مرَّت كتابة السيرة بأطوارٍ مختلفة. فركَّزت السير المكتوبة في النصف الأول من القرن العشرين على قضية النبوّة وشخص النبيّ. ومع ندرة الكتابات العربية المتخصصة التي تبحث في معنى النبوّة نظرياً وتتناوله بالنقد والتحليل، ناقشت هذه السير تلك القضايا من خلال سرد حياة النبيّ بعيونٍ حديثة. ومن أهمّ كتابات هذا الاتجاه كتاب "حياة محمد" الذي ألّفه محمد حسين هيكل سنة 1935، وكتاب "محمد صلى الله عليه وسلم" الذي ألّفه توفيق الحكيم سنة 1936، وكتاب "عبقرية محمد" الذي ألّفه عباس محمود العقاد سنة 1941، وهي كتاباتٌ ركّزت على استعادة مركزية النبيّ في الوجدان، ضمن رؤيةٍ عامّةٍ للنهوض توفِّق بين الدين والحداثة، على نحوٍ سمّاه المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري في كتابه "صراع الأضداد" المنشور سنة 1995 "التوفيقية العلمانية الإسلامية".
تراجع هذا الاتجاه في كتابة السيرة في السنوات اللاحقة لصالح اتجاهٍ آخر، أكثر تخصصاً وانفصالاً عن إشكالات النهوض. تكتب السيرة في هذا الاتجاه في إطار الدراسات التاريخية المتخصصة. ومن أهمّ أمثلته كتاب "في السيرة النبوية" بأجزائه الثلاثة، التي ألّفها المؤرخ التونسي هشام جعيط بين سنتَيْ 1999 و2014. سمح هذا التحول بمناقشة قضايا الوحي والنبوّة، إضافةً إلى مصادر كتابة السيرة ومناهجها، في إطارٍ أكثر علميةً، لكنه ركَّز على السياق التاريخي أكثر من تركيزه على شخص النبيّ، وهمَّش الأهداف الفكرية النهضوية لكتابة السيرة.
يقدِّم طه عبد الرحمن منهجاً جديداً في كتابة السيرة. وفي كتابه "السيرة النبوية والتأسيس الأخلاقي" المنشور سنة 2024 ، يعيد الاتصال بين السيرة والمشروعات الفكرية، ويعيد شخصَ النبيّ إلى مركز الكتابة، دون أن يتخلّى عن الأسس العلمية التي قامت عليها كتابات العقود الأخيرة. فهو يقرّ بفائدة هذه المناهج في ضبط الدقة الواقعية للسيرة، ويرى قصورها عن الإحاطة بالسيرة آيةً أخلاقيةً وروحيةً، لا أحداثاً تاريخيةً وحسب. ويقترح تناول السيرة ضمن فلسفته الائتمانية الأخلاقية العامة، التي فصّلها في كتبٍ سابقة.
كانت الكتابات الاستشراقية من الدوافع الرئيسة لإعادة الاشتباك مع السيرة. انطلاقاً من نهايات القرن التاسع عشر، كتب عددٌ من كبار المستشرقين سيراً عن النبيّ محمد، حَوَت نقداً لتصرفاته وتشكيكاً في نبوّته. مثلاً، ألّف المبشّر والمستشرق الإنجليزي السير وليم موير كتاب "لايف أوف موهمد فروم أوريجينال سورسيس" (حياة محمد من المصادر الأصلية) سنة 1878، وألّف الفرنسي إميل دِرمِنْغِم كتاب "حياة محمد" الذي تُرجم للعربية سنة 1954. وفي هذه الكتب وغيرها، عَدّ الكتَّاب النبوّةَ انتحالاً، ونقدوا خوضَ النبيّ الحروبَ، وزواجَه من عدّة نساءٍ، وصوَّروه وثنياً وعدوانياً وشهوانياً. ومع اتفاق هذه الكتابات مع سابقتها في التراث الاستشراقي في تقديم صورةٍ سلبيةٍ عن النبيّ، فإنها اختلفت عمّا سبق بادعائها العلمية والموضوعية. ولم يمضِ وقتٌ طويلٌ حتى اطَّلع المثقفون العرب على هذه الكتابات، وانشغلوا بالردّ عليها ومناقشتها.
