ناقش الشيخُ ذلك المستشرقَ في نظريّته، وكَشَفَ العوارَ الذي قامت عليه. ففي كتابه "الاستشراق والمستشرقون" روى السباعيُّ تفاصيلَ هذا النقاش الذي بدأ بسؤالٍ طرحَه شاخت عن سبب "إساءة الظن" بغولدتسيهر. كان سببُ السؤال اعتراضَ علماء المسلمين على زعمِ غولدتسيهر أنّ المحدِّثَ محمّد بن شهابٍ الزُهريّ (المتوفّى سنة 124 هـ) وَضَعَ حديثَ فضلِ المسجد الأقصى إرضاءً للخليفة الأمويّ عبد الملك بن مروانٍ (المتوفّى سنة 86 هـ) على رغمِ منافسِه عبد الله بن الزبير (المتوفّى سنة 73 هـ)، حين كان الأمويّون يحكمون القدسَ والزبيرُ يحكم مكّة. لم تكن المسألةُ عند السباعيّ متعلّقةً بحُسنِ الظنّ وسوئِه كما أراد شاخت أن يصوّرها، ولكن بالمنهجية العلمية. فالتدقيق التاريخيّ يكشف أنّ الزُهريّ لَم يَلْقَ عبد الملك إلّا بعد سنواتٍ من مقتلِ ابن الزبير، في حينٍ كان الأمويّون فيه يحكمون الحجازَ والشامَ جميعاً، فلَم يكن ثمّةَ معنىً لتمييز المسجد الأقصى وقد سيطروا على المسجد الحرام. هنا، بحسبِ رواية السباعيّ، "اصفرَّ وجهُ شاخت وأخذ يفرك يداً بيدٍ".
لَم تكن هذه الحادثةُ استثناءً. إذ وقعَت على إثرِ تاريخٍ من تشكيكِ المستشرِقين في أصول الإسلام، قرآناً وسنّةً، يمتدّ منذ منتصف القرن التاسع عشر، ويتكرّر صداه في وسائل الإعلام العربية إلى اليوم. وتحتلّ نظرياتُ غولدتسيهر وشاخت، التي تنفي نسبةَ السنّة إلى الرسول محمّدٍ صلّى الله عليه وسلّم، موقعاً متميزاً في هذا المشروع. وعلى انتشارِها، فإن هذه الدعاوى الأساسيةَ لتلك النظرية، والتي تَكتسب الموثوقيةَ والقداسةَ من انتشارها وتكرارها في الأوساط الأكاديمية الغربية، تفتقر إلى كلِّ الأسس العلمية المنضبطة.
كان تمحيص السنّة وصحّة نسبتِها إلى الرسول من أهمّ مشروعات شاخت. ففي سنة 1950، أي قبل ستّ سنواتٍ من لقائه بالسباعيّ، نشر شاخت كتابَه "أصول الفقه المحمديّ" الذي فصّل فيه أوّل مرّةٍ نتائج بحثِه وتمحيصِه. وفي هذا الكتاب، ادّعى شاخت أن نسبةَ السنّة إلى الرسول باطلةٌ لا يقوم عليها دليلٌ تاريخيٌّ. وقد ادّعى أن لفظ السنّة كان في القرنَين الأوّلَين من ظهور الإسلام يعني عُرفَ جزيرة العرب قبل الإسلام، أو سياساتِ الحكّام والخلفاء، أو آراءَ الصحابة والفقهاء.
أضفَت مكانةُ شاخت أهمّيةً بالغةً على نظريّته. فبعد أكثر من نصف قرنٍ من وفاته، لا تزال نظريّته حيّةً، تشكّل أساساً لنظرياتِ بعض كبار المستشرقين المعاصرين، مثل بتريشيا كرون ومايكل كوك، عن السنّة. ويؤكّد ديفيد فورتي في كتابه "القانون الإسلامي: تأثير جوزيف شاخت" أن معظمَ علماء الغرب الدارسين الدين الإسلامي ما زالوا يرَون أن أدلّةَ شاخت على بطلان نسبة الأحاديث إلى الرسول "لا يمكن دحضُها ونقضُها في الواقع". وهذه الأهمّيةُ يتردّد صداها في وسائل الإعلام العربية، التي يكثر فيها تردادُ دعاوى شاخت. كلُّ هذا من دون إخضاع النظرية للتمحيص، ومحاكمتِها وفق الأصول العلمية، التي يدّعي المستشرقون غيابَها عن علماء الحديث واقتصارَها على الدوائر الأكاديمية الغربية.
