مرّت القصة القرآنية في السياق المعاصر بمقارباتٍ متنوعة شرقاً وغرباً بسبب تشعّب المساحات المرتبطة بالقصة والأهداف المحرّكة لدراستها وسياقات هذه الدراسة. يمكن تتبّع الاختلاف في أنماط هذه المقاربات باستعراض بعض الكتابات المركزية المعاصرة في التعامل مع القصة. ومن ذلك كتاب إبراهام غايغر "ماذا اقتبس محمد من اليهودية؟". يمثل الكتاب المقاربة الغربية التقليدية للقصة القرآنية التي تحصرها في دراسة علاقتها النصية والتاريخية بالكتب السماوية السابقة، بلا اهتمامٍ بمعناها أو سياقات تلقّيها في التراث الإسلامي. وكذلك كتاب محمد أحمد خلف الله "الفنّ القصصي في القرآن". وفيه مقاربةٌ عربيةٌ حديثةٌ للقصص القرآني من منظور الصدق التاريخي والأهداف التربوية والأخلاقية المباشرة لهذا القصص. أمّا الكتاب الثالث، فهو الصادر بالإنجليزية سنة 2024 بعنوان "بيهايند ذا ستوري" (ما وراء الحكاية)، والذي حرّره الباحث السوري في الدراسات القرآنية سامر رشواني. يعرض الكتاب نمطاً مختلفاً من التعامل مع القصة. يجمع هذا النمط بين الدراسة النصية والتاريخية وبين استكشاف موقع القصة القرآنية من الأسئلة الإنسانية الكبرى في العصر الحديث. كذلك يَستحضِر التاريخَ الشاملَ للقصة في التلقّي الإسلامي، بدلاً من التجاهل الحديث له.
يُعدّ كتاب الحاخام الألماني إبراهام غايغر "ماذا اقتبس محمد من اليهودية؟" المنشور سنة 1833، والمترجم للعربية بعنوان "اليهودية والإسلام" سنة 2018، الكتابَ المؤسّس لهذا النمط الغربي الحديث في التعامل مع القصة القرآنية. حاول غايغر أن يتتبع العلاقة بين القصص القرآني المركزي والقصص الكتابي، مثل قصة آدم والخروج من الجنّة والطوفان وقصة إبراهيم وبناء البيت والذبح وقصة مريم وعيسى. فسّر غايغر هذا التشابه بين هذا القصص باقتباس محمدٍ له من المصادر اليهودية التي كانت متاحةً له في جزيرة العرب وما حولها. يقول إن محمداً غيّر بعض تفاصيل هذا القصص. وذلك إما خطأً أو سهواً لاعتماده أحياناً على مصادر شفهيةٍ، أو لأنه حاول أحياناً أخرى أن يعيد تكييف هذا القصص ليناسب سياق الجزيرة الوثنيّ وأهداف دعوته.
ربما أبرز مثال على شبهة الأخطاء التاريخية في القرآن، الراجعة للاقتباس غير الدقيق والشفهي، ما يفترضه غايغر عن قصة تسمية مريم أمّ المسيح بابنة عمران. زعم غايغر أن القرآن خلط هنا بين مريم أم المسيح ومريم الأخرى، أي مريم النبيّة أخت موسى وهارون. وأرجَع هذا لشيوع قصة الحياة المديدة لمريم بنت عمران في الشرق الأدنى القديم، وأن النبيّ ربما تصوّر أن هذه المرأة التي عُمِّرَت طويلاً كما تروي القصص، هي ذاتها التي أنجبت المسيح.
