لكن الكلمةَ الأخيرةَ كانت لترامب الذي أَمَرَ باغتيالِ قاسم سليماني نفسِه في ضربةٍ من طائرةٍ مسيَّرةٍ استَهدَفَت موكبَه في العاصمة العراقية بغداد في الثالث من يناير سنة 2020. توعّدَتْ إيرانُ بعدَها بالردِّ على الولايات المتحدة، فاستَهدَفَت بالصواريخِ قاعدةَ عين الأسد الأمريكيةَ في العراق وقواعدَ أُخرى في كردستان بعد خمسةِ أيامٍ من الاغتيال. لَم يكُن الردُّ بمستوى خسارةِ إيران لسليماني. وقد تردَّدَتْ إشاعاتٌ حينها أنّ إيران أخطرَت الولاياتِ المتحدةَ بالهجومِ قبيل حدوثِه تفادياً لمقتلِ جنودٍ أمريكيّين، وتهرّباً من حربٍ مع واشنطن قد لا تستطيعُ خوضَ غمارِها. قال ترامب في خطابٍ في 2023 أنّ هذا فعلاً ما حدثَ، وأنّ إيرانَ "استَأذنَتْه" قبل الردِّ، إلّا أنّ إيران نَفَت تلك التصريحات. يتكرّرُ هذا السلوكُ الإيرانيُّ في الردِّ على ضرباتٍ قاسيةٍ من الولايات المتحدة وإسرائيل، فيما تطلِقُ عليه صحيفةُ الغارديان البريطانيةُ "الردّ التلغرافيّ"، أَي سهلَ الرصدِ عمداً أو سهواً، والهدفُ منه تفادي التصعيدِ مع حفظِ ماءِ الوجه. وكان في الردِّ الإيرانيِّ على الاستهدافِ الإسرائيليِّ لقنصليةِ طهران في دمشق في أبريل 2024 مثالٌ آخَر. فقد بدا الردُّ منسَّقاً مع القوى الغربيةِ، ودارَ حديثٌ أنّ وسطاءَ كتركيا بلّغوا القوى الغربية بموعد الرد. وقد أتاحَ ذلك لإسرائيل وحلفائِها اعتراضَ جُلِّ الصواريخِ والمسيَّراتِ الإيرانيةِ على مرأَى العالَمِ ومسمعِه، وبالتالي تحاشيَ أضرارٍ فعليةٍ داخلَ إسرائيل.
واليومَ تَشخَصُ الأبصارُ إلى طهران من جديدٍ ترقّباً لِانتقامٍ إيرانيٍّ من إسرائيلَ توعّدَت طهرانُ مِراراً بتنفيذِه ردّاً على اغتيالِ الموسادِ رئيسَ المكتبِ السياسيِّ لحماس إسماعيل هنية في طهران نهايةَ يوليو 2024. فقد رُفِعَت الراياتُ الحُمرُ على المآذنِ في مدينة قم المقدّسة موحيةً بانتقامٍ إيرانيٍّ قادم. يأتي هذا في وقتٍ تزداد فيه الشكوكُ بنجاعةِ الردِّ من عدمِه، ولا سيّما بعدما اكتفَى حزب الله، الذراعُ الطُولَى لإيران في محيطِ إسرائيل، بردٍّ مبهمٍ على اغتيالِ قائدِه العسكريِّ فؤاد شُكر قبل شهرٍ تقريباً في الضاحية الجنوبية لبيروت. تعكفُ إيرانُ على الترويجِ لردٍّ حاسمٍ مستعينةً بوسائلَ إعلاميةٍ فارسيةٍ وعربيةٍ ودوليةٍ تدعمُ الروايةَ الإيرانية. فيَظهرُ أمثالُ أستاذِ العلومِ السياسيةِ الإيرانيِّ محمد مرندي على شاشاتِ الجزيرةِ ووسائلِ الإعلامِ الغربيةِ البديلةِ للترويجِ للردعِ الإيرانيِّ المزعومِ، فيما تكذِّبُ التقاريرُ الغربيةُ والإسرائيليةُ تلك الادّعاءاتِ أو تُسفِّه أحلامَها. ويزدادُ الغموضُ والتضاربُ في الرواياتِ مع فرضِ إسرائيل الرقابةَ العسكريةَ الصارمةَ على وسائلِ إعلامِها عند وقوعِ أحداثٍ أمنيّة. وبين هذا وذاك يَحارُ المراقِبُ فِيمَن يصدِّقُ وماذا يصدِّقُ في معركةِ الرواياتِ والمزاعمِ بين أطرافِ الصراعِ، تطبيقاً حَرفيّاً لِما يسمَّى "مسرح الإيهام"، وهو الوصفُ الذي يُطلقُه الأكاديميُّ الأستراليُّ كينيث مينوغ على عالَم السياسة. ذاك المسرحُ الذي يذوبُ فيه الفَرقُ أحياناً بين ما هو حقيقيٌّ وما هو متصوَّرٌ، بين ما تروِّجُه الدولُ والكياناتُ عن نفسِها وبين الواقع.
