كيف واجه المسرحيون اليمنيون الاستعمار والاستبداد بشكسبير

تحوّلت أعمال شكسبير في اليمن وسيلة المسرحيين لمواجهة الاستعمار، ثم الاستبداد المحلي.

Share
كيف واجه المسرحيون اليمنيون الاستعمار والاستبداد بشكسبير
غيَّر اليمنيون نهايات مسرحيات شكسبير وبعض أحداثها للتعبير عن مواقف سياسية | تصميم خاص بالفراتس

في الأول من أبريل سنة 1607، أبحرت سفينة "رِد دراغون" (التنين الأحمر) التابعة لشركة الهند الشرقية من ساحل إنجلترا الجنوبي قاصدةً الشرق، بقيادة الربّان ويليام كيلينغ. مرّت بوقفاتٍ عدة في غرب إفريقيا. وبسبب الريح المعاكسة، وصلت السفينة متأخرةً سنة سواحلَ جزيرة سقطرى اليمنية. فاستقرت حولها في أبريل سنة 1608 مدخلاً لخليج عدن. وهناك، أمر الربّان بحّارتَه بإعداد عرضٍ مسرحيٍّ لكسر الملل والرتابة. ورد ذلك في بحث "أرابيسك: شكسبير آند غلوبالايزيشن" (أرابيسك: شكسبير والعولمة) المنشور سنة 2006، للباحثَيْن غراهام هولديرنِس وبراين لاوري. تحوّل سطح السفينة مسرحاً، وعُرضت عليه مسرحية "هاملت"، التي ألَّفها الكاتب والمسرحي الإنجليزي ويليام شكسبير في مطلع القرن نفسه.

لم تُعرض مسرحيات شكسبير قبل ذلك في العالم العربي، بل لم تكن عُرضت خارج أوروبا أو على السفن في عرض البحر قطّ. ومضت قرونٌ أخرى قبل أن تُعرض مسرحية "يوليوس قيصر" باللغة العربية في مدينة عدن جنوب اليمن سنة 1911. وكان ذلك أول عرضٍ في اليمن لمسرحيات شكسبير يوثّقه مؤرخون محلّيون، مثل عمر بامطرف في كتابه "قصة المسرح في عدن" المنشور سنة 1966.

ارتبط عرض مسرحيات شكسبير بالظروف السياسية في اليمن، وعُدِّل بعض مشاهدها ونصوصها ليناسب القضايا التي أراد المسرحيون مناقشتها. إبّان الاستعمار البريطاني الذي بدأ في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، اتخذ المسرحيون اليمنيون أعمال شكسبير وسيلةً للتعبير عن موقفهم المناهض للاستعمار، ومواجهة القمع السياسي والرقابة. وبعد زوال المَلَكِيَّة في شمال اليمن واستقلال جنوبه في ستينيات القرن الماضي، واجه المسرحيون واقعاً مختلفاً. مكَّنهم هذا الواقع أحياناً من تجاوز شكسبير وعرض أعمالٍ مسرحيةٍ محليةٍ تعالج الواقع الاجتماعي والسياسي اليمني. ودفعهم في أحيانٍ أخرى لإعادة توظيف مسرحيات شكسبير بما يلائم التحولات السياسية والاجتماعية. بهذا، لم تعد هذه الأعمال وسيلةً لمناهضة الاستعمار فحسب، بل صارت وسيلةً لمعارضة الاستبداد المحلي كذلك.


عرفَ اليمنيون مسرح شكسبير في القرن العشرين بسبب احتلال بريطانيا لبلادهم. بدأ الاحتلال من مدينة عدن، ذات الأهمية المركزية في طرق التجارة الأوروبية مع الخليج وشرق إفريقيا والمستعمرات الأوروبية في الهند، بسبب إطلالها على المحيط الهندي والبحر الأحمر وبحر العرب. وصلت القوات البريطانية سواحلَ المدينة سنة 1839، وفرضت سيطرتها على الميناء ثم على عدن، وتوسَّع حكمها حتى عمَّ جنوب اليمن. وفي العقود اللاحقة، أضحت عدن مركزاً ثقافياً وتجارياً، ومحطةً يتوقف فيها الأوروبيون في رحلاتهم الدورية بين بلدانهم والمستعمرات الشرقية، فكثرت فيها الصحف والمجلات. وأُضيف إليها في القرن العشرين دور السينما والمسرح، الذي اكتسب شعبيةً كبيرةً، في زمنٍ وجيزٍ، بين طلبة المدارس البريطانية أولاً، ثم في قطاعاتٍ أوسع داخل المجتمع اليمني. 

