دومينغو باديا وليون الإفريقي: سيرة المسيحي المختون والمسلم خادم البابا

تصوّر روايتا مسيحي في مكة وليون الإفريقي شخصيتَيْن من التاريخ الإسلامي والمسيحي عاشتا حياتَيْن متشابهتَيْن في خدمة أعداءِ ملكيْهما.

Share
دومينغو باديا وليون الإفريقي: سيرة المسيحي المختون والمسلم خادم البابا
تصميم خاص لمجلة الفراتس

منحني عملي سنواتٍ طويلةً في حقول النفط ميزة أن أحظى بوقت فراغ كبير عملت جاهداً على ملئِه بوسائلَ شتَّى، من بينها قراءة الروايات بتأنٍّ. في صيف 2021 كانت غنيمتي رواية "علي باي العباسي" الصادرة سنة 1999 للكاتب الإسباني رامون مايراتا. سرعان ما شدتني حبكة الرواية، وكنت كلما قرأت سطوراً لافتة منها أرفع رأسي صوب جبال أكاكوس الشامخة بين كثبان الصحراء الليبية المهيبة، في حقل أكاكوس الذي يبعد عن الحدود الجزائرية أربعمئة كيلومتر، ويبعد عن مدينتي شحات شرق ليبيا أكثر من ألفين ومئتين كيلومتر، متسائلاً عن عدد الصراعات الكبيرة التي وجد بطلها الرحالة دومينغو باديا نفسه في خضمها، مختاراً حيناً ومجبراً أخرى. تلك كانت آخر أيَّام عملي في الحقولِ النفطيةِ قبلَ أن أُنهي باستقالتي خدمةً امتدَّت ثلاثاً وعشرينَ سنة. هل كان لبطلي الإسباني يدٌ في ذلك؟ لعله حرّك فيَّ صراعاً كنت أكابد جاهداً أن أكتم ثورته. 

قد يبدو مشهد خضوع "علي باي العباسي"، وهو رجل ذو ملامحَ أوروبية، لعملية ختان دليلاً على اعتناقه الدين الإسلامي. وقد يكون أيضاً إيذاناً بميلاد جاسوس يُجري تعديلاته الأخيرة قبل العبور إلى الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط. وإذا كان الختان طريقة سكان جنوب الضفة المتوسطية لفحص مَن يشكّون في أمرهم، فإن نظراءهم في الشمال كانوا يقدمون أباريق النبيذ وقطع لحم الخنزير المقدد للبحارة الذين تُلقيهم الأمواج على شاطئ غاروتشا الإسباني.

أقنعني الممثِّلُ المصري محمود عبد العزيز في مسلسل "رأفت الهجان"، الذي عُرض سنة 1988، حين تقمص دورَ جاسوس مصري في إسرائيل، بمدى سهولة أن تكون جاسوساً في بلد غير بلدك. فكلُّ ما يحتاجه اسم جديد ودينٌ جديدٌ وجلسات سمر مع إيستر بولونسكي، التي أدّت دورَها الممثِّلةُ المصريةُ إيمان الطوخي، لينسى معاناةَ الاغتراب وبُعدَه عن مصر المحروسة. لم يكن الواقع كذلك على الأقل للرحالة الإسباني دومينغو باديّا الذي نقل لنا الكاتب الإسباني رامون مايراتا مغامرتَه في رواية "علي باي العباسي" والمعروفة عند القُرَّاء العرب باسم "مسيحي في مكة". يروي مايراتا قصة دومينغو الذي أرسلته دولته مطلعَ القرن التاسع عشر إلى المغرب بغيةَ توسيعِ نفوذِها هناك. فانتحلَ الرجل صفةَ تاجرٍ حلبي من نسل بني العباس، وأدخلني في خضم صراعات عدَّة، بعضُها شكَّلَ الجوَّ العام في تلك الفترة، كالصراعِ بين الشرق والغرب، والإسلام والمسيحية، ومعاناة الإسبان من كوابيس عودة الموريسكيين من المتوسط الذي رحلوا منه إلى ضفته الجنوبية قبل ثلاثة قرون. يعيش بطل الرواية صراعاتٍ نفسيةً بين كونه دومينغو المسيحي وعلي باي العبّاسي المسلم في الوقت نفسه.

وإذا كان مايراتا قد أحيا سيرةَ دومينغو المضطربة بعد قرابة قرنين من وفاته، فإن الروائي أمين معلوف، الفرنسي من أصل لبناني، أحيا في روايته "ليون الإفريقي" المنشورة سنة 1986 سيرةَ سبقتها بثلاثة قرون. وباضطرابٍ أكثر وصعوبة أشد في تحديد ملامح معلوماتها الجغرافية، إذ أسر القراصنةُ بطلَها المنحدر من عائلة أندلسية هاجرت إلى المغرب بعدَ سقوط غرناطة، ثمّ قدَّموه هديةً لبابا الفاتيكان ليون العاشر الذي عمَّده ومنحه اسم عائلته، وعامله كما يعامل الأب ابنه. ولم يكتفِ ليون الإفريقي بذلك، فقاد حملةً معارضةً لخليفة البابا وسُجن.