يقولُ تريتا بارسي الباحث الإيراني ورئيسُ المجلسِ الوطنيِّ الإيرانيِّ الأمريكيِّ إنّ "الروايات التي يطرحُها حزب الله وإسرائيل تختلفُ جذريّاً. وهذا ليس مفاجئاً، نظراً للرقابةِ العسكريةِ التي تَفرضُها إسرائيلُ، إذْ يُمنَعُ الإعلامُ الإسرائيليُّ من الإبلاغِ عن الأضرارِ التي تسبّبَت بها ردودُ حزب الله، فيَصعُبُ تحديدُ أيٍّ من الرواياتِ أقربُ إلى الحقيقة". ويضيفُ: "لكنْ بِالطبعِ، الحظرُ الإسرائيليُّ على الإعلامِ من تغطيةِ هذه الأضرارِ يثيرُ تساؤلاتٍ عن صدقيّةِ الروايةِ الإسرائيليةِ بحدِّ ذاتِها".
يضيفُ:"دُونَ معرفةِ الأضرارِ الدقيقةِ التي أَلحقَتْها إسرائيلُ بلبنان أو تلك التي أَوقَعَها حزب الله بإسرائيل، يمكننا القولُ إننا دَخَلْنا مرحلةً جديدةً بحيث لَم يَعُدْ بإمكانِ إسرائيل مهاجمةُ لبنان دون تحمّلِ عواقب. ربما لَم يكُن ردُّ حزب الله كافياً لردعِ إسرائيل البتَّةَ عن شنِّ هجماتٍ مستقبليةٍ، لكنّه كان كافياً وذا تأثيرٍ عميقٍ داخلَ إسرائيل إلى الحدِّ الذي أَجبَرَها على إعادةِ حساباتِها، فلَم يَعُدْ ضربُ لبنان مسألةً زهيدةَ التكلفة".
لكن علي بكير، الأستاذ المساعد في مركزِ ابن خلدون للعلومِ الإنسانيةِ والاجتماعيةِ بجامعة قطر، يقولُ إنّنا نَشهَدُ اليومَ مواجَهةً غيرَ تقليديةٍ بين مِحوَرِ إيران وإسرائيل، إذ "لَم يسبقْ في تاريخ الحروب أنْ قام خصمان أو أعداءٌ بإرسالِ إشاراتٍ مسبَقةٍ لبعضِهم البعضَ عن توقيتِ الضرباتِ وكيفيةِ توجيهِها أو الردِّ عليها، كما تفعلُ إيران مؤخّراً مع إسرائيل". عند بكير يُظهِرُ هذا الوضع أمرَيْن: "أوّلاً، لا يوجدُ صراعٌ مباشرٌ فعليٌّ. وثانياً، أنّ الصراعَ يدورُ على جبهتَيْن متوازيتَيْن. الجبهةُ الأُولى مرئيةٌ للجميعِ وتَستَهدِفُ خَلقَ انطباعاتٍ، والتأثيرَ على الحساباتِ، واختبارَ الحدودِ، وكسبَ العقولِ والقلوب. أمّا الجبهةُ الثانيةُ فهي تعملُ في الخفاءِ، حيث تتركّزُ على المفاوَضاتِ وترتيباتٍ تتجاوزُ ما يَظهَرُ في العلن".
