الطريق إلى مصر لا تنتهي عند "المفوضية".. معاناة اللاجئين السودانيين

تستعد مصر لتطبيق آليةٍ جديدةٍ للتعامل مع اللاجئين بدلاً من مفوضية الأمم المتحدة وسط تخوفاتٍ حقوقية من تدهور أوضاع اللاجئين، وعلى رأسهم السودانيون، وزيادة حالات اعتقالهم على الحدود والزجّ بهم في السجون وإعادتهم قسرياً إلى أماكن النزاع.

Share
الطريق إلى مصر لا تنتهي عند "المفوضية".. معاناة اللاجئين السودانيين
يتكدّس السودانيون على الحدود مع مصر بانتظار فرصةٍ للنجاة | تصميم خاص بمجلة الفِراتْس

في الرابع والعشرين من يوليو 2024 أُجبرت إحسان ذات الأربعة والعشرين عاماً على العودة إلى الأراضي السودانية التي خرجت منها مع والدتها ونجليها هرباً من الحرب، قبل أن تجد نفسها في قلب تجربة اللجوء إلى مصر حتى الإعادة القسرية. كانت قد اتفقت مع زوجها إبراهيم الموجود في أوغندا على أن مصر هي أفضل الخيارات للفرار مع والدتها وطفليها وتسعٍ من القريبات والجارات، على أن يتوجه إبراهيم مع أشقائه وأعمامه وجيرانه إلى إثيوبيا للعمل وتدبير الأموال أملاً في لمِّ شملِ الأسر من جديد بعد انتهاء الحرب.

بخلاف القريبات والجارات، عادت إحسان إلى نقطة البداية في مسارٍ طويلٍ نازحةً من ولاية سودانية إلى أخرى. بدأت نزوحَها بعد أيامٍ من اندلاع النزاع المسلح في السودان بين قوات الجيش السوداني وقوات الدعم السريع منتصف أبريل 2023. لم تصل إحسان بعد إلى مبتغاها بأن تكون لاجئةً مصرحاً لها بالإقامة في مصر.

كادت إحسان تفقد حياتها هي وطفليها ووالدتها مرتين. الأولى أثناء هروبهم من القصف الجوي ونيران المدفعية بين الولايات السودانية المختلفة، والثانية في الصحراء المؤدية إلى مصر من قسوة الحرارة ووعورة الطريق، إذ كُبلوا بالحبال ليثبتوا فلا يسقطون من السيارة التي تسير بهم بسرعةٍ فائقة.

بعد أن وصلوا إلى مدينة أسوان، محطتهم المصرية الأولى، في الأول من يونيو واستقروا بها عدة أيام، قبضت الشرطة عليهم عند توجههم إلى محطة القطار للسفر إلى القاهرة. قطع ذلك الطريقَ أمام وصولهم إلى وجهتهم، المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في منطقة السادس من أكتوبر في القاهرة، لبدء إجراءات الحصول على إقامةٍ شرعيةٍ في مصر.

احتُجزت إحسان وأسرتها في معسكرات وزارة الداخلية المصرية عدة أيامٍ قبل أن يُدفع بهم إلى حافلاتٍ تكتظ بسودانيين آخرين هربوا من جحيم الحرب في السودان. سير بهم مع حراسةٍ مشددةٍ من قوات حرس الحدود إلى مدينة حلفا السودانية ليواجهوا مصيرهم ويعودوا من حيث أتوا.

لم يبقَ لإحسان وأسرتها مكانٌ تذهب إليه في السودان بعدما دمّرت قوات الدعم السريع مناطق عدة في مدينة عطبرة التي كانت تسكنها مع أفراد أسرتها قبل الحرب.

وفيما تنوي إحسان ومثلها آلاف السودانيين العالقين على الحدود تكرار عبور طريق الآلام ومحاولة اللجوء إلى مصر مرةً ثانيةً أملاً في الوصول إلى المفوضية، أقرّت مصرُ تشريعاً يوكل إدارة ملف اللاجئين الأجانب إلى لجنةٍ حكومية بدلاً من مفوضية اللاجئين الأممية. ويثير التشريع الجديد تخوفاتٍ واسعةً من تعميق معاناة اللاجئين الباحثين عن الحماية من أهوال النزاع المسلح، خصوصاً السودانيين منهم، ويلقى انتقاداتٍ حقوقية لتجريمه الهجرة غير النظامية للاجئين وتقنين إجراءات اعتقالهم على الحدود، والزجِّ بهم في السجون وإعادتهم قسرياً إلى أماكن النزاع.


أصدر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في 11 ديسمبر 2024 قانوناً لتنظيم شؤون اللاجئين وطالبي اللجوء بإنشاء لجنةٍ وطنيةٍ تتبع مجلس الوزراء تتولى المهام التي كانت تتولاها مفوضية اللاجئين في مصر منذ الخمسينيات بتفويضٍ من الحكومة، لتسجيل طالبي اللجوء والبتِّ في طلباتهم وتحديد وسائل الحماية المناسبة لهم.

طالبت منظماتٌ حقوقية محلية ودولية الرئيسَ المصري بعدم إصدار هذا القانون والتشاور بشأنه مع المفوضية. منح القانونُ اللاجئين حقوقاً عدة تبدأ بوثائق السفر وتصل إلى منحهم الجنسية المصرية، مروراً بحقهم في العمل والرعاية الصحية والتعليم الأساسي. لكنه في المقابل علّق اكتساب صفة اللاجئ والاستفادة من تلك الحقوق على اعتبارات "حماية الأمن القومي والنظام العام" دون توضيحها، وألزم طالبَ اللجوء بتسليم نفسه فور وصوله البلاد إلى الشرطة وحظر تقديم مساعداتٍ إنسانية أو مسكنٍ أو مأوى للاجئين بدون إخطار قسم الشرطة المختصّ، وجعل عقوبة مخالفة هذا النظام السجن وغرامة تصل إلى مئة ألف جنيه مصري وهو ما يعادل نحو ألفي دولار أمريكي.