كانت مسرحية "يوليوس قيصر" موضعَ اهتمام الجيل الأول من المسرحيين اليمنيين. تناقش المسرحية المأساوية، التي ألَّفها شكسبير سنة 1599، قضايا السلطة والثورة والشرعية والخيانة بعرض سيرة القائد الروماني الذي اجتمعت فيه الكفاءة العسكرية والاستبداد واغتاله المتآمرون، فانهارت باغتياله الدولة. في أواخر سنة 1910، ترجم المسرحيةَ إلى العربية المسرحيّ حمّود بن حسن الهاشمي أو "مستر حمّود"، وهو رائد المسرح الصامت في اليمن.

في السنة التالية، أخرج الهاشمي المسرحيةَ التي عُرضت في ملعب التنس في كريتر بمدينة عدن، فكانت أولَ مسرحيةٍ لشكسبير تُعرض بالعربية. لم يقتصر حضور العرض على خرّيجي المدارس البريطانية ممن قرؤوا بعض أعمال شكسبير في دراستهم. فقد حضر معهم عامّة الناس، الذين تعرَّفوا من المسرحية على شكسبير، وأوَّلوها على نحوٍ مناسبٍ للظروف الاجتماعية والسياسية التي عاشوها في اليمن.

رأى الجمهور اليمني في "يوليوس قيصر" نقداً لسلطة الاحتلال. فالمسرحية تصوِّر اغتيالَ قيصر خيانةً سياسيةً ارتكبها أشخاصٌ، مثل صديقه المقرّب والقائد في جيشه بروتوس، بدعوى حماية الجمهورية. وقد أدّت في النهاية لانهيارها. في المقابل، وفقاً لبامطرف في كتابه "قصة المسرح في عدن"، روَّج البريطانيون المسرحيةَ لترسيخ فكرة طاعة السلطة، وتصوير الخروج عليها بالثورة والاغتيالات سبباً للانهيار والتراجع.

وبحسب مقال الأديب اليمني سعيد العولقي "لمحات من المسرح البريطاني واليمني" المنشور في جريدة "فتاة الجزيرة" سنة 1952، أعادَ المسرحيون اليمنيون تفسير أحداث المسرحية وفقاً لواقعهم تحت سلطة الاستعمار البريطاني. فصوَّروا اغتيال قيصر انتصاراً للشعب الرافض للطغيان، والصراعَ الداخليَّ الذي عاشه بروتوس أزمةَ ضميرٍ يعانيها كلُ من يواجه سلطةً استبدادية. وبسبب هذه المعالجة، رأى الجمهور في المسرحية نقداً للاحتلال وتشكيكاً في شرعية سلطته. فخرجوا من المسرح بعد العرض في احتجاجاتٍ صغيرةٍ نُشرت أخبارها في بعض الصحف المحلية، مثل "الصقر البريطاني" و"محمية عدن"، ورصدها سعيد العولقي في كتابه "سبعون عاماً من المسرح في اليمن" المنشور سنة 1983. 

كانت مسرحية "يوليوس قيصر" مدخل معرفة اليمنيين بمسرح شكسبير، وسرعان ما اهتمّوا بأعماله الأخرى. تشكّل فريقٌ مسرحيٌّ شبابيٌّ، كان من بين أعضائه المؤرخ عبد الله يعقوب، بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى سنة 1918. عرض الفريق عدداً من المسرحيات، أبرزها "روميو وجولييت"، وهي مسرحية رومانسية مأساوية ألَّفها شكسبير على الأرجح بين سنتَيْ 1595 و1596 ونُشرت نسخةً أولى سنة 1597. تحكي المسرحية قصة حبيبَين إيطاليين من بيتَين متصارعَين من مدينة فيرونا. انتحر الحبيبان بسبب صراع العائلتين، قبل أن تتصالح العائلتان ويندم أفرادهما على دورهما في مقتل العاشقَيْن. عُرضت المسرحية أول مرّةٍ في اليمن سنة 1926، فكانت الشرارةَ الأولى لانطلاق الحركة المسرحية في البلاد. وكان عرض المسرحية محاولةً مبكرةً للتحرر من القيود الاجتماعية و"التقييد الاستعماري للحرّيات الذي عمل على الضغط الدائم على أيّ وسيلةٍ تثقيفيةٍ وطنية"، حسب كتاب العولقي.

ومع زيادة الاهتمام بشكسبير وترجمة مسرحياته وعرضها على مسارح اليمن، ظهرت بعض العوائق التي حالت دون عرض بعض المسرحيات. مثلاً، مَنعت الرقابة السياسية والتقاليد الدينية صعود المرأة خشبة المسرح، فأدَّى بعض الرجال أدوارَ النساء في المسرحيات. والطريف أن هذا كان واقع الحال أيضاً في إنجلترا، زمن شكسبير نفسه.