لا يعني ذلك غيابَ رادعٍ يحولُ دون خوضِ الولايات المتحدة وإسرائيل حرباً مفتوحةً مع إيران أو حتّى حلفائِها الأقوياءِ كحزب الله، فقدرات محورِ إيران الصاروخية وترسانتها من المسيَّراتِ وقدرتها على إغلاقِ مضيقِ هرمز في وجهِ إمداداتِ النفطِ تجعلُ كلفةَ أيِّ حربٍ باهظةً جدّاً بحيثُ تجعلُ حربَ العراقِ تبدو لا شيءَ مقارنةً معها. لكن هذه القدرات نفسها لا يمكن استعمالُها حقّاً إلّا في حالةِ حربٍ شاملةٍ لأنها "خيارات قصوى"، إن صحَّ التعبير.
وفوق ذلك فإن خسائرَ محورِ إيران منذ السابع من أكتوبر 2023 وقبلَها وعاملَ الوقتِ لا يساعدان محورَ إيران بحسبِ رأيِ المحلّلِ السياسيِّ إيان بريمر في حربٍ مفتوحةٍ مع إسرائيل. فطبقاً لموقعِ "الدفاع العربي" تتسلّحُ إسرائيلُ بأنظمةٍ قد تخلُّ بالتوازنِ مع إيران، ومِن ذلك اقتناءُ مقاتِلاتٍ وقاذفاتٍ أمريكيةٍ من الجيلِ الجديدِ وتفعيلُ نظامِ الشعاعِ الحديديِّ العامَ القادمَ والذي تزعمُ إسرائيلُ قدرتَه على اعتراضِ 90 بالمئةِ من صواريخِ حزب الله في حالةِ حربٍ مفتوحة.
لكن بارسي يختلفُ مع ذلك التقييمِ، إذ يقولُ: "لقد وصلوا [يعني إيران وحلفاءها] إلى هذا المستوى من القوّةِ النسبيّةِ تجاهَ إسرائيل باللعبِ بصبرٍ وبشكلٍ إستراتيجيٍّ على المَدى الطويل. لذا، مِن مصلحةِ إسرائيلَ أن تسعَى إلى فرضِ صراعٍ عاجلٍ، لأنها تدركُ أن الزمنَ يعملُ لصالحِ المحورِ إذا استمرَّ في اللعبِ على المَدى الطويل".
بينما يقول بكير: " في ظلِّ هذه المواجهاتِ غيرِ المباشرةِ وغيرِ المتكافئةِ، لا تنطبقُ آليّاتُ الردعِ التقليديةُ بين إيران وإسرائيل. لا تستطيعُ إيران ردعَ إسرائيل بشكلٍ فعّالٍ، ليس للتفوّقِ العسكريِّ الإسرائيليِّ فحسبُ، وإنما لأنّ أيَّ مواجهةٍ كبيرةٍ ستؤدّي إلى مواجهةِ الولايات المتحدة، وهو تحدٍّ يتجاوزُ قدرةَ إيران وقد يؤدّي إلى دمارِها. في المقابلِ، مع أنّ إسرائيلَ قد تستطيعُ مبدئياً ردعَ إيران، إلا أنّها تجدُ صعوبةً في ردعِ وكلاءِ إيران، الذين تحرّكُهم دوافعُ عقائديةٌ ولا يتصرّفون كالدولِ التقليدية".
ويضيفُ: "للحفاظِ على حدودِ القوّةِ المتبادَلةِ ومنعِ اندلاعِ حربٍ شاملةٍ قد تزعزعُ هذا التوازنَ، تلجأُ الولايات المتحدة بدَورِها إلى استعراضِ القوّةِ، لتذكيرِ الأطرافِ المَعنيّةِ بالتكاليفِ الباهظةِ التي ستتكبّدُها إذا فكّرَت في تجاوزِ ما هو مقبول".
