كان أحمد أبو الرُبّ ينظر بحسرةٍ وألمٍ على شاشات القنوات الإخبارية ومواقع التواصل الاجتماعي إلى مشهدِ إلقاءِ جثمانَيْ شقيقِه عُمَر وابنِ عمّه محمد من سطحِ الطابقِ الثالث. لَم يعلمْ ساعتَها أن ذلك المشهدَ القاسيَ سيكونُ آخِرَ ما يراهُ منهما. وهو ما تأكّد لاحقاً عندما أَخْطَرَت سلطاتُ الاحتلالِ العائلةَ بأنّ الجثامين الثلاثة قد ضُمَّت إلى مئاتِ الجثثِ لفلسطينيِّين وعَرَبٍ، قَتَلَتْهم إسرائيلُ أو ماتوا في الاعتقال منذ عقودٍ، وانتهى بها المطاف في مقابر سرّيةٍ تسمّى "مقابر الأرقام" أو في ثلاجات الموتى.
ومع العدوان على غزّة الذي لا مثيلَ له، بعد السابع من أكتوبر 2023، بلغت الممارسات الإسرائيلية بحقِّ الجثث الفلسطينية حدّاً تجاوز ما كان شائعاً من قسوة. إذْ لَم تَكْتَفِ إسرائيلُ بقصفِ الأحياء، بل امتدّت يدُها إلى الأموات. نَبَشَت القبورَ واحتَجَزَت مئاتِ الجثامين، ناهيك عن تدمير مقابر في جباليا وخان يونس ورفح. وكشف تحقيقٌ لصحيفةِ هآرتس عن احتجازِ الجيشِ الإسرائيليِّ أكثرَ من ألفٍ وخمسمئة جثّةٍ لفلسطينيِّين يُعتقَد أنهم من عناصر النخبةِ في حماس ممّن عبروا الحدودَ يومَ السابع من أكتوبر. كذلك وَثَّقَ المكتبُ الإعلاميُّ الحكوميُّ في غزّة سرقةَ الاحتلال مئةً وخمسين جثماناً من مجمّع الشفاء الطبّي، كانت قد دُفِنَت على عَجَلٍ في ساحة المستشفى بعد محاصرته. واحتجز الجيشُ الإسرائيلي أيضاً جثّةَ قائدِ حماس، يحيى السنوار، بعد مقتلِه في اشتباكاتٍ مع الجيش الإسرائيلي برفح في أكتوبر 2024.
تَعُدُّ الدوائرُ الرسمية الإسرائيلية احتجازَ الجثثِ وسيلةً للردع وأداةً للمساومة. ومع الإقرار المتكرّر من بعض مسؤولِي الحكومة بعدمِ نَجاعةِ هذه السياسة، وما فيها من انتهاكٍ للقانون الدوليّ وما تتسبّب فيه من إداناتٍ، إلّا أنها تُخلِّفُ جروحاً غائرةً في قلوب العائلات الثكلى التي تحدّثنا مع بعضها، وما زالت تعيشُ ألمَ فقدانِ أبناء إمّا دُفِنوا في مقابر الأرقام بلا أسماءٍ وإمّا ما تزال جثثُهم رهنَ برودةِ ثلاجات الموتى في إسرائيل، بانتظار لحظة وداعٍ مؤجَّلةٍ أو مرارةِ الشكّ في مصيرِهم في الوقتِ ذاته.
معطوفٌ على هذا أن حجزَ الجثامين يُستخدَم أداةً للمساومة السياسية ووسيلةً للضغط في صفقاتِ تبادلِ أسرى محتمَلةٍ، مثلما حدث في صفقة تبادل الأسرى بين حزب الله اللبنانيّ وإسرائيل سنةَ 1998. حينها أعادت إسرائيلُ أربعين جثماناً لمقاتلِين أو أسرى من الحزب مقابل جثّةِ جنديٍّ إسرائيليّ. تَكرَّرَ الأمرُ سنة 2008 في صفقةِ التبادل بين إسرائيل وحزب الله، وأعادت إسرائيلُ بموجبِها جثثَ عشرات المسلّحين من الحزب. ويُتوقّع أن تُبادِلَ حماس أسرى إسرائيليين قَتْلى في غزّة مقابلَ معتقَلين فلسطينيِّين، وكذلك مقابل جثثِ آخَرين قَضَوا نَحْبَهم في السجون الإسرائيلية أو قَتَلَهم الجيشُ الإسرائيليُّ في فتراتٍ متفرّقة.