تتشابه الاختباراتُ التي يجد البشر فيها أنفسهم على اختلاف مسارات حياتهم وتضاد قناعاتهم. وهذا ما يجمع البطلين ويفرقهما في آن، فدينُ كلٍّ منهما مختلفٌ لكنهما يستبدلانه فترةً بدين آخر. المسيحي يصير مسلماً متلحفاً بعباءة الولي الصالح والمسلم يفعل العكس مرتدياً رداء الرهبان الأسود. يعيشان على ضفتين مختلفتين من البحر المتوسط فتنقلُ المقاديرُ كلّاً منهما إلى ضفة الآخر وكأنها تستبدلهما ببعض. حتى الزواج ذلك الرباط المقدس لا يفلت من تلك الثنائية الجامعة والمفرقة في آن. دومينغو يترك خلفه زوجته ماريا لويسا ليصبح زوجاً لمهنا المسلمة، والحسن يفارق نور ليصبح زوجاً للراهبة مادالينا. وفي هذه الرحلة الصعبة يواجه الرجلان سلاطين وبابوات يحاولون إخضاعهما واستخدامهما فيُظهران، كلٌّ على طريقته، قدرة كبيرة على إدارة الخطر بمواجهته حيناً ومسايرته حيناً آخر، من غير أن ينتقص ذلك من مكانتهما.

يشارك ليون الإفريقي دومينغو باديا شغَفَه بالتّرحالِ وحبِّ التعلم وتذوُّقِ طعم البدايات البِكر. ويختلف معه في العيش بعوالم مختلفة لا تمثَّل له صراعاً داخلياً. إنه يعيش سلاماً داخلياً مع أنه مسلم مختون عمّده البابا، ووصل به السلام إلى أنه لا يُلقِي بالاً لأيِّ أرضٍ يُنسب أو أي لقبٍ يحمل، فهو الغرناطي والفاسي والزيّاتي، ويعدُّ الهويّات المتناقضة التي يعيشها جزءاً منه. فهو أشبه بعملة سُكَّت بلا تاريخٍ، ولا تحمل صورة أيِّ سلطان، أو مثل طابع بريد يحمل معالم كلِّ البلدان التي زارها. ومع كل ذلك يدرك ليون الإفريقي عمق الاختلاف بين العالمين المسلم والمسيحي، لذلك يبدأ قصَّتَهُ بتذكيرنا أنه مختونٌ وأن البابا قد عمّده.

إن دومينغو رجلُ الصراعات بينما ليون هو سلطان الواقعية وسرعة التأقلم مع الواقع وامتصاص الأهوال. وهو ما يؤكده في كتابه "وصف إفريقيا" بالقول "إن الإنسان يسعى إلى حيث يرى منفعته ما استطاع إلى ذلك سبيلا". إلا أنّ ما يجمعهما هو بطلٌ ثالثٌ يحملُ مثلهما هذه الصراعات، إنه البحر الأبيض المتوسط، ذلك الحوض المائي المحشور بين قارتين متنافرتين. في مياهه يصير الأغنياء فقراء، والأمراء عبيداً، وبنات الحسب والنسب سبايا. تعبره عندما يضطهدونك دينياً، وتعبره أيضاً عندما يختارونك جاسوساً، فتعُبُ من هوائه ما يُذهِبُ خوفَك.


لا يشهد كثيرون منَّا تقلباتٍ كتلك التي عاشها البَطلان، إذ إنّ لكلِّ إنسانٍ قصته وتقلباته. عشتُ طفولتي منتصفَ الثمانينيات وما صاحبها من تغيرات سياسية في ليبيا كان أبرزها بداية إحكام الدولة قبضتها على قطاع الخدمات العامة بما فيها دور الثقافة والمكتبات العامة التي نُهبت وسُرقت. وربما كنت محظوظاً بما يكفي لأنال نصيبي مِن كُتُبها التي تلقفتُها مع الناس وعادوا بها أكداساً إلى بيوتهم. 

يمكن القول إن بداية علاقتي مع الكتاب كانت بسبب مجموعةٍ من تلك الكتب التي فتحت لي أفاقاً أوسع من تلك التي تمنحها عادة كتب المناهج الدراسية. أنهيت مرحلة الإعدادي بتفوق وكان الجميع من معلمين وأقارب يرفعون سقف طموحاتي بأن أواصل مشواري بدراسة الثانوية فالجامعة ثم ما يتبعها من الدراسة الأكاديمية. بيد أن أموراً عدة حالت دون تحقيق ذلك، ووجدتُ نفسي بعد ثلاث سنوات أحمل شهادة متوسطة في مجال مختبرات المياه والنفط من المركز النوعي للتدريب على الصناعات النفطية بمدينة الزاوية وموظفاً في شركة نفطية. وظيفة هي حلم كثير من الشباب لدخلها المرتفع وبيئة عملها التنافسية. كنت الوحيد الذي لم يرضَ بالوظيفة، فالفتى الذي تعرف على العالم من روايات الكاتب المصري يوسف إدريس ما يزال يطمح بمسار آخر. بدأت أستغلُّ أوقات الفراغ للحصول على شهادة في إدارة الأعمال، ممَّا سمح لاحقاً بتحقيق حلمي والتفرغ لدراسة الماجستير في التخصص نفسِه، بذلك حققتُ حلمي مقتدياً من غير وعي بمقولة ليون الإفريقي البرغماتية "إن الإنسان يسعى إلى حيث يرى منفعته ما استطاع إلى ذلك سبيلا".

عكسي وُلِدَ دومينغو باديّا على حافة شاطئ برشلونة المتوسطي وفي حصنٍ شيده الإنجليز سنة 1767 لأبٍ عسكري صارم. اشتغل أبوه أمين سر لحاكم الحصن وقت خضوع المدينة لحكم الإنجليز. أمّا أمّه فتنحدرُ من أصول بلجيكية حرصت على تعليمه الكاثوليكية. اعتادت عيونُ الطفلِ البرشلوني رؤيةَ السفنِ تغادرُ ميناءَ مدينته محملة بالخمور والمحاصيل والأقمشة والأحذية والصابون. وهكذا نشأ دومينغو وهو يرى المتوسط روحاً يُبحَر فيها. بيد أنه سرعان ما تعرف على الضفة الأخرى من المتوسط من مراكب التجار المغاربة ومن غزوات سلطانهم وهجمات قراصنتهم. 

