهي تاجوراء ذاتها التي قرأتها في كتب الإيطاليين والعرب على السواء، واحة وأرياف مليئة بالنخيلِ وأشجار الزيتون والفواكه، ويظهرُ النّاس في صور الأرشيف القليلة عن البلدة مثلما ظهَر لي جدّي في التسعينيات: رجالٌ يعملون في البساتين ويزرعون الأرض ويرعون المواشي أو يجلسون في السوق للبيع. هذا كلّ ما في الأمر، فلم تكن يوماً من المدن العظام.
أمّا بغداد فتظهرُ في جُلِّ ما كتب عنها مِن أعظم مدن التاريخ الإنساني. مدينة في قلب الحضارة الإنسانية، وهي مدينة كُتِبَ عنها كثيراً واشتغل المؤرّخون بسؤال صعودها وانحدارها، وحضَرتْ في السينما والمسرح والموسيقى والشعر وألهمت الفنانّينَ الرسّامين مثلما ألهمَت الجيوش من كل زمانٍ ومكانٍ بتخليدِ أسمائهم عليها. وتظهر بغداد أكثر من غيرها من المدنِ عندما يبحثُ المرءُ في أرشيف مجلّة الفِراتس، ومن تلك المقالات مقالة عنوانها "من دمشق إلى بغداد" (كاتبها غير مذكور) نُشِرت في 12 أكتوبر 1936 على مجلة الرسالة، وهي مقالة يتغزّل الكاتب فيها ببغداد العبّاسية، وهو أمر يتكرر طبعاً في جُلِّ كتابات العرب حتى أهملوا أو همّشَوا صور بغداد الأخرى.
يصفُ الكاتب رحلته من دمشق إلى بغداد ويحكي قليلاً عن الطريق وكيف وصل إلى المدينة وعندما يصلُ ينطلقُ في وصفِ مشاهدَ بغداد لا يراها، لأنّها قد أفَلَت وطال عليها سالف الأمد. فيخيّل إليه أنّه يرى قبّة بغداد الخضراء وهي قبّة بُنِيَت أوائل عهد العبّاسيين بالمدينة وسقطت بعد قرنٍ وثمانين سنة، ويتغزّل الكاتب بالقبّة وبدار الخلافة ويعدّ الخدم والعبيد والحجّاب والأثاثَ والعمارة الداخلية فيها وكأنّه يرى جنّات عدنٍ مرأى العين، ثم ينقل عن الخطيب البغدادي اقتباساً يقول: "لم يكن لبغداد في الدنيا نظير، في جلال قدرها، وفخامة أمرها، وكثرة علمائها وأعلامها، وتميّز خواصها وعوامها، وعظم أقطارها، وسعة أطرارها، وكثرة دورها ومنازلها، ودروبها وشعوبها، ومحالها وأسواقها، وسككها وأزقتها، ومساجدها وحماماتها، وطرزها وخاناتها، وطيب هوائها، وعذوبة مائها، وبرد ظلالها وأفيائها، واعتدال صيفها وشتائها، وصحة ربيعها وخريفها، وزيادة ما حصر من عدّة سكانها".
ولكن هل وصفَ الكاتبُ بغدادَ التي رآها وعايشها في مقالته؟ لا، وذلك لأننا، في ظنّي، نتجاهل قبحَ مدننا ونبحثُ داخل قصصها عن مجدٍ لها، وأنا مثله أفعلُ ذلكَ مع العاصمة الليبية طرابلس، إذ أحاول قدر الإمكان أن أتجاهل التفاصيل القبيحة، على كثرتها، في المدينة وأفتّش فيها عن ماضٍ بعيدٍ، ماضٍ جميلٍ، مندفعاً بالحنين إلى زمانٍ لم أعشه، وإن عايشته لرأيتُ فيه القبح. وهذا ما تدل عليه مقالة الكاتب هنا، فلا نعرف منه بغداد سنة 1936 وحتى عندما أطلّ على نهرِ دجلة، لا يذكر دجلة الذي يراه أمامه، بل يذكر دجلة آخر، دجلة تبخّرت مياهه منذ ألف سنة وتجري فيه مياهٌ جديدةٌ.
تتكرر مشاهدُ التغزّل بالمدنِ وتاريخها التَليد في مقالاتٍ كتّاب كثرٍ في مجلّة الرسالة، ربما بسبب واقعها الذي صادفوه في أزمنتهم، فجعلهم يبحثون عن "زمن أجمل" عاشته تلك المدن. ومن المدنِ التي تتغزّل بها تلك المقالات مدينة الإسكندرية حتى يبدو لك وأنت تقرأ المقالات والقصائد أنّك تسمع إلى أغنية فيروز "شطّ اسكندرية يا شطّ الهوى".