على أن اقتصار التمثيل على الرجال لم يحُل دون انتقاد رجال الدين المسرح. ظهر هذا الانتقاد على صفحات الجرائد والمجلات، ومنها صحيفة "الذكرى" التي أسّسها سنة 1948 ورَأَسَ تحريرَها الشيخ علي محمد باحميش، أحد أبرز رجال الدين في عدن في القرن العشرين. سلكت المجلة مسلكاً اجتماعياً محافظاً وهاجمت في مقالاتها المطالَبات بحقوق المرأة. وخصّصت كذلك بعض مقالاتها لانتقاد عرض المسرحيات وتأدية الرجال أدوار النساء على المسرح، باعتبار ذلك من تشبّه الرجال بالنساء المنهيّ عنه شرعاً.

احتلَّ المسرح مساحةً كبيرةً في الفضاء العام مع حلول النصف الثاني من القرن العشرين، وقُدِّمت الأعمال المسرحية بانتظامٍ في المسارح والساحات العامة والمدارس ومعسكرات الجيش. عُرضت كذلك على شاشات التلفزيون بعد أن أنشأت السلطة البريطانية في سبتمبر 1964 محطةً تلفزيونيةً لاستمالة الأصوات المعارضة في الشارع، خصوصاً بعد استقلال شمال اليمن عن الحكم الإمامي في سبتمبر 1962. وكانت ثورةٌ قادها الجيش بقيادة عبد الله السلّال قد خلعت الملك المتوّج حديثاً، الإمام محمد البدر، وأُعلن اليمن الشمالي جمهوريةً. أعقب ذلك حربٌ أهليةٌ لثمان سنواتٍ بين مؤيّدي الإمامية والموالين للثورة.


في ظلّ هذه الاضطرابات تحت الاستعمار البريطاني، تحوَّلت مسرحيات شكسبير منصاتٍ للدعاية والحشد السياسيَّيْن. بالعموم، منعت هيمنة الرقابةِ المسرحَ من الاشتباك المباشر مع قضايا الحياة اليومية في اليمن المحتلّ. فلجأ المسرحيون لتقديم القصص التاريخية والرومانسية، التي جذبت الجماهير بطابعها الحماسي دون اصطدامٍ بقيود الرقابة، وتوظيفها لتسليط الضوء على تلك القضايا بصورةٍ غير مباشرة. لم تكن مسرحيات شكسبير بدايةً محلّ تهمة. رأت فيها سلطات الاحتلال وسيلةً للترويج للثقافة البريطانية، فأكثرَ المسرحيّون اليمنيون من عرضها وغيّروا بعض نصوصها لتلائم السياق اليمني، وسيلةً لمقاومة الاحتلال. 

مثلاً، بحسب صحيفة "النهضة"، تكوَّن في نهاية ثلاثينيات القرن العشرين عرضٌ من غير إعدادٍ مسبقٍ لمسرحية "عُطَيْل"، التي ألّفها شكسبير سنة 1603، وغُيّر في النص بعض التفاصيل. تتناول المسرحية الأصلية الصراع بين القائد المغربي عطيل المعروف بشجاعته وبين تابعه ياغو، الذي يكنّ له الحسد بسبب مكانته وزواجه من ديدمونة الجميلة، ابنة سياسيٍّ بارزٍ في البندقية الإيطالية. يحيك ياغو مؤامرةً تشكّك عطيل في زوجته، فيقتلها ظانّاً خيانتها. وحين يكتشف الحقيقة، يردّد عبارته الشهيرة: "لقد انتهى ذلك الذي كان يُدعى عطيل"، قبل أن ينتحر.

على المسرح اليمني ظهر ياغو، ممثل الشرّ، يلفّ العلم البريطاني حول عنقه. وبعد انتهاء العرض، الذي حضره جمهورٌ متوسطٌ، خرجت الجماهير في مسيرةٍ عفويةٍ إلى مقرّ المستشار البريطاني في عدن، مردّدةً شعاراتٍ مناهضةً للاستعمار. فرّقت الشرطة البريطانية الحشد وصنّفت الحادث "أعمال شغب"، حسب ما ورد في صحيفة "الصقر" الصادرة عن السلطات البريطانية في عدن.

