مرَّ الزمنُ وتوفّيَت زوجةُ قريبٍ لي قبل سنتَين. ركض وحيداً مهموماً من مكانٍ إلى آخَرَ من أجل إجراءات الدفن، إذْ رَفَضَت دارُ الإفتاء اللبنانيةُ طلبَه دفنها في مقبرة صيدا الجديدة لأن زوجته فلسطينيةٌ أردنية. يائساً بحثَ عن مَخرجٍ إلى أن توسّط له بعضُهم عند دار الأوقاف الإسلامية فمنحوه موافقةً استثنائيةً على دفنها في "قِسم الغرباء" من المقبرة. لَم أعلمْ مِن قَبلُ بوجود هذا القسمِ الذي خُصِّص لدفنِ غيرِ اللبنانيين من العرب، بعد حصول ذويهم على موافقةٍ من المفتي. هي أرضٌ محدّبةٌ، تملؤها الأعشاب البرّية والأشواك، وفيها قبورٌ بلا شواهد تشبه بيوت المخيّم المتهالكة. بعضها مساحةٌ ترابيةٌ محدّدةٌ بالطوب أو الإسمنت، وأُخرى مسوّاةٌ بالأرض بلا أسماء ولا تواريخ ميلاد أو وفاة، ولا نبات ولا ورود تزيّنها أو أشجار تظلّها. يومَها أدركتُ أنَّ "قِسم الغرباء" قد لا يكون إلا مساحةً موازيةً للّجوء والتغرّب والمخيّم.
دأبَ اللاجئون الفلسطينيون على ترديد عباراتٍ قاسيةٍ في وصف معاناتهم في الحياة، مثل مقولة "نعيش كالأموات"، لكنّ ذلك لَم يُثِرْ فضولَ أحدٍ ليَسأل كيف يموتون. ففي بلدٍ يَحرِمُهم كثيراً من الحقوق المدنية والإنسانية تُجسِّد مقابرُ اللاجئين معاناةً أُخرى تمتدّ إلى دفن الموتى، بل بات يشاركهم حديثاً بهذا الغبن لاجئون سوريون ومقيمون عرب. يشمل هذا الأعباءَ المادّية وعوائق الدوائر الحكومية والأمنية والأعراف والقوانين التمييزية للدولة اللبنانية، ممّا يزيد لوعةَ الفقد، فيعيش الأحياءُ حزناً مضاعفاً بذريعةِ أن لا وقتَ للحزن إنما لامتثال القانون. برز هذا في صيدا، لا سيّما في مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين، حيث نشأتُ وترعرعت. ومن المشاهدات والتجارب في مقابر مدينة صيدا المحاذية للمخيم والعاصمة بيروت، وإنشاء مقابر المخيمات البديلة، ومواقف الناس منها، أسردُ قصصاً غيرَ محكيّةٍ، مختبئةً وراء الشعارات المكتوبة على شواهد القبور. وفي هذه القبور مادّةٌ غنيّةٌ لفهم جانبٍ من ذاكرة اللجوء الفلسطيني في لبنان قد لا يكون حاضراً عند الجميع. وفي القلب من هذا كلّه حقيقةُ أن غربةَ الحياة قد لا تنتهي بمواراة الثرى بعد الممات.
وكان المخيّم قد استقبل قادمين جدداً لا سيّما من مخيماتٍ فلسطينيةٍ أُخرى طالها الحصارُ أو التدمير، مثل مخيّم النبطيّة جنوب لبنان الذي دمّرَته إسرائيل بالطائرات سنة 1974، ومخيّم تلّ الزعتر شرق بيروت الذي دمّرَته ميليشيا الكتائب اللبنانية سنة 1976 إبّان الحرب الأهلية اللبنانية، ومخيّم نهر البارد شمال لبنان الذي دمّرَه الجيش اللبناني سنة 2007 بعد معركةٍ داميةٍ مع جماعة فتح الإسلام الغريبة عن المخيم. ومع هذا لَم تَزِدْ مساحةُ المخيّم البتّة.