بررت الحكومة القانون بزيادة موجات النزوح وارتفاع أعداد اللاجئين وطالبي اللجوء المسجّلين لدى مكتب المفوضية داخل البلاد، وتسجيل مصر المرتبة الثالثة عالمياً بين الدول الأكثر استقبالاً لطلبات لجوءٍ جديدة سنة 2023. إضافةً لحاجةِ وجودِ إطارٍ حاكم لحقوق اللاجئين المختلفة والتزاماتهم التي وردت في الاتفاقيات الدولية التي انضمّت مصر إليها، وضمان تقديم كافة أوجه الدعم والرعاية للمستحقين بالتعاون مع الجهات الدولية المعنية بشؤون اللاجئين.

ومع أن منظمات أممية وحقوقية أوصت الحكومة المصرية في السنوات الماضية باعتماد آليةٍ وطنيةٍ لتسجيل اللاجئين بدلاً من المفوضية التي تتولى المهمة نيابةً عن الحكومة منذ سنة 1954، فإن نصوص القانون كانت مثار انتقاداتٍ وتخوفاتٍ كثيرة. لم يحدد القانون فترةً انتقاليةً لانتهاء مفوضية اللاجئين في مصر من عملها وبدء عمل اللجنة الجديدة، ما يجعل جميع الأجانب الموجودين في مصر بدون إقامة معرّضين لخطر الترحيل، في مقدّمتهم طالبو اللجوء سواء الذين حصلوا على موعدٍ من المفوضية أو لم يصلوا إليها بعد.

ومع تضمن القانون نصاً صريحاً يحظر تسليم اللاجئ إلى بلد المنشأ أو الإقامة الدائمة، فإنه لم يشر إلى طالب اللجوء قبل فحص طلبه وأثناءه. وهو ما يجعل القانون أقرب إلى تقنين الإعادة القسرية للفارين من الحرب، بلا مراعاةٍ للأوضاع الإنسانية الصعبة التي تدفع مئات الآلاف إلى الفرار من بلدانهم. عزز من الانتقادات التي وُجّهت للقانون إصرارُ الحكومة المصرية على إعداده وتمريره في مجلس النواب ومنه إلى رئيس الجمهورية دون التشاور مع المفوضية أو الاستجابة لأيٍ من ملاحظاتها.

أحد العاملين بمفوضية شؤون اللاجئين في مصر قال للفِراتْس – طالباً عدم الكشف عن اسمه – إن المفوضية طلبت من وزارة الخارجية نسخةً من مشروع القانون وتمكينها من إبداء ملحوظات عليها، لكن الوزارة ردّت بأن القانون "شأنٌ سيادي مصري لا يجوز التدخل فيه".

وبعد موافقة البرلمان على القانون طلبت الخارجية المصرية من المفوضية إرسال ملحوظاتها للبتّ فيها، لكنها "فوجئت بتصديق رئيس الجمهورية على القانون كما هو دون النظر في ملحوظاتها". ويرى المصدر في المفوضية أن الهدفَ من القانون أحدُ أمرين، أولهما رغبة الحكومة المصرية في إثبات صحة ما تعلنه من أرقام اللاجئين "عايزين يثبتوا إن الأرقام اللي أعلنوها مظبوطة لأننا طلعنا صححنا الأرقام اللي قالوها عن اللاجئين أكثر من مرة". أما الأمر الثاني فالتقليل الإجباري للجوء إلى مصر، لأن مواد القانون الجديد لا تضمن حيادية اللجنة الوطنية، فضلاً عن تعليق منح صفة اللجوء على اعتبارات ومصطلحات فضفاضة مثل "النظام العام والأمن القومي" والتي قد تُفسَّر حسب أهواء أعضاء اللجنة.

ودلّل المصدر على ذلك بأنه "لو طالب اللجوء كان مثلي الجنس مثلاً هل اللجنة هتقبل طلبه ولا هترحله بحجة مخالفة النظام العام والقيم الأسرية؟ لو واحدة مسلمة متجوزة مسيحي هتقبل لجوئها ولا لأ، لو مسلمة وتنصّرت هيقبلوا ولا لأ؟".

بخلاف ترجيح كفة أي من الأمرين يرى المصدر أن الاستفادة المادية ورغبة السلطة في الحصول على منحٍ وتمويلٍ إضافي يبقى العنوان الرئيس للقانون، خصوصاً بعدما قدّر رئيس الحكومة المصرية مصطفى مدبولي في أبريل الماضي تكلفة إقامة اللاجئين والمقيمين بأكثر من عشرة مليارات دولار سنوياً، مشيراً إلى أن المفوضية تتلقى دعماً سنوياً لا يزيد عن خمسين مليون دولار يُخصّص منها جزءٌ كبير لدعم الحكومة من أجل توفير خدمات التعليم والعلاج.

ونوّه المصدر إلى أن اللاجئين هم فقط من يحصلون هم وأسرهم على التعليم الأساسي في مدارس الحكومة ويعالجون في مستشفياتها، أما أؤلئك الذين لم يُسجلوا لاجئين في المفوضية فلا يتمتعون بتلك الخدمات. وقال المصدر إن عدد المسجلين لدى المفوضية قبل الحرب الأخيرة في السودان كان ثلاثمئة ألف لاجئ، وكان 40 بالمئة منهم في سنّ التعليم ما يعني أن المستفيدين لا يزيد عددهم عن مئة وعشرين ألف طالب، والمفوضية تمول دعم الطلبة اللاجئين وبناء فصولٍ جديدة لهم بما يعني أن ما تنفقه الحكومة المصرية على اللاجئين ليس إلا مبالغ هزيلة.

التشكيك في بيانات المفوضية لم يكن غائباً عن المناقشات التي شهدها البرلمان المصري أثناء مرحلة مناقشة القانون تمهيداً لإقراره، إذ حدّد رئيس الهيئة البرلمانية لحزب "مستقبل وطن" الحاصل على أكثرية مقاعد البرلمان عبد الهادي القصبي الهدف من القانون في أن "الاكتفاء بالتنسيق مع المنظمة الدولية لشؤون اللاجئين لم يعد ملائماً في ظلّ الجمهورية الجديدة [وهو مصطلح بدأ الرئيس المصري استخدامه منذ سنة 2021 لوصف التحولات في البلاد] والتحديات التي تواجهها الدولة كل يوم". وأضاف وكيل لجنة حقوق الإنسان في الغرفة الأولى للبرلمان المصري محمد عبد العزيز هدفاً آخر يتمثل في مكافحة الهجرة غير الشرعية قائلاً إن "مصر كافحت الهجرة غير الشرعية نيابةً عن جنوب البحر المتوسط ويجب على العالم دعمها في ذلك".