فتحت هذه الحادثة باب التوظيف السياسي لمسرحيات شكسبير، وتعديلها لتناسب السياق المحلّي. فترجم الشاعر الساخر مسرور مبروك مسرحية "عطيل" بلهجةٍ محلّيةٍ أوّل مرّةٍ في تاريخ المسرح اليمني. وقد عُرضت في سلطنة لحج (سلطنة العبادلة)، وهي أحد الكيانات التي دخلت في اتفاقية حمايةٍ مع بريطانيا في أوائل القرن التاسع عشر وأصبحت جزءاً من محمية عدن سنة 1940. وبعد عامٍ، عُرضت المسرحية كاملةً في منطقة الحوطة عاصمة لحج. تأسست فرقة العروبة للتمثيل مستفيدةً من هذا الزخم الجماهيري، حسب ما يوثق المؤرخ المسرحي حسين الأسمر في كتاب "المسرح في اليمن: تجربة وطموح" المنشور سنة 1991. وقدّمت الفرقة الأعمال الأجنبية والدينية والتاريخية، ومنها مسرحية "عطيل" باللهجة المحلية الدارجة. وساهم ذلك في جذب الجمهور من المناطق المحيطة، وسهّل عليهم فهم رموز المسرحية السياسية والاجتماعية، فلم يَرَ فيها الجمهور أدباً إنجليزياً، ولكن بياناً مسرحياً ضد القمع والخيانة والاستغلال وتعليقاً مباشراً على الوضع السياسي.

غيَّر اليمنيون نهايات مسرحيات شكسبير وبعض أحداثها للتعبير عن مواقف سياسية. مثلاً، أثار موت عطيل غضب الجماهير الرافضة انتصار الشرّ، فخرجوا من العرض غاضبين. وفي دراسةٍ بعنوان "ذي أرابايزيشن أوف أوثيلو" (تعريب عطيل) المنشور سنة 1998، تشير أستاذة الأدب المقارن العراقية فريال غزول لرؤية الجمهور نفسَه في عطيل، ذي الأصول الشمال إفريقية، ورفضهم هزيمته. وهو ما اضطرّ المخرجَ محمد عبده الدقمي لتغيير النهاية. وفي النسخة المعدّلة، اكتشف عطيل المؤامرة وواجه ياغو وأصدر حكماً بإعدامه. فضرب عنقه جزاء خيانته ليُقتل الشرّ وينتصر الخير، وأُعيد تسمية المسرحية "جزاء الخيانة".

لم يقتصر المسرحيون اليمنيون على تعديل المسرحيات لتناسب سياقهم المحلّي، بل استعملوا مسرحيات شكسبير للتعبير عن مواقفهم وحشد الجماهير للقضايا الإقليمية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية.

كانت مسرحية "تاجر البندقية"، التي كتبها شكسبير بين سنتَيْ 1596 و1598، الوسيلة الأساسية للتنبيه إلى خطر ما رآه مسرحيّو اليمن حينئذٍ اعتداءً يهودياً على فلسطين. تتناول المسرحية قصة أنطونيو، التاجر الإيطالي المحبوب الكريم، الذي اضطرّ لاقتراض المال من المُرابي اليهودي شايلوك، ليقرِض صديقَه بسانيو من أجل الاستعانة على الزواج. أعطى شايلوك المالَ لأنطونيو مقابل توقيعه عقداً يتيح لشايلوك قطع "رطل من اللحم"، من أي جزءٍ يختاره من جسده، إذا تأخر عن السداد. وحصل فعلاً أن تأخّر أنطونيو عن السداد، فطالب شايلوك المحكمةَ بتمكينه من اقتطاع رطلٍ من لحم أنطونيو. ومع فشل كلّ محاولات إقناعه بالعدول عن ذلك، ظهرت بورشيا، زوجة بسانيو متنكرةً، وقالت إن شايلوك يحقّ له الحصول على رطلٍ من لحم أنطونيو لكن دون إسالة قطرة دمٍ واحدة.

التقط المسرحي اليمني المصري علي أحمد باكثير هذه المسرحية مرآةً يعلِّق بها على الواقع السياسي. ففي أوج مشروع تأسيس دولة إسرائيل في منتصف الأربعينيات، حرص باكثير على متابعة ما يُكتب عن فلسطين في الصحف والكتب العالمية. وذات يومٍ، بحسب ما ذكر في كتابه "فن المسرحية من خلال تجاربي الشخصية" المنشور سنة 1958، قرأ خبر إلقاء الزعيم الصهيوني الروسي الأصل زئيف جابوتنسكي، مؤسس حركة الصهيونية التصحيحية اليمينية، خطاباً في مجلس العموم البريطاني طالب فيه الحكومةَ البريطانية بإعطاء الصهاينة "رطل اللحم، فلن نتنازل أبداً عن رطل اللحم". ألهمت العبارة باكثير توظيف شكسبير لنقد المشروع الصهيوني، فكتب مسرحية "شايلوك الجديد" سنة 1944.

تطرح المسرحية قضية الادعاء الصهيوني بأحقّيته في إقامة دولة إسرائيل على أرض فلسطين، مستندةً إلى خطاب جابوتنسكي. ويُسقط باكثير هذا الخطاب على رمزية شخصية شايلوك في مسرحية شكسبير "تاجر البندقية". إذ أن رطل اللحمن الذي اشترطه شايلوك من جسد أنطونيو، لا يمكن اقتطاعه دون إراقة الدم. كذلك لا يمكن اقتطاع وطنٍ قوميٍّ لليهود من فلسطين دون سفك الدم العربي. وتنتهي المسرحية ببطلان دعاوى الصهيونية، كما سقطت دعوى شايلوك في المحكمة.