لم تقتصر القرصنةُ على المسلمين المغاربة. فكلُّ سفينة مجهَّزةٌ بمدفع يمكن لقبطانها نيلَ رخصة من إدارة التمويل والإمداد البحري الإسبانيّة وخوض غمار البحار بحثاً عن الكنوز والعبيد وخدمةً للتاج الملكي. وهكذا جالس الفتى وهو لم يزل في الثالثة عشر من عمره أصنافاً مختلفةً من هؤلاء: حبشيين وسردينيين وأتراك صقليين ومرسيليين. كانت حكايات القراصنة منجماً معرفياً نهل منه بلا كلل وكوّن شخصية رحالة متعددَ الثقافات في ثوب طفل صغير. ومع نبوغه بين أقرانه في المدرسة لا سيما في مادة الجغرافيا، أوعز والده إلى معلمه كي يُقحمه في تحرير المراسلات، ويكلفه بساعات من صياغة مذكّرات عن ضرائب التبغ والتبن. وفي سن الرابعة عشر عُيّن مديراً لجمع الضرائب وإدارة الإمداد والتموين العسكري في شاطئ غرناطة.

كانت النقلة المعرفية الكبرى في حياة دومينغو عندما تعرّف على بروثو العجوز المهووس بملاحة المناطيد. لم يكتفِ الفتى النبيه بفتح أبواب مكتبة بروثو المليئة بكتب الجبر والطب والفيزياء والكيمياء وعلم النبات فقط، بل خاض أولى غزواته فاتحاً قلب ابنته ماريا لويسا التي ستصبح لاحقا زوجته، أو لنقل زوجته المسيحية، إذ أنّه سيتزوّج بمسلمة بعدها.

على الأرض الإسبانية نفسها ولد ليون، أو الحسن محمد الوزان، سنة 1488 لوالدين مسلمين في حي البيازين بغرناطة زمن ضعف حكامها العرب من بني النصر وصعود نجم الإسبان القشتاليين. شهد الحسَن في عمر أربع سنوات استسلامَ الأمير أبي عبد الله الصغير ورفع الصليب فوق أسوار قصر الحمراء المهيب. وعلى ما فيه من حداثة سن إلاّ أنّ ذاكرته احتفظت بأحداث تسليم المدينة للملكيْن فرديناند وإيزابيلا سنة 1492 إذ كان والده من الأعيان الخمسمئة في غرناطة الذين رهنهم القشتاليون لضمان دخول الجيش المنتصر بلا معركة. 

رأى يومها بأم عينه الجنودَ السكارى المسلحين بالبلطات وهم ينتزعون من أبيه زوجته الثانية "وردة" وابنتها مريم، بعد اكتشافهم أنَّها سبية قشتالية سابقة اسمها إزميرالدا. ازدهرت في ذاك الزمن مهنةُ "الفكّاك" وهي مهنة يسعى مرتادُوها إلى تقفي آثار الأسرى والسبايا والمساجين والمساومة على فكّهم مقابل فدية. وإذا كان القشتاليون قد سعوا أول الأمر إلى فكِّ أبنائهم، فكان لهم فكّاكُهم المعروفُ باسم "الفكّاك مايور"، أي الفكّاك الكبير. فإنَّ هذا الزمن زمن "الفكّاك حامد" العجوز الغرناطي الساعي إلى إنقاذ إزميرالدا وإرجاعها وردةً غرناطيةً مسلمةً تبهجُ قلب الوالد، وهو ما لم يكن ممكناً لأنَّ قومَها المنتصرون اشترطوا أن يتخلَّى زوجُها المسلم عن دينه، وهو ما رفضه أبو الحسن رفضاً قاطعاً. وحده الفكّاكُ حامد عرف كيف يتجاوز شروط المنتصرين، وإذ عجز عن استرداد وردة بالفدية، فقد عمد إلى تهريبها وابنتها عند مغادرة عائلة الوزان على متن سفينة تقل مسلمين قرروا الهجرة إلى المغرب في سبتمبر 1495. 

طفولتان مختلفتان لبطلين وُلِدا على أرض واحدة في زمنين مختلفين. دومينغو تشرَّب المسيحية على يد والدته وتعرَّف على العرب والمسلمين على أنهم إما قراصنة جشعون، وإمَّا غزاة يريدون احتلال مدينته. بينما ولد الحسن في مدينة مسلمة هي أشبه بجزيرة معزولة وسطَ محيط إسبانيٍّ معادٍ ليجدَ نفسَه منفياً إلى الأرض التي يخشى دومينغو وأهله قراصنتها.


في مدينة فاس تكوّن مجتمعٌ جديدٌ من الغرناطيين وكان منهم الأمير المنفي أبو عبد الله الصغير. وسرعان ما بدؤوا في إدارة أمورِ حياتهم وكذا فعل الحسن. إذ بدأ في الثامنة تعلَّمَ النحو والإملاء والخط، وحفظ القرآن في الثالثة عشر، وواصل تلقي الدروس الدينية في جامع القرويين، ودرس الطب والفلك والشعر والرياضيات والفلسفة في المدرسة البوعنانية، أكبر مدارس فاس. 

كان لغرناطيي فاس معارف ومهارات ميّزتهم عن أهل البلاد. وكان حامد، خال الحسن الوزان، قد جاء من غرناطة بخبرات إدارية ودبلوماسية، واستطاع أن يأسر بشعرِه وبليغ كلامه سلطانَ فاس محمد بن محمد الشيخ المعروف بمحمد البرتغالي، فأرسله في يونيو 1504 سفيرا إلى "غاوو" في مالي لتوثيق العلاقات مع الملك الأسكيا محمد توري. سافر الحسن مع خاله، فكانت تلك رحلته الأولى خارج فاس، تعلَّم فيها فنون السياسة من خاله. وتعرَّف على الجارية هبة التي أهداها له زعيم قبيلة مرت بمضاربه قافلتُهم المكونة من مئتي راحلة تحمل المؤن والهدايا. بعد أشهر من السفر المضني حطَّت القافلة رحالَها في شوارع تمبكتو المليئة بالرقيق، ما ألهم الحسن كتابةَ انطباعاته التي صدرت في كتابه الموسوعي "وصف إفريقيا". 