تشير الباحثة الفلسطينية في الإناسة، سهاد ناشف، للفِراتْس إلى سعي إسرائيل بسياسة احتجاز الجثث إلى إذلالِ مَن هُم تحت الاحتلال، وقهرِهم أحياءً وأمواتاً. ولهذا تفضّل سهاد إبدالَ كلمةِ "احتجاز" بـمصطلح "اعتقال الجثث الإداري" لتَشابُهِها مع الاعتقال الإداري للفلسطينيين الأحياء في السجون الإسرائيلية، حيث لا تهمةَ ولا محاكمةَ إنما قمعٌ وسيطرة. وتكشف تحقيقاتٌ إسرائيليةٌ وتصريحاتٌ لمسؤولِين، مثل رئيس معهد الطبّ العدليّ الإسرائيليّ "أبو كبير"، عن سرقةِ أعضاءِ الجثامينِ أو استخدامِها لأغراضٍ تدريبيةٍ في الجامعات.
استَلهَمَت إسرائيل ممارسةَ احتجاز الجثث من قانونٍ قديمٍ صاغَتْه بريطانيا إبّان انتدابها على فلسطين بين سَنَتَيْ 1920 و1948. النقطة الثالثة من البند 133 من "أنظمة الدفاع في حالات الطوارئ" – الذي أصدرته سلطةُ الانتداب سنة 1945 وظَلَّ قيدَ التطبيق حتى بدءِ جلاءِ الجيش البريطاني عن فلسطين في إبريل 1948 – تُخوِّل السلطاتِ العسكريةَ دفنَ أيِّ شخصٍ يُعدَم في سجونها، من غير إعادةِ جثمانِه إلى عائلته. وقد كان الثلاثةُ الذين خُلِّدَت ذِكراهُم في ما عُرِفَ "الثلاثاء الحمراء" (محمد جمجوم، وعطا الزير، وفؤاد حجازي) أوّلَ ضحايا هذه السياسة حتى قبل أن يصدر ذلك القانون. حُكِمَ على جمجوم والزير وحجازي بالإعدام بعد اتّهامهم بقتلِ يهودٍ في ثورة البُراق في أغسطس 1929، والتي انفجرت احتجاجاً على ما عَدَّه السكّانُ الفلسطينيون تهويداً لمدينة القدس. نُفِّذَ الإعدامُ في سجن عكا سنة 1930 ودُفِنَ الثلاثةُ فيه أربعين يوماً قبل أن يُفرَجَ عن جثامينهم لدفنِها في مقابر المسلمين بعكا.
برز التطبيقُ والتطويرُ الإسرائيليُّ لسياسة احتجاز الجثث بالذات مع احتلالِها الضفةَ الغربيةَ وقطاعَ غزّة في يونيو 1967. وتعميقاً لاستراتيجيّتها في محو هوية الفلسطينيين والتعامل مع الموتى منهم على أنهم أشياءُ لا بَشَرٌ، عمدت إسرائيلُ إلى إبدالِ أسماءِ الجثامين المحتجَزة أرقاماً، واستبعادِ أيِّ رمزيةٍ إنسانيةٍ من شواهد قبورهم. فقد دفنت إسرائيلُ 256 جثماناً لفلسطينيّين وعربٍ في ستِّ مقابرَ سَمَّتْها "مقابر مقاتلي العدو"، بينما سمّها الفلسطينيون "مقابر الأرقام". تحتوي مقابر الأرقام على صفوفٍ من القبور مجهولة الهوية، وتنتشر على طول الحدود الأردنية والسورية مع فلسطين، مثل مقبرة "جسر بنات يعقوب" التي نُقِلَت لاحقاً إلى منطقةٍ عسكريةٍ تُعرَفُ "عميعاد"، نتيجةَ تدهورِ حالِ القبور فيها بعد أن كانت تَضُمُّ 243 جثماناً حتى سنة 2000. إلى جانب مقبرتَيْن في الأغوار هُما "ريفيديم" و"جسر دامية" بالقرب من قرية الجفتلك في الأغوار الشمالية، والقبور فيها مرقَّمةٌ من 5003 إلى 5107. وسِوى ذلك مقبرةُ "شحيطة" شمال بحيرة طبريّا، ومقبرتان أُخْرَيان في عسقلان وبئر السبع.