تبنّت الحكومة المصرية قبل إقرار القانون خطةً للاستفادة من المقيمين غير المصريين ومنهم الفارون من جحيم الحرب في الدول المجاورة في إدخال العملة الأجنبية التي تعاني مصر من شحِّها.

تكررت شكوى المسؤولين المصريين من الأعباء الاقتصادية الزائدة عليهم نتيجة مقاسمة اللاجئين للمصريين مواردها الشحيحة، فلم يفوّت الرئيس السيسي مناسبةً سياسيةً داخل مصر وخارجها بلا حديثٍ عن اللاجئين والمهاجرين الذين يجمعهم في حديثه في خانةٍ واحدة تحت اسم "الضيوف". يلوم السيسي "الضيوف" على الأعباء الاقتصادية الزائدة لمقاسمتهم المصريين في الخدمات الاجتماعية والتعليمية والصحية التي تقدمها الدولة فيقول: "لو بندّي متوسط استهلاك المياه خمسمية متر مكعب في اليوم لتسعة مليون ضيف عندنا في السنة أربعة ونص مليار متر لو هعملهم محطات تحلية أو معالجة ده بيتكلف أرقام كبيرة قوي".

صاحبتْ تصريحاتِ الرئيس موجاتُ هجومٍ وتحريضٍ بين الحين والآخر على اللاجئين والمهاجرين بأنَّهم يزاحمون المصريين في رزقهم ومواردهم المحدودة، شارك فيها مسؤولون وإعلاميون مقرَّبون من السلطة. فقد قال الإعلامي أحمد موسى في برنامجه في قناة "صدى البلد" مطلع العام الماضي: "9 مليون بيشربوا قد ايه، وبيتعالجوا بكام، وبيستهلكوا خبز ومواد بترولية مدعومة، كلّ ما يقدم للمواطن يقدم للاجئ".

لم يفرّق السيسي والمسؤولون الحكوميون بين اللاجئ والمهاجر. وتقدِّر المفوضية عدد اللاجئين حتى نهاية نوفمبر الماضي 846431 لاجئاً، أكثر من 67 بالمئة منهم من السودانيين، تدعمهم المفوضية مادياً وتقدّم لهم بعض الخدمات الصحية والتعليمية بأسعار الخدمة الحكومية للمصريين.

بينما تُقدِّر المنظمة الدولية للهجرة عدد المهاجرين بتسعة ملايين مهاجر بينهم سبعة ملايين وخمسمئة ألفٍ لا يتلقون دعماً من أي جهة، بل يضخون عملةً أجنبيةً وبعضهم مستثمرٌ ويوفر فرص عمل للمصريين.

استمرَّ الرئيسُ المصري سنوياً في إعلان أعداد المقيمين من غير المصريين في مصر من 2015 حتى أعلن في يونيو 2023 بلوغَ عددهم تسعة ملايين من الدول التي حدث فيها اقتتال داخلي، مكرراً التلويح بصعوبة الوضع الاقتصادي ومحدودية موارد الدولة.

ومع تأجج خطاب أعباء مصر الناتجة عن استضافة اللاجئين، أكد مصدر دبلوماسي رفيع المستوى في الاتحاد الأوروبي لموقع "مدى مصر" المستقل، نجاحه في تسهيل عقد الحكومة شراكة استراتيجية كاملة مع الاتحاد الأوروبي قيمتها سبعة مليارات وأربعمئة مليون يورو في مايو 2024. تشمل خمسة مليارات قروضاً ميسرة لمساندة الاقتصاد وملياراً وثمانمئة مليون للاستثمارات وستمئة مليون منحاً، منها مئتا مليون لدعم التزامات الهجرة. لكن كل ذلك لم يمنع الحكومة المصرية من المضي قُدماً في خطةٍ بدأت تطبيقها منذ منتصف سنة 2023 على كل الأجانب الموجودين في البلاد.

تضمنت خطة الحكومة للمقيمين قراراتٍ تُلزِمَ غير المصريين بدفع رسوم استصدار بطاقات الإقامة أو تجديدها وغيرها من الخدمات بالدولار الأمريكي أو غيره من العملات الأجنبية، ثم ضاعفت الحكومةُ تلك الرسوم أكثر من خمسة أضعاف. أما مَن دخلَ مصر فاراً من الحرب في أيّ دولة وأقام فيها ولم يحصل على أيِّ نوعٍ من أنواع تصاريح الإقامة المحدَّدة في القانون المصري، وهذا يشمل تصاريح السياحة والتعليم والاستثمار وشراء عقار والزواج من مصري أو مصرية وتصريح اللجوء، فألزمته الحكومة بإحضار كفيلٍ مصري لضمان وجوده القانوني ودفع ألف دولار أمريكي وهو ما يعادل أكثر من خمسين ألف جنيه مصري. بدأت الحكومة المصرية تطبيق هذه القرارات في منتصف سبتمبر 2023 وحدَّدتهُ بثلاثة أشهر قبل أن تُمدِّد سريانه حتى سبتمبر 2025.

روَّجت وسائلُ الإعلام المملوكة للشركة المتحدة للخدمات الإعلامية التابعة لجهاز المخابرات العامَّة في مصرَ للقرارات الجديدة. وبرَّرتْ تلك المنصات القرارات بأنَّ للحكومة المصرية الحق في تقنينِ أوضاعِ المقيمين على أرضِها من غير المصريين، شأنُها شأنُ غالبية دول العالم. وهدَّدت وزارةُ الداخلية المخالفين، ومنهم المُعْفون من دفعِ رسومِ تراخيص الإقامة، بإيقاف خدماتِهم من مؤسَّسات الدولة إذا لم يُسجّلوا بياناتهم بالإدارة العامة للجوازات والهجرة والجنسية.