وفقَ هذا التصوّر، فإن السنّةَ سابقةٌ على وجود الإسلام، أجنبيةٌ في أصلها عنه. إذ هي القانون العُرفيّ العربيّ القديم، الذي تضمَّن عناصرَ روميةً وبابليةً ويمنيةً، وظَلَّ مهيمِناً مع ظهور الإسلام، بعد أن دخلت عليه بعضُ التغييرات ليلائم الظروف الإقليمية، سواءً لأهل التجارة في مكّة أو للمزارعين في المدينة. يذهب شاخت إلى أن هذه السنّةَ العربيةَ ظلّت قائمةً لأن النبيَّ لم يكن يقصد "خلق نظامٍ يضبط به حياة أتباعه" وإنما كان همُّه في التشريع قاصراً على تصحيح بعض المسائل، مدفوعاً إلى ذلك باعتباراتٍ دينية.
وفقَ نظرية شاخت، لم تكن السنّةُ من مكوّنات الإسلام، ولكنها كانت معياراً لما ينبغي أن يكون عليه مجتمع المسلمين. ففي القرون الأُولى للإسلام، لا سيّما في عصر الخلفاء الراشدين، دلّ لفظُ السنّة بحسب رأي شاخت على "سياسة الخليفة وإدارته". اكتسب هذا الاستخدامُ بُعداً معيارياً، أي استخدامها نموذجاً يُقاس عليه ويشرَّع على أساسه، في عهد الخليفة عثمان بن عفان، إذ عُدّت التصرّفاتُ الإداريةُ للخليفتين أبي بكرٍ وعُمَر، أو "سنّة أبي بكرٍ" و"سنّة عُمَر" سوابقَ مُلزِمةً، يُقاس عليها حكمُ عثمان، فيُتّهَم بالانحراف لحيادِه عنها. وشيئاً فشيئاً، عُدّ هذا الانحرافُ عن سُنّة الخليفتَين السابقَين انحرافاً عن القرآن. وهكذا قَدّم مفهومُ السُنّة – كما يزعم شاخت – ربطًا "عَقَدياً" بين سُنّةِ أبي بكرٍ وعُمر وبين القرآن. المهمّ أن السنّة لم يكن لها إلى ذلك الحين أثرٌ على الأحكام الفقهية الفرعية.
اكتسبَت السنّةُ أهمّيةً تشريعيةً مع ظهور المدارس الفقهية. أخذَت هذه المدارسُ بالظهورِ في القرن الثاني الهجريّ، وعبّرت كلُّ واحدةٍ منها – بحسب رأي شاخت – عن موقفٍ سياسيٍّ، أثَّر على توجّهاتها التشريعية. يرى شاخت أن بعض هذه المدارس سعَت لإيجاد أساسٍ دينيٍّ يُضفي الشرعيةَ على مواقفها السياسية، فاختُلقَت السنّةُ بمفهوم المحدِّثين، أي وَضَعَ فقهاؤها الأحاديثَ، ونسبوها إلى الرسول، واتّخذوها أصلاً تشريعياً لتقويةِ شرعيةِ مواقفهم. حاولَت المدارسُ الفقهية الأكثر انتشاراً الحدَّ من استخدام السنّة على هذا النحو. وحين أخفقَت في هذا المسعى، وضعَت هي الأُخرى أحاديثَ نبويةً لدعم مواقفها.
يدّعي شاخت، بناءً على ما سبق، أن غالب السنّة موضوع. فما يُصوَّر كلاماً للرسول ليس إلّا كلامَ علماء القرنين الثاني والثالث الهجريَّين الذي نَسَبوه كذباً إلى الرسول. وفي كتابه الآخَر "مدخل إلى القانون الإسلامي،" يقول إن أهل الحديث أنتجوا "عباراتٍ مطوّلةً، أو أحاديث" زعموا أنها "روايات سامعٍ أو شاهدٍ عيانٍ على كلمات الرسول وأفعاله" نُقلَت "مشافهةً بإسنادٍ غيرِ منقطعٍ من أشخاصٍ عُدول" وهو يقطع مع ذلك أن هذا الزعمَ باطلٌ وأنه "لا يمكن توثيقُ صحّةِ أيٍّ من هذه الأحاديث فيما يخصّ مسائلَ الفقه".