ناقش المثقفون العرب المستشرقين فكتبوا بعض المقالات. مثلاً، نشرت مجلة المنار سنة 1933 مجموعة مقالاتٍ لمحمد رشيد رضا تحت عنوان "الوحي المحمدي". إحدى هذه المقالات كانت جواباً على سؤالٍ سابقٍ وُجِّه للمنار كانت قد نشِرت إجابته سنة 1904، فنَّدت مقولة "الوحي النفسي"، التي ادَّعَى مطلقوها أن القرآن حصيلة مجاهَداتٍ روحيةٍ ولقاءاتٍ فكريةٍ ضمن بيئةٍ ثقافيةٍ ما، وأن تصوُّرَ النبيِّ رسولاً هو محض تصوُّرٍ نفسيٍ يخالف الواقع. استندت المقالات في استدلالها على صدق نبوّة النبيّ إلى مبحث "دلائل النبوة" في التراث العلمي الإسلامي، وهو مبحثٌ يعدّد أدلّة صحّة دعوى النبيّ محمدٍ الرسالةَ. وركّزت دعوى الكُتّاب على ثبوت النبوّة المحمدية بمعجزةٍ كونيةٍ تناسب مرافقتها طور النضج العقلي، وهي القرآن: البيان اللغوي والعقلي المعجز، المنبئ بأخبار الماضي والحاضر وسنن الخلق والمجتمع.
انتقل المثقفون العرب بعد ذلك إلى تأليف كتبٍ كاملةٍ عن السيرة. فأفرد محمد عبده جزءاً من كتابه "الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية"، الذي نشر سنة 1923 بعد وفاة عبده، لنقاش الغزوات الإسلامية. وحاجج عن التسامح الإسلامي تجاه المخالفين، وأن هديَ السنة النبوية يتمثل في منع إيذاء المخالف، وفي ضمان السلام للبلاد المفتوحة. وأن ما يشهده التاريخ الإسلامي من خروج هذا السمت انحرافٌ واكب ضعف الإسلام.
وصل هذا النمط من الكتابة عن السيرة ذورته في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين. وعكست كتابات هذه الفترة السعيَ لما أسماه محمد جابر الأنصاري مرحلة "التوفيقية العلمانية الإسلامية"، وهي إحدى أهمّ مراحل الصراع بين العلمانية والتقليد في تاريخ الفكر العربي. إذ تحوّلت كتابة السيرة مساحةً لنقاش بعض القضايا المركزية، مثل معنى النبوّة وحدود العقلانية. لذا ركزت الكتابات في هذه المرحلة على عقلانية النبيّ والمرويات التاريخية، واستبعاد ما يبدو منها مناقضاً للعقلانية الحديثة.
يظهر هذا التوجه في كتاب "حياة محمد" لمحمد حسين هيكل. يفتتح هيكل الكتاب بمقدمةٍ ترسم صورةً عقلانيةً، يواجه بها جمودَ التقليد ومطاعنَ المستشرقين. وفي سبيل هذا المقصد، يرفض الروايات التي تناقض هذه العقلانية الحديثة، مثل رواية "شقّ الصدر" التي تحكي شقَّ جبريل صدرَ الرسول في صباه وإخراجَه علقةً من قلبه غسلها بماءٍ من طستٍ ذهبيٍ ثمّ أعادها مكانها، وكذلك رواية "الغرانيق" التي تحكي إلقاء الشيطان بعض الآيات تمدح آلهة قريش على لسان النبيّ أثناء تلقّيه سورة النجم وحياً.
ويرفض هيكل كذلك القول المشهور بأن الإسراء والمعراج كانا بالروح والجسد جميعاً. ويختار القول بأنهما حدثا مناماً دون أن ينتقل جسد النبيّ إلى المسجد الأقصى أو السماء. وبنى هيكل بعض حججه على كتب المستشرقين بدل رفضها بالكلية. إذ انتقى من كتابات موير والأب البلجيكي هنري لامنس حديثهم عن سلامة القرآن ودقّة نقله وثيقةً أصيلةً وموثوقة.