أما الفارون من الحرب من الدول المحيطة مثل الفلسطينيين والسودانيين، فأحكمت السلطة المصرية قبضتها على الحدود وفرضت على الفلسطينيين سياسة الدفع المقدَّم مشدَّدة الحراسة الأمنية على معبر رفح. حراسةٌ لا يمكن اجتيازها إلا بدفع ما يصل إلى خمسة آلاف دولار عن الفرد الواحد لشركة "هلا" المملوكة لرجل الأعمال إبراهيم العرجاني، المقرَّب من السلطة. وذلك حتى ترفع تكلفة المرورِ إلى الجانب المصري في المعبر، مع حرمان العابرين إلى مصر من تقنين وضعهم لاجئين وإعطاء أوامر لمفوضية اللاجئين بعدم تسجيلهم طالبي لجوء في مصر، حسب مصدر بالمفوضية طلب عدم ذكر اسمه في حديثه مع الفِراتْس، بحجة تسهيل إعادتهم إلى بلدهم بمجرد وقف الحرب المستمرة منذ السابع من أكتوبر 2023.


أما الحدود السودانية فقد أحكمت السلطة المصرية قبضتها عليها لتمنع دخول السودانيين إلى مصر، إذ شددت إجراءات الدخول النظامي للبلاد ما جعل الدخول غير النظامي عبر طرق التهريب خياراً وحيداً أمام غالبية الفارين من الصراع في السودان حسب تقريرٍ سابق لمنظمة العفو الدولية.

فبعد شهرٍ واحد من الاقتتال الداخلي المستمر في السودان منذ منتصف أبريل 2023، أقرت الحكومة المصرية في 25 مايو 2023 وقف التعامل بوثائق السفر المؤقتة للسودانيين على المعابر المصرية، وهي الوثائق التي كان معمولاً بها منذ بداية النزاع المسلح في السودان وكانت السلطات المصرية تسمح بعبور حامليها من السودانيين إلى مصر بعد الإجراءات المتبعة للعبور، وهو ما كان يمكّن كبار السن والأطفال والمرضى ممن لا يمتلكون جوازات سفر من الوصول إلى مصر.

وحسب منظمة منصة اللاجئين في مصر، كانت السلطات السودانية تصدر وثائق سفر اضطرارية في حالة انتهاء جواز السفر أو فقدانه لراغبي العبور إلى مصر من الفئات التي لا تحتاج إلى تأشيرة دخولٍ مسبقة، وهم النساء والأطفال أقلّ من ستة عشر عاماً والرجال أكثر من خمسين عاماً في مكاتب الجوازات السودانية على الحدود، وذلك تيسيراً على النازحين لاستحالة استخراج الجوازات العادية.

وتزامن وقف العمل بوثائق السفر مع استحداث شرطٍ جديدٍ يُلزم الراغبين في دخول مصر، عبر السفر جواً، من الفتيان والرجال بالحصول على تصريحٍ أمني قبل الوصول إلى مطار القاهرة، وهو ما عُدّل في نوفمبر 2024 ليشمل تأشيرة وموافقة أمنية للسودانيين القادمين إلى مصر جواً من خارج السودان، وتأشيرة فقط للسودانيين القادمين من السودان بشرط أن يكون مدوناً عليها من قِبل القنصلية "معروف لدى البعثة".

بلغ التشديد ذروته في السابع من يونيو 2023، إذ قررت الحكومة إلغاء إعفاء النساء والأطفال وكبار السن من الرجال فوق الخمسين عاماً من الحصول على تأشيرة دخول إلى مصر وإلزامهم بالحصول على تأشيرة بداية من العاشر من الشهر نفسه، وذلك يخالف اتفاقية الحريات الأربع الموقعة بين البلدين سنة 2004. كانت الاتفاقية تكفل لمواطني البلدين حرية التنقل والإقامة بلا شرط الحصول على تصريح والحق في العمل والتملك، وهي الاتفاقية التي نفذها البلدان سنوات قبل أن تقرر مصر في فبراير 2013 إدخال تعديلات على حق التنقل تُلزم السودانيين الذكور الشباب والرجال حتى خمسين عاماً بالحصول على تأشيرة دخول مسبقاً، وهو ما اعترضت عليه السلطات السودانية التي استمرت في السماح للمصريين من جميع الأعمار بالدخول إليها بلا تأشيرة حتى قررت في فبراير 2017 معاملة المصريين الذكور بالمثل.

إلغاء قبول وثائق السفر وطلب الموافقة الأمنية والتأشيرات على السودانيين جعل الوضع في محيط المعابر المصرية السودانية وأمام قنصليتي مصر في بورتسودان ووادي حلفا كارثةً إنسانية، بسبب تكدس الفارين من الحرب. زاد الانتظارُ الطويل تدهورَ الأوضاع الصحية بين النازحين وزيادة الوفيات، خاصة بين النساء والأطفال وكبار السن، بسبب الازدحام الشديد وطول مدة النزوح ونقص الطعام والدواء والافتقار إلى مستلزمات النظافة والصحة والمياه النظيفة. إلى جانب المعاناة، راجت تجارتان. الأولى لتسهيل الحصول على الموافقة الأمنية وتأشيرة الدخول إلى مصر، والثانية تجارة التهريب لدخول مصر عبر الطرق الجبلية الوعرة.

توجهت إحسان ووالدتها في منتصف يونيو 2023 إلى القنصلية المصرية في بورتسودان ومعهما جواز سفرها وبطاقة هوية والدتها وشهادتا ميلاد طفليها، حنان البالغة خمس سنوات وعمر البالغ سنتين. وبعد انتظارٍ في صف طويل لأكثر من أربع ساعات أخبرها موظف القنصلية أنه لن يستطيع سوى قبول أوراقها فقط لأن إضافة الطفلين إلى جواز سفرها ممنوع، وأن والدتها البالغة من العمر تسعة وستين عاماً لا يمكنها الحصول على تأشيرة إلا بجواز السفر، ولن تصدر التأشيرة لها قبل مرور ثلاثة أشهر على الأقل.
وقبل أن تغادر إحسان القنصلية عرض عليها شاب سوداني، عرَّف نفسه بأنه متعهد سفر تابع لشركة تسهل السفر لرجال الأعمال، بأن يستخرج لها التأشيرة في عشرة أيام مقابل ألفين وأربعمئة دولار، ووعدها أن يجد مخرجاً لأزمة طفليها ووالدتها مقابل رسوم أخرى قدرها ثلاثة آلاف دولار فأخبرته إحسان بأنها لا تملك المبلغ ولكن سوف تحاول تدبيره.

