ألهم الاكتشاف الأوساطَ العلمية، لما يفتحه من آفاقٍ وفرصٍ مستقبليةٍ في مجالاتٍ متعددةٍ، منها تقنيات الاتصالات المتقدّمة ومعالجة المعلومات. إنه تحولٌ تجريبيٌّ ملهمٌ في طرق التحكّم بالضوء، يُنتظر أن يكون له تأثيرٌ عميقٌ على العلم والتقنية في السنوات المقبلة. ولفهم هذا الإنجاز، ننطلق في رحلةٍ قصيرةٍ نروي فيها كيف تطوّرت نظرة العلماء إلى الضوء في القرنَين الماضيين. ونفتح الباب لفهم بعض مفاهيم فيزياء الكم، هذا العالم الذي تسكنه الذرات والجزيئات وقوانين لا تشبه ما نراه في حياتنا اليومية.
استمرّ هذا التصوّر حتى القرن الحادي عشر، حين أثبت العالم العباسي الحسن بن الهيثم حركةَ الضوء من الأجسام إلى العين، وهو ما أحدث نقلةً نوعيةً في علم البصريات. فسّر هذا الكشف الرؤية علمياً بأنها نتيجة انعكاس الضوء عن الأجسام ودخوله العين. وأسّس ابن الهيثم بذلك المنهج العلميّ التجريبيّ في دراسة الضوء، فاتحاً الطريق أمام تطوّر علم البصريات على يد علماء الطبيعة وفلاسفتها في العصور اللاحقة.
وفي أواخر القرن السابع عشر، قدّم إسحاق نيوتن محاولةً جديدة لفهم الضوء في إطار الفيزياء الكلاسيكية الناشئة. وفي تجربةٍ شهيرةٍ استخدَم فيها موشوراً زجاجياً، كشف نيوتن تكوّن الضوء الأبيض من ألوان الطيف السبعة. ليستنتج تألّف كلّ لون من جسيماتٍ ضوئيةٍ ذات خصائصَ مختلفة. دعم هذا الاستنتاج ما سُمّي آنذاك "النظرية الجسيمية للضوء".
لكن هذه الفكرة لم تصمد طويلاً. ففي أوائل القرن التاسع عشر، أجرى الفيزيائي الإنجليزي توماس يونغ تجربةً ثورية تعرف باسم تجربة الشقّين. كشفت التجربة إظهار الضوء أنماط تداخلٍ مماثلةٍ لتلك التي تنتجها الأمواج المائية عند تقاطعها. مما رجّح أن الضوء موجةٌ وليس جسيماً.
بقيت طبيعة هذه الموجة غامضة، إلى أن جاء الفيزيائي الأسكتلندي جيمس كلارك ماكسويل في أواخر القرن التاسع عشر وقدّم تفسيراً رياضياً. خلص يونغ إلى أن الضوء موجةٌ كهرومغناطيسية ناتجة عن تذبذبٍ مشتركٍ في المجالَين الكهربائي والمغناطيسي، وتنتقل في الفراغ بسرعةٍ ثابتة. ثم وُلد مفهوم الموجات الكهرومغناطيسية، وهو الأساس الذي قامت عليه الثورة التقنية الكبرى التي أنتجت الكهرباء والمذياع والتلفاز ووسائل الاتصال الحديثة.
لم يكن الضوء قد كَشف كلّ أسراره مع مطلع القرن العشرين. ففي سنة 1905، قدّم ألبرت أينشتاين تفسيراً لظاهرة التأثير الكهروضوئي أظهر فيه أن الضوء قد يتصرّف مثل جسيماتٍ تحمل طاقةً محددة، سُمّيت لاحقًا فوتونات. وأكدت تجارب لاحقة، مثل تأثير كومبتون، أن للضوء طبيعةً مزدوجةً، موجة وجسيم في آنٍ واحد. وهو ما شكّل أحد الأسس الجوهرية لفيزياء الكم.
وبعد قرونٍ من التأمل والتجرب،ة لم يعد الضوء مجرد ظاهرة تُرى. فقد أصبح ميداناً لتجارب متقدّمة في عالم الفيزياء الحديثة. فتمكّن الباحث تريبوجورجوس وفريقه من التحكّم بسلوك الفوتونات كما لو كانت مادةً صلبة ذات بنيةٍ منتظمة، في ما يُسمّى "المادة فائقة الصلابة". والفوتونات هي أساس كل أنواع الضوء، مثل ضوء الشمس أو أشعة الليزر. وهو جسيم صغير جداً ينقل الطاقة في شكل ضوء أو شعاع. هذا الإنجاز يشير إلى تحوّلٍ نوعيّ في فهم الضوء، إذ أصبح بالإمكان دمجه مع المادة وتشكيله في حالاتٍ فيزيائيةٍ جديدة.