ساعد هذا الحرص التوفيقي هيكلَ على دمج السيرة ضمن مشروع النهوض. فمن جهةٍ، تسبّب حرصه عليها في تغافله عن المعجزات التي نقلتها كتب السيرة ولم يجد لها تفسيراً عقلانياً يناسب رؤيته الحداثية ولم يُرِد تكذيبها لئلّا يصطدم بالمقلدين، مثل معجزة إخبار ذراع الشاة التي أهدتها يهوديةٌ في المدينة للنبيّ أنها مسمومةٌ لئلّا يأكلها. ومن جهةٍ أخرى، لَم يلتزم هيكل منهجيةً معيّنةً في سرد بعض الروايات التاريخية أو إهمالها، أو قبولها أو ردّها، ومنحه ذلك مساحةً لانتقاء ما يريد من السيرة لرسم صورةٍ محددةٍ سلفاً.
لَم تهتمّ هذه المشروعات اهتمام سابقتها بالسيرة النبوية. مثلاً، ظهرت في السنوات اللاحقة للحرب مشروعاتٌ مثل كتاب "الثابت والمتحول" للشاعر السوري أدونيس، المنشور سنة 1973، وكتاب "النزعات المادية في الفلسفة العربية والإسلامية" للمفكر اللبناني حسين مروّة المنشور سنة 1978، ثم كتابات محمد عابد الجابري التي ظهرت في الثمانينيات. ولم تكن السيرة النبوية ضمن اهتمام المفكرين في أيٍّ من هذه المشروعات، بل استحالت موضوعاً لا يتناوله إلا المتخصصون، سواءً في التاريخ أو الحديث، بعيداً عن هموم المعاصرين الاجتماعية والسياسية والفكرية.
يعود ذلك للطبيعة المنهجية الصارمة التي شهدتها هذه المرحلة. إذ إن مفكّري هذه المرحلة عدّوا الحداثةَ منهجاً مترابطاً بعد أن رآها أسلافهم أفكاراً متفرقة. واهتمّوا، وهم أبناء الحداثة، بتطوير مناهج تضبط علاقتهم بالتراث واستفادتهم منه. وصوَّروا الإشكال المركزي في النهوض أزمةً في "العقل العربي" وأدواتِه المعرفية تظهر بالأساس في علاقته بالماضي. هذا الإلحاح على قضية المنهج منع عرض السيرة دون تركيزٍ على المنهجية التاريخية المنضبطة، التي تحتاج إلى تخصصٍ ولا تناسب أصحاب الرؤى والمشروعات النهضوية العامة من غير المتخصصين في السيرة النبوية والتاريخ.
تحوّلت السيرة في هذا السياق مشروعاً متخصصاً للمؤرخين. وتبدو ثلاثية المؤرخ التونسي هشام جعيط "في السيرة النبوية"، التي صدر جزؤها الأول سنة 1999 والأخير سنة 2015، أهمَّ تمثيلٍ لهذه المرحلة. إذ لا يهدف جعيط فيها لإنتاج صورةٍ معيّنةٍ عن النبيّ، أو قراءته ضمن الإشكالات الفكرية المعاصرة، ولا مناقشة قضايا النبوّة. بل يهدف لوضع منهجٍ علميٍ للتعامل مع المصادر التاريخية. ويستند لهذا المنهج في تصحيحه إشكالات الكتابة التاريخية الاستشراقية، التي يصرّ أنها ليست أعمالاً علميةً أنتجها مؤرخون، بل مستشرقون تقليديون تنحصر اهتمامات معظمهم في اللغة ودراسة النصوص.
يركز جعيط في ثلاثيته على سؤال المصادر التاريخية المعتمَد عليها في كتابة السيرة، ويعارض المنهجين الغربيين الرئيسين في كتابتها. أما المنهج الأول فهو ما تسميه حياة عمامو في كتابها "السيرة النبوية: مناهج، نصوص، وشروح" الصادر سنة 2014 "المنهج الوصفي". ساد هذا المنهج في القرنين التاسع عشر والعشرين، ويتسم بالقبول غير النقدي للمصادر الإسلامية، والانتقاء منها دون منهجيةٍ واضحة. والمنهج الثاني هو "المنهج الشكّي" الذي يعتمده بعض المستشرقين المعاصرين مثل جون وانسبرو وباتريشا كرون ومايكل كوك، وهو منهجٌ يرفض الاعتماد على المصادر الإسلامية التاريخية في التفسير والسيرة، ويعدّها اختراعاً وتزييفاً فكرياً لأن تدوينها لم يكن معاصراً للأحداث.