عبد الكريم الطردة ليس حالةً فرديةً بل جزءاً من نمطٍ أوسع. في تصريحٍ للفِراتْس، قال حسين شجاعية، منسّق الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء التي أطلقها مركزُ القدس للمساعدة القانونية سنة 2008، إنّ مِن بين 256 جثماناً لفلسطينيين وعربٍ في مقابر الأرقام، تعترفُ إسرائيلُ بوجود 114 منها فحسب. ويبرّر الجيشُ الإسرائيلي فقدانَ باقي الجثامين بأنّ علامات التعريف على الأكياس التي غُلِّفَت بها الجثامين قد اختفت لاستخدام أدواتٍ غير دائمةٍ مثل الأقلام اللَّبَدية (أو الفلوماستر). وتشير التقاريرُ إلى أنّ الجيشَ الإسرائيليَّ، المسؤولَ عن إدارة مقابر الأرقام، يواجه صعوباتٍ "مزعومة" في تحديد مواقع بعض الجثامين، مشيراً إلى أن شركةً خاصّةً تُعرَف بِاسمِ "إي آي إس" أُوكِلَ إليها مهمّةُ الدفن، لكنّها تدّعي عجزَها عن العثور على مواقع الدفن. فمثلاً، كشفت لجنةٌ عسكريةٌ شُكِّلَت للبحث عن جثامين فلسطينيين، ومنهم عيسى زواهرة الذي قتلته إسرائيل سنةَ 2008 في بيت لحم، أن بعض القبور كانت فارغةً أو انجرفت بفعل الإهمال أو العوامل الطبيعية.
أولئك الذين فُقِدوا في العمليات العسكرية إبّان انتفاضة الأقصى سنةَ 2000 لم يكونوا أفضلَ حالاً. ففي الأوّل من يناير 2003، تسلّل سيف الله بدران، من دير الغصون شمال طولكرم، إلى منطقةِ ماؤور القريبةِ من مدينة الخضيرة لتنفيذ عمليةٍ تفجيرية. لكنّ الشرطة الإسرائيلية أطلقت النار عليه وأَرْدَتْه قتيلاً. مع ذلك، رفضت إسرائيلُ الاعترافَ باحتجاز جثمانه إلّا بعد ثمانية عشر عاماً. وحسب ما أَخْبَرَ ذَوو سيف الله بدران الفِراتْسَ، فقد قَضَت والدتُه، الحاجَّةُ أُمّ عبيدة، أربعَ سنواتٍ تعتصم في خيام الاحتجاج التي كانت تنظّمها القوى المحلّيةُ في الضفة الغربية، مطالِبةً بجثمانِه. لكنها فارقت الحياةَ كَمَداً سنة 2011 وهي تنادي بِاسمِه "يا سيف"، تاركةً وراءَها أَلَمَ الفقدان بلا إجابة.
ولِتكتمِلَ فصولُ المأساةِ، واصَلَ آسال، شقيقُ سيف الله، المطالبةَ بجثمانِه، لكنّه لَقِيَ المصيرَ نفسَه في مايو 2024 حين هَدَمَت قوّاتُ الاحتلالِ منزلَهم في بلدةِ دير الغصون عليه وعلى رفاقِه المقاوِمين بعد حصارٍ وقصفٍ دامَ خمسَ عشرةَ ساعةً، ليُحتجَز هو الآخَرُ ولكن هذه المرّة في ثلاجات الموتى. كان آسال واحداً من خمسةِ مقاتلين من كتائب القسّام صادَرَ الجيشُ الإسرائيليُّ جُثَثَ أربعةً منهم، ومنهم آسال، بينما عُثِرَ على الخامس بين أنقاض المنزل وقد انفَصَل رأسُه عن جسدِه.