على غرار إحسان، سلكت نشوى واثنتان من شقيقاتها وستة من أطفالهن الطريق نفسه وذهبوا في 23 يونيو 2023 إلى القنصلية نفسها، غير أنهم وجدوها مغلقة بحجة إجازة عيد الأضحى الذي بدأ في الخامس عشر من يونيو، وهو ما أجبر الشقيقات الثلاث على تكرار زيارة القنصلية مرتين أخريين في يوليو وأغسطس 2023 أُخبرن خلالهما بتوقف التسجيل لحين انتهاء موظفي القنصلية من طلبات التأشيرة المعروضة أمامهم.

وفيما لم تحدد السلطات المصرية في السودان رسوماً للتأشيرات أو الموافقات الأمنية فإن مواقع التواصل الاجتماعي والمعابر الحدودية بين مصر والسودان امتلأت بإعلانات وسطاء يسهلون الحصول على التأشيرات في عشرة أيام مقابل تسعيرةٍ واحدة بدأت بألفي دولار ووصلت إلى ثلاثة آلاف وأربعمائة دولار بنهاية سنة 2024.


في مواجهة الأسعار المبالغ فيها للتأشيرات وتعذر الحصول على الموافقات الأمنية لدخولٍ شرعيٍ لمصر، صار الدخول إلى مصر عبر طرق التهريب حتى الوصول إلى مفوضية اللاجئين لتقنين الوجود الشرعي بمصر خياراً وحيداً أمام آلاف الأسر السودانية. لكن هذه الطريق محفوفة بمخاطر عدة. فمن ينجو من وعورة الطريق وقسوة المناخ والملاحقات الأمنية لقوات حرس الحدود، قد لا يَسلم من السلطات المصرية في الداخل التي قد تقبض عليه وتزجّ به إلى الحدود السودانية من جديد.

رغم معرفتها هذه المخاوف، اختارت نشوى وشقيقتاها وأطفالهن سلوك طريق التهريب في فبراير 2024. وحسب قولها للفِراتْس فإن رحلتهن بدأت من مدينة عطبرة بولاية نهر النيل التي تبعد حوالي مئتين وعشرين كيلومتراً عن العاصمة الخرطوم، وهي المدينة التي نزحت إليها وشقيقتاها وأطفالهن بعد أيام قليلة من الحرب، إذ اضطرت عائلتهن إلى مغادرة منازلها بمنطقة أم درمان الثورة الواقعة شمال مدينة أم درمان القريبة من قاعدة كرري العسكرية التابعة لولاية الخرطوم التي استخدمها الجيش السوداني لقصف أماكن تجمع قوات الدعم السريع بالمنطقة.

قبيل بدء الرحلة حدّد لها المسؤول عن السفر الذي عرّفته باسم جعفر خطة دخول مصر والوصول إلى المفوضية في ثلاث مراحل، موضحاً أنه مسؤول عن نصف المرحلة الأولى وهي عبور الصحراء الفاصلة بين السودان وحدود مصر دون المرور على المنافذ الحدودية وقوات حرس الحدود المنتشرة بين البلدين، مقابل مئتي ألف جنيه سوداني أي ما يعادل نحو ثلاثمئة وعشرين دولاراً أمريكياً للفرد.

وقال إنه بمجرد انتهاء مهمته سينسّق لهم مع ثلاثة مصريين لترتيب الدخول إلى مصر والإقامة في محافظة أسوان عدة أيام قبل الذهاب إلى العاصمة القاهرة ومنها إلى مفوضية اللاجئين، منوهاً أن تكلفة المرحلتين الثانية والثالثة ستُحدّد بمجرد وصولهم الأراضي المصرية وأنه ليس مسؤولاً عنهما.

لم تملك نشوى وشقيقاتها خيار الرفض حتى بعد أن طلب منهن جعفر الانضمام وأطفالهن إلى تسع نساء أخريات في سيارته فئة تويوتا هايلوكس. كدّس الأطفال التسعة داخل السيارة ذات الأربعة مقاعد، وجلست نشوى وشقيقتاها وست نساء أخريات في الصندوق الخلفي للسيارة في العراء إلى جانب أغراضهن وكل ما استطاعوا حمله قبل مغادرة بيوتهم، مع تقييدهن بالحبال وتثبيتها بأركان السيارة.

دفعت نشوى ومن معها المبلغ المتفق عليه لجعفر، وبدأت رحلتهم في التاسعة من مساء 15 فبراير 2024، حتى وصلوا منطقة سيدون التي تبعد حوالي ثمانين كيلومتراً من مدينة عطبرة. ومع أن السائق أخبرهم أنهم سيرتاحون وينامون في هذه المنطقة، على أن يواصلوا الرحلة في اليوم التالي، إلا أنه أصرّ على مواصلة السير دون اكتراثٍ للحالة الصعبة التي يعانون منها بسبب سوء الطريق والجلوس غير المريح.

في الساعة الثامنة من صباح اليوم التالي وصلت السيارة إلى منطقة تُسمّى التخزينة، وهي منطقة صحراوية تقع في منتصف المسافة بين الحدود المصرية السودانية من ناحية، والحدود السودانية الليبية من ناحية أخرى.

عندها انتهت المرحلة الأولى، فكّ السائق الحبال وطلب منهم مغادرة السيارة وتفريغها من الحقائب والأغراض، تقول نشوى "وجدنا مئات الأسر تفترش الصحراء في جو قارس انتظاراً لسيارات مصرية تكمل الطريق".
أخبر جعفر نشوى وباقي الهاربات معها بأن المصريين الذين يعملون معه أخبروه بأن قوات حرس الحدود تشن حملة على الطرق الصحراوية، وأن عليهن البقاء حتى تخف القبضة الأمنية.
تقول نشوى: "نمنا في الصحراء وكان بينا كبار في السن وأطفال"، مؤكدةً أنهم برفقة عشرات الأسر اضطروا للمبيت يومين كاملين في العراء بلا مياهٍ وطعام كافيين حتى أتت سيارات مصرية. تقول نشوى: "تم جمع ركاب سيارتين سودانيتين على متن سيارةٍ واحدةٍ مصرية، وتشدد السائق المصري في تقييدنا بالحبال في السيارة لكثرة العدد والخوف من سقوط أي منا بسبب وعورة الطريق والسرعة العالية التي يقود بها".
وعند الساعة الخامسة من صباح السابع عشر من فبراير وصلت نشوى ومن معها منطقة الكسارات وهي منطقة داخل الحدود المصرية وسط سلسلة جبلية، كان مقرراً أن ينتقل فيها الركاب إلى سيارة أخرى تنقلهم إلى مدينة أسوان. غير أنه بسبب دوريات المراقبة لقوات حرس الحدود المصرية، أخبر السائق نشوى ومن معها بأنه يمكنه أن ينقلهم بنفسه إلى مدينة أسوان بشرط أن يدفع كل منهم ألف جنيه مصري أو نحو عشرين دولاراً أمريكياً.