لم تخرج معظم كتابات هذه الفترة عن إطار المقاربة نفسه الذي حدّده غايغر، متجاهلةً المعنى القرآني وحاصرةً القرآن في علاقته النصّية بما سبق من مصادر توراتية وإنجيلية. فبعد كتاب غايغر، صدر سنة 1931 كتاب تلميذه المؤرخ الألماني هاينريش شباير، عمّا جاء في القرآن من أخبار أهل الكتاب. وقد تُرجم للعربية تحت عنوان "قصص أهل الكتاب في القرآن" سنة 2018. انتهج شباير مقاربةً شبيهةً لغايغر، إلّا أنه وسّع فيها مصادره ولم يقتصر على المصادر اليهودية وحدها. وقبل ذلك صدر كتاب المستشرق والكاهن الإنجليزي سان كلير تيسدال "ذي أوريجينال سورسز أوف ذا كوران" سنة 1905. تُرجم الكتاب للعربية بعنوان "المصادر الأصلية للقرآن" سنة 2019. وطبّق تيسدال إطار المقاربة نفسه اعتماداً هذه المرّة على المصادر المسيحية. فقد زعم أن قصص الرهبان والمبشرين هي المصدر الرئيس لقصص القرآن "المنتحَل والمشوَّه".
حدث هذا مع ظهور كتاب الدارس المصري محمد خلف الله "الفنّ القصصي في القرآن" سنة 1951. انتمى خلف الله لما يُعرَف "مدرسة الأمناء"، وهي مجموعة الدارسين من تلاميذ الشيخ والأديب المصري أمين الخولي الذين نظروا للقرآن كتاباً أدبياً، كتابَ العربية الأكبر. كانت هذه الرؤية التي تكرّست داخل كلية الآداب بجامعة القاهرة (جامعة الملك فؤاد حينها)، منذ طه حسين، تنظر للقرآن لا كتابَ حقائق علمية وتاريخية، بل كتابَ هُدى. وقد واجه كتاب طه حسين "في الشعر الجاهلي" الصادر سنة 1921 أزمةً كبيرةً بسبب فقرةٍ قصيرةٍ تكرِّس هذا الفصلَ بين القرآن، وتحديداً القصة القرآنية، وبين التاريخ. زعم عميد الأدب العربي أن رواية التوارة والقرآن عن إبراهيم وإسماعيل والكعبة لا تعني بالضرورة وجودهم التاريخي.
هذه الرؤية والجهد الذي بذله الخولي والأمناء في الدراسة الأدبية للقرآن كانت الأساس الذي بنى عليه خلف الله نظريته عن القصة القرآنية. يرى خلف الله أن القصة القرآنية هي قصّة أدبية لا صلة أصيلة لها بالتاريخ ولا تستهدف سرد قصص الأنبياء. وإنما لها أغراضٌ تتعلق بالدعوة والنبيّ وتكريس أهداف تربوية واجتماعية، ويتمحور صدقها في صدقها الفنّي فحسب.
قسّم خلف الله القصةَ القرآنية تفصيلياً إلى ثلاثة ألوان. قصصٌ تاريخيٌ، وقصصٌ تمثيليٌ، وقصصٌ أسطوري. في اللون الأول يفترض أن لبعض القصص القرآني أصلاً تاريخياً، خصوصاً ما يتعلق بقصص الأنبياء. إلّا أن هذا القصص نفسه مُعادٌ تشكيله في ضوء أغراض القصة القرآنية التربوية والأخلاقية. وهذا من أسباب اختلاف طريقة ظهور هذا القصص في السور المختلفة، وسبب تكراره كذلك. ويمثِّل القصص التمثيلي جزءاً كبيراً من القصص القرآني، لكنه ليس مبنيّاً على أساسٍ تاريخيٍ، بل هو أمثالٌ أدبيةٌ يضربها القرآن تعبيراً عن قضايا بعينها. ولعلّ أبرز مثالٍ على هذا، حسب خلف الله، هي قصص آدم وحوّاء وقابيل وهابيل التي تعبّر عن الصراع بين الرغبة والأخلاق. أمّا القصة الأسطورية، فلا أساس تاريخيّ لها هي الأخرى على انتشارها في سياق الجزيرة العربية. استخدمها القرآن لتقديم قيمِه الأخلاقية والتربوية بالتداخل مع السياق التداولي لمخاطبيه. كان القول بوجود القصص الأسطوري داخل القرآن هو سبب الصدام الأكبر مع خلف الله. عدّ البعض هذا القول ترديداً للقول الجاهلي بأن القرآن "أَسَاطِير الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا [. . .]" (الفرقان:5). لكن وفقاً لخلف الله، فإن القرآن – وربما في هذه الآية تحديداً – لم ينفِ وجود الأساطير فيه، بل نفى فقط أن تأتي هذه الأساطير من عند محمد.