وفي مايو 2012، سَلَّمَت إسرائيلُ واحداً وتسعين جثماناً من مقابر الأرقام "بادرةَ حُسنِ نيّة" تجاه السلطة الفلسطينية. كان من بينها جثمانٌ نَسَبَهُ الإسرائيليّون إلى ناصر البوز، أَحَدِ مؤسِّسي مجموعاتِ "الفهد الأسود" العسكريةِ التابعةِ لحركةِ فتح في نابلس، والتي تأسّست سنة 1989. اختفى البوز في أغسطس من العام نفسِه في طريقه إلى الأردن سرّاً. احْتَسَبَه الفلسطينيون بعد اختفائه في عِدادِ الشهداءِ في حينِ أَنْكَرَتْ إسرائيلُ معرفتَها بمآلاتِه، إلّا أنّ اسمَه ظَهَرَ في أواخر مايو 2012 ضمن صفقةِ تسليمِ جثامين فلسطينيين احتجزتهم سلطاتُ الاحتلال قبلها بسنوات. لكن بعد تسلّم الجثمان وإجراء فحوصات الحمض النوويّ مرّتَيْن، أَكّدَت العائلةُ أنّ الجثمانَ لا يَعودُ لناصر. الأَمْرُ ذاتُه تكرّر مع عائلة دلال المغربي التي قادت عمليةَ الإنزالِ الفدائيةَ على شاطئ تل أبيب سنة 1978، إذ أَثْبَتَتْ فحوصاتُ الحمضِ النوويِّ أنّ الجثمانَ الذي سَلَّمَتْه إسرائيل في صفقةِ التبادل مع حزب الله سنة 2008 ليسَ جثمانَ دلال، كما أوضحت شقيقتُها رشيدة في تصريحاتٍ لموقع ميدل إيست آي.
تفاقمت السياسة الإسرائيلية تجاه جثامين الفلسطينيين في حرب السابع من أكتوبر 2023 إلى حدٍّ تَجاوَزَ القدراتِ المؤسّسيةَ والقانونيةَ المعتادة. أَدّى تعطيلُ الجهود الحكومية وغير الحكومية الفلسطينية إلى استحالة تسجيل العدد الإجماليّ للرُفاتِ المجهولةِ ومصيرِها. بعد نبشِ الاحتلالِ القبورَ في القطاع ونقلِها إلى إسرائيل، أعادَت السلطات الإسرائيلية خمسمئة وستة عشر جثماناً إلى غزة دون أيّ تعريفٍ أو توثيقٍ للهوية. في حديثه للفِراتْس، قال الدكتور مروان الهمص، مديرُ المستشفيات الميدانية في غزة الذي أشرف على استلامِ ثمانين جثماناً في أغسطس 2024 بمدينة رفح، إنّ بعضَ الجثامين التي تسلّموها "كانت في حالة تحلّلٍ متقدمةٍ، فيما تعرّضت أخرى لتغيّراتٍ كبيرةٍ في الملامح بسبب التشريح"، منها جثثٌ لمُسِنّاتٍ بثوبٍ فلسطينيٍّ ومُسِنِّين بجَلّابيّات، في حين كانت هناك جثثُ أطفالٍ وقد لُفَّت رؤوسهم بضماداتٍ وقد أضرّ بها العَفَن. وأضاف أنّ مِن بين ما سُلِّم "كيسٌ يحتوي على ترابٍ يُعتقَد أنه مِن قبرٍ نَبَشَتْه إسرائيل". بل بَلَغَ الأمرُ تسليمَهم "عظمة فخذ" لجثمانٍ مجهولٍ دون أيّ معلوماتٍ عن بقيّةِ الجسد.