يستمرّ الضوء في إثارة فضول العلماء، محافظاً على مكانته أحد أعمق أسرار الطبيعة وأجملها. ومع كلّ كشفٍ جديد، يعيد تشكيل فهمنا للعالم من حولنا.
ومع هذه الغرابة، إلا أن فيزياء الكم هي الأساس الذي ترتكز عليه معظم تقنياتنا الحديثة. من الإشعاع "الليزر"، وأشباه الموصلات، إلى الحواسيب والهواتف الذكية.
تخيَّل أن قطعةَ حديدٍ صغيرةً لا يزيد طولها عن سنتيمتر واحد، فيها مئة مليار تريليون ذرة. تتكوّن كلّ ذرةٍ من مركزٍ ثقيلٍ يسمّى النواة. وهو موجب الشحنة الكهربية، تدور حوله إلكتروناتٌ سالبة الشحنة تسبِّب الكهرباءَ عندما تتحرك في الأسلاك المعدنية. وهذه الإلكترونات داخل الذرة لا تتحرك، بل تحتلّ مستويات طاقة محدّدة، كما لو كانت تسكن طوابق مبنى. فلا يمكنها الانتقال من طابقٍ إلى آخر إلا إذا اكتسبت طاقةً عن طريق الضوء، أو غيره، تساوي بالضبط الفرق بين الطابقَين. وإن لم تُعطَ هذه الكمية المحدّدة من الطاقة، تبقى حيث هي.
الأغرب أن الإلكترون قد يوجد في طابقين بالوقت ذاته، لكلّ مستوى منهم احتمال معيّن. فيكون الإلكترون في المستوى الثاني باحتمالية 30 في المئة، ويكون أيضاً في المستوى الرابع باحتمالية 70 في المئة. فإن حاولنا رصد الإلكترون مئة مرّة، سنجد أن طاقته هي طاقة المستوى الثاني ثلاثين مرّة وطاقة المستوى الرابع سبعين مرّة. وهذا ما يُعرف بالتراكب الكمومي. كان أينشتاين معترضاً على هذا التفسير الاحتمالي لفيزياء الكم. وسَجّل ذلك في مقولته الشهيرة للفيزيائي الدنماركي نيلز بور "إن الله لا يلعب النرد". فردّ بور عليه قائلًا "أينشتاين، توقف عن إخبار الله بما يجب عليه فعله".
يخبرنا مبدأ التراكب الكمومي أن الجسيمات دون الذرية يمكن أن توجد في أكثر من حالةٍ في الوقت ذاته. تخيّل جسيماً صغيراً في حالةِ تراكب، أي حركةٍ وسكونٍ في نفس اللحظة. وهذا ليس خيالاً علمياً، بل واقع أثبتته التجارب مع أنه يتحدى المنطق اليومي الذي نعرفه.
لكن عندما نحاول قياس هذه الجسيمات أو مراقبتها، تختفي كلّ تلك الحالات المحتملة ويظهر الجسيم في حالةٍ واحدةٍ فقط. لا أحد يعلم السبب على وجه اليقين. المؤكد حتى الآن أن عملية القياس تُحدِث ما يُسمّى "انهيار التراكب"، وهي قاعدة أساسية من قواعد حركة الكم التي لاتزال تثير الكثير من الجدل والنقاش.
تنقسم الجسيمات دون الذرِّية في العالم الكمومي نوعين رئيسين. البوزونات، نسبةً إلى الفيزيائي الهندي ساتيندرا بوز، والفرميونات نسبةً إلى الفيزيائي الإيطالي إنريكو فيرمي. يعتمد هذا التصنيف على خاصية فيزيائية تُدعى "سْبِن" أو اللف، وهي تشبه حركة الدوران ويمكن قياسها داخل المختبر. إذا كانت قيمة اللف رقماً صحيحاً مثل 1 أو 2، فإن الجسيم يُسمّى بوزوناً. أما إذا كانت القيمة من الكسور، مثل النصف والربع، فيُسمّى فرميوناً. ولا تقتصر هذه القاعدة على الجسيمات فقط، بل تنطبق على الذرات والجزيئات أيضاً، بناءً على مجموع اللفَّات التي تحملها مكوناتها.