ويرى خلف الله أن القصة القرآنية لا تاريخ لها سوى تاريخ الدعوة نفسه الذي تعرضه ببنائها وغرضها. ويمثّل لهذا بقصة النبيّ صالح والتسعة الرهط (وهم تسعة أشخاصٍ رؤوسُ الإفساد في قوم ثمود، تآمروا على قتل النبيّ صالحٍ وعقروا ناقته). يزعم الكاتب أن المراد بالتآمر على القتل الذي ترويه الآيات هو التآمر على قتل النبيّ محمد. غرض القصة هنا هي تسلية النبيّ والتسرية عنه بتوثيق صلته مع تاريخ الأنبياء قبله وصراعهم مع قومهم، وليس الهدف رواية حدث تاريخي بعينه.
ومع أن مصير كتاب خلف الله لم يختلف عن مصير كتاب طه حسين، إذ تَعرّض كلاهما للتضييق والرمي بالهرطقة، إلّا أن نظرية خلف الله تبدو أنها حدَّدت كثيراً من ملامح النقاش العربي المعاصر في القصة القرآنية. وهكذا ظلّت القصة القرآنية تُقرأ في سياق الصلة بالتاريخ سلباً أو إيجاباً. ترتّب على هذا محاولاتٌ لكتابة الردود على الرؤى التي تنفي صدق القصة القرآنية وواقعيتها، انطلاقاً من كفاية القرآن ومن نفي أحقيّة التاريخ علماً من الأساس. كأننا أمام عكسٍ لفرضية طه حسين وخلف الله. نجد هذا في كتاب "الصدق والواقعية في القصة القرآنية" لأمين محمد عطية باشا، الصادر سنة 2009. ومؤخراً ظهرت الدعوة لإنشاء علم حفرياتٍ قرآني ينطلق من قصص القرآن لدراسة التاريخ والآثار، كما اقترح علي جمعة، عضو هيئة كبار علماء الأزهر ومفتي مصر سابقاً.
في المقابل ثمّة محاولاتٌ لقراءة القصة في سياقٍ أدبي وتاريخي، مع نفي الصدق أو الواقعية عنها. كأنما هي استعادةٌ لفرضية خلف الله. فقد استعادها المفكر المغربي محمد عابد الجابري في الجزء الأول من كتابه "مدخل إلى القرآن" الصادر سنة 2006. لم يهتمّ الجابري بالقراءة الفنّية التفصيلية للقصة، وإنما اقتصر في دراستها على أهميتها التاريخية كاشفةً عن تاريخ الدعوة.
ولا يعني هذا عدم خروج بعض الكتابات العربية عن إطار مقاربة خلف الله. فثمّة محاولاتٌ لقراءةٍ شاملةٍ للقصة القرآنية بعيداً عن حصرها في سؤال التاريخ أو في العظة التربوية والأخلاقية المباشرة. قَمِنٌ هنا ذكر عملَيْن رئيسَيْن. الأول كتاب "السنن التاريخية في القرآن" للمفكر الشيعي العراقي محمد باقر الصدر. وصدر في طبعته الأولى سنة 2011 بعد أن كان محتواه محاضرات ألقيت في السبعينيات. حاول الصدر قراءة القصص القرآني كشفاً عن السنن الإلهية في التاريخ والعمران. وهذا يخرج بالقصة عن سؤال التاريخية بمعنى مدى حقيقة تفاصيلها واقعياً. وكذلك يخرج بها عن نطاق العظة بالمعنى الضيق، لتكون تأسيساً لقوانين الفعل الإنساني في التاريخ.