خلق الكتابُ في عقولِ الرَّحَّالة الأوروبيين ما يمكن وصفه بفتنة تمبكتو. لكن، لسوء حظه، لم تواصل القافلة رحلتها إلى غاوو، شمال شرق مالي اليوم وعاصمة الملك أسكيا، فقد مرض الخال وقرر العودة، وتوفي قبل وصولهم فاس بعد ثلاث سنوات من بدء الرحلة. أوصى حامد خال الحسن ابن أخته بقيادة القافلة والزواج من ابنته فاطمة، وفي مايو 1507 مَثَلَ الفتى ذو التسعة عشر عاماً أمام سلطان فاس وحاشيته ليطلعهم على نتائج الرحلة ومصيرها، وفعل بألبابهم ما فعل خاله من قبل ببلاغتِه وحُسْنِ حَدِيثِه ومعرفته. 

تبدو مقادير أبطالِ الرّوايتين مرهونة بما هو أكبرُ من إرادتيهما. فقد حوَّلت طموحاتُ رئيس وزراء إسبانيا مانويل جودوي الباريث دي فاريا، الملقب بأمير السلام، أحلامَ دومينغو بأن يكون رحالة، ودفعته إلى أن يصبح جاسوساً يراد له أن يُخضع المغرب لحكم الإسبان بعد أن مزق السلطان مولاي سليمان المواثيق الموقعة معهم. بدأت الحكايةُ عندما قدّم الشاب المولَعُ بأنواع النباتات مقترحاً لرحلة علمية استكشافية تعبر إفريقيا وتصل إلى غوجارات في الهند، وتعلم في سبيلها اللغة العربية متسلحاً بمزيج فريد من المعرفة في الجغرافيا وعلوم النبات والفيزياء والكيمياء والفلك. كان أمير السلام طموحاً ويقدّم مصالح بلاده التوسعيّة والسياسية على المنافع العلمية، ولهذا وافق على مقترح الرحلة لكنّه سخّرها لهدف أكبر، مما كان يطمح له دومينغو. أراد دي فاريا أن يجلب الشاب البرشلوني عرش المغرب للتاج الإسباني. فاشتعل صراعٌ آخر داخله، وهو صراع الباحث النزيه مع السياسي المخادع. فأيهما ينتصر، البحث عن الأعشاب النادرة أم الدسائس التي من المفترض أن يحيكها في بلاط سلطان المغرب.

يشتعل هذا النوع من الصراع الداخلي في دواخلنا عادة، لكننا، لسرعة دوران عجلة الحياة، لا نصغي لصوته حتى ينبهنا جرسٌ ما. عشت تجربة مماثلة لتجربة دومينغو، وذلك بسبب ازدواجية عملي الذي يجمع النقيضين، فمن جهة كنت أعمل في شركة تقنية نفطية تهتم بمعالجة النفط الخام وتخليصه من المياه المصاحبة التي تخرج معه من باطن الأرض، وتعالج مشاكل تكون القشور الكلسية في أنابيب النفط، وتشرف على ضخ موانع تأكل الأنابيب والمعدات القائمة على فصل ومعالجة النفط المستخرج من الآبار.

ومن جهة أخرى كنتُ مهتماً بالعمل الصحفي، ولا سيما كتابة السرد القصصي والعمل من حين إلى آخر محرراً ضيفاً على بعض المنصّات، مع اهتمامات أخرى بدأت تزداد في التفرغ للعمل الأكاديمي ومزاولة التدريس الجامعي. وكما ذكرتُ سلفاً هذه مكونات وصفة مثالية لصراع داخلي يشهد مدّاً وجزراً. كنت أؤنّب نفسي ليلة مبيتي الأولى في الحقل بعد الإجازة ويغذّي هذا التأنيبَ الأشواقُ للعائلة التي تركتها خلفي. وكنتُ أيضاً مدفوعاً بالرضا والقبول بالأمر الواقع، ويهدّئني مشهد السحاب من نافذة الطائرة العائدة بموظفي الحقل إلى ذويهم. مشاعري تلك ربما تحمل نكراناً للصفاء الذهني الذي منحه لي بين الحين والأخر هدوء ليالي الصحراء، إذ في عتمته نضجت معظم بذور قصصي الصحفية التي كتبتها لموقع مراسلون، والتي تربو عن خمسة وثلاثين قصة.


وإن كانت حقول النفط هي مسرح صراعاتي، فإن بلاد المغرب كانت المسرح الأول لصراعات بطل رواية "مسيحي في مكة"، ففي التاسع والعشرين من يونيو 1803 وعلى أرض مرسى مدينة طنجة المتوسطي يخرُج علي باي العباسي للعلن، ويُظهر الفتى الإسباني مهارةً أخرى من مهاراته. يسرد لمضيفيه قصصاً لا تنضب عن ورعه وتقواه ونسبه العباسي الشريف، ويبني لهم عالماً متخيلاً عن طفولته في حلب والثروة العظيمة التي ورثها عن والده. ومع هذا لا يزال علي باي خائفاً بينما دومينغو يعلم أن كل لقمة كسكسي يطعمه إياها المغاربة في ولائمهم المتتالية تقربه من فنائه. مع الوقت يتَّضح أنَّ ما يعطي الشرق المسلم خصوصيته ينفّر دومينغو منه، ويمنح علي باي ثقةً أكبر ليزدهر وينمو. يشاهدُ الرجل أيادي قوية توثِق طفلاً حانَ موعد ختانه. يُشد فم الصغير بقطعة حرير تمنع صراخه. يهوي الحلاق بالموس ويتطاير الدم. يكابد الطفل ليخرج صرخة مكبوتة ومعه يولول دومينغو وكأنه يبكي فناءه وميلاد علي باي العباسي. 