زرتُ الإسكندرية مرتيّن، ومع قصرِ زمنِ مكوثي في المدينة وإعجابي بها وبتاريخها وبرقودها على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، إلا أنني لم أرَ فيها ما رآه غيري. مما قرأت عن المدينة كتاب "الخروج من مصر" للكاتب الأمريكي اليهودي آندري أكيمان، وهو كتابٌ يبث فيه الكاتب عواطفه الجياشة في حب مدينةٍ عاشَ فيها طفولته، فهو من يهودِ مصرَ الذين هجروها بعد العدوان الثلاثي عليْها سنة 1956، يرسمُ آندري مدينة عالمية من الإسكندرية يعيشُ العَرب واليهود واليونانيون والإيطاليون فيها بسلام ووئام حتّى تأتي تلك اللحظة التي تبدأ فيها الغارات الإسرائيلية والبريطانية والفِرنسية على المدينة فتصير الحياة فيها جحيماً عليه وعلى عائلته وعلى كل المصريين عرباً كانوا أم يهوداً.
جئتُ المدينة بعد أحداث كتاب آندري بستينَ عاماً في 2018 و 2022، ولم أجِد في الشطّ، الذي غنّت عنه فيروز إلا أنقاضاً وآثاراً لشاطئ آخر، إذ رأيتُ الشطّ مفصولاً، كما في طرابلس الليبية، عن المدينة وأهلها الذين عاشوا عليه بطريقٍ واسعة وخطيرة ومزدحمة، ورأيتُ فيها أطلالَ حياةٍ أخرى يمكن للمرءِ تفقدّها من العمارات والفنادق والمطاعم والمقاهي المطلّة على البحر، فهي جميعها بُنِيَت على نمطِ العمارة الإنجليزي الذي انتشر خلال حكم الملكة فيكتوريا ويوصف بأنّه "نمط فيكتوري، وجميعها تُزهقُ روح المرء إذا دخَلها، وقد سكنتُ في فندق "ويندسور" الذي كان يوماً من الأيام ملكاً للعائلة الملكية البريطانية. ربما الوجه الذي أحببته في الإسكندرية هو الوجه الشعبي الذي يبتعد عن البحر في أسواقها الشعبية، وهذا لحبّي الشعبَ المصري، فلم أكن لأطيق الإسكندرية ولا القاهرة بلا ناس.
تختلفُ الهياكلِ العظمية البشرية المعروضةِ في متحفِ كينيا عن هياكلنا نحن. فبعضها تجده صغيراً وقزماً، والآخر تراه بجمجمة ضخمة. وقد رأيتُ جمجمة عمرها سبعة عشرة ملايين سنة ، وأذكرُ أنني عندما وصلتُ إلى جمجمةٍ عُمرها أكثر من عشرةِ ألافِ سنةٍ، وفوجئتُ من الشبه بينها وبين جماجمنا نحنُ، كانت الجمجمة متطابقة لما نعرفه عن جماجمنا بني الإنسان لا تختلفُ عنها في شيء. أثرٌ عمره مئات القرون يظهرُ لكَ تفاهتك وضآلتك أمام هذه الأرض التي نعيشُ، فنحنُ ما زلنا مقارنةً بعمر الأرض مثل طفلٍ يصرخُ صرخته الأولى الآن.
قالت لي مديرتي أنّها لا تصدّق علم المستحاثّات، وهو علم دراسةِ الأحافير وصخور الأرضِ ومعادنها، ولاسيما الجانب الذي يتعلّق بالمستحاثّات البشرية. فوجئت من تعليقها هذا إذ إنني أراها امرأة متعلّمة ومثقفة، ولكن لا بأس من التشكيك فشرحت لها الطريقة. درستُ مادةَ علم الأرض (الجيولوجيا) عندما كنتُ أدرس في قسم الهندسة النفطية بجامعة طرابلس قبل أن أغيّر مساري إلى الهندسة الكهربائية؛ ولذا فأنا أعرفُ القليل عن حسابِ عمر الآثار والأحافير والصخور. يعدّ علماء الأرض صخرَ الكربون الصخر المرجعي لدراسة عمر بقية صخور المعادن وعمر كل شيءٍ عن الأرض، وذلك لأسباب عدّة أهمها أنّ الكربون هو العنصر الوحيد الموجود في كل شيء على الأرض.