ازداد الاهتمام بالمسرحية بعد النكبة. ومع إعلان دولة إسرائيل سنة 1948، كثر عرضها في جنوب اليمن. وبحسب مقالٍ للناقد أحمد الريدي بعنوان "فلسطين في بدايات المسرح المعاصر في اليمن" منشورٍ سنة 2001 في صحيفة "14 أكتوبر"، عرضت فرقة العروبة المسرحيةَ على خشبة المسرح اليمني في عدن ثمّ في صالة سينما البريقة في المنطقة، لتصبح واحدةً من الأعمال التي عكست اهتمام الشارع اليمني بالقضايا العربية.

استمرّ المسرح في التوعية بالقضية الفلسطينية وحشْد التأييد لها. ففي ديسمبر 1947، اندلعت أعمال شغبٍ ردّةَ فعلٍ غاضبةً على قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين، ثم تطوّرت لهجماتٍ على الحيّ اليهودي في عدن. قُتل في الأحداث ما لا يقلّ عن سبعين يهودياً، فيما عُرف لاحقاً بِاسم "مذبحة عدن". انعكس الغليان الشعبي في عددٍ من المسرحيات السياسية، أبرزها مسرحية "يوليوس خارج القصر" المأخوذة عن يوليوس قيصر. قدّمت فرقة العمال نسخةً معدَّلةً من المسرحية في سينما شاهيناز بعدن باللهجة المحلية. وبحسب العولقي في كتابه، سحبت السلطات البريطانية ترخيص عرض مسرحية "اليازجي"، وهي نسخةٌ محليةٌ أخرى من مسرحية "يوليوس قيصر".


لم يمضِ وقتٌ طويلٌ حتى أدرك الرقيب أن هذه المسرحيات وُظِّفت لخدمة أهدافٍ غير التي أرادها، ففرضت عليه السلطات رقابةً صارمة. ومع تصاعد الاحتجاجات إبّان الحرب العالمية الثانية، منعت السلطات عرض مسرحية "الشعب والقيصر"، التي أعدّها المخرج عثمان سوقي مستنداً إلى "يوليوس قيصر"، حسب ما يوثق العولقي.

انتقدت المسرحية الأوضاع الاجتماعية والسياسية، وسخرت من انتهاكات السلاطين وبطش الاستعمار والتفاوت الطبقي في المحميات البريطانية. ومع مرور السنوات، سمحت السلطات البريطانية بعرضها في ديسمبر 1948 بعد تعديلٍ وحذفٍ لبعض المشاهد، لتُعرض أخيراً في دار سينما "برافين" في كريتر بعدن. وذلك كما يكشف مقال الناقد علي عبدالله الباصهي "أعباء سياسية أم فنية"، المنشور في جريدة "فتاة الجزيرة" سنة 1953.

امتدّ المنع ليشمل مسرحياتٍ أخرى مأخوذةً عن أعمال شكسبير. في الذكرى الأولى لتأسيس جامعة الدول العربية سنة 1946، أعدّت فرقة "البادري" التابعة لإحدى المدارس الأهلية مسرحيةً موسيقيةً محليةً مأخوذةً عن مسرحية "روميو وجولييت". منعت السلطات البريطانية عرض المسرحية لتزامنها مع تأسيس الجامعة. وقوبل المنع بمعارضة الطلبة والأساتذة الذين أصرّوا على عرضها. انتهى التفاوض بين البريطانيين والطلبة إلى تأجيل العرض ثلاثة أيامٍ، والاقتصار على عرض المسرحية مرةً واحدةً داخل المدرسة، وفقاً للعولقي.

ويضيف العولقي في كتابه أنه لم يقتصر المنع على سلطات الاحتلال. إذ مَنَعَ سلطان لحج، عبد الكريم فضل بن علي محسن، الأنشطةَ المسرحية وطرد المسرحيين من سلطنته آنذاك خوفاً من انتشار الوعي السياسي بين الجمهور بواسطة المسرح. كانت المساحات المدنية الهامشية تعكس تنامي السخط الشعبي تجاه الإدارة البريطانية.


لم ينتهِ اهتمام اليمنيين بمسرح شكسبير مع انتهاء الحكم الإنجليزي لبلادهم. ففي السنوات اللاحقة لقيام الجمهورية في شمال اليمن وجنوبها سنة 1962، وجلاء الإنجليز سنة 1967، تراجعت أهمية شكسبير الذي استُخدم في وجود الإنجليز لتمرير مسرحياتٍ لم تكن لتمرّ بلا اسمه. وقد كثرت البدائل المسرحية المحلية. إلّا أن مسرحيات شكسبير سرعان ما عادت وسيلةً للدعاية والحشد السياسيَّيْن، وإن صار الاستبداد المحلّي لا الاحتلال موضوع نقد المسرحيِّين.