في السياقِ الحاليِّ ومع تولّي مسعود بازكشيان المحسوبِ على التيارِ الإصلاحيِّ الرئاسة، وسياقِ حرب غزّةَ، يمكنُ القولُ إنّ النظامَ الإيرانيَّ حاليّاً في وضعِ الإحساسِ بخطرٍ داهمٍ. لكن صعودَ رئيسٍ إصلاحيٍّ دون ممانعةِ المرشدِ الأعلى علي خامنئي، يعني بحسبِ نظرية ليم أعلاهُ أن طهران قد تتّجهُ إلى "التعايش الممتنع". في هذا الوضعِ، فإنّ النظامَ الإيرانيَّ قد يَتصرّفُ بمزيجٍ من الانتهازيةِ والانخراطِ الدبلوماسيِّ وخلقِ التوازناتِ المضادّةِ، مثل دعمِ روسيا ضد أوكرانيا، والانضمامِ إلى مَحاورَ جديدةٍ كمجموعةِ البْرِيكْس الاقتصاديةِ، وهو تكتّلٌ اقتصاديٌّ ناشيءٌ مُوازٍ للمؤسّساتِ الماليّةِ الدوليةِ التي تحكمُها الدولُ الغربية. ويضمُّ البْرِيكْس حاليّاً من بين أعضائِه الستّةِ الجُددِ كلّاً من مصر والسعودية والإمارات إضافةً لمؤسِّسي المجموعةِ الأساسيِّين وهُم الصين والهند وروسيا والبرازيل. بهذا المَنحى يَتفادَى النظامُ الإيرانيُّ التصعيدَ العسكريَّ بما يتجاوزُ قواعدَ المواجهةِ الحاليّةِ، لأنه يرى طرقاً أكثرَ مواربةً لتحقيقِ أهدافِ استراتيجيّتِه الكُبرى مثل حلِّ المشاكلِ مع دولِ الخليجِ واحتواء التوتّراتِ الداخليةِ سياسيّاً واقتصاديّاً وفتحِ المجالِ لمفاوضاتٍ نوويّةٍ لتخفيفِ وقعِ العقوباتِ الغربية. هذا كلُّه يَتطلّبُ إبقاءَ المواجَهةِ مع إسرائيل، ومِن ورائِها الولايات المتحدة، ضمنَ سقفٍ يمكنُ التحكّمُ بمآلاتِه ومنعُه من الخروجِ عن السيطرة.
التنبّؤ بتصرّفاتِ الدولِ علمٌ غيرُ مكتملٍ، لكن هنالك دلائلُ تشيرُ لاعتمادِ إيران هذا السلوكَ، ومنها وجودُ مفاوضاتٍ سرّيةٍ مع الولايات المتحدة عبرَ سلطنة عُمان، والتجاوبُ مع طلباتِ الوسطاءِ الغربيّين بتأجيلِ الردِّ على إسرائيل إلى حينِ انتهاءِ مفاوضاتِ وقفِ إطلاقِ النارِ في غزّة، وغيرُ ذلك من التصريحاتِ الإيرانيةِ المتريّثةِ. وفوق ذلك الإشاراتُ من المرشدِ الأَعلى مؤخّراً بدعمِ حوارٍ نوويٍّ مع واشنطن، حسبَ ما نقلَت روسيا اليوم، وإنْ كان هنيّة قد اغتيلَ للتوّ. وتحرصُ إيرانُ أشدَّ الحرصِ على تفادي اتّباعِ أيِّ سلوكٍ قد يعزِّزُ من فرصِ عودةِ ترامب إلى البيتِ الأبيضِ وعودةِ سياسةِ العقوباتِ القصوى التي اتّبَعَها ضدّها والإضرارِ بالمصالحةِ مع السعودية.