ما يجعل البوزونات والفرميونات مثيرةً هو اختلاف سلوكها. لا تسمح الفرميونات لجسيمَين بالاشتراك في نفس مستوى الطاقة، فكلّ جسيم منها يحتفظ بمكانه الخاص، وكأنها تحب العزلة. أما البوزونات فتميل إلى التجمّع، ويمكن لعددٍ كبيرٍ منها أن يشترك في نفس مستوى الطاقة خاصةً في المستوى الأدنى. في الظروف العادية، تتوزع البوزونات في مستوياتٍ مختلفة. لكن عندما تقترب درجة الحرارة من الصفر المطلق، أي حوالي 273 درجة مئوية تحت الصفر، تتخلى عن حركتها العشوائية وتبدأ بالتجمّع في أقل مستوى طاقة ممكن. ثم تكوّن حالةً جديدةً من المادة تُعرف باسم "تكاثف بوز-أينشتاين"، والتي تنبأ بها كلٌّ من أينشتاين والعالِم الهندي ساتيندرا ناث بوز.
الفريد في هذه الحالة، لو مثلنا بغاز الهيليوم. فعند تبريده إلى ما دون 2.17 كلفن، أي نحو 271 درجة مئوية تحت الصفر، يتحوّل إلى ما يُعرف بـالسائل الفائق، وهو سائلٌ عديم اللزوجة. واللزوجة هي ما تجعل العسلَ يتدفق ببطءٍ، وهي سبب توقف الدوامة الصغيرة التي نصنعها بملعقةٍ في كوب الشاي. بسبب غياب اللزوجة لا يتوقف الهيليوم فائق السيولة عن الدوران، ولا يبقى في مكانه. بل يمكنه تسلّق جدران الإناء الذي يحتويه، من طبقةٍ رقيقة تتكوّن على سطحه وتصعد إلى الحافة لتُسقط السائلَ خارجه، كما لو كان كائناً حياً يبحث عن مهرب. ولو حاولتَ تقليبه بملعقةٍ، فسترى دواماتٍ تدور بلا نهاية.
لا يمكن تفسير السيولة الفائقة إلا بقوانين فيزياء الكم، ويشكّل التفسير خطوةً محوريةً لفهم ظاهرة الصلابة الفائقة. إذ تسلك المواد الصلبة أيضاً سلوكاً كمومياً جماعياً خارج حدود الفهم الكلاسيكي. في أواخر ستينيات القرن العشرين وضع الفيزيائيون النظريون جيفري تشيستر وألكسندر أندرييف وإيليا ليفشيتز تصوّراً لمادةٍ تجمع بين خصائص الصلابة والسيولة. ومع أن هذه النماذج النظرية بدت واعدةً، إلا أن تحقيقها على أرض الواقع ظلّ بعيد المنال. لأكثر من خمسين عاماً، سعى الفيزيائيون التجريبيون في مختبرات العالم لإثبات وجود هذه الحالة الغريبة من المادة دون جدوى. فقد بدت وكأنها تنتمي إلى عالم الاحتمالات النظرية فقط.
في سنة 2017 شهد المجال طفرةً مهمة. إذ أعلنت مجموعتان بحثيتان مستقلتان، كلٌّ منهما في جهةٍ مختلفةٍ من العالم، تكوين مواد فائقة الصلابة. قاد المجموعة الأولى، التي بحثت في معهد ماساتشوستس للتقنية بأمريكا، الفيزيائي الحائز على جائزة نوبل فولفغانغ كيترلي. أما المجموعة الثانية، التي بحثت في المعهد الفيدرالي السويسري للتقنية بزيورخ، فقادها تيلمان إسلينغر. واستخدم الفريقان تقنياتٍ متقدّمةً تعرف باسم "الذرات فائقة البرودة". بتبريدِ ذرات عناصر مثل الصوديوم والروبيديوم إلى درجات حرارة تقترب من الصفر المطلق، تَمكَّن الباحثون من تشكيل تكاثفات بوز-أينشتاين تظهِر خصائص المواد فائقة الصلابة، وتجمع بين الترتيب البلوري والقدرة على التدفق بلا لزوجة. فتحوّل الحلم النظري واقعاً ملموساً.
في هذه التجربة، لم يستخدَم الضوء مراقباً أو محركاً خارجياً فحسب. لكنه صار مكوّناً بنيوياً في تكاثف بوز-أينشتاين، ذلك الشكل الغريب من المادة الذي يتشكل عند درجات حرارة تقترب من الصفر المطلق.