كان لقاء علي باي بمولاي سليمان بن محمد، سلطانَ المغرب، كافياً لينسج شباكه حوله. أمطر الرجلُ السلطانَ بالهدايا وشاركه حبه للفلك ومراقبة النجوم، وبالمقابل زوّجه من جارية اسمها مُهنا. وسرعان ما اختفت هيبة السلطان الذي يرتعد الإسبان لذكر اسمه، وحلَّ محلَّها شغفُ طفل بمنظار النجوم، فتربع الجاسوس متستراً بعباءته مع علية القوم في البلاط.

يختبر علي باي في المغرب أكثر صراعاته الداخلية قسوة. فقد جاهد ليخفي أبحاث النباتات التي يجريها عن عيون الإسبان، إذ يبذل جهداً ليمكّنهم من غزو بلاد المغرب التي يقوده قلبه إلى إحلال العدل فيها، رأفةً بأحوال فقرائها. ومع ذلك فقد برهن على واقعية فريدة، فمن جهة باشر ببناء مراصد الفلك ليتمكن السلطان مولاي سليمان من مراقبة النجوم، ومن جهة أخرى واصل حشد الأنصار المتذمرين من استبداد الأخير. ولم يغفل عن مشروعه الإصلاحي لجعل المغرب بلداً يحكمه دستور عادل يستند إلى مبادئ التسامح الوارد في القرآن ويقتدي بالدستور الفرنسي. أي تناقض هذا، تناقض يحمله صدره بهدوء وكأن شيئا لم يحدث.

هزَّ الحديثُ عن الدستور عرشَ السلطان وتناقله بترحيب مثقفو مراكش وتجارها، وتصدَّى له رجال القصر والجيش ومديرة الحريم الملكي النافذة. أمَّا علي باي، فاكتفى بالمراقبة وشغل نفسه بموسم نضوج السفرجل ومحاولة تحويل ثعلب بري إلى حيوان أليف. وكان السلطان سليل العلويين يداعب سبحته مبتسماً. أهو هدوء لاعب شطرنج لا تخيفه حركة البيادق المنعزلة؟ أم أن منظار النجوم أغفل الطفل داخله عن حماية عرش أجداده؟ بدأت المؤامرة تتشكل فحشد دومينغو سراً في مدينة الصويرة آلاف المقاتلين المغاربة، واتفقت القنصلية الإسبانية هناك مع تجار يهود لإيصال الأسلحة والذخائر من قادش لميناء المدينة. وحدد يوم 15 يناير 1805 موعداً للتحرك. لكن، لسوء حظ المغامر الإسباني، لم تحضر الأسلحة، بل وصل بدلاً منها رسالة تقول إن الملك كارلوس الرابع ألغى العملية وأمره بمغادرة المغرب. بيد أنه واصل مخططه على أمل أن يستطيع تنفيذه من غير مساعدة دولته، وهو ما لم يحصل فقد تخلى عنه أنصاره وبالكاد نجا بعد أن جرَّده السلطانُ من كلِّ ما يملك ومن زوجته سامحاً له بالهروب في رحلة بحرية مفزعة نحو طرابلس الغرب. وهكذا انتهت رحلة المغرب بصراع من أجل الحياة بعد أن كانت صراعاً على السلطة. وعرف السلطان الذي كان يخشاه الإسبان كيف يخمد التمرد مثلما يفعل لاعب شطرنج متمرس. 


نال الحسن مثل دومينغو نصيبَه من غضبِ سلاطينِ المغرب. فالفتى الذي ورث عن خاله سرعةَ بديهة مميزة، وقدرةً على ربط الاقتصاد بالاضطرابات السياسية، سنح له الحظ مرات عدّة ليُظهرَ براعته التفاوضية ويحلّ خصومات سلطان فاس مع المدن المتمردة، ويؤسس تجارة ضخمة في وقت قصيرٍ جداً. مما جعله يجمع بين الثراء والوضع السياسي الرفيع في عمر الثانية والعشرين فقط. وفي سِنه تلك انتدبه السلطانُ ليتفاوضَ على حلف مع ثائر محلي، كان يقودُ حركةَ المقاومة ضدَّ البرتغاليين الذي احتلوا طنجة وسبتة ومدناً أخرى بحكم معرفته السابقة به زمن تردده على حلقات الدروس الدينية. 

نجحت الوساطة وقاد السلطان رفقة الثائر المعروف بالشريف الأعرج سنة 1511 حملات فاشلة على البرتغاليين في طنجة كبَّدَت السلطان وحليفه خسائر كبيرة. وتأتي الرياح بما لا تشتهي سفن الوزان، إذ شهدت سنة 1512 أحداثاً عصيبة استقبلها الحسن بسعة صدر، ولو كان غيره في مكانه لخارت قواه. فقد ماتت زوجته فاطمة في أثناء وضعها مولوداً لم تُكتَب له الحياة، واتّهم بالتآمر لقتل أحدِ أعيان فاس، وسخط عليه السلطان وصدرَ أمرٌ بنفيه عامين خارجَ المدينة، وفي رحلة النفي حاصرت الثلوجُ موكبَه ومات خدمه وحراسه إما بالبرد، وإمّا بسيوف رعاة رُحَّلٍ نهبوا كنوزه وأمواله. ولم ينجُ إلا هو وجاريته هبة، فما كان منه إلا أن طلب أن يقبلوهما ضيوفاً عليهم، فما من وسيلة لاتقاء خناجر الرُّحَّل أكثر من تطويعها لذبح خراف الضيافة.