دليلُ شاخت الأوّلُ على بطلان نسبة الأحاديث إلى الرسول هو عدمُ ظهورها وقتَ الحاجة إليها في القرنَيْن الأوّلَيْن. ذلك أن الحاجةَ إلى استعمال بعض الأحاديث حججاً فقهيةً في الجدل العلميّ والسياسيّ في هذين القرنين كانت واضحةً، ولو كانت نسبةُ الأحاديث إلى الرسول صحيحةً لعَلِم بها أهلُ هذه العصور الذين تفترض النظريةُ الكلاسيكية أنهم مَن نَقَلَها واحتَجّ بها. وعدمُ الاحتجاج بها يدلُّ على بطلان النسبة، فهو يؤسّس في ذلك قاعدةً إذ يقول في كتابه "أصول الفقه المحمدي" إن "أفضل طريقةٍ لإثبات عدم وجود حديثٍ ما في حقبةٍ معيّنةٍ" هي "البرهنة على تأكيد عدم استعمال ذلك الحديث بوصفه حُجّةً فقهيةً في جَدلٍ معيّنٍ تكون الإحالة فيه إلى ذلك الحديث أمراً أكيداً متى وُجد العملُ بالفعل". وبناءً على ذلك، فإن أحاديثَ الأحكامِ الفقهيةِ المنتشرةَ المعمولُ بها، مثل الطهارة والصلاة والزكاة وغيرها، لا تصحّ إلّا إذا استُعملَت وذُكرَت صراحةً قبل القرن الثاني الهجريّ.
بناءً على هذا، يرى شاخت أن الأحاديثَ التي ظهرت بدايةً من منتصف القرن الثاني الهجريّ، أي في عصر انتشار التدوين وتوسّع مجالاته، كلّها موضوعة. وقد وُضعَت هذه الأحاديثُ، وفق نظرية شاخت، لسببَيْن. الأوّل ظهورُ الشافعيّ وتأصيله لأهمّية الحديث، وإعادة تعريفه السنّةَ لتقتصرَ على الأحاديث النبوية. والثاني تأثيرُ مدرسة "أهل الحديث" من الحنابلة، وهي مدرسةٌ عقديةٌ وفقهيةٌ، كانت تَكشف الانحرافات التي بدأت في الظهور بسبب انتشار الأحاديث الموضوعة وخطورتها على الأصول الإسلامية والسنّة النبوية تحديداً، فأَسهمَت هذه المدرسةُ في نشر الأحاديث والسنّة النبوية الصحيحة، وبَيّنَت الزيفَ والتحريف في الأحاديث الموضوعة والمنتحَلة.
كان مسلكُ شاخت الثاني في الاستدلال على بطلان نسبة السنّة إلى الرسول التشكيكَ في صحّة الإسناد. وسندُ الحديث هو حلقةٌ مترابطةٌ من الرواة يَنقل فيها راوي الحديث عمّن سبقَه في سلسلةٍ متّصلةٍ إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم. يدّعي شاخت أن سلاسل الإسناد مختلَقةٌ. ويَستدلّ على ذلك بدعواه أنها بدأت في الظهور والتدوين في القرن الثاني الهجري، أي بعد أكثر من مئةٍ أو مئةٍ وخمسين سنةً على وفاة الرسول، ولهذا السبب لا يمكن الاطمئنانُ إليها أو تصديقُها. وشاخت هنا يشكِّك صراحةً في صدقيّة الرواية وانتقالها من راوٍ إلى آخَر مشافهةً طوال تلك الفترة الزمنية التي تلت وفاةَ الرسول وحتى عصرِ التدوين. ويرى أنّ المحدِّثين هم الذين اخترعوا هذه السلسلةَ من الرواة لتدعيم مواقفهم السياسية ومذاهبهم الدينية والفقهية.