يطرح جعيط منهجاً قريباً من "المنهج النقدي" الذي طوّره المستشرقان، الفرنسي ريجي بلاشير والألماني تيودور نولدكه، في القرن التاسع عشر. يفرض هذا المنهج الانطلاقَ من القرآن مصدراً موثوقاً ومعاصراً للنبوّة لكتابة سيرة النبيّ، ويفرض فحص المؤرخ الدقيق للمصادر وتطويره منهجيةً متماسكةً للتعامل معها، بدلاً عن إهمال سؤال المنهجية في المقاربتين الشكّية والنقدية.
تبدو منهجية جعيط صارمةً مثل منهجية المحدثين. إذ قضيّتُها الأساس تمحيص الصحّة التاريخية للوقائع، دون انشغالٍ بدلالاتها. ولذا، ليس فيها التذبذب في قبول الروايات ورفضها التي اتسمت به كتابات المرحلة السابقة. يظهر هذا في تعامل جعيط مع قصة نزول الوحي على النبيّ في غار حراء، والتي يعدّها مختلَقةً لأنها تخالف صورة الوحي في القرآن، الذي يبدو فيه تواصلاً هادئاً وبعيداً عن الانفعالات الكبرى التي عرفتها نبوّات العبرانيين.
كذلك في نفي جعيط قصةَ الغرانيق، إذ يبتعد عن النفي المباشر أو الاعتذاري كما فعل هيكل، بل يمحِّص القصة ضمن سياق الدعوة المحمدية في مكة. وتفترض القصة بحسب جعيط تعرُّض المسلمين للمضايقة في هذه الفترة، وأن ذلك ما دفع النبيَّ لطرح مساومةٍ مع عقائد الجاهليين، أيْ أن المضايقات كانت سابقةً على المساومة المزعومة المزامنة نزولَ سورة النجم. ويستند جعيط إلى ترتيب النزول وتتابع تاريخ الدعوة ليدحض هذه الدعوى. إذ يدلّ عدم تعرّض القرآن قبل سورة النجم للتسخيف من الآلهة الجاهلية على أن اضطهاد قريش للمسلمين لم يبدأ إلّا بعد نزول هذه الآية. وعليه، فلا يمكن أن يكون موضوع المساومة هو الذي تفترضه التفاسير والسير. ويقدم جعيط تفسيراً بديلاً لموضوع المساومة، وهو أن قريش عرضت عبادة إله محمدٍ مع الاحتفاظ بمرتبةٍ قدسيةٍ لآلهتهم.
يرسم جعيط ملامح منهجٍ علميٍ في تفسير النبوّة يتجاوز إشكالات المنهج التاريخي. إذ يربط الوحيَ المحمديَ بالنبوات الكبرى في التاريخ (مثل نبوات أشعيا وحزقيال عند بني إسرائيل)، مع التركيز على كون النبوّة المحمدية أكثر هدوءاً وعقلانية. ويعدّ جعيط "الانخطافية"، أي الخروج اللحظي عن الهدوء النفسي والجسدي وظهور أعراض الغياب العقلي والتعب الجسدي، سمةً مميزةً للنبوّة، توجد في بدايات سيرة كلّ نبيّ. وهي عند النبيّ محمد ليست بالشدة نفسها في النبوات السابقة. ويرفض جعيط وصف هذه الانخطافية بالصرع أو المرض النفسي كما شاع في بعض كتابات القرن التاسع عشر. إذ يقول بأن هذه الانخطافات – على قلّتها في حالة النبيّ – ليست سوى جزءٍ من حركة العقل حين يغادر مساحته إلى عالم ما وراء العقل. وتمثل سمةً أساسيةً في النبوات والتجارب الفكرية الكبرى، وتقلّ تماماً في حالة النبيّ محمد، وتتوارى وراء القوة الكبيرة للقرآن نصاً مبيناً.