بدأ الفريق تجربتَه بتسليط أشعة ليزر على قطعةٍ دقيقة الصنع من زرنيخيد الغاليوم، وهي مادة شبه موصلة تستخدَم عادةً في تطبيقات الإلكترونيات المتقدّمة. ميّز هذه التجربة أن السطح لم يكن مستوياً، بل مجهّزاً بخدوشٍ طولية بالغة الدقة، تشبه تلالاً نانوية (مشتقة من وحدة قياس النانو وتعني صغيرة الحجم) نُحتت بعنايةٍ على السطح لتتحكم في سلوك الضوء والذرات معاً. عند اصطدام أشعة الليزر بالتلال الدقيقة المحفورة على سطح زرنيخيد الغاليوم، تولّدت جسيمات هجينة تعرف باسم "البولاريتونات". ليست فوتونات ولا إلكترونات، بل جسيمات ناتجة عن ارتباطٍ وثيقٍ بين الضوء والمادة، أو بين فوتون وإلكترون داخل المادة الصلبة. كانت النتيجة جسيماً غريباً يحمل بعضاً من خصائص الضوء، وبعضاً من خصائص المادة.
ما جعل التجربة استثنائيةً هو تمكّن الباحثين من توليد تكاثف بوز-أينشتاين من هذه البولاريتونات (وهي جسيمات خاصة تجمع بين الضوء والمادة). أي أنهم جعلوا هذه الجسيمات تتصرف جماعياً كمائعٍ فائقٍ يتدفق دون مقاومة أو لزوجة. والأكثر إثارة حصول ذلك عند درجات حرارةٍ أعلى بكثير من تلك المطلوبة عادةً لتكوين هذه الحالة باستخدام الذرات فائقة البرودة.
بهذا تحقق الشرط الأول للمواد فائقة الصلابة: أن تكون مائعاً فائقاً بلا لزوجة. لكن بقي التحدي الثاني: كيف يمكن جعل هذا "المائع الفائق" يحافظ على بنيةٍ منظمةٍ وثابتةٍ، كما في البلورات أو المواد الصلبة.
هنا جاء دور تلك الخدوش الدقيقة التي حُفرَت بعنايةٍ على سطح المادة. يمكن تخيّل هذه الخدوش مثل فخاخ أو حفر صغيرة تستخدَم لتجميع عدد من البولاريتونات في أماكن محددة، حيث يمكنها التفاعل مع بعضها. بهذه التفاعلات تبدأ البولاريتونات بالترتيب تلقائياً بانتظام، فتتوزع بطريقةٍ منتظمةٍ تشبه ترتيب الذرات في البلورات. وبذلك، استطاع العلماء دمج حالتين فيزيائيتين نادرتين السيولة الفائقة. فتسيل المادة دون مقاومة، مع البنية البلورية الصلبة التي تكون الجسيمات مرتبة بشكلٍ منتظم وثابت.
بعد نجاح التجربة، أجرى الباحثون سلسلةً من الاختبارات للتأكد من أن للبولاريتونات طبيعة مزدوجة، سلوك المائع الفائق من جهة، والنظام البنيوي الصلب من جهة أخرى. عند فحص كثافة البولاريتونات وتوزيعها لم يجدوها كتلةً واحدةً من الجسيمات، بل كانت مرتبةً في نمطٍ منتظمٍ ومتماسك، تتحرك فيه جماعياً دون أن تخلّ بنظامها البنائي. فتحقق الهدف الذي طالما سعى إليه علماء الفيزياء، وهو تكوين مادة فائقة الصلابة من الضوء والمادة معاً.
لكن وسط الحماسة التي رافقت هذا الإنجاز، انتشرت عبارةٌ مثيرة للجدل في بعض التغطيات الإعلامية، تقول إن الباحثين "جمّدوا الضوء". تفتقر هذه العبارة للدقة العلمية. فالضوء لا يمكن أن يتوقف أو يتباطأ من تلقاء نفسه. إذا أُجبر الفوتون – جسيم الضوء – على التوقف، فإنه يُمتَص فوراً ويتحوّل طاقةً داخل المادة، أي يختفي. ما حققته التجربة لم يكن تجميد الضوء، بل تجميد البولاريتونات، وهي ناتج تفاعل الضوء مع الإلكترونات داخل أشباه الموصلات. هذه الجسيمات هي التي خضعت للتنظيم والتبريد، وليس الفوتونات نفسها.