للمخيّم اليومَ أربعةُ مداخل رسميةٍ، فيها حواجز للجيش اللبناني تسيطر على حركة الداخلين والخارجين. ويحيط به جدارٌ إسمنتيٌّ بارتفاع ستّة أمتارٍ، وأبراج مراقبة. استُحدِثَت هذه الإجراءات بعد اتفاق أوسلو منتصف التسعينيات، إذ صُنِّفَت المخيّماتُ الفلسطينية مناطقَ أو "بُؤَراً أَمنيّة". وهذا من عوامل تقييد توسّعها بلا مراعاةٍ لزيادة السكّان الطبيعية فيها. تمدّدَ المخيّمُ رأسيّاً وضاقت أزقّته الضيّقة أصلاً، فباتت الجنازاتُ مناوراتٍ بين ظهرانَيه، حتى أن النعوش صارت أحياناً تُحمَل عمودياً أو تُنقَل من الأسطح عند تعذّر المشي بها أفقياً.
تحت وطأة الحاجة والوقائع الاجتماعية المستجدة، اشترت جهاتٌ فلسطينيةٌ بعضَ الأراضي المهمَلة المحيطة بالمخيّم جنوباً وخصّصَتها لدفن الموتى. فصارت تجمّعاً فيه ثلاثُ مقابر، وقد تزيد. كلّما دخلتُ إلى هذه المقابر أذهلَتني سرعةُ امتلائها. أمّا المقبرة الجديدة هنا فبِالكاد نما فيها الغرسُ، وهي التي افتُتِحَت سنة 2012 بسعةِ اثني عشر ألف قبرٍ، إنما لا مكان فيها لقبرٍ جديد. لذا يَلجأُ الناسُ إلى فتح قبور أقاربهم القديمة من أجل دفن موتاهم الجدد فوقهم، بما في ذلك من إشكاليةٍ شرعيةٍ، إذْ يُشترَط وفقاً للعقيدة الإسلامية أن يكون الجسد قد بَلِيَ للدفن فوقه.
ولكن لا يمكن إثباتُ ذلك إلا بعد نبش القبر لاكتشاف إمكانية الدفن. يقول فؤاد عثمان، عضوُ اللجنة الشعبية في المخيم، إنّهم اضطُرّوا "إلى فتح قبورٍ لَم يمرّ عليها وقتٌ كافٍ للتحلّل" لدفن موتى جدد. كان هذا التصريحُ قبل أكثر من عَشر سنوات. والآن لو تجوّلتَ في مقابر المخيّم، لا سيّما مقبرة درب السيم الأقدم، فليس غريباً أن تجدَ على شاهد القبر مثلاً ثلاثةَ أو أربعةَ أسماء. وباتت هذه القبور كالبيوت التي تتوارثها العائلات. تحفظُ قصصَهم وذكرياتِهم وتعزّز روابطَهم كشجرة العائلة الثابتة بجذورها، ممّا يَمنح الاستقرارَ والانتماءَ وينفي عنها صفةَ "المؤقَّت".
جُمعَت آلافُ الجثث من ضحايا مجزرة صبرا وشاتيلا التي ارتكبَتها ميليشيا القوّات اللبنانية بمؤازرة الجيش الإسرائيليّ، ودُفِنَت على تخوم مخيّم شاتيلا ببيروت في أثناء الاجتياح الإسرائيليّ لبنانَ في سبتمبر 1982. وفي مخيّم برج الشماليّ شرق مدينة صور، تحوّل الملجأُ الذي احتمى به بعضُ أهالي المخيّم عند الاجتياح إلى مقبرةٍ جماعيةٍ بعد أن قصفَه الطيرانُ الإسرائيليّ في الخامس من يونيو 1982، وقتل 125 شخصاً معظمهم من النساء والأطفال. تكرّرَ الأمر في أثناء حرب المخيّمات سنةَ 1985، وشكَّلَت رأسَ الحربة فيها حركةُ أمل الشيعية المدعومة من نظام حافظ الأسد. أتى هذا بعد انسحاب غالبية مقاتلي منظمة التحرير إلى دولٍ عربيةٍ، بينما حَمى المخيّماتِ الفلسطينيةَ بقايا فدائيين فلسطينيين وحلفاؤهم اللبنانيون، مثل الحزب التقدمي الاشتراكي بزعامة وليد جنبلاط.