في جنوب اليمن، صوّرت السلطة الجديدة مسرحيات شكسبير رمزاً للاستعمار وجزءاً من التأثيرات الغربية غير المرغوبة. وفي غياب الإنجليز، تضاءلت الحاجة لمسرحيات شكسبير وسيلةً لتجنّب الرقابة السياسية الصارمة التي فرضتها سلطات الاحتلال سابقاً. في هذا السياق، ظهرت عروضٌ مسرحيةٌ محلية التأليف تمجّد الثورة والفدائيين وتهاجم الاستعمار البريطاني والسلاطين والإقطاع، وتزاحم شكسبير على منزلته في المسرح اليمني.

لم يختلف الوضع كثيراً في الشمال، حيث تأخر تشكّل المسرح إلى الخمسينيات. في عهد الإمامة الزيدية حتى سنة 1962، دفعت الريبة من النفوذ الغربي المسرحيين للاعتماد على كتب التاريخ والأدب والسيرة الشعبية والأساطير وأحداث الفتوحات العربية والإسلامية وأبطالها. لم تسلَم هذه التجربة من بطش الإمام أحمد، الذي تولّى السلطة خلفاً لأبيه الإمام يحيى حميد الدين.

مثلاً، وبحسب عبدالله البردوني في كتاب "الثقافة والثورة في اليمن" المنشور سنة 1991، تطلّبت مسرحية "غزوة اليرموك" التي عُرضت في منتصف الخمسينيات ارتداء بعض الممثّلين ملابس إفرنجيةً، وهو ما عدّته السلطة خروجاً عن الإسلام. وبعد انتهاء العرض، جِيء برئيس المحكمة الاستئنافية العليا لكي يجدّد إسلامَهم بالشهادة. ومع قيام الجمهورية بعد ثورة 1962، توالت العروض المسرحية محلّية التأليف التي تناولت القضايا السياسية وتحولات المجتمع.

عاد مسرح شكسبير مع عودة الاضطراب السياسي. فبعد فشل الانقلاب على الرئيس علي عبد الله صالح، الذي لم يكن قد مضى على توليه الحكم سوى أشهرٍ قليلةٍ سنة 1978، شهدت البلاد حملة اعتقالاتٍ واسعة. طالت الحملة مع الخصوم السياسيين فنانين ومسرحيين كانت لهم صلاتٌ مباشرةٌ، أو غير مباشرةٍ، بالعمل السياسي. أسهمت هذه الأحداث في تقليص مساحة الفضاء المدني وفرضت السلطات رقابةً صارمةً على الأنشطة الثقافية والفنّية، وعلى رأسها المسرح.

شهدت هذه الفترة عرض مسرحية "هاملت"، أطول مسرحيات شكسبير، للمرّة الأولى. تتناول المأساوية التي ألَّفها شكسبير بين سنتَيْ 1599 و1602 قصة انتقام الأمير هاملت من عمّه كلوديوس الذي استولى على عرش أبيه وتزوّج أرملته، أمّ هاملت. وتتجاوز المسرحية حدود الانتقام الشخصي، لتقدّم تأمّلاً فلسفياً في معنى العدالة وجدوى الفعل في عالمٍ لا يقين فيه. وفيها العبارة الشهيرة "أكون أو لا أكون"، التي وردت على لسان هاملت. عُرضت "هاملت" في قاعة الثقافة بصنعاء في ديسمبر سنة 1978. وقد أخرجها محمد صالح، الذي تربطه صلة قرابةٍ ببعض قيادات الحزب الاشتراكي، وهو الحزب الذي شارك في تحرير جنوب اليمن من الاحتلال البريطاني.

لم تكن السلطة الوطنية أكثر تسامحاً مع مسرح شكسبير من سابقتها البريطانية. إذ رأت أجهزة المخابرات في "هاملت" نقداً للنظام الجديد. وبحسب الناقد أحمد الريدي في مقاله "المسرح الغربي في اليمن" المنشور سنة 2001 في صحيفة "14 أكتوبر"، استدعت أجهزة الأمن محمد صالح واستجوبته. وكان ممّا سألَت عنه قصده بعبارة "أكون أو لا أكون"، إذ رأت فيها إسقاطاً على الواقع السياسي اليمني.