قبلت نشوى وكل من معها العرض، خوفاً من القبض عليهم وترحيلهم، ليوصلهم السائق إلى منطقة غير معروفة لهم داخل أسوان. قال السائق إن بها منزلاً يمكن الاحتماء به عدة أيام. عرض المسؤول عن العقار الذي توقفت عنده السيارة إقامة كل أسرة في غرفة من غرف العقار مقابل ألف جنيه لليلة الواحدة مع التأكيد بأن الخروج من السكن يعني القبض عليهم من قِبل الشرطة وترحيلهم إلى حيث أتوا، وأنه سيوفر لهم شخصاً يشتري لهم ما يحتاجون من أغراض، ويصرف لهم العملة من جنيه سوداني أو دولار إلى جنيه مصري مقابل عمولة.

بعد يومين، أحضر صاحب العقار حافلات "ميكروباص" لنقل نشوى وكل السودانيات والسودانيين الذين جاءوا معها إلى القاهرة.

بعد ثماني عشرة ساعة من السفر داخل مصر وصلت نشوى وشقيقتاها وأطفالهن التسعة إلى منطقة فيصل بمحافظة الجيزة، حيث استأجر لهم السائق الذي نقلهم من أسوان شقة صغيرة، غرفتين وصالة مقابل إيجار شهري قدره عشرة آلاف جنيه أي حوالي مائتي دولار أمريكي.

في اليوم التالي ذهبت نشوى وشقيقتاها وأطفالهن إلى مفوضية اللاجئين بمدينة السادس من أكتوبر التابعة لمحافظة القاهرة في السادسة صباحاً، وانتظروا فرصة للدخول حتى انتهاء مواعيد العمل الرسمية للمكتب في الثانية ظهراً ولكن دون جدوى، "وجدنا آلاف السودانيين والجنسيات الأخرى واضطرينا للمبيت أمام مقر المفوضية أملاً في الدخول في اليوم التالي".

بعد يومين متتاليين من مبيت الشقيقات الثلاثة وأطفالهن في العراء أمام مقرّ المفوضية، أخبرهم أحد العاملين بالمقر أن المفوضية لديها موقع إلكتروني وخط ساخن ويمكنهم حجز موعد.

في الخامس والعشرين من فبراير 2024 تمكنت نشوى من تسجيل بياناتها وبيانات شقيقتيها وأطفالهن عبر مكالمةٍ هاتفيةٍ مع أحد موظفي مفوضية اللاجئين، حتى تسلم هاتفها رسالة نصية من المفوضية تفيد بحجز موعد لها وثمانية من أسرتها في الخامس والعشرين من أغسطس 2024 للذهاب إلى مكتب المفوضية في مدينة "6 أكتوبر" لتقديم ما يثبت هويتهم وبدء إجراءات طلب اللجوء.

تخيلت نشوى أن مأساتها انتهت وأن الرسالة الموجودة على هاتفها ستمكّنها من التنقل بحريةٍ وتحميها وأسرتها في حال تعرضت للتوقيف. غير أن جارتها في العقار نفسه، هاجر، التي جاءت مع شقيقها وشقيقتها عبر مسارٍ آخر من مسارات التهريب من السودان إلى مصر أخبرتها أن أمامها سنة ونصف السنة على الأقل بعد موعد المقابلة لكي تكون في مأمن من التوقيف والترحيل إلى السودان مرة أخرى.


سبقت هاجر البالغة أربعين عاماً نشوى في الخروج من السودان. غادرت في يوليو 2023 إلا أنها  لم تستطع وشقيقيها إنهاء إجراءات لجوئهم إلى مصر وتقنين إقامتهم حتى ديسمبر 2024، خصوصاً بعدما أخبرتها موظفة المفوضية أثناء مقابلتها في يناير 2024 أنها حددت لها استثنائياً – مراعاةً لظروف شقيقتها هيام – موعداً في يونيو 2025 في إدارة الجوازات والهجرة التابعة لوزارة الداخلية في منطقة العباسية بشمال القاهرة لتقنين إقامتها وإقامة شقيقها وشقيقتها لاجئين ودفع رسوم الإقامة لمدة ستة أشهر، موضحةً أنها حددت لها موعداً بعد عام ونصف العام فقط مع أن الإجراء المتبع  ألا تقل المدة عن عامين، بسبب الضغط الكبير من طالبي اللجوء على المفوضية ومصلحة الأحوال المدنية.

هاجر كانت تعمل صحفية في عدد من الصحف الورقية السودانية قبل الحرب، وتنفق على شقيقتها هيام البالغة ثلاثة وعشرين عاماً وهي من ذوي الاحتياجات الخاصة وتعاني من شللٍ في ساقها اليمنى، وأخيها زيد البالغ ثمانية عشر عاماً وهو طالب في التعليم الثانوي، وتتكفل برعايتهما منذ أن فقدت والديها قبل ثلاث سنوات في جائحة كورونا.

ترك الأشقاء الثلاثة منزلهم الذي ورثوه من والدهم بمنطقة الديم مع اندلاع النزاع المسلح في السودان ونزحوا من مدينةٍ سودانية إلى أخرى، حتى بدأت رحلتهم المحفوفة بالمخاطر إلى مصر من مدينة دنقلا بالولاية الشمالية التي تبعد حوالي ثلاثمئة وثلاثين كيلومتراً عن العاصمة الخرطوم إلى مدينة بورتسودان بولاية البحر الأحمر، ومنها إلى حلايب وشلاتين المتنازع عليهما بين البلدين وصولاً إلى أسوان عبر مركبات التهريب وأخيراً القاهرة.
مرّت هاجر بالخطوات نفسها التي قطعتها نشوى وشقيقتاها وأطفالهن من لحظة الوصول إلى أسوان وحتى الوصول إلى منطقة فيصل. غير أنها بمجرد وصولها ساعدها صحفيون مصريون في الوصول إلى جمعيةٍ أهليةٍ مختصّة بمساعدة ذوي الاحتياجات الخاصة من اللاجئين السودانيين، وساعدت الجمعيةُ هاجرَ في تدبير إعانة شهرية وأدوية لهيام وفي الحصول على موعد للتسجيل بمفوضية اللاجئين.