ما حدث في المختبر لم يكن إيقافاً للضوء، بل ترويض لمزيج من الضوء والمادة، ومنحه خصائصَ كموميةً لم نكن نتصوّرها إلا في النظريات.
لكن، ما أهمية هذا التحوّل؟ وما الذي قد يعنيه في واقعنا العلمي والتقني؟
الحوسبة الكمومية هي أحد أبرز تطبيقات آليات الكم، وتستخدَم فيها مبادئ، مثل التراكب الكمومي والتشابك الكمومي، لمعالجة البيانات بطرقٍ ثورية. وهي تختلف جذرياً عن الحوسبة التقليدية في طريقة تمثيل المعلومات. في الحواسيب الكلاسيكية، تخزَّن المعلومات في وحداتٍ تسمّى "بتات". وكلّ واحد منها يمكن أن يكون إما 0 أو 1، كأنك تتحكم في مفتاحٍ كهربائي إما في وضع التشغيل أو الإيقاف. أما في الحواسيب الكمومية، فإن المعلومات تخزَّن في وحداتٍ تسمّى "كيوبتات". وهي قادرة على الوجود في حالتَي 0 و1 معاً في الوقت نفسه، وهي الظاهرة المعروفة بالتراكب الكمومي.
ولتقريب الفكرة: تخيّل عملةً معدنيةً تدور في الهواء. في لحظة دورانها لا يمكن القول إن وجهها صورة أو كتابة، بل هي في حالةٍ غير محدّدة تجمع بين الاثنين. هذا يشبه تماماً حالة الكيوبت أثناء التراكب. بفضل هذا التراكب، يمكن للحواسيب الكمومية تنفيذ عددٍ كبير من العمليات المتوازية، ما يمنحها قدرةً على حلّ المشكلات المعقدة بسرعةٍ هائلة.
أما التشابك الكمومي، فهو ظاهرة أخرى مدهشة. وفيها يمكن ربط كيوبتين أو أكثر بحيث تؤثر حالة إحداها فوراً في الأخرى، مهما كانت المسافة بينهما. كأنك تغيّر شيئاً في طرف الغرفة، فيستجيب له شيء آخر في الطرف المقابل مباشرة، بلا أيّ تأخير. هذا الترابط غير التقليدي يمكّن من بناء أنظمة كمومية مترابطة تتفاعل بطريقة لا يمكن تحقيقها بالحوسبة التقليدية.
أما علم المعلومات الكمومية، فهو فرع أوسع يدرس كيفية تخزين المعلومات ومعالجتها ونقلها باستخدام القوانين الكمومية. ويشمل تطبيقاتٍ تتراوح من التشفير الآمن إلى تصميم شبكات اتصال غير قابلة للاختراق.
يفتح هذا التقدّم آفاقاً لتطبيقاتٍ ثوريةٍ تمتدّ من الطب إلى الأمن السيبراني. فمثلاً، يمكن للحواسيب الكمومية اكتشاف وتصميم أدويةٍ وموادٍ جديدة بمحاكاة تفاعلات الجزيئات بدقة فائقة. هناك أنظمة ذكاء اصطناعي تستخدَم حالياً في تصميم أدويةٍ تستهدف الخلايا المريضة بدقةٍ عالية، مثل أدوية السرطان التي تهاجم الخلايا المصابة فقط دون التأثير على السليمة. ويمكن تطوير مواد بخصائص غير مسبوقة. تخيّل مواد خفيفة وقوية تستخدَم في صناعة الطائرات، أو موصلات فائقة تعمل في درجات حرارة الغرفة، بفضل قدرة الحوسبة الكمومية على التعامل مع كمياتٍ هائلةٍ من البيانات الكيميائية والجزيئية.
وفي مجال الأمن السيبراني والتشفير الكمومي، تعدّ الحواسيب الكمومية تهديداً للتشفير التقليدي. إذ يمكنها فك الشفرات المعقدة بسرعة، مقارنةً بالحواسيب التقليدية التي قد تستغرق سنوات. لكنها في الوقت نفسه تقدِّم حلولاً جديدة. فمثلًا تستخدَم "المفاتيح الكمومية"، التي تعمل وفق مبدأ أنه بمجرد محاولة التنصت عليها تتغيّر حالتها الكمومية، ما يكشف عن وجود المتنصت فوراً، ويجعل الاختراق شبه مستحيل.