فتَح توحيد شطرَي اليمن في مايو سنة 1990 الباب أمام نهضةٍ مسرحية. ففي أكتوبر، وبعد أسابيع قليلةٍ من إعلان الوحدة، نُظِّم أوّل مهرجانٍ مسرحيٍّ في اليمن في صنعاء شاركت فيه ثلاث عشرة فرقةً مسرحيةً من مختلف محافظات الجمهورية. قَدّمت الفِرَق مجتمعةً خمسة عشر عرضاً مسرحياً، وجّه بعضها انتقاداتٍ سياسيةً واجتماعيةً للنظام. وفي سنة 1993، أُقيم المهرجان المسرحي الثاني في قاعة الثقافة، بمشاركة الفرق المسرحية نفسها التي قدمت في هذه النسخة ثلاثةً وعشرين عرضاً تنوّعت بين الاجتماعي والسياسي. وتطرّق بعضها إلى مفاهيم الديمقراطية والتعددية والتداول السلميّ للسلطة، في تعبيرٍ عن التفاعل بين الفنّ والتحولات السياسية التي شهدتها البلاد.

ومع تزايد هامش الحرّية، تراجعت أهمّية مسرح شكسبير في تلك الفترة. إذ عرض المسرح اليمني عدداً من المسرحيات محلّية التأليف، التي تناولت بشكلٍ مباشرٍ ونقديٍّ القضايا السياسية والاجتماعية المحلية. مثلاً، انتقدت بعض المسرحيات رجال الدين والمؤسسة السياسية، مثل مسرحية "جدران الصمت" لعلي البثيني ومسرحية "التركة" لسعيد العولقي ومسرحية "القلاصات" لعبد الكريم الرازحي، وقد عُرضت كلّها سنة 1993. ومع السماح بالتناول المباشر لواقع اليمن، تضاءلت أهمية التناول المستتر الذي اعتاده المسرحيون من خلال تعديلهم أعمال شِكسبير.

لم يَطلْ بقاء هامش الحرية. فبعد انقلاب نظام علي عبد الله صالح على شريكه زعيم الحزب الاشتراكي علي سالم البيض، وحزبه في صيف سنة 1994، خَفَتَ صوت المسرح السياسي وأعاد القمع أعمالَ شكسبير إلى خشبة المسرح. وتحوّل المهرجان الثالث سنة 995، الذي حمل اسم المسرحي اليمني علي أحمد باكثير، محاولةً دعائيةً من نظام صالح لإظهار التزامه الظاهري بالحرّيات في وجه الانتقادات الدولية. وبرزت مجموعةٌ من الأعمال المسرحية الكلاسيكية. وقد وجدت المسرحيات الشعرية الرمزية، التي عالجت المتغيرات والأزمة السياسية والاجتماعية على نحوٍ غير مباشرٍ، مساحةً محدودةً للتعبير. ومن هذه المسرحيات "هاملت"، التي عادت إلى مسرح المخرج وائل عبدالله تعبيراً عن هذه التغيرات.

في كتابها "شكسبير أون ذي أرابيان بِنِنسولا" (شِكسبير في شبه الجزيرة العربية)، المنشور سنة 2018، ترجّح كاثرين هينيسي أن اختيار المسرحية كان نتاج الوضع السياسي بعد الوحدة خاصةً مع تصاعد التوتر بين الشمال والجنوب. إذ تحوّل هاملت الأب رمزاً للجنوب، خاصّةً علي سالم البيض، شريكِ صالح الذي خرج من الحكومة احتجاجاً على التهميش. أما هاملت الابن، فرمزٌ للشباب الجنوبي المغيَّب والمقهور، الذي مُنح حرية الكلام دون نفوذٍ وروقب حتى في أكثر دوائره خصوصيةً، ونُفِيَ أو هُدّد بالإعدام. ورمز كلوديوس، عمّ هاملت، للرئيس صالح نفسه الذي حافظ على قبضته على السلطة عقوداً مبتسماً أمام الكاميرات، بينما كانت البلاد تغلي وتغرق في مشاكل اقتصاديةٍ وسياسية. وجاء خطاب "أكون أو لا أكون" مفترق طرقٍ لشباب الجنوب، الذين وجدوا أنفسهم بين خيارين مريرين: الانتحار المعنوي أو التمرد المستحيل. بمعنى آخر، القبول بالغبن وقمع الحريات والاستسلام لعدم القدرة على التغيير ومن ثم الموت روحياً ومعنوياً، أو التمرد على سلطةٍ ليس عندهم كفايةٌ من الوسائل لمجابهتها.

كان استقبال الجمهور للعرض مشحوناً بالعاطفة. في حين تعاملت السلطة معه بصمتٍ حذرٍ أو إنكارٍ ضمنيٍّ، مدركةً أن المسرح بات ولو مؤقتاً ساحةً لمساءلة السياسة، وتسمية القمع بِاسمِه. وبدا تصفيق الجمهور في نهاية العرض، اعترافاً بقدرة الفنّ على الخوض في السياسة، حتى في ظلّ الاستبداد.