وفي هذا الإطار يَرى شاخت أنه كانت عادةُ الجيلَين من العلماء الذين سَبقوا الشافعيَّ أن يَنسبوا الأحاديثَ إلى الصحابة والتابعين، وأنهم نادراً ما كانوا يَنسبونها إلى النبيّ. وخَلُص إلى نتيجةٍ مفادُها أن الأحاديث المنسوبة إلى الصحابة والتابعين سَبقَت في وجودها الأحاديثَ المنسوبة إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم، وهو بذلك يودّ أن يَقضيَ على تاريخ التشريع الإسلامي قضاءً تامّاً. ولهذا فقد وَصف شاخت العلماءَ المسلمين في القرون الأُولى بأنهم كانوا كذّابين وملفّقين وغيرَ أمناء. وحين لاحظ شاخت أن بعض الأحاديث كان يرويه عدّةُ رواةٍ تجتمع روايتهم عند راوٍ واحدٍ أَخذوا عنه الحديثَ؛ زَعَمَ أن هذا الراوي هو واضعُ الحديث أو قائلُه وناشرُه. وهكذا يُسقِط شاخت الإسنادَ كلَّه لأنه ملفّقٌ وموضوعٌ ولا يمكن أن يُنسب إلى الرسول، في زعمِه.
عَضَدَ شاخت نظريتَه بتمحيصِ مواقف المدارس الفقهية التي ظهرت قبل الشافعيّ من الحديث النبويّ. وأَوّلُ هذه المدارس هي المدرسة المدنية في الفقه والتشريع، والتي تبلورَت مع مالك بن أنس (المتوفّى سنة 179هـ). يدّعي شاخت أن "السنّة" في هذه المدرسة تعني العملَ واتفاقَ آراءِ فقهائها، وينقل عن موطّأِ مالك رأياً للزُهريّ، يَرِدُ فيه: "مَن أَدرَك مِن صلاة الجمعة ركعةً فليَصِلْ إليها أُخرى. قال ابنُ شهاب: وهي السنّة"، وهو ما علّق عليه مالك بقولِه "وعلى ذلك أدركتُ أهلَ العلم ببلدنا". فيستدلّ شاخت باستخدام الزُهريّ مصطلحَ "سُنّة" ليصفَ رأياً له يتعلّق بصلاة الجمعة، وبعدم اعتراض مالك على ذلك. أمّا مدرسة الشام، التي مثّلَها عبد الرحمن الأوزاعيّ (المتوفّى سنة 157هـ)، فلا ينكِر شاخت انشغالَها "بمفهوم السنّة" بمعنى سنّة النبيّ. غيرَ أنه يدّعي أن السنّة في هذه المدرسة لم تكن "الأحاديث الاصطلاحية"، أي متّصلة السَند الصحيحة، بل كان الأوزاعيّ يَعدّ الأحاديثَ المفتقِدة للإسناد "كافيةً لإثبات سُنّةٍ مقبولةٍ" وكان "يَعدّ وجودَ قاعدةٍ قانونيةٍ غيرِ معروفة الأصل كافياً في الإشارة إلى وجود سُنّةٍ عائدةٍ إلى الرسول". وتجاهلُ مدرسة الشام الإسنادَ، بحسب رأي شاخت، يميّز فهمَها للسنّة عن فهم الشافعيّ، الذي قيّدها بالثابت عن النبيّ.
تضع هذه النظريةُ شاخت على النقيض من تصوّرات علماء المسلمين عن السنّة. فالسنّة في نظرية شاخت هي كلّ شيءٍ ما عدا كلام النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وتصرّفاته وإقراراته، كما أن الفقه الإسلامي في تصوّره غيرُ مرتبطٍ بسنّة النبيّ وإنْ ادّعى ارتباطَه بها. هذا الموقف، بحسب قول نُصرت نيل ساز ومرجان شيري محمد أبادي في كتابهما "تأرخة الأحاديث عند المستشرقين" مناقضٌ لرؤية المسلمين لدور السنّة النبويّة، وهي الرؤية التي "تستند في الأساس إلى القرآن الكريم الذي يأمر المسلمين في الكثير من آياته باتّباع النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وسلّم وطاعته وامتثال أوامره واجتناب نواهيه".