كان الهدفُ المعلنُ درءَ التمدّد الفلسطيني في لبنان. وانتهى الأمرُ بفرض حصار على عددٍ من المخيّمات الفلسطينية وقصفها. وتبع هذا إلغاءُ الدولة اللبنانية اتفاقَ القاهرة سنة 1969. في أثناء حصار مخيّم شاتيلا الذي دام أكثرَ من ثلاث سنواتٍ، دفن الأهالي أكثرَ من مئة قتيلٍ في جامع المخيّم الذي صار مقبرة. وبعد انتهاء الحرب أُنشئ فوق المقبرة جامعٌ جديد. وبعد 1985 في معارك شرق صيدا بين القوّات اللبنانية بقيادة سمير جعجع والفصائل الفلسطينية. ومع تدهور الأوضاع الأمنيّة في مخيّم عين الحلوة وزيادة عدد الوفيات بين اللاجئين الفلسطينيين، استُحدِثت مقابرُ في المخيّم "بتمنّن" من دار الأوقاف الإسلامية. سهّلت هذه المقابرُ أمورَ أهالي المخيم فصاروا يدفنون موتاهم في مخيّمهم، وظلّ اللاجئون من سكان مدينة صيدا يدفنون موتاهم في مقبرة صيدا القديمة إلى أن امتلأَت سنة 2000. أُغلقَت المقبرةُ حينئذٍ واقتصرَ دخولُها من حينِه على الزوّار، محافظةً على ملامحها القديمة.
لمستُ ذلك في زيارتي الأخيرة لها في عيد الفطر سنة 2024، مع صديقٍ يعيش في كندا جاء لزيارة قبر والده، بعد أن مرَّ أكثرُ من سبع سنواتٍ على زيارته الأخيرة. أمّا أنا فكنتُ أزور قبرَ جدّتي غربَ المقبرة. استوقفَتني قبورٌ كبيرةٌ مسوّرةٌ وحولَها عدّةُ مقاعد. لَفَتَني ما خطّه اللاجئون على شواهد القبور: آيةٌ قرآنيةٌ أو كلمة "الفاتحة"، واسمُ الميت وقريتُه في فلسطين، حتّى وإنْ وُلِدَ في عين الحلوة. قبور الشهداء والمقاتلين كُلِّلَت بشعاراتٍ ثوريةٍ على غرار "عائدون"، وأسماء فصائل وأحزاب ما عدنا نسمع بها. وكتاباتٌ أُخرى على القبور توثّق كيفية الموت: هذا مات غرقاً، وآخَرون فلسطينيون ولبنانيون قضوا نحبَهم بالقصف الإسرائيلي على المدينة. أحدُ ساكني القبور قُتل في تنفيذ عمليةٍ فدائيةٍ، وآخَرُ في اشتباكٍ مسلّحٍ في معارك شرق صيدا في الثمانينيات.
افتُتِحَت مقبرةٌ جديدةٌ عند إغلاق القديمة، وبات اسمُها "مقبرة صيدا الجديدة" أو "سيروب"، بين مخيّم عين الحلوة غرباً وقرية المية ومية شرقاً. المقبرة منظّمة ومقسّمة إلى رياضٍ وطرقٍ وممرّاتٍ واسعةٍ ومشجّرة. خُصّصَت المقبرة أساساً للّبنانيين، لكن بحكم العرف الذي ساد في المقبرة القديمة بات ممكناً للاجئين الفلسطينيين في المنطقة الدفنُ فيها إذا كان لديهم قريبٌ من الدرجة الأولى مدفونٌ في المقبرة القديمة. وقد أصبح ذلك عرفاً أقوى من القانون.
أخبرَني مسؤولٌ في الشؤون الاجتماعية لمنظمة التحرير الفلسطينية، أن موظّفاً ذا شأنٍ في دائرة الأوقاف الإسلامية اللبنانية أخبَره أن الفلسطينيين يموتون بكثرةٍ و"يَحتلّون" المقبرة بسرعةٍ، فلَن يتركوا مكاناً للموتى اللبنانيين. لذا حُصر دفنُ الفلسطينيين في مقبرة صيدا الجديدة لمن له قبرٌ في المقبرة القديمة فقط، وإلّا فليس أمامه سوى مقبرة المخيّم المكتظّة أصلاً. لم يُغيّر ذلك شيئاً كثيراً في حياة أهالي المخيم، لكنه عقّد حياةَ اللاجئين الفلسطينيين من سكّان المدينة. فهناك فئةٌ من الفلسطينيين سكنوا المدن منذ لجوئهم إلى لبنان سنة 1948 وتزوّجوا وأنجبوا أطفالاً لا يعرفون المخيّم. فإن لم يكن لديهم قبرٌ في المقبرة القديمة تَحتّم عليهم الدخولُ إلى المخيّم والدفنُ في مقابره، ممّا أدّى إلى زيادة الضغط على مقابر المخيم، والتي يراها كثيرون خيارَ من لا خيار له.