الكتاب الثاني بعنوان "جدلية الغيب والإنسان والطبيعة" للباحث والسياسي السوداني محمد أبو القاسم حاج حمد، وصدر سنة 2004. حاول حاج حمد أن يقرأ القصص القرآني في كلّيته كشفاً عن جدلية الواقع والغيب في التاريخ بالنظر إلى انتقال التاريخ البشري من "الحاكمية الإلهية" إلى "حاكمية الاستخلاف"، ومن ثمّ إلى "حاكمية الكتاب" في "العالمية الإسلامية الأولى". وهي المراحل التي توازي تطوّر الاجتماع البشري من الدورة العائلية مع "آدم" إلى دورة القبيلة مع "بني إسرائيل"، ثم دورة "الأمّة" (أو ما قد يُعرف بالكينونات السياسية مثل الممالك) في "العالمية الأولى". وأخيراً "الدورة العالمية الشاملة" المعاصرة، والإشارة هنا للدولة القُطرية والنظام الدولي.
إلّا أن هاتين المقاربتين – مثل المقاربات العربية الأخرى، بل والغربية التي تبلورت في القرن التاسع عشر – ظلّتا بعيدتين عن القصة القرآنية في السياق الذي يكشف معناها عن قولٍ دينيٍّ في الحدود الإنسانية القصوى. وبالتالي لم تستطع ربط هذا القصص بالإشكالات الدائمة والمستجدة عند الإنسان.
في الفصل الثالث من الكتاب، تحت عنوان "ديفاين آند هيومان هوسبيتالِتي [. . .]" (الضيافة الإلهية والإنسانية [. . .])، تقرأ أستاذة الأديان المقارنة في جامعة القدس هنيليز كولوسكا التعاملَ القرآني مع قصة ضيف إبراهيم في سورة الحجر. تتعامل الكاتبة معه نتاجَ حوارٍ وإعادة بناءٍ للقصة التوراتية وللقصة في تأويلها المسيحي وكذلك لمفاهيم الضيافة العربية. تفترض كولسكا أن قصة ضيف إبراهيم ترسم عن الضيافة صورةَ ضيافةٍ إلهيةٍ، فالله هو مضيف البشر في الدنيا بنعمه وفي الآخرة بتمام نعمته. تستعيد هذه الصورة الفكرة المسيحية عن الضيافة الإلهية في الفردوس، إذ المسيح هو المضيف للبشر. وتتماشى الفكرة مع الرؤية المسيحية عن قصة ضيف إبراهيم التي تمتلئ بالرموز عن المسيح، فهو الذي ظهر ومعه الملكان. وتظهر في القصة الشجرة التي تحيل إلى الصليب والخروف الذي يحيل إلى المسيح الحمل. إلّا أن القرآن حين يستعيد هذه القصة، فإنه يفرِّغها من دور المسيح مضيفاً. فلا ذكر هنا للشجرة ولا للخروف ولا لماهيّة الرسل.
خرجت كولسكا في طرحها من مقاربة الانتحال الغربية التقليدية، التي رأت القصص القرآني قائماً على الكتب السماوية السابقة فحسب، إلى المقاربة القائمة على النظر لهذا القصص إبداعاً خاصّاً وأصيلاً. وبهذا نُظر للتمثّل الإسلامي لسورة الحجر بوصفه تمثلاً عن الرزق والضيافة الإلهية. وبالأساس انطلقت كولسكا في دراستها من قصر الست طنشق المظفرية في القدس الذي يعود إلى العصر المملوكي، ومن تحليل الآيات القرآنية من سورة الحجر المنقوشة على جدران القصر. وفي تحليلها النصَّ القرآنيَّ هذا وتجليّاته، أبرزت كولسكا تَعاملَ المسلمين مع السورة تكريساً لمفهوم الضيافة الإلهي للبشر، ما يحتّم الإحسان بين البشر بعضهم بعضاً. فمفهوم الضيافة الإلهية يجعل الإنسان غير ممتلكٍ حقيقيٍّ للنعم، وإنما مستخلفاً عليها.
