شريط الكاسيت.. ثلاثين سنة خدمة في تحدّي المؤسسات المصرية

منذ ظهوره منتصف السبعينيات، أعاد الكاسيت تشكيل خارطة الثقافة الشعبية في مصر، مانحاً البسطاء من الموهوبين فرصة النجومية.

Share
شريط الكاسيت.. ثلاثين سنة خدمة في تحدّي المؤسسات المصرية
لم يكن الكاسيت محض وسيلةٍ للاستماع بل جزءاً من حركة صعودٍ طبقيّ | خدمة غيتي للصور

ذات ليلةٍ ربيعيةٍ في سنة 1973، انبعث لحنٌ جديدٌ من بين جدران البيوت المتلاصقة في أزقّة القاهرة من مكبّرات صوت جهاز "الراديو كاسيت" الوافد حديثاً وقتئذٍ على البيوت والمقاهي المصرية. أغنيةٌ شعبيةٌ بكلماتٍ غريبةٍ تجافي تراثَ الوَلَه الذي يتغنّى به كبار المطربين وصغارهم في حفلات أضواء المدينة والبرامج الإذاعية. وإيقاعٌ راقصٌ اجتاح المقاهي وحافلات النقل وصالونات البيوت البسيطة. يتراقص معهما صوت المطرب الشابّ أحمد عدوية. في غضون أشهرٍ قليلةٍ، حقّق عدوية ما لم يتخيّله أحدٌ من قبل. بيعت عشرات الآلاف من نسخ شريطه الأول "السح الدح امبو"، دون أن يمرّ بمقصّات الرقابة أو يستجدي إذناً من أجهزتها. ودون أن يتبنّاه واحدٌ من كبار الفنانين والمثقفين الذين اعتادت الصحافة المصرية مذّاك أن تسمّيهم "حراس الذوق العام".

أثار هذا النجاح الشعبي الهائل ذعرَ المؤسسة الفنّية التقليدية. فقد عجّت الصحف آنذاك بمقالاتٍ تندب "سقوط الموسيقى وموت الذوق العام ونهاية الثقافة الرفيعة". رَأَى النقاد أن وصول صوت عدوية إلى كلّ بيتٍ هكذا يمثل تمرداً على السلطة الثقافية المستقرة، وكسراً لهيمنة نجوم الطرب الكلاسيكي الذين احتكروا الأثير دوماً. لكن شريط الكاسيت فعلَ أكثر من مجرد إطلاق نجمٍ شعبي جديد. لقد دشّن مرحلةً جديدة ظهرَ فيها لاحقاً جهازٌ بحجم الجيب سيغدو سلاحاً يهزّ عروش المؤسسة الفنّية والدينية الرسمية على حدٍّ سواء. وهو ما يفصّله أندرو سايمون في كتابه "إعلام الجماهير: ثقافة الكاسيت في مصر" المترجم للعربية سنة 2024.


كانت سبعينيات القرن العشرين حقبةً مضطربةً من تاريخ مصر الحديث. حقبةٌ عنوانها الانفتاح الاقتصادي وتسارع التحولات الاجتماعية والاقتصادية، وشعورٌ بالاغتراب عند كثيرٍ. جاء ذلك إثر تغيّراتٍ سياسيةٍ عنيفةٍ، أهمّها توقيع اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية سنة 1979 التي زعزعت بعضَ القِيم التي ظنّها المصريون مستقرة. وفي خضمّ تلك التغيرات، أدّى شريط الكاسيت دوراً ثورياً يتجاوز الترفيه. أصبح وسيطاً ديمقراطياً يحمل على وجهيه أغانيَ وأدعيةً وخطباً كانت لتظلّ ممنوعةً أو منسيةً لولاه. وبهذا أتاحت أشرطة الكاسيت لأصواتٍ جديدةٍ أن تظهر وتنتشر، وساهمت في تفكيك سيطرة المؤسسات الرسمية على الإنتاج الثقافي والديني. وساعد رخص تكلفته وسهولة استعماله في نقل ثقافات الهامش إلى صدارة المشهد: من موسيقى الأفراح الشعبية في الحواري الخلفية، إلى خطب الوعّاظ الخارجين عن العباءة الرسمية. ومن دون اتفاقٍ جماعيٍّ معلَنٍ، تحوّل شريط الكاسيت إلى وسيلة تواصلٍ عائليةٍ، وأداة توثيقٍ شخصيةٍ، وأرشيفٍ اجتماعيٍّ حيّ.

شريط الكاسيت
إعلان لجهاز راديو كاسيت ورد في مجلة "آخر ساعة" سنة 1971

مع مطلع السبعينيات، شهدت مصر تغيّراتٍ اقتصاديةً جذريةً تمثلت في سياسة "الانفتاح الاقتصادي" التي انتهجها الرئيس أنور السادات بعد حرب 1973 مع إسرائيل. فتحت السياسة الجديدة السوقَ المصريةَ بوجهِ طائفةٍ من السلع الاستهلاكية الحديثة، وكان جهاز الراديو كاسيت على رأسها. تزامن ذلك مع موجة هجرةٍ واسعةٍ للعمل في دول الخليج وليبيا والعراق، ما ولّد طبقةً جديدةً من المصريين العائدين بمدّخراتٍ جيدةٍ ورغبةٍ في اقتناء الأجهزة الكهربائية التي أصبحت رمزاً للوجاهة الاجتماعية ودليلاً على تحسّن الوضع الماليّ للأسرة. حتى إن بعضهم، كما يرصد أندرو سايمون في "إعلام الجماهير"، كان يحرص على التقاط صورةٍ تذكاريةٍ مع جهازه الجديد وإرسالها للأهل في القرية إعلاناً عن الثراء المكتسَب. وهو ما وثّقته الأعمال الدرامية والأفلام التي عُرضت آنذاك، أو تطرّقت للتحولات الاجتماعية التي جرت فيها. مثل "العار" للمخرج علي عبد الخالق المعروض في 1982، و"الحرّيف" لمحمد خان المعروض في 1984، و"الكيت كات" لداوود عبد السيد المعروض في 1991.