عوامل عدّةٌ لا تشجّع الناسَ على الدفن في مقابر المخيّمات، أهمّها غياب الحماية والحصانة للمخيّمات ولمقابرها. ما زلت أذكر سنة 1982 في أثناء الغزو الإسرائيلي كيف دُمّر مخيّم عين الحلوة، وكيف حوَّلت ميليشيا القوّات اللبنانية مقبرةَ درب السيم، حيث دُفن جدّي، إلى ملعب كرة قدم. وفي الذاكرة حوادث مشابهةٌ في مخيّماتٍ أُخرى. فمثلاً بعد تدمير مخيّم نهر البارد وإعادة إعمار أجزاءٍ منه، فإن الأهالي الذين رجعوا إلى منازلهم لَم يتمكّنوا من دفن موتاهم في مقبرة مخيّمهم لأنها صُنّفت منطقةً أمنيةً، ممّا فرضَ إجراءاتٍ قانونيةً ومفاوضاتٍ سياسيةً لإعادة فتحها. في ذلك الوقت توجّه أهل المخيم إلى مخيم البداوي، الذي يبعد عنهم قرابةَ ثلاثين كيلومتراً شمال مدينة طرابلس. وتعصف بالمخيم أحداثٌ أمنيةٌ كلَّ حينٍ تؤدّي إلى نزوح سكّانه. وعقب هذه الحوادث، تُشلّ الحركة في المخيم، وتُقفَل مداخله، ممّا يجعل الدخول إليه والخروج منه أمراً معقّداً. ناهيك عن التضييق والمعاناة التي تسبّبها الحواجز العسكرية عند مداخله. هذه التجارب تُبقي القلق وهاجس عدم الاستقرار حاضرَيْن في أذهان اللاجئين، فيطمحون إلى الحصول على قبرٍ في المدينة علّه يؤمّن لموتاهم سلاماً واستقراراً.
فمع أزمة الاقتصاد اللبناني التي بدأَت سنةَ 2019 وارتفاع الأسعار والتضخّم العميق الذي تلاها، بات الموتُ مكلفاً، خصوصاً أنّ أكثرَ من ثلثَيْ أهل المخيم يعيشون في فقرٍ مدقعٍ، بينما تجاوزَت نسبةُ البطالة 80 بالمئة بين أبنائه. أخبَرَني بعضُ معارفي ممّن عايشوا تجربة الفقدان بأن كلفة القبر في مقبرة صيدا الجديدة خمسمئة دولارٍ أمريكيٍّ، بينما تتراوح بين خمسة آلاف وعشرة آلاف دولارٍ في مقبرة بيروت. ناهيك عن كلفة تجهيز القبر وأُجرة قاعة التعازي والضيافة؛ وهنيئاً لمن مات من غير مرضٍ ووفَّر على أهله أجورَ المستشفى. من هؤلاء قريبٌ لي في منطقة صبرا بمحاذاة مخيّم شاتيلا في نواحي بيروت، ذهبتُ لتعزيته بوفاة ابنه الشابّ قبل سنتين. بدلاً من شرح ظروف وفاة ابنه المأساوية، قال: "انتوا بصيدا نيّالكم القبر عندكم ببلاش". وأخبَرَني أن التكلفة عندهم عشرة آلاف دولارٍ تقريباً. سألتُ بفضول: وإن لم يتوفّر المَبلغ؟ قال: "يُرمى الميتُ في خشخاشة"، وهي غرفةٌ لها فتحةٌ من الأعلى يُوضع فيها كلّ من لا يستطيع الدفعَ أو ليس له أقارب، بصرف النظر عن جنسه أو جنسيته أو دينه.