وليكمل الوازن انعتاقه وكأنه يحرق مراكب ماضيه خلفه أعتق الجارية، وأعادها إلى أهلها، وأطلق العنان لروح الرحالة لتجوب البلدان. فاستكشف أحوالَ الناس مارَّاً على ستين مملكة إفريقية. وصادفه سوء حظ كبير في أهمِّ محطَّتين طمح فيهما إلى تكوينِ ثروةٍ جديدةٍ، تُعوِّضُ تلكَ التي دمَّرَهَا سلطانُ فاس ونهبها الرعاة. فحين دخل تمبكتو شبَّ حريقٌ أحرقَ نِصفَ المدينة، وحين ركب نهرَ النيل إلى القاهرة قابلته مراكب الهاربين من الطاعون. هل يرجع ويلتحق بالهاربين؟ لو فعل لما كان الوزان سلطان التأقلم ومروّض الأهوال. بل دخل المدينة وباع واشترى في أسواقها وقوافلها، ولم تمضِ أشهرٌ حتى كان واحداً من أعيانها المشار إليهم بالبنان. ولم يخرج من القاهرة إلا برفقة أجمل نسائها الأميرة نور، أرملة الأمير علاء الدين ابن أخ السلطان العثماني سليم، ومعهما ابنها الرضيع بايزيد الذي تترصده عيون العثمانيين وسيوفهم، خشية أن ينازعهم حين يكبر على المُلكَ كما فعل والده الأمير من قبله.

اختُطِفَ الوزان سنة 1518 حين ترك زوجته نور على متن مركبٍ يقلهم صوب تونس عائدين من مكة. قصدَ الحسن مع قائد المركب حانةً في جزيرة جربة، وهناك استرسل على غير عادته في الحديث عن مهامه التي كُلِّفَ بها ورحلاته لافتاً نظرَ قرصان صقلي اسمه "بوفاديليا" كان يجلس على طاولة مجاورة. لم يفوت القرصان الستيني ورجاله هدية ثمينة تليق بأن تقدم للبابا ليون العاشر، فحاصروا الرجلين بعد مغادرتهما الحانة ورموهما في قعر قبو مركبهم عائدين بهما إلى روما. هناك حظي بمظاهر تقدير من خدام البابا جعلته يفصح عن كل مناصبه التي تقلدها والسفارات التي قادها. وفي يوم الأحد 14 فبراير من ذلك العام أُدخل على البابا رفقة بوفاديليا الذي نال ثناءً على عجل قبل أن يُخْرَج ليتسنى للبابا تفحص هديته على انفراد. جثا الحسن على الأرض بينما جلس البابا على الأريكة بوجه أمرد وكفٍّ ملساء تتحسَّس ظهر خادمه الجديد مرحباً برجلٍ "يملك الفن والمعرفة". 

تكرر اللقاء مرة أخرى وكلَّف البابا الحسنَ بتعلم الإنجيل واللغات اللاتينية والعبرية والتركية، وبأن يُعلِّمَ هو سبعة طلاب اللغة العربية مقابل راتب شهري. ومع الوقت نشأت علاقة أشبه بالتَّبني بينه وبين البابا الذي عمَّده ومنحه اسميه "يوحنا وليون" واسمَ عائلته آل مديتشي. وبما أن هذه العائلة لا يوجد فيها رجال سمر بشعر أجعد، أضاف زوار البلاط البابوي لقب الإفريقي إلى اسمه. ومن يومها لم يعد "ليون" أسيراً، وفتحت له أبواب روما ليستكشف تماثيلها العارية التي سيحميها عما قريب من أبنائها.

أبدَع أمين معلوف في تبسيط معاناة بطل روايته عند اختطافه. فقد أحسَن الكاتب إظهار الوزان متأقلِماً تأقلماً فائقاً مع وضعه الجديد، وحوّله بسرعة من حاج عائد من رحلة الحج بمشاعر روحانية عالية إلى شخص مستعد لخدمة بابا الفاتيكان ليون العاشر. وزاد على ذلك بتحوّل الرجل بلا تردُّدٍ إلى المسيحية، ذلك الدّين الذي تركت عائلته غرناطة لكي لا تعتنقه. هل وقر حقاً في قلبه أم أنها التقية؟ أم أن روحه المستكشفة راقت لها حياة الرهبان؟


لم تكن سطوة البشر علي وحدَها التي دفعتني إلى قرار الهَرب من مهنةِ الحُلمِ عند شبابٍ كثيرين في ليبيا. فقد طغت عليَّ الصحراء بصمتها وغلَّفتْ عجزي عن اتخاذ القرارات بإحساس خادع بالتأمل. مضت السنوات وأنا أؤجل مشاريعاً وأستبدلها بجلسات تأمل أغازلُ فيها حبات رمل استقرت على مقدمة حذائي الثقيل. وفي لحظة لم أحسب لها حساباً أدركتُ أنّي قد وصلت إلى مرحلة صارت فيها حياة المدينة أكبر وأهم من تلك التي أعيشها في الحقل النفطي، وأن ساعتي الرملية أفرغت ما في جوف نصفها الصحراوي وملأت به نصفها النابض بالحياة والخضرة هناك في شحات. دقّ جرسٌ ما معلناً انعتاقي. أمسكتُ ورقة وكتبتُ استقالتي وأقسمتُ أنّني سأقاوم السحاب حين حاول دغدغة مشاعري وأنا أتأمله من نافذة العودة. من غير المنصف القول أن رواية "مسيحي في مكة" دفعتني إلى هذا القرار، لكن شجاعة دومينغو بالتأكيد أنارت لي جزءاً من ذلك الدرب الذي استبدلت فيه العمل في الحقل بقاعات المحاضرات الجامعية.