كذلك نجد في كتاب "ما وراء الحكاية" مجموعةً من الدراسات الأخرى في فصولٍ مختلفةٍ تسلّط الضوء على مسألة التلقّي التاريخي للقصة القرآنية غرباً وشرقاً، ما يبرز تمثّلَ القصة القرآنية أخلاقياً وحضارياً ومعرفياً.
اشتمل الفصل التاسع مثلاً دراسة المتخصص بالفنّ الإسلامي بلال بادات، تحت عنوان "ذا ناراتيفايزيشنز أوف كورآنِك فيرسِز [. . .]" (سرديات الآيات القرآنية [. . .]). يعرض بادات كيف أدّت القصص القرآنية والقصص الحافّة بها عن خلق القلم والأنبياء الكتبة، دوراً في بلورة أخلاقيات الخطاطين في العالم الإسلامي وسماتهم. كذلك تعرض دراسة الأكاديمي التركي فتيح إيرمس في الفصل السابع، "شاربيننغ إنتويتيف نوليدج" (شحذ المعرفة الحدسية)، الدورَ الذي أدّته قصصٌ مثل قصة موسى والخَضر في بلورة أخلاقيات التصوف وعرضها، وطبيعة المعرفة وعلاقتها بالأخلاق.
كذلك سبرت الفرنسية المتخصصة بالإناسة والتاريخ، إيمانويل ستيفانيديز، في الفصل العاشر والأخير من كتاب "ما وراء الحكاية" مساحةً لافتةً من مساحات تلقّي القرآن غربياً، وهي السرد الشرقي عموماً. وفيه تناول القصص القرآني جزءاً من الحكمة الشرقية. استخدمت الكاتبة تمثيلاً لكلامها "موسوعة ديربيلو الشرقية" (أو "المكتبة الشرقية") التي أنتجها المستشرق الفرنسي بارتيليمي ديربيلو. صدرت الموسوعة سنة 1697، وتُعَدّ من أهمّ الأعمال الاستشراقية التي بُنيت عليها الدراسات الإسلامية في الغرب. مُثّل في الموسوعة القصص القرآني مساحةً أخلاقيةً وحكمية. وكان هذا التناول معاكساً لكثيرٍ من الرؤى الجدلية الشائعة حينئذٍ حول الإسلام والقرآن.
ويظهر أثر التغيّر في تركيبة دارسي القصة القرآنية، الذي يدفع لمقاربةٍ للقصة القرآنية تربطها بالهموم المعاصرة الإسلامية والإنسانية، في أكثر من دراسةٍ في الكتاب. في الفصل الثامن تتناول الباحثة التونسية هالة عطا الله التعامل القرآني في سورة طه مع مشقّة موسى في التكلّم. تعرض دراستها المعنونة "ديسابِلِتي ريتوريك أند إيثكس إن كورآنس ناراتيفز" (خطاب الإعاقة والأخلاق في القرآن) العلاقة بين المهمّة النبوية المناطة بموسى وبين سماته وقدراته الجسدية. وتتساءل الكاتبة كيف يمكن أداء المهمة النبوية مع عناء موسى في الإفصاح عن رسالته. تحاجّ عطا الله بأن القرآن لا يضع إعاقة موسى حاجزاً عن أن يصبح أهمّ أنبياء العهد القديم وكليمَ الله. كذلك فهو لا يغيّر هذه الصفة بمعجزةٍ مباشرةٍ، بل يقدِّم لموسى معيناً ممثلاً في أخيه هارون. ترى عطا الله أن القرآن يقدِّم بهذا نموذجاً للتعامل مع ذوي الاحتياجات الخاصة، إذ يشير لدمجهم وتيسير الظروف المحيطة بهم. وتذكر متحسرةً كيف أن المساجد في كثير من البلدان لا توفر أدوات تيسِّر حضور ذوي الاحتياجات الخاصة الكامل داخل الشعائر الدينية والمجتمع الديني.