ثمّ أخبَرَني عن امرأةٍ يعرفها تُوفّيَت، ولمّا تأخَّر ابنُها في الوصول من خارج البلاد، رُميَت جثّتُها في تلك الخشخاشة. فدفع ابنُها مبلغاً كبيراً لأحد العاملين في المقبرة لإخراجها ودفنها في قبرٍ مناسب. بفضولٍ يشوبه الشجن، ذهبتُ في اليوم التالي إلى المقبرة للبحث عن تلك الخشخاشة. لكن العمال القائمين عليها رفضوا الحديث عن الموضوع وأشاروا عليَّ أن أراجع دار الإفتاء. لكنني لم أفعل بل توجّهتُ إلى مقبرة شاتيلا المقابلة، التي كانت مخصّصةً لشهداء الثورة الفلسطينية سابقاً، وهي اليوم تكاد تكون المقبرة الوحيدة للفلسطينيين في بيروت.
لن يتفاجأ زائر تلك المقبرة إن رأى قبراً للاجئٍ عاديٍّ بجوار قبور مناضلين معروفين مثل مفتي فلسطين الحاجّ أمين الحسيني، أو الأديب غسان كنفاني أو الشاعر كمال ناصر، أو مناضلين أجانب من الجيش الأحمر الياباني قضوا نحبَهم مع الثورة على طريق النضال المشترك. وجدتُ في المقبرة اثنين من العمال يجلسان مستندَيْن كلٌّ إلى قبرٍ يأكلان طعام الغداء. بعد التحية ومحادثةٍ قصيرةٍ سألتُهما عن كلفة القبر للتأكد من بعض الحكايات التي سمعتُها. قالا إنّ كلَّ شيءٍ مُكلفٌ، لكن المراسم تختلف. ذكر أحدُهم، وقد اعترتني الدهشة، أن بعض قرّاء القرآن المحترفين ينتقون ما يقرؤونه على الميت من آياتٍ وفق الوضع الماديّ للميت ومدى تكرّم أهله على المقرئ. فإن أغدقوا عليهم، قرؤوا لهم آياتٍ عن الجنّة والنعيم، وإن لم يُكرموهم، قرؤوا آياتٍ عن النار والعذاب.
وقال آخرون لي في أثناء جولتي إن الأعباء المادّية جعلَت بعض أهالي مخيّمات بيروت، أي شاتيلا وبرج البراجنة ومار الياس وضبية، يتوجهون جنوباً لدفن موتاهم في مخيّم عين الحلوة أو في مقبرة سبلين التي افتُتِحت في إقليم الخروب، غرب قضاء الشوف، قبل عقدٍ ونصف. هي مقبرةٌ نَصِفُها من باب التهكّم بأنها "منطقة حرّة" تستقبل الأموات من مختلف الجنسيات، لا سيّما الفلسطينيين، الذين تلفظهم مقابر المدن سواء لعدم تمكنهم من دفع الكلفة أو لعدم استيفائهم الشروط التمييزية التي سنَّتها الدولة اللبنانية. وكان زعيم الطائفة الدرزية ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، وليد جنبلاط، قد تبرَّع بأرض المقبرة من ماله لحلّ مشكلات الدفن للّاجئين الفلسطينيين، وتكفّلَت الأونروا بتنفيذ المشروع. وتبدو المسافةُ البعيدة بين بيروت وصيدا، التي تتجاوز الأربعين كيلومتراً، وكلفةُ المواصلات والنقل، تحدّياً يحولُ دون زيارة الفلسطينيين قبورَ ذويهم والاعتناء بها.
وأخبَرَني أحدُ مخاتير مدينة صيدا، فضَّل عدم ذكر اسمه في النصّ، أنه كان يتعيّن على أهل الميت منذ سنة 2000 تسجيلُ الوفاة واستصدارُ شهادةٍ لهذا الغرض بنحو ثلاثين دولاراً ثمّ تقديمها إلى دائرة شؤون اللاجئين في بيروت. ويُجازَى المتخلّفون بدفع غرامةٍ بقيمة 225000 ليرة لبنانية، كانت تعادل مئةً وخمسين دولاراً، عن كلِّ مخالفةٍ تتجاوز الأربعين يوماً. لكن في ظلّ إقفال الدوائر الرسمية أو دوام بعضها دواماً جزئياً بعد الأزمة المالية منذ خمسة أعوامٍ، وما صاحَب ذلك من اختفاء الطوابع الأميرية أو صعوبة الحصول عليها، باتت هذه المهمّة شاقّةً جداً.