 سيتنقّل دومينغو باديّا، بعد خروجه من المغرب، للعيش تحت عباءات حكّامٍ يخدمهم، ولن يستعيد النفوذ الذي كان عنده في بلاط مولاي سليمان. كان يوسف باشا القرمانلي أول حاكمٍ في انتظاره يوم الحادي عشر من شهر نوفمبر 1803 حين وصل طرابلس الغرب. وكانت سمعة الولي العباسي، مدبراً للانقلابات، قد سبقته، لذلك كان موضع شك لدى القرمانلي، فاستضافه في قلعته ولما استلذَّ حكاياته ضمَّه إلى ندماء البلاط العامر بمزيجٍ من القراصنة والشعراء وقطاع الطرق والدبلوماسيين والتجار ونساء يجمعن بين الذكاء والجمال. أعجبت طرابلس المدينة المتوسطية علي باي العبّاسي، إذ رآها أكثرَ انفتاحاً وحرية من مراكش فبقيَ فيها سنتين ثم غادرها، فقد بدأت مغامرة الرحّالة للتو بعد أن أرسل له أمير السلام غودوي إعفاءه من مهامه الجاسوسية، ووجَّهه إلى مكة مروراً بالقاهرة. 

عندما دخل علي باي العباسي مصر كان محمد علي باشا يضع لمساته الأخيرة ليحكم قبضته على البلد الذي تتنازعه قوى عدّة. اندفع الرحالة بلا بصيرةٍ معتقداً أن حاكم مصر الجديد نجح بما فشل هو فيه في المغرب، ولم يقاوم رغبته في أن يتقرَّب إليه عارضاً خدماته. وفي نوفمبر سنة 1806 التقى الرجلان في مقابلة أراد لها محمد علي أن تكون خاطفة بقوله: "أنت رجل الأحلام وأنا صاحب مصر الفعلي. ارحل فما من مقام لك عندي". كان ذلك قبل شهر رمضان، وقبل أن يتمكَّن علي باي العباسي من الالتحاق برحلة الحج إلى مكة، فكان عليه أن يعيش منبوذاً من الناس، وفي عزلة فرضتها كلمات الباشا الصارمة.

عرف ليون الإفريقي بدوره ثلاثَ بوابات في روما. عرف كيف يصبحُ مع كل واحدةٍ منهم شخصاً مختلفاً بسلوك مختلف وقناعات دينية مختلفة. كانت أفضل أيامه، بلا شك، مع ليون العاشر الذي زرع المسيحية بيديه في قلب الحسن وماتت بموته. ومن حسن حظه أنه زوجَّه قبل موته مادالينا المولودة مثله في غرناطة لعائلة يهودية غادرت الأندلس في أثناء محاكم التفتيش. خطوة سيكون لها دور كبير في شدّ أزره فيما ينتظره من أهوال على يد البابا المقبل. 

البابا الثاني الذي عرفه ليون الأفريقي كان أدريان السادس، العامل السابق في محاكم التفتيش بالأندلس. وقد بدا أنّ الكرادلة انتخبوه ليعاقبهم على سنوات سلفه السخية، ويلغى رواتبهم ويحارب تماثيل روما العارية، ويقود حملة لمحاربة تربية الرجال اللحى. كان بإمكان ليون الإفريقي الضَجِر من تصرفات البابا الجديد أن يغادر روما، لكنه اختار أن يقف في وجهه بإعفاء لحيته وحيازته مناشير تسخر منه، وهي أفعال أدَّت إلى سجنه في زنزانة عاماً كاملاً يمَّم وجهه فيه إلى قبلة المسلمين خمس مرات في اليوم كما كان يفعل قبل بعميده. فُتِحَت تلك الزنزانة يوم العاشر من نوفمبر 1524 مع وفاة البابا أدريان في أوضاعٍ غامضة رافقتها مظاهر فرح، حتى علّقَ بعضُهم حبالَ الزينة على باب طبيبه. وفي ندمٍ على فعلتهم السابقة نصّب الكرادلة كليمان السابع، الصديق الشخصي لليون الإفريقي، والمعروف بطيشه وتساهله، بابا للكنيسة.

كانت هناك قوتان تتنازعان أوروبا تلك الفترة، واحدة يمثلها السلطان العثماني سليمان القانوني، والأخرى يمسك بزمامها شارل ملك إسبانيا، وبينهما قوى أصغر ممثَّلة في الملك الفرنسي فرانسوا وهنري ملك إنجلترا، ومع هؤلاء كان الكرسي البابوي يحاول أن يبقى صامداً. حانت اللحظةُ للبابا كليمان السابع ومستشاريه لجني ثمار خطف دبلوماسيٍ عربيٍ متمرس وتعميده وتعليمه اللغة التركية. بهذا انطلق ليون الإفريقي في جولة دبلوماسية رفقة مستشار البابا غويتشارديني، التقى فيها الملكَ فرانسوا ومبعوثاً للسلطان العثماني. لكن لم يفلح في منع جيوش الإمبراطور شارل من الزحف إلى روما وارتكاب مذابح عجلت بفرار ليون ومادالينا وابنهما جوسيب بحراً إلى تونس. فتبقى الحسنة الوحيدة التي تحققت في فترة كليمان السابع هي انكباب ليون على إنجاز كتابه "وصف إفريقيا" وكتابته موسوعة تُترجم مصطلحات اللغة اللاتينية إلى اللغتين العربية والعبرية.