يمكن قول الأمر نفسه عن دراسة الباحث المصري محمد فاضل "ساكريفايس" (التضحية) في الفصل الرابع من الكتاب. يناقش فاضل قصة الذبيح في ضوء النقاشات المعاصرة حول مفهوم السيادة والديموقراطية، وينطلق من إمكانية تأسّس السياسة على بعض المفاهيم اللاهوتية. يستعرض فاضل بعض النقاشات المعاصرة في إمكان تأسيس سياسة ديمقراطية على فكرة العهد في اليهودية والمسيحية.
ترتبط فكرة العهد هذه مركزياً بقصة الذبح (التضحية بإسماعيل ابن النبيّ إبراهيم)، إذ يمنح العهد لأبناء الذبيح إسحق. ويرى فاضل أن هذه الفكرة لا تستطيع أن تمثّل أساساً لبناء سياسةٍ عقلانيةٍ وديمقراطية. ففكرة العهد اليهودية قد تتحول إلى عرقيةٍ واستثنائيةٍ، وبالتالي تقضي على إمكان الوجود السياسي وتفضي إلى نوعٍ من الطغيان. كذلك فإن فكرةَ العهد في المسيحية القائمةَ على التضحية قد تفضي إلى نهاية السياسة ذاتها، وهي التي تقوم على تأكيد قيم الوجود والتشارك. يختلف الأمر في حالة الإسلام وفق فاضل. إذ تمثل قصة ذبيح إبراهيم تأكيداً لقيم العقلانية والتداولية، كما يبدو في حديث إبراهيم وابنه، وهو الحديث الغائب في التوارة. كذلك فإن فعل التضحية في الإسلام غير مرتبطٍ لا بالعهد ولا بالاستشهاد، بل بالعيد والفرح والتضامن والإحسان. وهو ما يجعل القصة وما تعرضه من مفاهيم وقيم أساساً ممكناً لبناء مجتمعٍ سياسي عقلاني تشاركي.
ومع التطور الحادث في الدراسات الأدبية، وكذلك التغيرات الحاصلة في دائرة دارسي القرآن، ومساحات المشاركة التي بدأت تتّسع وتظهر في تنوع الدارسين الذين تضمّهم الكتب والموسوعات، يسهل تجاوز النقص بإعادة تعريف دراسة القرآن في السياق الحديث. يعني هذا النظر للقرآن فضاءً للمعنى، كتاباً دينياً يحمل قوله في الإشكالات الإنسانية الكبرى، وليس مجرّد وثيقةٍ تاريخية. ويعني كذلك ضبط أطر دراسته لتتسلح بكلّ الأدوات المنهجية الحديثة في الدارسة الأدبية والتاريخية التي تستطيع الكشف عن كثيرٍ من طبقات المعنى. هذا النوع من الدمج يجعل دراسة القرآن مسألةً تبدأ بالتاريخ والبناء النصّي، لكن تنتهي عند المعنى والعيش والإنسان.
إن القصة القرآنية، كما يبدو، هي محورٌ للنقاش بين كثيرٍ من الثنائيات. بين الغرب والشرق وبين المسلمين وغير المسلمين والكتابيين وغير الكتابيين. وهي محورٌ للنقاش بين ماضي المسلمين وحاضرهم، وبين تلقّي المسلم العادّي وبين الدراسة الأدبية والتاريخية الدقيقة. لذلك، فالقراءة الشاملة للقصة القرآنية تبدأ من إدراك هذا الاتساع الذي تحوزه القصة فيه.