تسهل قراءة هذا المشروع في ضوء اهتمام عبد الرحمن بالأخلاق، الذي هو الموضوع المركزي لمشروعه الفلسفي. تجلّى هذا الاهتمام في كتاباتٍ سابقةٍ، مثل كتاب "سؤال الأخلاق" المنشور سنة 2000، وكتاب "بؤس الدهرانية" المنشور سنة 2014، وثلاثية "دين الحياء: من الفقه الائتماري إلى الفقه الإئتماني" التي نشرت سنة 2017، وكتاب "المفاهيم الأخلاقية بين الائتمانية والعلمانية" الذي صدر في جزأين سنة 2020. يُعرِّف عبد الرحمن الأخلاقَ في هذه الكتب هويةً للإنسان، وميثاقاً مع الخالق، واستعادةً لجذرِ خِلقَتِه.
ينتقد عبد الرحمن في هذه الكتابات فصلَ الأخلاقية عن العقلانية. تدّعي الفلسفة اليونانية القديمة والفلسفة الحديثة استقلال العقل بالمعرفة دون الحاجة للتسديد الإلهي. ويستقِلّ العقل في هذه التصورات عن العمل. يرفض عبد الرحمن هذه التصورات، ويؤكد أهمية العقل المسدَّد، المرتبط بالشرع، في استعادة صلة العقل بالعمل. ويقدّم في كتاباته عقلاً ثالثاً، أكملَ من العقلين المُجرَّد والمُسدَّد، ألا وهو العقل المؤيَّد، الذي يتجاوز رسومَ العمل والسلوك وظواهرَهما، ليعاين حقائقَهما وبواطنَهما. فهو نظرٌ عمليٌ يلامِس ويلابِس الحقائق الروحية والأخلاقية.
يشترك مع عبد الرحمن في نقده عقلَ الحداثة التسيّدي عددٌ من المفكرين المسلمين. مثلاً، انتقد الفيلسوف الفرنسي رينيه غينون (واسمه الحاليّ عبد الواحد يحيى) في بدايات القرن العشرين اتجاهَ الحداثة الغربية المادّيَ القنْصيَ غيرَ المكترث بالأخلاق. وفي كتابه "شرق وغرب" المترجم للعربية سنة 2016، عَدّ هذا التوجّهَ، الذي يقصر العقلَ على المعرفة التجريبية بالعالم، شذوذاً عن كلّ الحضارات. وفي كتابه "إصلاح الحداثة" المترجم للعربية سنة 2020، يثمِّن وائل حلاق، أستاذ الإنسانيات بجامعة كولومبيا، اهتمامَ طه عبد الرحمن بالأخلاق أساساً لمشروعه الفكري. ويرى حلاق في هذا الاهتمام أساساً لمشروعٍ يعالج إنسانَ الحداثة المتسيِّد المادّي، ويجعله إنساناً "ائتمانياً"، أي مؤتمَناً على العالم، عاملاً فيه بمقصد الله لا باستقلال إرادته. هذا الإنسان الجديد هو ما يؤسِّس له عبد الرحمن في كتابه عن السيرة، ويظهر هذا في منهج كتابه وفي تقسيمه.
ينتقد عبد الرحمن في مقدمة كتابه المناهجَ السائدة لكتابة السيرة. ويحصرها في ثلاثة: الطريقة الحديثية وطريقة المؤرخين وطريقة الفقهاء، وكلّها تَحول دون تحصيل فوائد قراءة السيرة. فطريقة المؤرخين تقتصر على ذكر الوقائع والأخبار واستيعاب أحداثها، كأنّ الجمع التاريخي هو معيار الانتفاع بالسيرة. وطريقة المحدّثين تقدِّم تدقيق الألفاظ على اتساق المعاني. وطريقة الفقهاء تقصر الاهتمام بالسيرة على استنباط الأحكام الفرعية العملية.
في المقابل، يعرض عبد الرحمن منهجاً يتماشى مع هدفه الائتماني الأخلاقي من كتابة السيرة. فلا يرى أحداثَها وقائعَ وظواهرَ تُفحَص تاريخياً أو أخباراً تُفحَص حديثياً، بل آياتٍ ينبغي تأويلها ائتمانياً، بحثاً عن المعاني الروحية والأخلاقية التي تتضمنها، ثمّ محاولةً لاتباع هذه المعاني على طريق الاقتداء والائتمان لا التملك والابتداع.