أمّا صاحبُ "مسيحي في مكّة"، فقد توقف عنده الصراع الداخلي بين علي باي العباسي ودومينغو باديا في طريقهما إلى الحج، ليتشاركا أعباء الرحلة وغنائمها الدينية والعلمية. الأول يؤدي الركن الخامس من الإسلام والثاني يحميه من المكائد ويستقطع وقتاً لرسم خرائطه الجغرافية. وصل علي باي العباسي إلى مكة منهكاً بعدَ رحلة طويلة على الجِمال. توضأ وقبَّلَ الحجر الأسود متهادياً بخدرٍ بين أيدي خدمه. طاف بالكعبة وصلَّى عند مقام إبراهيم قبل أن يروي عطشه من ماء زمزم، وينطلق في سعيه وسط الحشود بين الصفا والمروة، ليتوقف شبه نائم بين يدي الحلاق الذي يقص خصلات شعره. 

ولأن قَدَرَه أن يكون مغناطيساً يجذب إليه الرجال الأشدّاء كان شريف مكة، الشريف غالب، في انتظاره في اليوم التالي في قصره. رمقه الشريف بنظرةِ ريبة، كتلك التي رمقه بها محمد علي باشا ويوسف القرمانلي، ووضعه في عهدة خادمه الخاص الذي دعاه لوليمة في الغد. أيقظَ الشكُّ دومينغو فتناول قبل الالتحاق بالوليمة جرعات من كبريتات الزنك ومقيّئٍ شديدٍ خشيةَ دسِّ السم في الطعام. مرَّت الوليمة بسلام وأنقذت تدابير دومينغو علي باي العباسي الذي استقبله الشريف المدهوش استقبالاً حافلاً وشرّفه بإدخاله إلى الكعبة للمشاركة في تطهيرها. ذلك اليوم كان اليوم الذي دخل فيه جيش الأمير سعود الكبير مكة، وعلى وقع أقدام أتباع محمد بن عبد الوهاب واصل علي باي مناسكَ حجّه، فوقفَ بجبلِ عرفة ورمى الجمرات بمنى. أما دومينغو فقد انكبَّ على جمع المعلومات الجغرافية للمكان المقدس في سعيه ليبهر المجتمع العلمي في أوروبا بخريطة للجزيرة العربية بتضاريس لم يسبقه أحد إليها.


ينهي أمين معلوف روايته "ليون الإفريقي" بعبور بطلها إلى ضفة البحر الأبيض المتوسط الجنوبية، ليستقر في تونس. لكنه لا يكشف على وجه اليقين هل استعاد هويته الحقيقية أم لا؟ ولكي يضفي مزيداً من الغموض يختم بوصية لابنه يقول فيها: "أينما كنت فسيرغب بعضهم في التنقيب في جلدك وصلواتك. فاحذر أن تدغدغ غريزتهم يا بني، وحاذر أن ترضخ لوطأة الجمهور! فمسلماً كنت أو يهودياً أو نصرانياً عليهم أن يرتضونك كما أنت، أو أن يفقدوك. وعندما يلوح لك ضيق عقول الناس فقل لنفسك أرض الله واسعة".

اتَّسمت نهايةُ رحلة دومينغو بالتقلبات، إذ وجد في انتظاره إسبانيا غير تلك التي تركها. لقد غزاها نابليون بونابرت ونصَّبَ شقيقه خوسيه ملكاً عليها. ومن سخرية القدر أن يجدَ أمير السلام الرجلَ الذي قلبَ حياتَه رأساً على عقب سجينَ إسطبلٍ للخيول. ببساطة لم يكن الإسبان بحاجة إلى نتائج رحلته، فهرع للالتحاق بخدمة المحتل الفرنسي علَّه ينال تقديراً يُرضِي طموحه.

وحتى زوجته ماريا لويسا لم تعد هي نفسها التي تركها. لقد تخلت عن وداعتها وأكسبتها سنوات الاستقلالية جفاء لم يألفه. لذلك عمل على استعادتها واسترجاع حياته التي غطاها غبار الصحراء. وفي مشهد دراميٍ هُزم نابليون وشقيقه ووجدت عائلة دومينغو نفسَها على متن عربة مسرعة نحو باريس التي تمكَّنَ من إبهار مجتمعِها العلميِّ بقصص رحلاته، ففتحت له دورُ النشر في أوروبا أبواب مطابعها لكتابٍ فيه سيرته الشخصية. ولم يلبث أن نال الموافقة بالانطلاق في رحلة علمية مبعوثا باسم ملك فرنسا لاستكشاف الطريق إلى الهند تحت اسم جديد هو علي بوعثمان. لم يصمد الاسم طويلاً، فعند وصوله سوريا انتشر خبر عودة الولي الشهير علي باي العباسي.

يختم رامون مايراتا روايته بمشهد سفرِ علي باي العباسي مع قافلة الحج إلى مكة، ومرضِه بعدَ أن أطعمه أحدٌ ما السم. فيخوض بطلنا معركته الفاشلة الأخيرة ضدَّ جشع المسافرين الذين تنازعوا نسبَه إلى بلدهم مدفوعين بما تعارفوا عليه في توزيع أملاك موتى القوافل على أبناء بلدهم. فالله يعلم أي بلدٍ نال حجيجه شرف أن يكون علي باي العباسي مواطنهم.

هكذا انتهت حياة رجلين كانا ضحية معارك وأطماع سياسية. لكنهما لم يكونا أبداً صيداً سهلاً، وتمكنا من خطِّ مسارٍ غير ذاك الذي رسمه السلاطين ورؤساء الوزراء والبابوات، ويكفي أنهما ألهما روائيين مثل رامون مايراتا وأمين معلوف ليقدما لنا روايتيهما الخالدتين. وبينما يرقد بطلاي في مرقدهما الأخير أركض أنا بين قاعات المحاضرات باحثاً في عيون طلابي عن بريقٍ يصلح عنواناً لقصة صحفية جديدة.

اشترك في نشرتنا البريدية