بِغَضِّ النظرِ عن ادّعاءاتِ حزب الله والحوثيّين والفصائلِ العراقيةِ المنضويةِ في محورِ المقاومةِ، لَم تُسفِرْ هذه العملياتُ العسكريةُ عن تغيّرٍ جوهريٍّ في حربِ غزّة. فلَم تبطِّئْ عملياتِ إسرائيلَ في القطاعِ طوالَ أحدَ عشرَ شهراً من الحرب. ولا يعني ذلك أنها لا تزعجُ إسرائيلَ ولا تسبِّبُ لها مشاكلَ في مضيقِ بابِ المندبِ، أو عراقيلَ فعليّةً في الجبهةِ الشماليةِ مع لبنان ولا سيّما مع تهجيرِ عشراتِ الآلافِ من سكّانِ مستوطناتِ الجليلِ إلى وسطِ إسرائيل. ولكن على أقلِّ تقديرٍ فإنّ هدفَها المعلَنَ في "إسناد غزّة" لَم يَبلغْ غايتَه فعليّاً، في حينِ أنّ تبادلَ إطلاق النارِ مع إسرائيلَ في جنوبِ لبنانَ كَبَّدَ لبنانَ خسائرَ اقتصاديةً وبشريةً كبيرةً، وعَمّقَ مِن أزماتِه السياسيةِ والمعيشيةِ وقَسَّمَ الجبهةَ اللبنانيةَ –والحديثُ هنا للرئيسِ اللبنانيِّ السابقِ ميشال عون– حتّى بين حلفاءِ الحزبِ إزاءَ جدوى المواجهة. هذا وإنْ كَثُرَت الرواياتُ المضادّةُ التي تركّزُ على أن العملَ العسكريَّ الإسرائيليَّ أقصاهُ مناورة مقابلَ ما يسمّونَه النجاحَ الإستراتيجيَّ طويلَ الأمدِ لمحورِ المقاومة. ناهيك عن أنّ هناك دلائلَ، نقلاً عن صحيفةِ الأخبار اللبنانيةِ، تشيرُ إلى أنّ حزب الله قد يقبلُ الانسحابَ إلى شمالِ نهرِ الليطانيِّ، وهو ما تطالبُ به إسرائيلُ عند وقفِ المواجهاتِ القائمةِ، يَتبَعُه انتشارٌ للجيشِ اللبنانيِّ بينهما، لقاءَ امتناعِ إسرائيل عن شنِّ حربٍ على لبنان. وفي جميعِ خُطَبِ الأمينِ العامِّ لحزب الله حسن نصر الله مؤخّراً، تمازجَت رسائلُ التحذيرِ مع أُخرى تحرصُ على عدمِ التصعيد.
لعَلّه يمكن القولُ هنا أن جبهةَ إسنادِ غزّة التي يقودُها حزب الله هي في الحقيقة أقربُ إلى استطلاعٍ بالنارِ وتدريباتٍ بالذخيرةِ الحيّةِ، هدفُها سياسيٌّ ودعائيٌّ أوّلاً وعسكريٌّ ثانياً. وعلى سبيل المقارنة يمكن النظرُ إلى التوغّلِ الأوكرانيِّ مؤخّراً في كورسك على أنه جبهةُ إسنادٍ حقيقيةٍ تستهدفُ إجبارَ روسيا على تحريكِ قوّاتِها من داخلِ أوكرانيا للدفاعِ عن الأراضي الروسية، بما يخفِّفُ الضغطَ عن المدافعين الأوكرانِ في شرقِ أوكرانيا. أمّا جبهةُ إسنادِ غزّة في جنوبِ لبنان فتظلُّ أقلَّ كثافةً ناريّةً من أنْ تجبرَ إسرائيلَ على تخفيفِ الضغطِ على غزّة، فحزب الله امتنعَ في الثامنِ من أكتوبر مثلاً عن التوغّلِ داخلَ إسرائيل من أنفاقِه، وهي قدرةٌ لَمَّحَ إليها مراراً وتكراراً. بينما وَرَدَ تقريرٌ من مجلّةِ "ذا ناشونال إنترِست" المتخصّصةِ في العلاقاتِ الدوليةِ يشيرُ إلى ضلوعِ الحوثيّين باستخدامِ آليّاتِهم في البحرِ الأحمرِ لجَنْيِ الأموالِ بفرضِ إتاواتٍ على السفنِ بغَضِّ النظرِ عن شعاراتِهم عن فلسطين.
وعلى هذا يعلّقُ بارسي قائلاً: "مع أنّ حزب الله أَجبرَ إسرائيلَ على تحويلِ جزءٍ من مواردِها نحوَ الشمالِ، إلّا أنه من الصعبِ تخيّلُ كيف يمكنُ للمجازرِ التي ارتكبَتْها إسرائيلُ في غزّةَ أن تكونَ أكثرَ وحشيةً (لو لَم يعلنْ حزب الله جبهةَ الإسناد)". ويُردِفُ قائلاً: "مع أنّ حماس وحزب الله وإيران والحوثيين أثبَتوا أنّ إسرائيلَ ليست بمنأىً عن الخطرِ، وعلى تقلّصِ الفجوةِ بين إسرائيل وبينهم على مَدى السنواتِ الأَخيرةِ، إلّا أنّ الواقعَ يبقى أن الوضعَ الاقتصاديَّ الصعبَ في إيران ولبنان، والدعمَ العسكريَّ الأمريكيَّ القويَّ لإسرائيلَ، يجعلُ من أيِّ مواجهةٍ أوسعَ في المنطقةِ الآنَ مخاطَرةً كبيرةً لإيران وحزب الله".