لا يمكن للمرءِ أن يدرسَ الشعوبَ وطبائعها وتغيّر أحوالها بالرجوع إلى الكربون. ولهذا نستخدمُ تقنيةً مشابهة وهي قراءة التَّاريخ المكتوب، وعلى ما في ذلك من خطورةِ الوقوع في غلطِ التزييف أو المبالغة، فالمرء هنا لا يتكئ على صخرٍ مثل الكربون ليس له دوافع إلا البقاء، إنّه يتكئ على أمزجةِ أناسٍ سبقوه وتحزّباتهم السياسية وتشيّعهم الديني وربما حتى المزاج الذي استيقظوا به ومعاملة صاحب القهوة لهم، كل هذه العوامل المعقدّة والمترابطة تؤثّر في كاتب التاريخ وتجعله ينحو نحو التزييف أو تحرّي الدّقة، وبهذا لا يمكن القول بأنّ هناك كتاب تاريخ واحدٍ لا يخلو من العيب والزَيف أو حتى مقالةٍ كُتِبَت عن اللحظة الراهنة التي يعايشها كاتبها لا تتأثّر دقّتها بما يعايشه.
تكتبُ الآنسة فلك طرزي في مقالتها "في القاهرة" عن المصريين قبل تسعينَ عاماً، فتصف النّيل ثم تقول "هو يسير كما كان منذ آلاف السنين لا تعوق مجراه تقلبات الأجيال ولا نزعات النفوس. لكنه الآن ينظر بعينيه الحزينتين المغرورقتين بالدموع إلى الانقلاب العظيم الذي وقع لبنيه، ويشعر بهذا الألم القتّال يحز قلوبهم ويدمى أفئدتهم". كيف يمكن للمرء مهما قرأ من كتبِ تاريخٍ حاوَلت التشبّث بالدّقة ولم تَحِد عنها، أن يستشفَ حال المصريين ذاك الزمان ويقارنه بحالهم الآن؟ من له الحقّ في الحكم؟ أليس بيننا اليوم من يمجّد عصرَ هذا الحاكم أو ذاك، وهم حكّام عايشناهم فوجدنا منهم الوَيْلَ ونرى تاريخهم يُزيَّفُ أمام أعيننا، بل هناكَ من يكتبُ عن إنجازاتٍ في عهدِ أحد الحكّام العرب الذين نعايشهم، ولا يرى المرء منها سوى الوهم عندما ينزلُ بالبلد الذي يحكمه.
تتغيّر الشعوب مع الزمن، لاسيما مع الأحداث الكُبرى، من سقوطِ الدولة العبّاسية واحتلال المغول بغداد إلى سقوط صدّام حسين واحتلال الولايات المتحدة العراق، كل هذا يغيّر في طباع الشعوب وتعاطيها مع هُويتها وثقافتها ومدنها. والمدن نفسها تتغيّر، فالحجَر يأكله الكربون ويغطّيه وتسقطه القنابل والزلازل وتكرار هبوب الرياح عليه مئات السنوات. المدن كائناتٌ حيّة، تأخذ منّا طباعنا ونأخذ منها طباعها ونعيشُ هزيمتها وتعيش هزيمتنا. تبدو المدنُ فتيّةً وفاتنةً ومأوى الشعراء والعلماء والمهندسين لتبني بهم حضارتها، ويتقدّم بها العمر فتغتّر بجمالها الفتّان، لكنّها لا تعرف أنّ الزمن خدّاع، وأنّ المستقبل سلاحه المُعدّ لها. يتغنّى الرومان إلى اليوم بمجدِ روما، ومن يزور روما اليومٍ يرى تراجعها على ما فيها من تاريخٍ وعظمةٍ، فالزمن أنهكها وصارت عجوزاً تشتاقُ إلى يومٍ من أيامِ شبابها الذي لن يعود، لأنّها تتشبّثُ بالماضي ولا تريد تركه من أجل النمو والتطوّر. لا يدرك حكّام بغداد وطرابلس والإسكندرية والقاهرة وتونس ونيروبي وروما أنّ مدنهم عكسنا تملك أمام الزمن وسيلةً دفاع هي أنّه يمكنُ بناؤها من جديد، يمكنها أن تعود إلى الحياة، ولكن باستعمال الماضي للتعلّم من الأخطاء وبناء مستقبل جديدٍ، وهذا ما فهمته من قراءتي للتاريخ وتأمّلي في المدن التي زرتها.