لم تكن أجهزة الكاسيت وأشرطتها محضَ تقنيةٍ جديدةٍ، وإنما انعكاساً لتحوّلٍ اجتماعيٍّ واقتصاديٍّ عميق. فقبل انتشارها، كان يقتصر اقتناء أجهزة الاستماع مثل "الفونوغراف" و"البيك أب" على الفئات الثريّة القادرة على شراء أسطوانات "الفينيل" باهظة الثمن، وتشغيلها على أجهزةٍ ضخمةٍ ومكلفة. وكانت قدرة الفرد على اختيار ما يريد الاستماع إليه في الأوقات التي يريد امتيازاً طبقياً. كان غير القادرين على اقتناء الأجهزة والاسطوانات يستمعون إلى ما تختار الإذاعة بثَّه، في أوقاتٍ موزّعةٍ على فترة البثّ التي كانت تبدأ وقتئذٍ بنقل صلاة الفجر وتنتهي بعد نقل صلاة العشاء.

مع وصول الكاسيت، اختلفت موازين الاستهلاك الثقافي. فبجهازٍ يَسهُل حمله واقتناؤه، أصبح الاستماع إلى الموسيقى أو المحاضرات أو حتى الرسائل العائلية أمراً متاحاً لشرائح واسعةٍ من الطبقة الوسطى وما دونها في المدن والريف. وبات لمتلقّي الفنّ أن يختار ما يُعرض عليه في التوقيت الذي يناسبه. وفي هذا السياق، لم يكن الكاسيت محض وسيلةٍ للاستماع، بل جزءاً من حركة صعودٍ طبقيٍّ، واتساع رقعة استهلاك الثقافة والفنون من المراكز الحضرية إلى الأطراف في دولةٍ مركزيةٍ بطبعها، تضع ثقلَها الثقافي والسياسي كلَّه في عاصمتَيْها القاهرة والإسكندرية.


بينما كان المجتمع المصري يشهد تحولاتٍ واسعةً في النصف الثاني من السبعينيات، لم تزل أدوات الدولة في الإعلام على حالها، إذ لم يعكس أداؤها على ما يبدو وعياً بتلك التحولات. كسر حضور الكاسيت احتكارَ الإذاعة المصرية صياغةَ مشهد الموسيقى والغناء. وكان قبول "لجان الاستماع والإجازة" في الإذاعة شرطَ مرور المطرب أو الملحّن أو العازف إلى آذان الجماهير وفق معايير رقابيةٍ صارمة. وقبل ظهور جهاز الكاسيت وأشرطته، أغلقت لجان الاستماع والإجازة الأثيرَ عقوداً في وجه مغنّين وملحّنين. وكان من أشهر هؤلاء عبد الحليم حافظ، الذي اعتُمِد عازفاً على آلة الأوبوا في فرقة الإذاعة، ولكن لجنة إجازة المطربين رفضت اعتماده مطرباً. ظلّ الأمر على حاله إلى أن تغيّر تشكيل اللجنة ورَأَسَها محمد عبد الوهاب فأجاز عبد الحليم حافظ مطرباً، كما حكى عبد الحليم في مذكراته الصادرة بعنوان "قصة حياتي" سنة 1973.

وقد سَخِرَ عبد الحليم من دورِ لجانِ الإجازة في الإذاعة ووقوفِها الدائم حائطَ صدٍّ بوجهِ كلّ ما يخرج عن أشكال الغناء التقليدية. فقد حكى في المذكرات التي نُشرت مسلسلةً أوّلاً على صفحات مجلة "صباح الخير" قبل أن تُجمع في كتابٍ أنه بعد خروجه من اختبار اللجنة وَجَدَ رئيسَها مصطفى رضا، مديرَ معهد الموسيقى العربية وقتَها، يَعبر الطريقَ وتكاد تصدمه عربةٌ، فجَذَبَه بعيداً، ليشكرَه الأخير ويخبرَه بقرار اللجنة رَفْضَه مطرباً. ردَّ عبد الحليم "مانا جريت ألحق سيادتك أحسن –لا قدّر الله– الغُنا يتطور".  

دور لجان الإجازة في "منع تطور الغناء" طالما كان محلّ انتقادات المغنّين والملحّنين الذين نُظر إليهم مجدِّدين، ورفضتهم الإذاعة. منهم حميد الشاعري الذي رفضته الإذاعة المصرية مطرباً، واعتمدته "ملحّناً للمبتدئين" في حين كانت أشرطته وألحانه تباع بنجاحٍ كبيرٍ في مصر والعالم العربي. وانسحب هذا الدور إلى منع ألوانٍ من الغناء صنّفتها الإذاعة المصرية سوقيّةً أو مبتذلةً، ومنها أغاني الزفاف الريفية من الدلتا والصعيد التي لاتزال ممنوعةً في الإذاعة المصرية إلى اليوم. وثمّ غيرها من ألوان الغناء الشعبي، مثل أغاني الأفراح والحارات الشعبية التي يغنّي فيها الناس لما يمتعهم أو يشغلهم بلغتهم.

لكن ظهور الكاسيت قلب تلك المعادلة وحذف منه ضرورة المرور من بوابة الدولة ومؤسساتها الرسمية لممارسة الغناء. أصبح بإمكان أيّ شخصٍ تسجيل صوته والوصول إلى الجمهور مباشرةً، متجاوزاً تلك الحواجز التي أقامتها الدولة. وأوّل مرّةٍ وجدت أغنيات الأفراح والدربكّات (لون من الغناء الشعبي الراقص) والطقطوقة الشعبية موطئَ قدمٍ لها تنتشر منه بلا قيودٍ عبر شريط كاسيت رخيص الثمن ومتوفّرٍ في كلّ مكان.


سطع نجم أحمد عدوية أيقونةً لهذا التحوّل. فبعد أن كان مطرباً ناشئاً يغنّي في الملاهي الليلية والأعراس، جعلت شرائط الكاسيت منه نجمَ الشارع الغنائي. بيعَت مئات الآلاف من أشرطته في الأسواق وعلى الأرصفة وفي أكشاك الصحف. وتسلّلت أغانيه إلى كلّ جهاز كاسيت في المدن والقرى.