تراجع عرض أعمال شكسبير منذ عقد التسعينيات. وأضحى المسرح نشاطاً موسمياً يرتبط بالمناسبات الرسمية، فيما غابت عنه الأعمال الجادّة التي تتجاوز الطابع الاحتفالي. لم تَرَ السلطة فيه سوى مجموعة رجالٍ ونساءٍ ينفعلون ويردّدون بعض "الكلام"، وقد يُقال فيه كلامٌ سياسيّ.

ومع مطلع الألفية الجديدة، بدا المشهد المسرحي في اليمن وكأنه يقف على أطلال مسرح. اختفت الفرق الأهلية، وانسحبت شركات الإنتاج الخاصة التي كانت تحتضنها، وخلت البلاد من مسارح حقيقية. فأقيمت العروض في قاعاتٍ عامّةٍ تفتقر لأبسط مقومات العمل المسرحي. ويشير المخرج والمدير السابق للإدارة العامة للمسرح في وزارة الثقافة، مبخوت النويرة، في تصريحٍ لصحيفة "الموقع بوست" اليمنية في فبراير 2019 إلى أن افتقار البلاد إلى بنيةٍ تحتيةٍ مسرحيةٍ كان له تأثيره السلبي. فالمبنى الوحيد في صنعاء، الذي كان معَدّاً للمسرح، توقّف تدشينه سنة 2002. والقاعات الحالية في المراكز الثقافية، التي بُنيت في الثمانينيات على حدّ تعبيره، غير مناسبةٍ للعروض المسرحية.

ومع ذلك، عندما عادت بعض العروض المسرحية إلى الواجهة بجهودٍ محليةٍ ومبادراتٍ فرديةٍ، لاسيما الشبابية منها، وجدت جمهوراً حاضراً لم يتردّد في الحضور ودعم هذه المحاولات. لا بل بادر إلى شراء التذاكر والمساهمة في إحيائها. تزامنت العودة مع صعود دور المنظمات غير الحكومية – مثل مؤسسة دريم للثقافة والتنمية – التي موّلت عدداً من المبادرات الثقافية، منها الأعمال المسرحية التي تمحورت حول قضايا مجتمعيةٍ، مثل حقوق النساء والطفولة.

أتاح هذا التمويل للمسرحيين هامشاً من الاستقلال الماليّ، ومكّنهم من إنتاج نصوصٍ مستقلّةٍ وأكثر جرأةً، بعيداً عن وصاية الدولة ومزاج مؤسساتها. ولعلّ هذا ما يفسّر ظهور أعمالٍ مسرحيةٍ مختلفةٍ خلال النصف الأول من العقد، تزامناً مع انفتاحٍ سياسيٍّ نسبي. فقد قُدّمت مسرحية "المربع الأرجواني" في مايو 2004 في عدن لمخرجها علي اليافعي، وهي توليفةٌ ذات نسقٍ دراميٍّ متصاعدٍ لمشاهد من مسرحيات شكسبير، يوليوس قيصر وريتشارد الثالث وهاملت. وكأنّ في هذا المنحى المستقل، الذي يصفه اليافعي بأنه "مسرح حرّ"، تجسيداً لتصور الكاتب والناقد المصري صبري حافظ عن الحرية على خشبة المسرح. فهذه الحرية، حسب ما يرى، يجب أن تُفهم بمعنى حرية العمل. ليس فقط في المجال السياسي، وإنما ضمن علاقة الفرد بمجتمعه.

لكن التحولات الكبرى التي عصفت باليمن مع العقد الثاني من الألفية ساهمت في الحدّ من النشاط المسرحي. بدأت التحولات بثورة 11 فبراير سنة 2011 وفترة الحوار الوطني، ثمّ زحف جماعة أنصار الله (الحوثيين) نحو تعز وعدن سبتمبر 2014. وانتهت بتدخل "التحالف العربي" بقيادة السعودية في مارس 2015 في اليمن، وما تلاه من تحالفاتٍ وانقلاباتٍ وتغيراتٍ محلية. وفي شمال اليمن تحديداً، واجه المسرحيون حظر الحوثيين الأنشطةَ الفنّية، مثل الغناء والسينما والمسرح.

غاب شكسبير عن خشبة المسرح اليمني سنواتٍ طويلةً، قبل أن يعود سنة 2023 بعرضٍ جديدٍ لمسرحية "هاملت" في مدينة عدن. أعاد المخرج عمرو جمال إحياء النص الشكسبيري بعد نحو ثلاثة عقودٍ من العرض السابق، ليقدّم قراءةً معاصرةً للنصّ تناسب اللحظة اليمنية الراهنة.

اشترك في نشرتنا البريدية