يظهر ذلك في استدلال شاخت بكلام عبد الله بن المقفّع (المتوفّى سنة 142هـ). ففي كتاب "رسالة في الصحابة" ذهب ابنُ المقفّع إلى أنّ الخليفة له الحقّ في إثبات ما يراه مناسباً من أحكامٍ وفي تقنين السُنّة المناسبة، "والحكم بالرأي فيما لم يكن فيه أثرٌ، وإمضاء الحدود والأحكام على الكتاب والسُنّة … ومِن ذلك تعهد أدبهم في تعلّم الكتاب والتفقّه في السنّة … أمّا من يدّعي لزومَ السُنّة منهم، فيجعل ما ليس له سُنّةً حتى يبلغ ذلك به إلى أن يسفك الدم بغير بيّنةٍ ولا حُجّةٍ على الأمر الذي يزعمُ أنه سُنّة". استدعى شاخت بعضَ هذه العبارات مستدلاً بها على دعواه أن السنّة في ذلك الزمن "لم تكن قائمةً على سوابق صحيحةٍ وضعها الرسولُ والخلفاءُ الأوائل"، وإنما كانت تعني "الإجراءات الإدارية للحكومة الأموية"، وأن الخليفة لم يكن ملزَماً بالاستناد إلى أحاديث الرسول كما فعل الشافعيُّ لاحقاً، بل "كان [الخليفة] حرّاً ليثبت ويُقنّن السنّة المزعومة". وهو كلامٌ لم يقل به أحدٌ من فقهاء الإسلام في القديم والحديث، بل هو فهمٌ مغلوطٌ من شاخت للرأي الذي أدلَى به ابنُ المقفّع، وهو وجوب عدم الأخذ إلا بصحيح السنّة وأن للخليفة الإفتاءُ فيما ليس فيه نصّ.
أمّا انتقاء الشواهد فيَظهر في استدلال شاخت بكلام الزُهريّ ومالك في كون السنّة تقليدَ المُجْمَع عليه. إذْ لهما، مع ما في الاقتباسات التي نَقَلَها عنهما، نصوصٌ وتصرّفاتٌ ومواقفُ تدلّ على اتّخاذهما سنّةَ الرسول أصلاً من أصول التشريع. ذلك أن الزُهريّ، ومِن بعدِه مالكاً، صرّحا كما جاء في كتاب "الموطّأ" أن مذهبَهما في مسألة ركعةِ صلاة الجمعة التي سَبَقَت الإشارةُ إليها يُسند إلى حديث الرسول في هذا الأمر. ويَظهر انتقاء الشواهد كذلك في استدلال شاخت بالأوزاعيّ، الذي لم يُغفل ذكرَ الإسناد في بعض المواضع إلا لاشتهار اتفاق العلماء على صحّة سُنّةٍ معيّنةٍ على نحوٍ يُغني عن الحاجة إلى تأكيد مصدرها. ويَظهر انتقاء الشواهد أيضاً في تجاهلِ شاخت النصوصَ الدالّة على نسبة السنّة إلى النبيّ.
يتقصّى محمد مصطفى الأعظمي هذه القضية في دراسةٍ نقديةٍ لكتاب شاخت بعنوان "أصول الفقه المحمديّ للمستشرق شاخت: دراسة نقدية"، ويَخْلُص إلى كون النقولات التي يَدعم بها مارغليوث وشاخت وجهةَ نظريهما قيلت في النصف الأوّل من القرن الأوّل الهجري، الذي كان تعبيرُ "سنّة الرسول" فيه معروفاً ومستخدماً بشكلٍ واسعٍ على نحوٍ يَظهر في أكثر الوثائق والخُطب.
ويَظهر انتقاء الشواهد كذلك في دعوى شاخت أن مدرسة العراق لم تُعِر السنّةَ كثيرَ اهتمامٍ، وأنها قَصَرَت اهتمامَها على سُنّة الصحابة وأقوالهم. إذ يدّعي أن حجّية الحديث تدنّت عندهم بسبب إيلائهم الأهمّيةَ لأقوال الصحابة "نظريّاً وعمليّاً". ويستند على ذلك بما جاء في كتاب "اختلاف العراقيّين" للشافعيّ، وهو كتابٌ يتتبّع فيه الشافعيُّ الخلافَ الفقهيّ بين أبي حنيفة النعمان (المتوفّى سنة 150هـ) وابنِ أبي ليلى قاضي الكوفة (المتوفّى سنة 148هـ) مِن زعمِهم أنهم "لا يخالِفون الواحدَ من أصحاب النبيّ"، وهو ما يعُدّه شاخت دليلاً على تقديمهم أقوالَ الصحابة على حديث النبيّ أو جعلِهما في مرتبةٍ واحدة. ولا تصحّ هذه الدعوى إلا بإغفال الشواهد الكثيرة التي استند فيها كبارُ أئمّة المدرسة إلى أحاديث النبيّ، ومنها ما ذكره أبو يوسف، تلميذُ أبي حنيفة، في كتاب "الخراج"، إذ يَنقل سؤالَ هارون الرشيد عما يجب في الصدقة، وإجابتَه بوجوب أمر أمير المؤمنين "للعاملين عليها بأخذ الحقّ وإعطائه مَن وجب له وعليه، والعمل في ذلك بما سَنَّه رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم ثم الخلفاءُ من بعده".