لم يكن نجاح عدوية تجارياً فحسب، وإنما مثّل أيضاً تغييراً جذرياً في الذائقة السمعية للأجيال الصاعدة. فقد بدأ المستمع العاديّ يجد أغنياته المفضلة –التي تعبّر بلغتِه الدارجة عن أفراحه وأتراحه– مسجّلةً ومتاحةً ليعيد سماعَها وقتما يشاء، لا الأغنيات المفروضة عليه من الراديو. ومع أن الإذاعة الرسمية تجاهلت عدوية وأَبَت بثَّ أغنياته، بل وصفتها بالمتدنية، فإن الشريط فعل فعله وانتشر كالنار في الهشيم. حتى صار وجود عدوية بشخصه وأغنياته عنصراً ضرورياً لنجاح أيّ فيلمٍ سينمائي. فبين سَنَتَيْ 1974 و1985 ظهر عدوية في ستةٍ وعشرين فيلماً، منها سبعة أفلامٍ في سنة 1982 وحدها.

أحمد عدوية
جعلت شرائط الكاسيت من عدوية نجمَ الشارع الغنائي

هذا التغيّر في المناخ الغنائي الذي أتاحه الكاسيت أدّى لانبثاق موجةٍ موسيقيةٍ جديدةٍ مع ميلاد فرق موسيقى الروك والجاز المصرية. ففي نهايات السبعينيات ومع انتهاء الحرب وبدء عودة السياحة الأجنبية لمصر، ظهرت فرقٌ موسيقيةٌ شابةٌ تعزف الأغاني الغربية الناجحة في صالات الفنادق التي يفد إليها السائحون الأجانب. وهيّأت شرائط الكاسيت فرصةً لمن لديهم رغبةٌ في الغناء والتلحين من هؤلاء الموسيقيين لأجل صناعة أغانيهم الخاصة، ونشرها لتخاطب جمهوراً شاباً مختلفاً عن جمهور الأغاني الرسمية. وكان يمثّل هذا الاتجّاه الرسميَّ وقتئذٍ عبد الوهاب وأم كلثوم ثمّ عبد الحليم حافظ، ومن سار على دربهم من مغنّين شبابٍ نالوا اعتماد المؤسسة الرسمية. وفي حين وجدت الطبقات الشعبية صوتَها في مغنّين مثل عدوية وكتكوت الأمير، بقي الجمهور الشابّ الذي يقف في منطقةٍ وسطٍ لا يعبّر عنه لا الغناء الرسميّ ولا الأغاني الشعبية. فخرجت منه ولأجله فرق "ألمودز" و"الحب والسلام" و"طيبة" و"المصريين" و"فور إم" و"لي بتي شا" ثم "الأصدقاء" وغيرهم.

هذه الحيوية الفنّية التي خلقها الكاسيت بكسر احتكار المؤسسة الرسمية رخصةَ مرور الأصوات والموسيقى إلى آذان المصريين اكتشفت ملحّناً قادماً من النوبة يحمل موسيقاها ويقدّمها في أغانٍ عصرية. وهو أحمد منيب الذي يعدّ من صنّاع نجاح المطرب المصري الشهير محمد منير. كذلك أتيحت الفرصة لعازفي الموسيقى الغربية، مثل هاني شنودة وفتحي سلامة ويحيى خليل، بأن يصبحوا ملحّنين مبرّزين ومجدّدين في المشهد الغنائي المصري والعربي منذ نهايات السبعينيات.

الشيخ كشك
عجّت الصحف في السبعينيات بمقالاتٍ تندب سقوط الموسيقى وموت الذوق العام

وإذا حاولنا رصد موقف مؤسسات الدولة ممّا يجري، سنجد الوضع مربكاً. فمن ناحية، انفتح باب الإبداع الشعبي على مصراعيه ولم تتدخل الدولة بأدواتها الأمنية والرقابية القادرة على كبح كلّ هذا الجموح. وفي الوقت ذاته، ينقل لنا صوت الدولة الممثَّل في صحفها وبرامجها الإذاعية آنذاك ذعراً حقيقياً تجاه ما يجري. ففي مقالات رجال الدولة في الوسط الثقافي والصحفي، ممّن اصطُلح على تسميتهم "حرّاس الذوق العام"، ينقل أندرو سايمون غضبةً يتكرّر صداها في الكتابات الصحفية قد يتذكّرها كل من كان يقرأ المجلات أو يستمع إلى البرامج الإذاعية بين السبعينيات ونهايات الثمانينيات. مفاد هذه الغضبة أن الكاسيت أتاح لأيّ شخصٍ أن يسجّل شريطاً ويصبح مطرباً، ما أطلق العنان لمن لا يستحق ليحوز الشهرة والتأثير.

وإزاء عجز السلطة عن كبح جماح مدّ الكاسيت، اكتفت أحياناً بمحاولة التكيّف معه. فمثلاً اضطرّت الإذاعة في الثمانينيات إلى الرضوخ جزئياً وبثّ بعض الأغاني الشعبية التي نجحت جماهيرياً عبر الأشرطة، وإن كان ذلك بعد تأخيرٍ وبشروطٍ رقابية.

وهكذا، أعاد الكاسيت رسم الخريطة الثقافية من أسفل إلى أعلى، وغيّر الذائقة السمعية الجمعية بحيث لم يعد ممكناً العودة إلى زمن الوصاية الكاملة. هذا التغيير في المشهد الفنّي لم يكن إلّا وجهاً واحداً من وجوه تحدّي الكاسيت للسلطات القائمة. فالوجه الآخَر تجلّى في ميدانٍ أكثر حساسيةً وخطورة، ألا وهو ميدان الخطاب الديني والسياسي. فمثلما فعل الكاسيت بالوسط الفنّي، أحدث أيضاً زلزالاً في مؤسسة الخطاب الديني الرسمي.


منذ نظمت الدولة الخطابة عبر قانون 272 لسنة 1959 وما تلاه من لوائح تنفيذيةٍ وتعديلاتٍ ثم قوانين لاحقةٍ تنظم الأوقاف، كانت المنابر الإعلامية الدينية في مصر من إذاعات القرآن الكريم والبرامج الدينية التلفزيونية وحتى منابر المساجد الكبرى تخضع بصرامةٍ لتوجيهات الأزهر ووزارتَيْ الإعلام والأوقاف. وحدهم العلماء والدعاة "المعتمدون" والمعتدلون سياسياً هم من يُسمح لهم باعتلاء المنصات الجماهيرية. غير أن شرائط الكاسيت قدّمت منابر بديلةً لمن أُقصوا عن القنوات الرسمية أو فضّلوا استقلاليتهم عنها. وهكذا، طفَت على السطح ظاهرة الدعاة وكهنة الكنيسة الشعبيين الذين وصل صوتهم عبر الشريط لكلّ من يريد السماع.