لذلك صار الناس في المخيّم يلجَؤون إلى مُعقّبي المعاملات والمخاتير الذين يتقاضون مبلغ مليون ليرةٍ لبنانيةٍ على الأقلّ لدفع هذه الغرامة. وبالعرف المحلّي فالمختار اللبنانيّ هو حلقة الوصل بين السلطات من جهةٍ والمواطن والمقيم واللاجئ من جهةٍ أُخرى. فمن يحتاج مثلاً إلى تصديقٍ أو إصدار معاملة حكومية مثل ورقة إثبات سكنٍ، فطريقه يبدأ بطلبٍ يصدّق عليه مختارُ منطقته قبل إرساله للسراي، الجهة الحكومية المخوّلة. قال لي المختار إنه إذا كان ثمّة مخالفة عدم استخراج شهادة وفاةٍ قبل سنة 2000، فيتطلّب هذا تنظيمَ وثيقةٍ جديدةٍ، واستدعاء شهودٍ، ثمّ يحوَّل الأمرُ كلّه إلى أقرب مركز شرطةٍ لمكان الوفاة للبتّ فيه. يخضع الشهود والمختار للتحقيق، وغالباً ما يصعب تنفيذ تلك التسويات. علاوةً على ذلك، يواجه الذين يعجزون عن تسديد كلفة الاستشفاء الباهظة معاملةً قاسيةً، إذْ تُحجَز جثّةُ ميتِهم حتّى دفعِ المبالغ المترتّبة عليهم. فُرض أيضاً علينا نحن سكّانُ مخيّم عين الحلوة، ومثلنا مخيّماتٌ أُخرى للاجئين في لبنان، الحصولُ على تصريحٍ خاصٍّ من ثكنة الجيش اللبناني على مشارف المخيّم لإدخال أيّ جنازةٍ أو إخراجها من المخيّم وإليه.
واعتاد أهلُ المخيّم مشاهدةَ وصول الجنازات أو خروجها من حاجز الجيش اللبناني على مدخل المخيّم بعد خضوعها للتفتيش والتقصّي. في كثيرٍ من الأحيان كان يكشف أفراد الأمن اللبنانيين عن وجه الجثّة للتحقّق منها، وتُسجّل أحياناً بعض المناوشات، لا سيّما إذا كانت جثّة امرأةٍ، كما حصل مع أحد جيراني. قال لي إن حرمة الكشف عنها استثارت حميّة الرجال لما رأوه تعدّياً على شرف عائلاتهم وذويهم. إلّا أن عنصرَ الأمن المكلّفَ بمرور الجنازة يتساهل بالتأكّد من الجثّة أو الكشف عن هويّتها، من باب التعاطف أو عدم المبالاة. وحين لا يكون للميت من يقوم بمعاملات الدفن ويؤمّن المستندات المتعلقة، أو في العطل الرسمية، يؤجّل الدفن ساعاتٍ وأحياناً أياماً، ما يتعارض مع العرف الشرعي الإسلامي بتعجيل مواراة الفقيد الثرى.
وأحياناً تحتاج بعض حالات موتٍ إلى تقديم أدلّة جنائية. وبعد فتح ملفّ الميت لا يمكن دفنه إذا تبيّن أن عليه قضايا جنائيةً أو حتى مخالفات سيرٍ إلّا بعد تسويتها. يزداد الأمر تعقيداً مع اللاجئين الفلسطينيين من سوريا والسوريين، خاصّةً أولئك الذين ليس لديهم إقاماتٌ أو انتهت صلاحية إقاماتهم. فهؤلاء لا يمكنهم الحصول على شهادات وفاة. وثانياً، لا تستقبلهم مقابر اللبنانيين أساساً حتى إن كان لديهم إقاماتٌ قانونيةٌ وكانوا مقتدرين. ونظراً لكلفة نقل الجثمان الباهظة إلى سوريا والإجراءات الأمنية المعقّدة على الحدود، يفضّلون الدفن في لبنان. ومن يحصل منهم على وساطةٍ من المفتي شخصياً يُدفن في مقبرة الغرباء، أو عليه أن يؤمّن قبراً في المخيّم.