وتساهم الحواسيب الكمومية في تسريع تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي المعقدة وتحليل كمياتٍ ضخمة من البيانات. تخيّل نظاماً ذكياً يستطيع في وقتٍ وجيز تحليل أنماطٍ معقدةٍ في بياناتٍ ضخمة، مثل الصور الطبية أو المعلومات السكانية. مما يمكّن من تحسين خدمات الرعاية الصحية، والتنبؤ بالأمراض، وتعزيز كفاءة التجارة، وتوقّع الكوارث الطبيعية.
وبفضل حساسية الضوء فائق الصلابة وقدرته على قياس التغيّرات البيئية الدقيقة، يمكن تطوير أجهزة استشعار كمومية تستخدم خصائص ميكانيكا الكم لقياساتٍ فائقةِ الدقة. ما قد يؤدي إلى أجهزة تصويرٍ طبي متقدّمة، أو أنظمةِ ملاحة تحدِّد المواقع بدقةٍ غير مسبوقة، أو أجهزةٍ تكتشف تغيّرات طفيفة في المجالات المغناطيسية أو الكهربائية.
لكن، لماذا لم نرَ هذه التطبيقات بعد في حياتنا اليومية؟
السبب أن الكيوبتات الكمومية شديدة الحساسية، مثل زجاج هش للغاية، حتى أقل مقدار من الحرارة أو الاهتزاز أو الإشعاع يمكن أن يدمّر تماسكها ويمحو المعلومات المخزنة. فهي تشبه بلورة ثلجية صغيرة جداً قد تذوب بمجرد لمسة دافئة. لذلك تتطلب الحواسيب الكمومية درجات حرارة قريبة من الصفر المطلق للعمل.
ولإنشاء حاسوبٍ كمومي قوي، نحتاج إلى ملايين الكيوبتات المترابطة والمستقرة. وهو تحدٍ هندسي وفيزيائي هائل يشبه محاولة بناء جسرٍ ضخم من أعواد الكبريت. فيتطلب دقة فائقة حتى لا ينهار عند إضافة جزءٍ جديد.
إضافةً إلى ذلك، فإن هذه الحواسيب مكلفة للغاية وتتطلب بنيةً تحتيةً خاصة، مثل مختبرات معزولة مزوّدة بأنظمة تبريدٍ متقدّمة، ما يجعلها بعيدةً عن الاستخدام التجاري والشخصي في الوقت الراهن.
لكن اكتشاف الضوء فائق الصلابة الذي قدّمه تريبوجورجوس وفريقه يقدّم حلولاً عملية لهذه التحديات. فهو يشكل وسطاً مثالياً لحماية الكيوبتات من التشويش. إذ ينتقل فيه الضوء (الفوتونات) بانتظامٍ بلا فقدان للطاقة، كما تسير المياه النقية في أنبوب زجاجي محكَم. هذه البنية تحافظ على تماسك الفوتونات وتمنع تأثّرها بالبيئة الخارجية.
كذلك، فإن الضوء فائق الصلابة قادر على نقل الكيوبتات لمسافاتٍ طويلةٍ بلا فقد الإشارة. ما يعدّ إنجازاً حاسماً لتطوير شبكات اتصالٍ كمومية تشبه الإنترنت من حيث السرعة والنقاء. لكنها مبنيّة على قوانين آليات الكم، وتوفّر أماناً غير مسبوقٍ في نقل المعلومات.
وبالاعتماد على أشباه الموصلات والأنظمة البصرية البسيطة مثل الليزر والعدسات والمرايا، يمكن بناء أجهزة كمومية أبسط وأقل تكلفة، بلا حاجة إلى تقنيات تبريدٍ معقدة. هذا أشبه بالانتقال من بناء الجسور يدوياً إلى استخدام وحداتٍ جاهزة التركيب. ما قد يسرّع من تحويل التقنية الكمومية من المختبرات إلى الحياة اليومية.
هي بداية تطبيقاتٍ ثوريةٍ في مجالاتٍ حيوية. من تصنيع حواسيب كمومية أكثر استقراراً وكفاءة، إلى نقل المعلومات الكمومية بسرعاتٍ أعلى وأوضح، وصولاً إلى تطوير مستشعراتٍ دقيقةٍ ترصد أدق التغيّرات البيئية والطبية. إنها مادة تحمل بصمة المستقبل حيث يندمج الضوء بالمادة، وتذوب الحدود بين الحلم العلمي والتطبيق العملي.