الشيخ عبد الحميد كشك كان المثال الأبرز. خطيبٌ مفوّهٌ ضريرٌ، اعتلى منبر مسجدٍ صغيرٍ في القاهرة. فاستطاع بأسلوبه الشعبي الساخر أن يجتذب جموعاً غفيرةً كلّ جمعةٍ، ثم جمهوراً أوسع عبر الأشرطة التي سجّلها مريدوه.

في إحدى خطب الجمعة أواخر السبعينيات، وقف الشيخ كشك فوق منبره في مسجد عين الحياة بحيّ حدائق القبّة في القاهرة يلقي خطبته بأسلوبه المجافي للأسلوب الرصين لخطباء الأزهر. تحت المنبر وبين صفوف المصلين المتراصة، أخفى أكثر من شخصٍ جهازَ تسجيلٍ صغيراً متّصلاً بلاقط صوتٍ (ميكروفون) يلتقط كلّ كلمةٍ تخرج من فم الشيخ المعارِض. كان هؤلاء يدركون أن ما يقوله الشيخ كشك لن يُسمع أبداً في منصات الإعلام الرسمي، فقرروا أن يحملوا رسالته بأنفسهم إلى خارج جدران المسجد. وما هي إلا أيامٌ حتى كان الشريط الذي سُجّلت عليه تلك الخطبة يُتداول سرّاً بين الناس، ويصل إلى أيدي الباعة المتجولين. فنسخوا منه عشرات النسخ، لتجد عمالاً يستمعون إليه في ورشهم، وطلاباً يتبادلون سماعه في سكن الجامعات.

تحوَّلَ الشيخ كشك تدريجياً –رغم منعه من الظهور الإعلامي وتعدّد مرات اعتقاله– إلى أكثر الوعّاظ انتشاراً وتأثيراً في مصر عبر أشرطة الكاسيت. صارت خطبه تسجَّل بانتظام وتنتشر كالنار في الهشيم، حاملةً نقده الجريء لما يراه فساداً في المجتمع وتهكّمه اللاذع على سياسات السلطة. حملت الشرائط أيضاً هجوم الشيخ كشك المتكرر على الفن والفنانين، وتهكّمه على الممثلات والمثقفين وحتى الرياضيين أحياناً، باعتبارهم "أدواتٍ للغواية والإفساد الأخلاقي" حسب زعمه. لم يكن الشيخ كشك يكتفي بمناقشة شؤون العقيدة أو الشريعة، بل مدّ خطابه إلى كل مناحي الحياة العامة. فأطلق فتاوى وأحكاماً صارمة طالت المجتمع بأسره، من السينما والمسرح إلى السياسة والاقتصاد. جعله هذا محلّ انقسامٍ واسعٍ بين من رأى فيه ضميراً شعبياً ناطقاً بلغة الناس، ومن عدّه تجسيداً لصوتٍ محافظٍ يضيّق على الحريات ويعادي قِيم الفن والتعددية والانفتاح.

وعى الشيخ كشك أن آذاناً كثيرةً خارج أسوار مسجده تسمعه عبر الكاسيت. فكان أحياناً يستهلّ خطبته بتنبيهٍ طريفٍ لمن يسجّل: "ليت من يسجّل شريطي هذا يتّقي الله فيما يسجّله"، أو يحذّر المستمعين في المسجد من وجود مخبرين بين المصلّين يسجلون له لصالح الشرطة. وعلى هذه المخاطر، استمرّ كشك في خطبه متوكئاً على وسيلته الإعلامية الحرّة. وبنهاية السبعينيات كانت تسجيلاته قد تخطت حدود القاهرة. فباتت النسخ "المضروبة" من شرائطه تنافس في مبيعاتها شرائط نجوم الطرب، وتجاوز إعجاب الناس به حدود التيار الإسلامي ذاته. استمع إليه كثيرون لم يلفتهم المحتوى الديني في خطبه قدر ما وجدوا فيه صوتاً جريئاً ينتقد الأوضاع ويعبّر عن مكبوتاتهم.

لم يكن الشيخ كشك حالةً فريدةً في تحدّيه سلطةَ المؤسسة الدينية الرسمية عبر شريط الكاسيت. ففي الظلّ أيضاً ظهر الشيخ عنتر سعيد مسلم، القارئ الكفيف المولود في محافظة الغربية، والذي فقد بصره في شهوره الأولى نتيجة خطأ طبّي. حفظ عنتر القرآن منذ طفولته المبكرة، وطوّر مع الوقت أسلوباً مميزاً في التلاوة. جمع أسلوبه بين تقنيات التجويد القرآني ومقامات الموسيقى العربية، التي عشقها وأتقن أسرارها عبر سماعه المتكرر لأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، وتعلّمه العزف على العود والكمان.

الشيخ عنتر
رفض الإذاعة الرسمية اعتماد الشيخ عنتر لم يمنع وصوله إلى الجمهور

كانت الإذاعة الرسمية تعتمد معايير صارمةً في اختيار قرّائها، ترتكز بشكلٍ أساسٍ على التزامهم الأسلوبَ التقليدي المحافظ في التلاوة. ولأن الشيخ عنتر خالف هذه التقاليد وجعل التلاوة أقرب إلى الأداء الموسيقي، رفضت لجان الاستماع اعتماده رفضاً قاطعاً. فقد عدّت أسلوبَه "غير منضبطٍ تجويدياً" ويحمل طابعاً غنائياً لا يليق بقدسية القرآن.