قد يكون تعقيدُ المواجهةِ الأمريكيةِ الإسرائيليةِ مع إيران هو ما يُلجِئ الجانبَين إلى رواياتٍ متخيَّلةٍ وعمليّاتٍ استعراضيةٍ وإيهاميةٍ لِانعدامِ قدرةِ الطرفَين على خوضِ الحربِ الحاسمة. ومِن أدواتِها الأفلامُ الروائيةُ والوثائقيةُ والتي تَخلقُ صورةً محدَّدةً عن إيران تتناغمُ مع الروايةِ الأمريكيةِ الإسرائيليةِ. وفي هذا الجهدِ حالةٌ تُسخِّرُ قدراتِ وزارةِ الدفاعِ الأمريكيةِ ومواردَها بما يخدمُ صورةَ الولايات المتحدة قوّةً ضاربةً ونبيلةً في الوقتِ نفسِه. في الجانبِ الإيرانيِّ، منذ حقبةِ الإمامِ الخمينيِّ وإلى يومِنا هذا، تهيمنُ العملياتُ العسكريةُ الاستعراضيةُ الطابعِ الموجَّهةُ ضدَّ إسرائيل والولايات المتحدة، ناهيكَ عن التعبئةِ الدينيةِ والخطابِ الغَيبيِّ والموادِّ الدعائيةِ والأفلامِ والمسلسلاتِ، مما يؤدّي دوراً مشابِها بديلاً عن الحربِ المباشرةِ لتخيّلِ عالَمٍ تنتصرُ فيه قوى محورِ إيران، وذلك لإدارةِ التصوّراتِ لدى البيئاتِ الحاضنةِ كما لدى الأعداءِ والحلفاء. لكنّ هذا السلوكَ يعزِّزُ نظريّاتِ المؤامَرةِ عن اتّفاقٍ وحتّى حلفٍ سرّيٍّ مزعومٍ بين إيران وإسرائيل على تقاسمِ النفوذِ في المنطقةِ. وقد تعزَّزَ بسلوكِ إيران سابقاً بالتعاونِ مع الولايات المتحدة في أفغانستان، حيث سمحَت للقوّاتِ الأمريكيةِ باستخدامِ مجالِها الجوّيِّ ضدَّ طالبان. وفي العراقِ حيث تقاطعَ الطرفان على إسقاطِ نظامِ صدّام حسين، عدوِّ إيران اللدود. وسابقاً، حسبَ ما تذكُرُ بي بي سي، اشتَرَت إيرانُ السلاحَ من إسرائيل إبّان حربِها مع العراق.
تَنجُمُ نظريّاتُ المؤامرةِ هذه عن قلّةِ درايةٍ بقواعدِ العلاقاتِ الدوليةِ، والتي تنطوي على سلوكيّاتٍ مركَّبةٍ بل وتبدو متناقضةً أحياناً. لكنّ هذا لا يَمنعُ أنّ المواجَهةَ الإيرانيةَ الإسرائيليةَ الأمريكيةَ حقيقيةٌ ومكلفةٌ لهم كافّةً، وهُم فعلاً على تضادٍّ قد يؤدّي يوماً ما إلى حربٍ حقيقيةٍ إذا تغيّرَت موازينُ القوى بينهم.