ومع أن توصية مزوز حدّت من الاستخدام العشوائي لهذه السياسة، إلّا أنها أَضْفَتْ عليها شكلاً من الشرعية القانونية. ولم يَسِر مزوز وحده في هذا الاتّجاه. دعمت المحكمةُ العليا الإسرائيليةُ هذه السياسة في حكمها سنة 2019، الذي أقرّ إمكانيةَ احتجاز جثامين الفلسطينيين لاستخدامها في صفقات تبادلٍ مستقبلية. أشار القرار، على تناقضه مع حكمٍ سابقٍ للمحكمة في 2017، والذي أَبْطَلَ قانونيةَ الاحتجاز، إلى أنه يتطلب تشريعاً من الكِنيست. وكان ذلك القرار في حينه يردّ على الالتماس المقدّم ضدّ إصدار الحكومة الإسرائيلية ما سمّته "سياسة موحدة بشأن احتجاز جثث المخربين" تضمّنت شروطاً على تسليم الجثامين، من بينها استبعادُ أعضاء حركتَيْ حماس والجهاد الإسلامي. أقرّت حينئذٍ المحكمةُ بأغلبيةِ أعضائِها عِدادَ قرارِ مجلسِ الوزراءِ الإسرائيليِّ احتجازَ جثامين الشهداء الذين نفّذوا عملياتٍ ضدّ إسرائيل قراراً غيرَ قانونيٍّ ويمسُّ حقوقَ الميتِ وعائلته، وأنه لا مسوِّغَ قانونيّاً يجيز هذه السياسة.
وفي تطوّرٍ آخَر، صادقت لجنة الداخلية والبيئة في مارس 2017 على قانونٍ يخوِّل الشرطةَ الإسرائيليةَ صلاحيةَ احتجازِ جثامين فلسطينيّين من القدس، بعد أن كان ذلك حكراً على الجيش. كذلك أصدر وزير الدفاع، بيني غانتس، سنة 2022 أمراً يمنع تسليمَ جثامينَ منتميةٍ لأيِّ فصيلٍ فلسطيني. وحاول وزير المالية الحاليُّ، بتسلئيل سموتريتش، تمريرَ قانونٍ يتيح احتجاز الجثامين مِن أجلِ أيِّ صفقةِ تبادلٍ مستقبليةٍ، لكنه فشل في الحصول على الأغلبية. ومع ذلك، صادق الكنيست مؤخّراً في قراءةٍ أُولى على قانونٍ يقضي بدفن جثامين الفلسطينيين في مقابر الأرقام ومنع تسليمها.
هذا المسارُ "القانوني" الذي تحاول إسرائيلُ تبريرَه يتعارض مع القاعدة 113 من القانون الدولي الإنساني، التي تنصّ على "اتخاذ كلّ التدابير الممكنة لمنع سلب جثث الموتى أثناء النزاعات". وتُخالِفُ الممارسةُ الإسرائيليةُ اتفاقيةَ جنيف الرابعةَ التي يَحظر البندُ 33 منها العقابَ الجماعيَّ، إضافةً إلى مخالَفتِها البندَ 50 من اتفاقيةِ لاهاي. حتى المحكمة العليا الإسرائيلية، على إجازتها تلك السياسةَ سنةَ 2019، اعترفت بأنها "تمسّ كرامةَ الميت وعائلته على نحوٍ ما"، لكنها سَوَّغَت حكمَها بكونِه إجراءً مؤقتاً ومشروطاً يَستهدِف تسهيلَ صفقاتِ تبادلٍ مستقبلية.
يترافق تسليمُ الجثامين عادةً مع شروطٍ قاسيةٍ تفرضُها السلطاتُ الإسرائيليةُ على ذوي القتلى. وتشمل هذه الشروطُ تحديدَ موعدِ الدفنِ ليلاً، وتقليصَ أعدادِ المشاركين في الجنازةِ، ومنعَ التشريحِ، ودفعَ كفالاتٍ ماليّةٍ ضخمةٍ ضمانةً لتنفيذِ الشروط. ترفضُ معظمُ العائلات الانصياعَ لهذه الإملاءاتِ التي تعدّها مُهينةً، إذ تَحرمُهم الحقَّ في الحدادِ ودفنِ أبنائِهم بكرامة. والاعتقادُ الدارجُ بين الفلسطينيين، كما لَمَسْنا في حديثنا مع بعض ذوي القتلى، أن هذه الاشتراطاتِ تُخفِي خوفاً عميقاً لدى المحتلّ من الجسدِ الفلسطينيِّ، والذي يظلّ في نظرِ الاحتلالِ أداةً محتمَلةً للمقاومة، حتى مِن تحت التراب. وأجابَ قاضٍ إسرائيليٌّ عن سؤالِ محاميةِ شقيقةِ علي طه، سنة 1972، عندما طالبت بجثمان شقيقِها: "هل تخافون من إنسانٍ ميت؟" فكان ردُّه: "نحن نخاف أن يصبح هذا القبر مزاراً يحجّ له الناس". كان علي طه مِن منفّذي ما عُرِف "عملية الرحلة سابينا 571"، التي قادَتْها منظّمةُ أيلول الأسود الفلسطينيةُ عندما اختَطَفَت طائرةَ ركّابٍ بلجيكيةً هبطت في مطار اللدّ قادمةً من فيينا. كان غرضُ العمليةِ تحريرَ ثلاثمئةِ معتقَلٍ فلسطينيٍّ في سجونِ إسرائيل.