الرفض الرسمي لم يمنع الشيخ عنتر من الوصول إلى الجمهور، إذ وجد صوته طريقه مباشرةً إلى قلوب الناس من خلال أشرطة الكاسيت. وفي وقتٍ كانت المؤسسة الدينية تسيطر فيه تماماً على ما يُذاع من أصوات القراء، شكّلت تسجيلاته تحدياً لهذه السيطرة. أشرطته، التي سجّلت في مجالس التلاوة الشعبية والأفراح والمناسبات الدينية في القرى والمدن الصغيرة، انتشرت بسرعةٍ مذهلةٍ في الأسواق الشعبية وعلى الأرصفة. فأصبحت تنافس في شعبيتها تسجيلات كبار المقرئين الرسميين، مثل عبد الباسط عبد الصمد ومصطفى اسماعيل. ومثل عدوية مطرباً والشيخ كشك خطيباً، تخطّت أشرطة تلاوته الحدود ووصلت إلى أطراف العالم الإسلامي. فصار له محبّون ومريدون في جنوب شرق آسيا، حسب ما رصد كاتب سيرته طايع الديب في كتابه "الكروان الممنوع" الصادر سنة 2021.

يرصد طايع الديب وأندرو سايمون في كتابيهما كيف أثار هذا النجاح الشعبي قلق المؤسسة الدينية الرسمية، التي رأت في صوت الشيخ عنتر تهديداً حقيقياً لمعاييرها وقواعدها. وبلغ الصِدام بينه وبين الأزهر حدَّ اتخاذ المؤسسة الكبرى قراراً بمنع الشيخ عنتر رسمياً من التلاوة في المناسبات الدينية العامة، فيما بدا محاولةً لإقصائه من المشهد الرسمي. لكن النتيجة جاءت عكسيةً. لم تؤدِّ هذه الخطوة إلا لزيادة إقبال الجمهور على تسجيلاته، في تحدٍّ ضمنيٍّ لقرارات المؤسسة.

لكن الشيخ عنتر لم يكن كالشيخ كشك في إصراره. في منتصف الثمانينيات وعلى انتشاره الكبير وتزايد أعداد محبيه، اضطرّ إلى إصدار رسالةٍ علنيةٍ أعلن فيها "التوبة" عن بعض أساليبه في التلاوة. فبدت محاولة للعودة إلى الاعتراف الرسمي بعد سنواتٍ من التهميش. لم تؤثر هذه "التوبة" كثيراً على تداول تسجيلاته القديمة، التي ظلّت تُسمع وتباع في الأسواق الشعبية، ويتناقلها الناس سرّاً وعلناً، حتى بعد رحيله.

لقد تحوّل الشيخ عنتر من "مقرئ ممنوع" إلى رمزٍ شعبيٍّ عُرف بلقب "مقرئ الغلابة". وأضحت أشرطته وثائق تاريخيةً تثبت قدرة الكاسيت على اختراق جدران الرقابة وحماية الأصوات التي ترفضها المؤسسة الرسمية. ومع نهاية عصر الكاسيت ودخول التقنية الرقمية، وجدت تلاوات الشيخ عنتر حياةً جديدةً عبر الإنترنت. اليوم، تحقق تسجيلاته المنشورة على منصات مثل يوتيوب مئات الآلاف من الاستماعات، جاذبة أجيالاً جديدةً لم تعرف ظروف إنتاجها الأصلية.


وسعّت أشرطة الكاسيت كذلك نطاق الدعوة الإسلامية خارج الأطر التقليدية. فمنذ أواخر السبعينيات وحتى عشية ثورة 25 يناير سنة 2011، زاد اهتمام الشباب بالدروس الدينية غير الرسمية المسجّلة على أشرطة الكاسيت. ووجدت الجماعات الإسلامية الناشئة في السبعينيات، سواء ذات التوجه الصوفي أو الإخواني أو السلفي، في الكاسيت ضالتها. صارت جلسات ذكرٍ صوفيةٌ خاصةٌ تسجَّل على أشرطة ويتبادلها المريدون. وكذلك دروسٌ سرّيةٌ لجماعة الإخوان المسلمين أو غيرها توزع للتثقيف الداخلي.

ويذكر بعض الأطفال المولودين في الثمانينيات ممن كانوا يُحسبون ضمن صفوف المتفوقين، ولم تنتمِ أسرهم إلى الجماعة، أنهم حصلوا على أشرطة كاسيت موجهةٍ للأطفال كان يهديها لهم زملاؤهم أو مدرسوهم سرّاً في المدارس، حاملةً أناشيد وقصصاً تربويةً على منهج الجماعة. أكثر من ذلك، انتشرت عبر الكاسيت أناشيد جهاديةٌ وثوريةٌ بأصوات منشدين شبابٍ تلهب حماس المستمعين بعيداً عن أعين الرقيب. هذه المواد كان يصعب نشرها علناً، لكنها عرفت طريقها عبر اقتصادٍ خفيٍّ من الأشرطة المتداولة بين الخلايا والتنظيمات.

أدركت السلطات المصرية خطورة الاستخدام السياسي للدين عبر الأشرطة، فأطلقت مطلع الثمانينيات حملة اعتقالاتٍ واسعة شملت الشيخ كشك نفسه ومئات غيره من دعاة مستقلّين. عُرفت الحملة بأحداث سبتمبر 1981، والتي أمر فيها الرئيس أنور السادات بقمع سياسيين ونشطاء معارضين لاتفاقية كامب ديفيد للسلام مع إسرائيل. وبقيت شرائط تلك المرحلة تتداول وثائقَ حيّةً لما قيل في الخفاء.

ويشير سايمون في دراسته إلى أن أشرطة الكاسيت سمحت لعددٍ غير مسبوق من الناس بالتحدث بِاسم الإسلام في مصر، رغم محاولات المؤسسات القائمة على تقليم الخطاب الديني، والسلطات السياسية التحكمَ في ذاك الخطاب. لكن أشرطة الكاسيت فعلت في المجال الديني ما فعلته في الغناء والموسيقى. كسرت احتكار المؤسسات القائمة على ذلك المجال، ليصبح صناعة الخطاب وتلقّيه على السواء في يد الجماهير.