ومن جملة الأخطاء في منهج شاخت خطؤه في الاستدلال. يظهر ذلك في دعواه أن "قاعدةً قانونيةً غيرَ معروفة الأصل كانت كافيةً عند الأوزاعيّ ليُثبِت سُنّةً مقبولة". ويمحّص الأعظميُّ هذه الدعوى ويَخْلُص إلى كونها معارضةً للحقائق لأن الأوزاعيّ يصرّح في مواضع كثيرةٍ أن العمل بالسنّة بدأ مع رسول الله، فيقول على سبيل المثال: "مضت السُنّةُ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [أنّ] مَن قتَل عِلجاً [أي كافراً محارِباً] فلَه سَلَبُه [أي غنائمه]". كذلك يَظهر خطأُ الاستدلال، بحسب قول الأعظميّ، في دعوى شاخت أن لفظة السُنّة لم تكن تدلّ على سُنّة النبيّ، وأن سُنّة النبيّ لم تكن شيئاً معلوماً، إذ كيف يمكن للسلطة أن تدعو الناسَ لاتّباع سُنّة الرسول أو تَعِد بالعمل طبقاً لها لو لم تكن معروفةً واضحةً بين عموم الناس والعلماء.
ويتجلّى فسادُ الاستدلال في اعتماد شاخت على رأي ابنِ المقفّع. إذ لم يكن ابنُ المقفّع عالماً متخصّصاً في الحديث أو الشريعة، بل كان أديباً ومفكّراً غيرَ متخصّصٍ، فلا يَصلُح كلامُه، بحسب رأي الأعظمي، دليلاً على معنى السُنّة.
أمّا رابع أوجُه القصور المنهجيّ عند شاخت فالتناقض الداخليّ في مشروعه. إذ يذهب في كتابه "مقدمة في القانون الإسلامي" إلى أن المدارس الفقهية السابقة على ظهور الشافعيّ أبدَت "مقاومةً قويةً للعناصر المزعجة الممثّلة بالأحاديث التي يدُّعى نسبتُها إلى الرسول". أي أنّ هذه المدارس أو المذاهب الفقهية كانت تتشدّد في قبول الأحاديث النبوية لتبنيَ عليها الأحكامَ الشرعية. ولكنه يعود في كتابه "أصول الفقه المحمدي" ليؤكّد أنّ "العداء تجاه الأحاديث … كان ردَّ فعلٍ طبيعيٍّ من الفقهاء المتقدّمين ضدّ استحداث عنصرٍ جديدٍ، وقد بقي أثرُ هذا العداء للأحاديث في موقف المدارس الفقهية القديمة". هذا الرأيُ يناقض قولَه في كتابه "أصول الفقه المحمدي" أن "يبنيَ الشافعيُّ قبولَه الذي لا يَقبل النقاشَ لأحاديث الرسول على النصوص القرآنية والتي تجعل طاعةَ الرسول أمراً واجباً".
على أن هذا الاحتفاء لم يدُم طويلاً. إذ سرعان ما بدأت أوجُه العوار في النظرية تتكشّف، فسعى المستشرقون إلى ترميمها. على سبيل المثال، انتبه ماكس برافمان (1909- 1977م)، الذي عمل في مكتبة جامعة كولومبيا حين كان شاخت يُدرّس فيها، في كتابه "الخلفية الروحية للإسلام المبكر" إلى الخطأ المنهجيّ الذي وقع فيه مارغليوث وشاخت. فقد رأى كلٌّ منهما أن عمل الرسول، والذي أحالَه وتجاهلَه الرجلان ونسباه إلى عمل الخلفاء مثل أبي بكرٍ أو عمر أو عثمان رضي الله عنهم أو "عمل المسلمين والأمّة" عموماً، كان خطأً منهجياً لأن مصطلحَ "سيرة رسول الله" هو نفسُه الذي استخدُم في قَسَم عثمان بن عفان عند تولّيه الخلافةَ، كما نرى في تاريخ البلاذريّ الذي جاء بنصّ الخبر. وهو يعني سُنّة الرسول وإجراءاته، ممّا يُبرِز جليّاً أنّ المرادَ بعبارة "عمل الرسول" هو عمل الرسول نفسه الشخصيّ المحدّد، وليس عمل الأمّة، وأن ما كان مطلوباً من المرشَّح ليُنتخَب خليفةً لعُمَر إنما هو الالتزام بالسُنّة الشخصيّة للرسول، أي "سيرة رسول الله"، كما يقول برافمان الذي يعود ويؤكّد: "إنه قد تمّ التصريح بلزوم السُنّة الشخصية للرسول كمبدأٍ أساسيٍّ فيما يتعلّق باختيار خليفةِ عُمَر".