خاضت العائلاتُ الفلسطينيةُ نضالاً شعبياً وقانونياً لتحرير جثامين أبنائها من قبضة الاحتلال، منتزعةً حقَّهم في الانتقال من بردِ الثلاجات إلى دفءِ الترابِ الذي حلموا بتحريره. وبفخرٍ مكلّلٍ بعزّة الانتصار، يروي للفِراتْس طلال الشريف (أبو طارق) من مدينة الخليل تجربتَه في استرداد جثمانِ ابنِه مالك سنة 2015 بعد مكوثه في ثلاجات إسرائيل ستّةً وخمسين يوماً، قائلاً: "عشتُ لياليَ وأياماً عصيبةً في فترةٍ تجميده". وقد أَخَذَ الأبُ عهداً على نفسِه أن يبقى في خيمةِ الاعتصامِ، التي ضَمَّتَ عوائلَ بعض المحتجَزين القتلى، وأن لا يعودَ لبيته إلّا بعد استرداد جثمان ابنه. يقول الشريف إن المعتصمين في الخيمة تعاهدوا أن لا يَستلمَ أيُّ أحدٍ منهم جثّةَ ذويه وحدَه دون تسلّم باقي الجثامين. قاوم الشريف كلَّ محاولاتِ السلطات الإسرائيلية تسليمَه الجثمانَ بغير الطريقة اللائقة، إمّا لوحدِه مع استثناءِ باقي العوائلِ المعتصمةِ، أو اشتراط أن يُدفَن ابنُه ليلاً. وأَرْدَفَ: "رَفَضْت. قلت لهم، ابني مش حرامي ولا هو جاسوس مشان أخبّي دفنه… كانوا يقصدون عقاب العائلة جماعياً وحرق قلوبنا". زَعَمَ جيشُ الاحتلال أن مالك الشريف قد قُتِلَ بالرصاص عند محاولتِه طعنَ مستوطنين قربَ مستوطنةِ عصيون المقامةِ على أراضي جنوب بيت لحم في نوفمبر 2015.
لكن حتى بعد استرداد الجثامين، واجهت العائلاتُ نوعاً آخَرَ من المساومةِ على كرامةِ موتاها. فقد تعمّد الاحتلالُ تسليمَ الجثثِ وهي متجمّدةٌ، ما اضطَرَّ العائلاتِ إلى انتظار إذابةِ الجثامين قبل دفنِها. في بعض الحالات، لَم تحتمل العائلاتُ تلك المشاهد القاسية، كما حدث مع خالد مناصرة من بيت حنينا بالقدس، والد الفتى حسن (15 عاماً) الذي قُتِلَ برصاص الشرطة الإسرائيلية في مستوطنة بزجات زئيف في القدس بزعمِ تنفيذِه عمليةَ طعن. يقول خالد: "كشفتُ الغطاءَ عنه ولَم أتمالك نفسي، فصرختُ بملْءِ فمي عن قهرٍ تَمَلَّكَني ستّةَ أشهُرٍ ومِن هَولِ ما رأيتُ، فطلبتُ إعادتَه حتى يذوب". واضطُرَّت عائلةُ بسيم صلاح من نابلس، الذي قَتَلَتْه قوّاتُ الاحتلال في القدس بزَعْمِ محاولةِ طعنِ جنودٍ سنةَ 2015، إلى الانتظارِ يوماً كاملاً حتى يَلِينَ جثمانُه لأنّ ساقَيْه كانَتا متقوّستَيْن للأعلى نتيجةَ التجميدِ الطويل. وكانت إسرائيلُ اشتَرَطَت لتسليمِ الجثّةِ تشييعَها بسرعةٍ، وهو ما تعذّر بسببِ تجمّدها.