تزعزعت السلطة الرمزية للأزهر ودار الإفتاء عندما ظهر أن عامّة الناس بات بإمكانهم اختيار من يستمعون إليه من الدعاة، بل وتسجيل خطبه وإعادة إنتاجها وتوزيعها بلا توقف. ومع أن هذا التحول وسّع من حرية الاختيار وكسر احتكار الخطاب الديني الرسمي، إلّا أنه في الوقت نفسه خلق فراغاً تنظيمياً سُمح فيه لأصواتٍ متشددةٍ أن تجد طريقها إلى المجال العام محرضةً على العنف، متجاوزةً الرقابة والمساءلة. استمر إرث تلك الفترة عقوداً رغم التضييقات الأمنية خلال الثمانينيات، خاصّةً بعد اغتيال السادات وصعود نجم تياراتٍ متطرفةٍ دفعت النظام لاتخاذ موقفٍ أكثر صرامةً. في مطلع التسعينيات كان بإمكانك في أيّ سوقٍ شعبيةٍ أن تجد بائع أشرطةٍ يحمل حقيبةً مملوءةً بكلّ شيء. فيها مثلاً شريطٌ لأحدث أغاني عمرو دياب، يليه شريط خطبة قديمة للشيخ كشك أو تلاوة نادرة للشيخ عنتر، إلى جانب شريط وصلة فكاهية أو مطرب ملاهٍ وراقصة.

شريط الكاسيت
صورة نشرها أندرو سايمون في كتابه "إعلام الجماهير"، نعيد نشرها بإذنٍ منه، للاعب كرة أمام جهاز كاسيت

هكذا جنباً إلى جنب، وقفت مخرَجات ثقافة الهامش في واجهةٍ واحدةٍ، وتشكلت أرشيفاتٌ منزليةٌ صغيرةٌ لدى الناس العاديين تضمّ مزيجاً غريباً، لكنه صادق التعبير عن حقبته.


ومن ساحات الفنّ والمساجد، توغّل شريط الكاسيت في صميم الحياة اليومية للمصريين، ليؤدي دور وسيلة تواصل عائلية وأداة توثيقٍ شخصية. فقبل ظهور الإنترنت بعقودٍ، بل حتى قبل انتشار الهاتف في كلّ بيتٍ، قدّم شريط الكاسيت حلّاً سحرياً للتواصل عبر المسافات. أصبح بالإمكان أوّل مرّةٍ أن يُسمع صوت شخصٍ عزيزٍ على بعد آلاف الكيلومترات عبر رسالةٍ مسجلةٍ يمكن تشغيلها مراراً. هكذا ولدت رسائل الكاسيت الصوتية بين الأحبّة وأفراد الأسرة، وخاصّةً مع تزايد أعداد المصريين المغتربين للعمل في الخارج خلال السبعينيات والثمانينيات.

كان ذلك مشهداً مصرياً مألوفاً لمن عاش ذلك الزمن ويذكر تفاصيله. أمٌّ تجلس في إحدى قرى الدلتا متلهفةً تمسك مسجّل كاسيت بيدٍ مرتجفةٍ، وقد وصلها للتوّ طردٌ بريديٌ من ابنها العامل في الخليج. تضع الأم الشريط في الجهاز ويعمّ الصمت أفراد الأسرة المجتمعين حولها، ثم ينبعث صوت الابن من السماعة. تحيةٌ وسؤالٌ عن الأحوال، ودعابةٌ عابرةٌ وطمأنةٌ عن صحّته وأحواله، وربما أغنيةٌ مهداةٌ بصوته في النهاية. تبتسم الأم وتدمع عيناها. فهذا ليس خطاباً ورقياً بارداً، بل أقرب ما يكون لمعانقةٍ صوتيةٍ من الغائب.

آلافٌ من هذه الرسائل الصوتية عبرت البحار حاملةً أشواق المهاجرين ومعاناتهم اليومية وحكايات الغربة إلى أهاليهم. وفي المقابل، كانت عائلاتٌ كثيرةٌ تسجّل ردوداً صوتيةً لترسلها إلى أحبائها البعيدين. يحكي الأب لابنه عن أحداث القرية والزراعة هذا الموسم، وتخبره الأم كم اشتاقوا إليه في عيد الأضحى الأخير. وربما يسحب أحد الأشقاء الصغار الجهاز نحوه ليغني أغنيةً مدرسيةً، ثقةً في أن أخاه في الغربة سيبتسم لسماع صوته.

ولا عجب أن حملت أشرطةٌ عديدةٌ على أغلفتها الورقية عبارة "رسالة إلى العزيز فلان" مكتوبةً بخط اليد، ثم تُحفظ تلك الأشرطة بعناية في أدراج البيوت كنزاً ثميناً. وفي مجتمعٍ ترتفع فيه نسبة الأمّية، أدّت رسائل الكاسيت دوراً مضاعف الأهمية. فقد مكّنت الكثيرين ممّن لا يجيدون الكتابة أن يعبّروا بأصواتهم ويستقبلوا أخبار أحبائهم دون وسيط.

ولم يقتصر الأمر على الرسائل بين المغتربين وذويهم. فقد استُخدِم الكاسيت أيضاً مفكرةً صوتيةً أو ألبوم ذكرياتٍ حيّاً. قبل انتشار كاميرات الفيديو، كان شريط الكاسيت الصوتي يقوم بعمل أشرطة الفيديو في تسجيل المناسبات العائلية المهمة كحفلات الخطوبة والزفاف وأعياد الميلاد وحتى جلسات السمر في ليالي رمضان. كثيرون مازالوا إلى اليوم يحتفظون بشريطٍ قديمٍ عليه تسجيلٌ لحفل زواج والديهم في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، تسمع فيه زغاريد الجدّات ونكات الأعمام وأغنية أم كلثوم التي رقص عليها العروسان. وتحوّلت بعض أجهزة الكاسيت إلى مرايا للزمن يخرجها الأب كلّ حينٍ ليُسمِع أبناءه تسجيلاً لصوتهم وهم أطفالٌ أو أغنيةً غنّوها في صغرهم. إنها ذاكرةٌ سمعيةٌ عفويةٌ تشكّلت داخل البيوت.

حتى الحياة اليومية بما فيها من عابر الصدف وجميل اللحظات وجدت طريقها إلى الأشرطة. يذكر جيل تلك الفترة مثلاً كيف أن طلاب الجامعة سجّلوا أحياناً يومياتهم وانطباعاتهم على شرائط، نوعاً من التوثيق الشخصي أو تجربةً فنّيةً ذاتية. عشّاق الموسيقى أيضاً كوّنوا مكتباتٍ شريطيةً خاصةً بهم: يجلس أحدهم ساعاتٍ بجوار مذياع الراديو ليقتنص أغنيةً نادرةً ويسجلها على شريطٍ أبيض (فارغ) ليحتفظ بها للأبد.