ومع الدعم والمساعدة التي حصلت عليهما هاجر، بفضل حظها في التعليم والمعارف، فإن الأمر لم يخلُ من المعاناة. فقد قبضت الشرطةُ المصرية على شقيقها زيد في نهاية سبتمبر الماضي في تجمّعٍ للسودانيين بمنطقة فيصل للاحتفال بتقدم الجيش السوداني في بعض المناطق على قوات الدعم السريع. فاختفى زيد عدة أيام قبل أن تُبلَّغ هاجر بأنه نُقل إلى أسوان استعداداً لترحيله إلى السودان.

تواصلت هاجر مع المفوضية للتدخل ولجأت إلى عددٍ من المحامين الحقوقيين، خصوصاً وأن شقيقها معه بطاقة صفراء تُثبت أنه طالب لجوء وحاصل على موعدٍ من إدارة الجوازات والهجرة لتقنين وضع إقامته، لكنها لم تستدلّ عن مكان شقيقها حتى كتابة هذه السطور.
المحامي المتخصص في قضايا اللاجئين أحمد معوض قال في حديث مع الفِراتْس إن الدستور المصري والاتفاقيات الدولية تمنع ترحيل طالبي اللجوء واللاجئين سواء كانت معهم إقامة رسمية أم لا، لكن الممارسات على الأرض تظهر أن بإمكان رجال الشرطة أن يقبضوا على أي أجنبي ويرحلونه حتى ولو كانت أوراقه سليمة ومعه إقامة سارية. مضيفاً أنه منذ بدء النزاع المسلح في السودان ولجوء السودانيين إلى مصر، رحّلت السلطات المصرية آلافاً من طالبي اللجوء وحتى من اللاجئين الحائزين على البطاقة الزرقاء، وهم اللاجئون المقيمون في مصر منذ سنوات طويلة قبل الحرب.

يفرّق معوض بين اللاجئ وطالب اللجوء. فاللاجئ بحسب تعريف اتفاقية جنيف للاجئين هو "كل شخص يوجد خارج دولة جنسيته بسبب تخوف مبرَّر من التعرض للاضطهاد لأسبابٍ ترجع إلى عرقه أو دينه أو جنسيته أو انتمائه لعضوية فئة اجتماعية معينة أو آرائه السياسية، وأصبح بسبب ذلك التخوف يفتقر إلى القدرة على أن يستظل بحماية دولته أو لم تعد لديه الرغبة في ذلك"، مشيراً إلى أن الإجراءات التي تنظم حصول الشخص على حقوقه لاجئاً هي التي تحدد تعريفه لاجئاً أو طالب لجوء.
ويلفت معوض إلى أن وصف طالب اللجوء ينطبق على السودانيين الموجودين في مصر قبل الحرب أو بعدها، إذ يمكنهم أن يتقدموا بطلب إلى مفوضية اللاجئين سابقاً، وحالياً إلى اللجنة الدائمة لشؤون اللاجئين المقرر تشكيلها قريباً بطلب للحصول على موعد لتسجيل طلب قيدهم لاجئين. يشرح معوض أن طالب اللجوء يذهب إلى المفوضية أو "اللجنة الدائمة" وتُؤخذ بصمة عينه وبياناته وسبب رغبته في اللجوء، فتمنحه المفوضية بطاقةً صفراء إذا قدّم أوراقاً تُثبت هويته في بلده أو تمنحه بطاقةً بيضاء إذا لم يقدّم أوراقاً تُثبت هويته، وفي الحالتين يكتسب الشخص صفة طالب لجوء ويستحق الحماية ويحظر ردُّه إلى بلده. ثم بعد فترة، كانت تمتد إلى عامين أو ثلاثة قبل الحرب الأخيرة في السودان، كانت المفوضية تعطيه صفة لاجئ وبطاقة زرقاء للمسجلين لديها.

وأكد معوض أن القانون الجديد يتيح الإجراء نفسه مع تعليقه على اعتبارات "حماية الأمن القومي والنظام العام" وهو ما يُعد تقنيناً للوضع المطبّق حالياً.

يقول المصدر بمفوضية اللاجئين للفِراتْس إن "حماية اللاجئين هي مهمة الحكومة المصرية وليس المفوضية"، موضحاً أن المفوضية تتواصل ودياً مع الأجهزة الأمنية لمنع ترحيل أي طالب لجوء يُقبض عليه إلا أنها تظلّ اتصالات ودية قد تأتي بأثرٍ وقد لا تأتي.

وأشار المصدر إلى أن استمرار الحرب في السودان وتشديد إجراءات الإقامة في مصر من ناحية أخرى تسببا في إقبالٍ كبير على المفوضية، ما ترتب عليه طول فترة انتظار التسجيل. إذ كانت المفوضية في بداية الحرب السودانية تحدد موعداً لاستقبال طالبي اللجوء بعد أسبوعين فقط من تسجيل بياناتهم، لكن مع استمرار تدفق السودانيين بأعدادٍ كبيرة، سواء من داخل مصر أو من خارجها ورغبتهم في التسجيل لاجئين، زادت مدة الانتظار إلى ستة أشهر وأحياناً أكثر لمواعيد مقابلة المفوضية، وعامين لمواعيد إدارة الجوازات والهجرة لمنح طالب اللجوء تصريح إقامة لاجئ  لمدة ست أشهر.

وذكر المصدر أن الحكومة المصرية رفضت طلباً للمفوضية بتخصيص مقار تابعة لوزارة الداخلية لتقنين أوضاع طالبي اللجوء وإنهاء إجراءات منحهم تراخيص الإقامة في المحافظات، بخلاف المركز الوحيد الموجود بمقر الإدارة العامة للجوازات والهجرة في منطقة العباسية في شمال القاهرة.