هذا الإهمالُ يَترُكُ جراحاً عميقةً في نفوسِ العائلاتِ التي لا تَعْرِفُ الظروفَ التي تُحفَظُ فيها الجثامين. قالت والدةُ الفتى القتيلِ، عيسى طرايرة ( 16 عاماً) من بني نعيم في الخليل، إنّها "لم تشعر بالدفء طيلة فترة احتجاز ابنها في الثلاجات". كذلك وَصَفَ طلال الشريف أيّامَ احتجازِ جثمانِ ابنِه بأنّها كانت الأصعبَ في حياته وحياة زوجته. علاوةً على تلاعُبِ ضبّاطِ المخابرات الإسرائيلية بأعصابِ عائلاتِ المحتجَزين بشأنِ موعدِ تسليمِهم.
جاء اعترافُ يهودا هيس، مديرِ معهدِ الطبِّ العدليِّ الإسرائيليِّ (أبو كبير) سابقاً، ليعزِّزَ تلك الاتهامات. ففي مقابلةٍ أَجْرَتْها معهُ الباحثةُ الأمريكيةُ نانسي شيبر-هيوز، أستاذةُ الإناسةِ في جامعة كاليفورنيا، ونُشِرَت عندما فُصِلَ من منصبِه سنةَ 2004، أكّد هيس أن "المعهد سرق أعضاءً من جثامين الفلسطينيين، شملت جلوداً وقرنيّاتِ عيونٍ وأعضاءً داخليةً كصمامات القلب". وبعد أن بثّت القناةُ الثانية الإسرائيلية مقاطعَ من المقابلة، اعترف الجيشُ الإسرائيلي بأن هذا النشاطَ كان قائماً لكنّه "انتهى منذ عقدٍ من الزمان"، فيما بدا محاولةً لتخفيفِ حدّةِ الانتقادات. وهو ما تدعمُه الباحثةُ الإسرائيلية مائيرا فايس في كتابها "عالْ غوفْتيم هَمَاتاه" (على جُثثِهم الميتة)، المنشورِ بالعبريةِ سنةَ 2014، والذي وَثَّقَت فيه تجربتَها في ستّ سنواتٍ قضتها بمعهد الطبّ العدليّ الإسرائيليّ. تقول فايس: "شاهدتُ أثناء وجودي في المعهد كيف كانوا يأخذون أعضاءً من أجساد الفلسطينيين، بينما تُترَك جثثُ الجنود الإسرائيليين سليمة". وأكّدت أن العاملين في المعهد وصفوا فترة الانتفاضة الأولى بأنها "الفترة الذهبية" لهذه السرقات.
ومع المأساة في غزة منذ السابع من أكتوبر 2023، يتصاعد القلقُ من احتماليةِ سرقةِ أعضاءِ الفلسطينيين من جثامينهم. وقد وثّق المركزُ الأورومتوسطي لحقوق الإنسان شهادات أطبّاءٍ أَجْرَوا فحوصاً ظاهريةً على بعض الجثامين التي أُعيدت إلى القطاع، وأشاروا إلى احتمال تعرّض بعضِها لسرقة أعضاءٍ مثل القرنيّات وقوقعة الأُذن وبعض الأعضاء الداخلية. ودَعا المركزُ إلى إجراء تحقيقٍ مستقلٍّ للكشف عن حقيقة هذه الانتهاكات، مما يبرز الضرورةَ الملحّةَ للتدخل الدوليّ لوقف هذه الجرائم. وهو ما يتوافق نسبياً مع ما أدلى به الدكتورُ مروان الهمص للفِراتْس عن وجود تشوّهاتٍ وما يمكن وصفُه بالنواقص في الجثث التي أعادها الاحتلالُ إلى صحّةِ غزّةَ في الحرب.