وهُنا يعلِّقُ علي بكير قائلاً بأنّ كلّاً من إسرائيل وإيران تسعَيان "لتوسيعِ نفوذِهما وتحقيقِ مصالحِهما في المنطقة، حيث تتشاركان ساحةَ الصراعِ في العالَمِ العربيّ. تَعتمِدُ إيرانُ على الأقلّياتِ الشيعيةِ والدولِ الفاشلةِ، وتَسعَى لكسبِ تأييدِ غالبيّةِ العربِ والمسلمينِ بالترويجِ لفكرةِ أنها تدافعُ عن فلسطين وتَسعَى لتدميرِ إسرائيل. في الوقتِ ذاتِه، تعملُ مَصلَحيّاً على الساحةِ الدوليةِ وفي المفاوضاتِ، مستغِلّةً هذا الخطابَ لتحقيقِ مَصالحِها الوطنية. هذه الازدواجيةُ تُمكِّنُها من تحقيقِ أقصى استفادةٍ من كلا الجانبَيْن. وكأَيِّ إستراتيجيةٍ، يتطلّبُ نجاحُ هذه الخُطّةِ تكاليفَ حقيقيةً يتحمّلُها وكلاؤُها الإقليميّون. ومع ذلك، تُعَدُّ تلك التكاليفُ زهيدةً لإيران مقارَنةً باللعباتِ التقليديةِ للقوى والأهدافِ المرجوّةِ منها. تُظهِرُ هذه الإستراتيجيةُ الإيرانيةُ عرضاً محسوباً للقوّةِ مدفوعاً بمصالحَ وطنيةٍ، مع أنّها لا تخلو من التحدّياتِ والمخاطر".
في حينِ لا تَعدُّ الولاياتُ المتحدةُ إيرانَ خطراً وجودياً على مصالحِها ولا تضعُ خططَ العودةِ عسكرياً إلى الشرقِ الأوسطِ، يتصاعدُ الخطابُ الإسرائيليُّ المؤيِّدُ لضرباتٍ استباقيةٍ ضدَّ إيران وقدراتِها النوويّةِ بالتوازي مع بناءِ قدراتٍ مستقبَليةٍ للقيامِ بها إمّا بمشارَكةِ الولاياتِ المتحدةِ أو بمعزل عنها، كما يطالِبُ المؤرِّخُ الإسرائيليُّ بيني موريس الذي دعا مؤخّراً إلى ضربةٍ نوويةٍ استباقيةٍ ضدَّ إيران قبل حصولِها على القنبلةِ النووية.
يقولُ بارسي: "التحدّي الذي تواجِهُه إيرانُ يكمنُ في انعدامِ خياراتٍ جيّدةٍ للردِّ دون المخاطرةِ بحربٍ شاملة. لقد أثبتَت إيرانُ قدرتَها على اختراقِ الدفاعاتِ الجويةِ الإسرائيليةِ، ممّا كَشَفَ عن هشاشةِ إسرائيلَ أمامَ أيِّ ردٍّ إيرانيٍّ محتمَل. لكنْ في الوقتِ ذاتِه، يبدو أنّ إيرانَ تعوزُها القدرةُ على توجيهِ ضرباتٍ دقيقةٍ من شأنِها منعُ إسرائيلَ من التصعيد. وخِلافَ إسرائيلَ، لا تسعى إيرانُ إلى حربٍ واسعةِ النطاق".
أمّا بكير فيَختمُ قائلاً: " تشتركُ إسرائيلُ مع إيران في الأهدافِ نفسِها لكنّها تَستخدِمُ أدواتٍ مختلفة. فهي تعتمدُ على دعمٍ عسكريٍّ، ماليٍّ، اقتصاديٍّ ودبلوماسيٍّ ثابتٍ وغيرِ مشروطٍ من الولاياتِ المتّحدة. وتسعَى إلى تطبيعِ وجودِها في المنطقةِ بتأمينِ دعمِ النُخَبِ الحاكمةِ العربيةِ بدلاً من القاعدةِ الشعبية. بتصويرِ إيرانَ تهديداً مشترَكاً، تستفيدُ إسرائيلُ بذكاءٍ من الفوضى التي تثيرُها إيرانُ، بينما تُوسِّعُ نفوذَها وحضورَها في المنطقة. والمفارقةُ هنا هي أنّ وجودَ كلٍّ من إيرانَ وإسرائيلَ يَخدِمُ أهدافَ الأُخرى في توسيعِ نفوذِها وقوّتِها، إذْ تَستخدِمُ كلٌّ منهما الأُخرى ورقةَ تهديد".