وأكد أنه إلى جانب حالات القبض على طالبي اللجوء كما حدث مع زيد، يظلّ التحدي الأكبر الذي يواجه السودانيين في مصر هو القبض عليهم قَبل وصولهم إلى مرحلة التسجيل في المفوضية. وقد طلبت المفوضية من الحكومة المصرية إنشاء مكتبٍ لها في محافظة أسوان لتسجيل طالبي اللجوء الذين يصلون إليها بطرقٍ غير شرعية يومياً لكن الحكومة رفضت.

ترحيل طالبي اللجوء السودانيين ليس الخطر الوحيد الذي يواجههم في مصر. حسب مديرة مركز دار المعرفة السوداني بالقاهرة أماني سليمان، فإن طول مدة تقنين أوضاع طالبي اللجوء في مصر تؤدي إلى "ارتكاب جرائم ضد الإنسانية تجاه السودانيين الذين يُضطرون إلى دخول البلاد بشكلٍ غير شرعي". وتوضح أماني أنهم يضطرون إلى الاختباء مدةً تصل إلى عامين ويتجنبون التنقل بين المدن والتجمعات. وتحت ضغط الحاجة، يُضطر غالبيتهم إلى العمل مع متعهدي عمال يدفعون بهم إلى أعمالٍ شاقة وساعات عملٍ تزيد عن ثماني عشرة ساعة مقابل أجورٍ هزيلة، وليس لهم حق الشكوى خوفاً من الترحيل.

وقالت أماني سليمان للفِراتْس إن عدداً كبيراً من السودانيين الذين يصلون إلى مصر يأتون بلا أوراقٍ ثبوتية أو أموالٍ فارين من الحرب. وإن تأخر تقنين وضعهم وحصولهم على إقامة شرعية يعرّضهم للاستغلال أو الترحيل، لافتةً إلى أن التسجيل في المفوضية يفتح لهم الأبواب فيُمنحون بطاقاتٍ تُحدِّد هويتهم وتمكّنهم من التعامل مع النظام الحكومي المصري. فيمكنهم شراء خط هاتف مصري وزيارة إدارة الجوازات والهجرة لدفع رسومٍ بسيطة لا تزيد عن مئة وخمسين جنيهاً مصرياً، أي نحو ثلاثة دولارات، للحصول على إقامة شرعية بالبلاد مدتها ستة أشهر. فيحصلون على خدمات الصحة والتعليم شأنهم شأن المواطنين. وذكرت أماني أنها صادفت حالاتِ رفضٍ من مستشفياتٍ حكوميةٍ وخاصة لاستقبال أطفال وسيدات وكبار سنّ سودانيين وعلاجهم بسبب عدم وجود بطاقة إقامة معهم، لافتةً إلى أنه حتى الجمعيات الأهلية التي تقدِّم خدمات وإعانات للاجئين غالبيتها يعلّق تلك الخدمات على تسجيل طالب اللجوء في المفوضية وحصوله على البطاقة الصفراء.


ذهبت نشوى وشقيقتاها وأطفالهن الستة إلى مفوضية اللاجئين وحصلوا جميعاً على البطاقة الصفراء، مع موعدٍ للذهاب إلى إدارة الجوازات والهجرة في أغسطس 2025 للحصول على إقامةٍ في البلاد. وقد حوّلتهم المفوضية منذ وقت المقابلة في أغسطس الماضي إلى منظمةٍ أهلية قدّمت لهم إعانات مالية وضمّت أطفالهن إلى مدارس تدرّس المناهج السودانية للأطفال بمنطقة فيصل في القاهرة. لكن نشوى علمت من مدرسة أطفالها أن القانون الجديد الذي أقرّته مصر قد يتبعه توقف المفوضية، وكل الجمعيات الأهلية التي تتلقى منها الدعم، عن العمل.

وفيما تترقب نشوى ومعها مئات الآلاف من اللاجئين السودانيين في مصر مصيرهم بعد إقرار القانون، انضمّ زيد إلى إحسان وباقي السودانيين العالقين على الحدود بين مصر والسودان، وهاتفَ أخته هاجر وطلب منها أن تدبر له المال ليسلك طريق الآلام مرةً ثانيةً إلى مصر للحاق بها وبهيام. وهو نفس ما فعلته إحسان مع زوجها إبراهيم عندما طالبها ووالدتها وطفليها بالانضمام إليه في أوغندا التي ذهب إليها بعد خمسة أشهر من سفره من السودان إلى إثيوبيا، بعدما فرضت الأخيرة رسوماً شهرية مقابل الإقامة السياحية بها على السودانيين قيمتها مئة دولار تُجدَّد شهرياً.

أخبر إبراهيمُ إحسانَ أن السلطات الأوغندية سهّلت إجراءات دخول السودانيين إليها وخصّصت معسكرات لإقامتهم فيها وسهّلت إجراءات التسجيل في مفوضية اللاجئين للراغبين، موضحاً أن المشكلة الوحيدة التي ستواجههم إذا انضموا إليه هي مشكلة اللغة لأن الغالبية يتحدثون الإنجليزية، وهو ما فضلت على أثره إحسان تكرار رحلتها إلى مصر لعلاج والدتها المسنة وتعليم أطفالها في المدارس المصرية أو السودانية. لتستمر رحلات الصيف والشتاء إلى مصر ومعها تستمر معاناة السودانيين.

وفي محاولةٍ للحصول على ردٍّ من الحكومة المصرية، أرسلت الفِراتْس أسئلةً بتطبيق "واتساب" إلى المتحدث باسم الخارجية تميم خلاف عن أسباب ترحيل طالبي اللجوء وعدم تخصيص مقار لتقنين أوضاعهم، غير أننا لم نتلقَّ رداً حتى موعد نشر هذه السطور. في الوقت الذي أكدت فيه الحكومة المصرية ، في تقريرٍ أعدته في أكتوبر 2024 للعرض أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، أنه في الحالات التي يُقبض فيها على أجانب بناءً على دخولهم أو وجودهم غير القانوني، يُطلق سراحهم بمجرد إبداء رغبتهم في اللجوء شريطة التزامهم بسرعة التسجيل لدى المفوضية من أجل تقنين أوضاعهم.

اشترك في نشرتنا البريدية