وعابَ نويل.ج كولسون (1926- 1986م)، تلميذُ شاخت، على نظريةِ أستاذِه قصورَها عن تفسير تطوّر الفقه الإسلاميّ. إذ لو كانت الأحاديثُ النبويةُ وُضِعَت في القرنين الثاني والثالث الهجريَّين، لكان ظهورُ الفقه تأخَّرَ إلى هذا التاريخ، ولَاختلّ بالتالي واقعُ المجتمع الإسلاميّ. فالقرآن الكريم جاء مثلاً بتحديد أنصبةِ الفروض في الميراث، وأشار إلى استحقاق أصحاب الأنصبة أنصبتَهم بعد الوصيّة، دون أن يقيّد الوصيّة. وبحسب شاخت، فإن "سُنّة" تحديد الوصيّة بثُلث التركة وُضِعَت في أواخر العصر الأمويّ، أي الربع الأول من القرن الثاني الهجريّ. بَيْدَ أنّ كولسون يشكّك في منطقية هذه الفرضية، لأن تطبيقَ أحكام المواريث التي شرّعها القرآنُ والتي أوردت السُنّةُ تحديدَ أنصبتِها ومقدارَ الوصيّة كان قبل ذلك التاريخ الذي يزعمُه شاخت بكثيرٍ، أي في عهد النبوّة. وإلّا لم يكن ممكناً تطبيقُ هذه الأحكام حتى نهاية العصر الأمويّ، وهذا مُحال.
ممّا سبق يمكن أن نفهم أن الأسسَ التي قام عليها بناءُ جوزيف شاخت بإزاء السُنّة النبويّة، والتشكيكَ فيها، كان يَستهدِف نقضَ الإسلام وتشريعاته وأصوله؛ فهدمُ السُنّة النبويّة إن سَلّمَ به أحدٌ سيكون مقدّمةً لهدم الفقه الإسلاميّ وأحكامه. ولهذا السبب وقف كثيرٌ من العلماء المسلمين في العصر الحديث مثل مصطفى السباعيّ ومحمد مصطفى الأعظميّ ومحمود حمدي زقزوق وغيرهم في وجه نظريةِ شاخت ومِن قبلِه غولدتسيهر، وكَشفوا بمنهجيةٍ علميةٍ هادئةٍ عن أوجُه القصور الكبيرة التي سقط فيها أربابُ تلك الآراء من المستشرقين.
لقد ثَبت لدى هذا الجمع من علماء الحديث المسلمين في العصر الحديث أوجُه النقص المنهجية والعلمية الواضحة التي اتّكأ عليها شاخت في نظريته من حيث قراءته القاصرة لتاريخ الحديث النبويّ ونشأته المبكّرة في القرنين الأوّلين من الهجرة. وكان شاخت، كما مرّ بنا، كمن يبحث عن إبرةٍ في كومةٍ من القشّ تَدعم رؤيتَه؛ فكأنما دخل حقلَ التراث الإسلامي المبكّر متشبّعاً بنظريةِ أستاذِه غولدتسيهر يريد التأكيدَ عليها، وتمريرَها بالقراءة التعسّفية للنصوص الحديثية والأصولية القديمة، والتي كشفت عن جهلِه بالسياق واللغة. فضلاً عن تدليسه في اقتطاع الشواهد عن أصولها العامّة. وهو بهذا يخالِف ما استقرّ عليه المنهجُ العلميّ السديد الذي يَحضّ المشتغلين بالعلوم على البحث دون تحيّزٍ مسبقٍ بُغيةَ الوصول إلى نتائج مضلّلة.