يُظهِر ترتيب الكتاب اختلافاً عن الطريقة المعتادة لكتابة السيرة. فهو لا ينقسم على أساس السنوات أو الحوادث، بل تسرَد هذه الحوادث ضمن المفاهيم الأخلاقية والروحية. تصبح مسيرة الدعوة تخليقاً للعقل على الصدق، وتخليقاً للإرادة على الأمانة، لتَبرُز بهذا حقيقة السيرة تجسيداً للصدّيقية وتأسيساً لمجتمع الأمانة القائم على إتمام الأخلاق.
ويمكن ملاحظة هذا الصنيع في تفسير طه عبد الرحمن لعددٍ من اللحظات المهمّة في سيرة النبيّ. يرى عبد الرحمن لحادثة شقّ الصدر آيةً، وإذ يتناولها فإنه يتجاوز مناهج المحدّثين والمؤرخين. إذ ينصب اهتمامه على تكرار الشقّ، مرّةً في طفولة النبيّ ومرّةً في رحلة الإسراء والمعراج. وهذا التكرار الذي يُشغِل المحدّثَ والمؤرخَ بفحص حدوثه أو توهمه أو دلالته على اختلاق الحدث، لا يشغل عبد الرحمن، الذي يؤوّل الحادثةَ وتكرارَها ائتمانياً، بحثاً عن القيم الخلقية فيها، والمتعلقة بما يسميه "مبدأ الإشهاد". يقوم مبدأ الإشهاد على وجود ميثاقٍ أصليٍ بين الله والبشر، يذكره القرآن في سورة الأعراف: "وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (الأعراف:172) أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (الأعراف:173)".
يقول عبد الرحمن إن هذا المبدأ يعني أن الإنسان قد شهد على ربوبية الله ووحدانيته، وكوَّن معرفةً بكمالات الله، أو بقيم هذه الكمالات. وهذه القيم من الفطرة، إذ تعمل ذاكرةً قيميةً توجّه السلوك الإنساني. يمثل شقّ قلب النبيّ شرحاً وفتحاً للقلب وهو نور العقل، وإخراجاً لما يسميه عبد الرحمن "العقل الجامد" أو "العقل الغريزي" منه، وغسلاً لكل ما يقف أمام إدراك القيم، فهي استعادةٌ للفطرة. ويعدّ عبد الرحمن تكرارَ الحادثة في المعراج دليلاً على ارتباطهما. فشقّ الصدر بدايةٌ لشقّ السماء، أي العروج، والعروج تذكيرٌ بالإشهاد الأول. تتجسّد الفطرة الإشهادية للنبيّ في أخلاقه التي هي عملٌ بالقيمة وربطٌ بينها، يوجب الصدق، الذي هو سمةٌ شهد بها الجميع للنبيّ حتى قبل بعثته، فهو الصادق والصدِّيق.
يقرأ عبد الرحمن غزوتَيْ بدر وأُحد من خلال التقابل بين الائتمان والامتلاك. وهو تقابلٌ أساسٌ في فلسفته، إذ ترى الأخلاق الائتمانية الإنسانَ مؤتمَناً من الله على الأشياء، لا مالكاً لها. ووِفق عبد الرحمن، تمثّل معركة بدر نقلَ المسلمين من الامتلاك للإئتمان. فالمسلمون الذين خرجوا بحثاً عن قافلة أبي سفيان للاغتنام منها تعويضاً عن ما خسروه، اضطرّوا لاحقاً إلى قتال أبي جهل، فكان عليهم هنا أن يفارقوا الاغتنام إلى الائتمان. وهو ما فعلوه في استجابتِهم للنبيّ ومجاوزةِ إرادتهم وتخليقِها على الأمانة. إذ لا يملكون أنفسهم، بل يؤتمَنون عليها وديعةً. ولأنهم مؤتمَنون على الحق والعدل، انتصروا وتجهّزوا لبناء مجتمع الأمانة. أما أُحد فكانت اختباراً لقدرتهم على هذا الارتفاع عن العقل الغريزي المشدود للغنيمة، وهو ما لم يحدث، فكانت الهزيمة.