وحتى نهاية التسعينيات كانت أشرطة الكاسيت تؤدّي دوراً في المراسلة بين أفراد الأسر وحتى بين المتحابين. فقد ظهرت هواية إعداد شرائط سُمّيت "ميكس تيب" لإهدائها للأصدقاء والأحبّة. وهي شرائط ينسّق فيها الشابّ أو الشابّة مجموعة أغانٍ منتقاةً ذات مغزىً ويبعثها لمن يحبّ، كأنه يصنع له قائمة استماعٍ شخصيةً تعبّر عن مشاعره. هذه الممارسة الإبداعية البسيطة كانت جديدةً تماماً على الثقافة المصرية، وأسهم الكاسيت في انتشارها نوعاً من التواصل العاطفي والفنّي معاً. هذا أيضاً وثّقه أندرو سايمون في كتابه.

التفتت السينما المصرية أيضاً إلى هذا البعد الإنساني للكاسيت. ففي فيلمٍ وثائقيٍّ حديثٍ بعنوان "أبو زعبل 89" للمخرج بسام مرتضى، عرض أوّل مرّةٍ سنة 2024، تبدأ رحلة المخرج في توثيق تاريخ عائلته من عثوره على أشرطة كاسيت قديمةٍ سجّلها والده ليرسلها له أثناء فترة غربته الإجبارية (منفاه). في أحد مشاهد الفيلم المؤثرة، يجلس الأب المسنّ رفقة ابنه ليستمعا معاً إلى صوته القديم المحفوظ على الشريط، في مواجهة مؤثرة بين الحاضر والماضي. يطغى الصمت والتأمل على المشهد بينما يدوّي صوت الأب الشاب من الثمانينيات يروي معاناته ويعتذر لابنه عن الغياب. هذا المثال يجسّد كيف أصبح شريط الكاسيت أرشيفاً شخصياً للعائلة والمجتمع، يحتفظ بذاكرةٍ صوتيةٍ صادقةٍ تتحدى عوامل النسيان والتآكل.


ومع أن شرائط الكاسيت بقيت شائعةً في مصر حتى مطلع الألفية، إلّا أن العصر الذهبي لتأثيرها الثقافي والسياسي المباشر كان قد بلغ مداه. فمع انتهاء الثمانينيات ودخول التسعينيات، بدأت أهمية الكاسيت تجارياً تتراجع تدريجياً مع ظهور الأقراص المضغوطة (سي دي) ثم التقنيات الرقمية. بيد أن قصة الكاسيت لم تنتهِ هنا. فعلى رفوف الكثير من البيوت المصرية وحتى العربية، مازالت صفوفٌ من أشرطةٍ قديمةٍ تتراصّ في الأدراج بصمتٍ، حاملةً في طياتها كنوزاً من المعلومات والذكريات بانتظار من يعيد اكتشافها. أدرك باحثون وموسيقيون شبابٌ قيمة هذا الإرث السمعي، فشرعوا في العقد الأخير بحملةٍ لإنقاذه من التلف والنسيان عبر الرقمنة.

شهد الكاسيت ما يشبه الولادة الجديدة بين جيل الشباب محبي ثقافة الاسترجاع (ريترو)، والراغبين في استكشاف الماضي، مدفوعين أيضاً بحاجةٍ للتوثيق لإنقاذ محتوىً فريدٍ قبل ضياعه. فالأشرطة المغناطيسية قابلةٌ للتلف وفقدان البيانات مع الزمن. وكثيرٌ مما تحويه من أغانٍ وخطبٍ وحكاياتٍ لم يُنقل إلى أيّ وسائط أخرى أو منصّاتٍ إلكترونية.

لذا انطلقت مشاريع أرشفةٍ رقميةٍ تجمع ما تبقى من تلك الأشرطة وتحوّلها إلى ملفاتٍ يمكن حفظها وإتاحتها للباحثين والجمهور. من أبرزها عربياً "أرشيف الكاسيت السوري" الذي أسّسه الباحث والمنتج الموسيقي مارك جرجس. جمع جرجس مئات الشرائط التي اشتراها من محلاتٍ وأكشاك في أنحاء سوريا قبل الحرب، ويشمل محتواها كل شيءٍ من دبكاتٍ شعبيةٍ وموسيقى أعراسٍ إلى تسجيلات أطفال. ومشروع "مجاز" الفلسطيني الذي يديره فنانون من الضفة الغربية لجمع الأشرطة النادرة التي سجّلت في استوديوهات جنين شمال الضفة الغربية بين الستينيات والتسعينيات. تلك الأشرطة التي تضمّ مزيجاً فريداً من أناشيد الانتفاضة الأولى وحفلاتٍ بدويةٍ وموسيقى "فانك" و"جاز" ظهرت في الثمانينيات.

أما أرشيف شرائط الكاسيت المصرية، فيُعنى به الفنان البصري ومصمم الغرافيك عمرو حميد الذي نجح بمجهودٍ فرديٍّ في بناء أرشيفٍ ضخم. يحتوي أرشيفه على حوالي سبعة آلاف شريط كاسيت مصري، ويضمّ تسجيلاتٍ متنوعةً تشمل موسيقى من مختلف مناطق مصر. بدءاً من الأغاني الشعبية التي تعكس التراث المحلّي، وصولاً إلى التسجيلات الشخصية التي توثق لحظاتٍ خاصةً في حياة الأفراد. هذه الشرائط تحمل في طياتها قصصاً عن الماضي، وتقدّم لمحةً عن التنوع الثقافي والاجتماعي الذي شهدته مصر خلال العقود الماضية.

الكاسيت
أصبحت أشرطة الكاسيت جزءاً أصيلاً من الذاكرة الجمعية

ما يميّز مشروع عمرو حميد هو أنه يعيد تعريف نظرة المجتمع إلى أشرطة الكاسيت. فبعد أن كانت تُعدّ وسيطاً قديماً أو "مبتذلاً" في نظر البعض، أصبحت اليوم جزءاً أصيلاً من الذاكرة الجمعية والموروث الثقافي. أرشيفه لا يقتصر على الحفظ فقط، بل يفتح المجال للباحثين والفنانين لاستكشاف هذا الوسيط مصدراً غنياً للدراسة والإلهام.