يمثل فتحُ مكّة وكسرُ الأصنام، بحسب عبد الرحمن، ذروةَ التخلص من الامتلاك والعودة لفطرة الإشهاد. دخل النبيّ مكة وحول الكعبة ثلاثمئةٍ وستون صنماً، وتصاوير للأنبياء. هذه الأصنام هي قمّة الامتلاك، إذ على الامتلاك تقوم علاقة المشرِك بصنمه. ووجود الأصنام حول البيت يعارض كون البيت قبلة الفطرة ومستودع المعاني الروحية والكمالات الأخلاقية. لذا كسر النبيُّ هذه الأصنام ليكسر قمّة الامتلاك، ويعيد الإنسان إلى فطرة الإشهاد بالتوجُّه إلى البيت قبلةً، وبتحمُّل أمانة هذا البيت ظاهراً وباطناً.
هذه الآيات التي يقرؤها عبد الرحمن في السيرة تمثل أساس التخلُّق. إذ يظهر النبيُّ في آيات السيرة متمّماً لمكارم الأخلاق، كمّياً إذ أضاف لها، وصعودياً إذ ترقَّى فيها فوق الصدق والأمانة نحو التوحيد والعبودية والعدل والفضل، وكلّياً إذ شملت منه العقل والإرادة. ويظهر في سيرته سلوكاً حيّاً نموذجياً، ينزل منزلة القدوة الحسنة التي تستدعي التشبه بأخلاقها، لا على هيئة علاقةٍ فكريةٍ أو اعتباريةٍ بل على هيئة علاقةٍ اقتدائيةٍ حيّة.
تشبه سيرة عبد الرحمن سِيَرَ المرحلة الأولى من كتابات السيرة الحديثة في ارتباطها بهدفٍ شامل. لكنها تختلف عنها في عدم اتجاهها إلى إعادة تركيب السيرة، أو رسم صورةٍ للنبيّ تناسب الهدف الفكري والعقائدي لكاتب سيرته. إنها تذكِّر بالطريقة التي اقترحها جعيط، في تغييرها المنظور المستند إليه في النظر للسيرة بدلاً من إعادة تركيبها، واقتراحها ضمناً منهجيةً جديدةً في مقاربتها. لكنها تختلف عن ثلاثية جعيط في عدم تناولها للسيرة أحداثاً تاريخيةً تنتمي للماضي، بل آياتٍ بعقلٍ موسَّعٍ يبتغي فهم قيمها الروحية والأخلاقية التي تربطنا بالميثاق الأول.
ترتبط القراءة المفاهيمية للسيرة بهدف سرد عبد الرحمن لها، إلّا أن هذا قد يصعِّب عملية تلقّيها. فأحد الأسباب التي مكَّنت سير المرحلة الأولى من الانتشار والبقاء مستحضَرةً إلى اليوم هو لغتها السردية والبسيطة، وبُعدها عن نقاشات المناهج والأفكار المركّبة. وصحيحٌ أن مفاهيم سيرة عبد الرحمن مرتبطةٌ بالعقل المؤيَّد، وبملابسة الحقائق ومعاينتها، مما يجعلها بعيدةً عن آفات التجريد الفكري. إلّا أن السؤال يبقى: من يمكن أن يستوعب مفاهيم طه عبد الرحمن ليلامِس الحقائق، وكيف لكتابٍ يبتغي خلق نظرٍ عمليٍ حيٍّ أن يفتقد تلك الحيوية في نسيجه.
وربما ما يطرحه كتاب طه عبد الرحمن الأخير هو هذا السؤال عن أمثل طريقةٍ لكتابة السيرة. كيف يمكن كتابة السيرة بطريقةٍ تحفظ لهذا التراث أهمّيته، وتضيئه بأعينٍ ومناهج جديدة. وكيف يمكن النظر لسرد السيرة فضاءً أوسع من سياق كاتبيه الثقافي، عبر نقلها منهجياً لأرضٍ جديدةٍ خارج الفقه والتاريخ، أي أرض الفلسفة، أو الحكمة العملية، التي هي أبعد الأراضي وأقربها.