وفي عالم الفنّ التشكيلي، برزت الفنانة المصرية سارة مدحت مثالاً ملهماً لإعادة التدوير الإبداعي. فقد حوّلت أشرطة الكاسيت القديمة إلى لوحاتٍ فنيةٍ تحمل في طيّاتها ذكريات الماضي وتسهم في حماية البيئة. مشروعها الفني "حتة ذكريات" استند إلى إعادة تدوير أكثر من ستة آلاف شريط كاسيت.

هذه المبادرات وشبيهاتها تشير إلى أن عصر الكاسيت أصبح موضوعاً للدراسة والتقدير بوصفه جزءاً أصيلاً من الذاكرة الجمعية. ودفعت موجة الاهتمام تلك بعض شركات الإنتاج الحديثة إلى إعادة إصدار محتوياتٍ قديمةٍ من أشرطة الكاسيت بهيئةٍ فاخرة. على سبيل المثال، برزت شركات تسجيلٍ مثل "سبلايم فريكوينسيز" و"حبيبي فانك" تعيد نشر أغانٍ نادرةٍ من العالم العربي كانت موجودةً فقط على أشرطة كاسيت متوارية.

وفي مصر أيضاً، ظهرت موجةٌ من الحفلات في النوادي الليلية لمنسّقي موسيقى "دي جي"، يجمعون فيها مقطوعاتٍ من شرائط الثمانينيات ويخلطونها بإيقاعاتٍ حديثةٍ، فيما يشبه إحياء روح الكاسيت في عصر المنصات الرقمية. إن ما كان يوماً يُباع على الأرصفة بات يُسمع الآن في أرقى أماكن السهر، في دورةٍ طريفةٍ للتاريخ.

لكن الأهمية الأعمق لشرائط الكاسيت اليوم هي كونها سجلاً اجتماعياً موثّقاً لحقبةٍ مفصلية. إنها ليست محض أوعيةٍ لأغانٍ وخطبٍ، بل شهاداتٌ على أحوال المجتمع المصري خلال الانفتاح وما تلاه. وهي بهذا نافذةٌ على الحياة اليومية في مصر ذلك الزمن. تماماً كما فتحت وسائل التواصل الاجتماعي نافذةً واسعةً على حياتنا اليوم. ولعلّ مقارنة الكاسيت بوسائل التواصل الاجتماعي ليست بعيدةً عن الواقع. يشير سايمون إلى أن الكاسيت في وقته قام بما نعزوه اليوم إلى الإنترنت ومنصات التواصل. فقد أتاح لأيّ فردٍ أن يخلق محتواه الخاص وينشره ويتجاوز السلطة المركزية، وجعل التواصل أكثر حرية وتنوعاً. وكذا خلق فضاءً عاماً مضاداً يجتمع فيه الناس حول اهتمامات وأفكار مشتركة خارج القنوات الرسمية.

بهذا المعنى، كان الكاسيت إعلاماً للجماهير بحق، يختلف عن الراديو والتلفزيون الذي ظلّ إعلامَ النخبة والسلطة. وربما يفسر ذلك لماذا تعود كثيرٌ من النقاشات اليوم لتستدعي تجربة الكاسيت كلما ثار الجدل حول حرية التعبير الفني. ومثل ذلك ما حدث مع موسيقى المهرجانات الشعبية الإلكترونية التي قورنت كثيراً بأغاني عدوية، أو عندما يعود أبناء "حراس الذوق العام" للحديث حول "انفلات الخطاب على منصات التواصل". إذ يجد البعض تشابهاً بين "بودكاست" شبابي جريء وشريط كاسيت جريء من الثمانينيات. التاريخ يعيد نفسه بصورةٍ جديدةٍ، لكن جذوره تمتد إلى شريطين يدوران بقلم رصاصٍ لتخزين الصوت.


كان الكاسيت في مصر أكثر من مجرد وسيطٍ تقني لنقل الصوت. لقد كان وسيطاً اجتماعياً وتاريخياً مكّن شرائح من المصريين أن يدوّنوا حضورهم بأصواتهم في سجل الزمن. في السبعينيات والثمانينيات، حين كانت مصر تعبر منعطفاً حاداً بين إرث حقبة اشتراكية صارمة وأحلام انفتاح اقتصادي جامح، جاء شريط الكاسيت ليكشف عما يجول في وعي المجتمع وتصمّ الدولةُ آذانَها عنه. وعلى وجهيه المتقابلين سُجّلت تناقضات تلك المرحلة. وجهٌ يحمل أغنيةً شعبيةً جريئةً ترددها الأفواه في الأفراح والموالد، ووجهٌ آخَر يحمل خطبةً محتدمةً لداعيةٍ معارضٍ تلهب المشاعر في الخفاء. وبينهما رسالةٌ عائليةٌ حنونةٌ تشدّ أزر مغتربٍ في غربته أو تربط أوصال عائلةٍ فرّقها السفر.

إن تأمل الدور الثقافي والسياسي الذي لعبه الكاسيت في مصر تلك الحقبة يكشف لنا جانباً عن جدلية التقنية والسلطة. فكلما ظهرت تقنيةٌ جديدةٌ ميسّرة الوصول، سارع الناس إلى تطويعها للتعبير عن أنفسهم خارج الأطر المرسومة لهم. تقف السلطة في البداية موقف المتوجّس، ثم الرافض والمحارب أحياناً، قبل أن تحاول ترويض التقنية أو احتواءها. هذا ما حصل مع الكاسيت. حاولت السلطة بأجهزتها كافّة –الفنّية والدينية والسياسية– في البداية إنكار أهميته ثم شيطنته واتهمته بالإفساد والتخريب، لكنها في نهاية المطاف اضطرت للتعايش مع واقع تمدّده. ويتكرّر الأمر الآن مع وسائل التواصل الاجتماعي على اختلافها.

وفي هذا الصراع، كثيراً ما ينتصر صوت المجتمع ولو بعد حين. الشرائط التي سُجّلت في غرفٍ معتمةٍ وأذيعت همساً، استحالت مع الزمن وثائق علنيةً تُروى وتُنشر وتصبح موضع فخرٍ باعتبارها إرثاً ثقافياً. ما كان يوماً هامشاً أصبح متناً بفضل تحوّلات الزمن وإرادة الناس.

اشترك في نشرتنا البريدية