نَشَرَ المجلسُ السوريُّ البريطانيُّ في يونيو 2024 تقريراً استقصائياً أُعِدَّ في سنةٍ كاملةٍ عن جرائمِ أعضاءِ الاتحادِ الوطنيِّ لطلبةِ سوريا في جامعةِ دمشق بين عامَيْ 2011 و 2013. منها التهجّمُ على المتظاهرين في الاحتجاجاتِ السِلميةِ، والاعتقالُ التعسفيُّ للطلبةِ المُشتبَهِ في نشاطِهم المناهِضِ للنظامِ، والتعذيبُ بالضربِ والصعقِ، والتعنيفُ النفسيّ. والمجلسُ السوريُّ البريطانيُّ مؤسسةٌ مُناصِرةٌ سوريةٌ تسعى إلى "محاسَبةِ المتورِّطين في انتهاكاتِ حقوقِ الإنسانِ وجرائمِ الحربِ والجرائمِ ضدَّ الإنسانيةِ على أفعالِهم".
تأسّسَ الاتحادُ الوطنيُّ لطلبةِ سوريا، والمعروفُ اختصاراً "اتحاد الطلبة"، قبل ثورةِ 2011 بنصفِ قرنٍ تقريباً. كان هدفُه الظاهريُّ الدفاعَ عن مصالحِ الطلبةِ السوريّين والسوريّاتِ. وله فروعٌ في الجامعاتِ كافّةً تتبعُ قيادتَه المركزيةَ المسؤولةَ عن المستوَى الوطنيّ. لكنّ الوظيفةَ الفعليةَ لاتحادِ الطلبةِ بعدَ 2011 كانت التعاونَ مع المخابراتِ وأذرُعِها الأخطبوطيةِ الممتدّةِ في شبكةٍ واسعةٍ من المخبِرين وأجهزةِ التنصّتِ ومنظّماتِ المجتمعِ المدنيّ. تَصِلُ هذه الأذرُعُ تفاصيلَ الحياةِ اليوميةِ كافّةً، مثيرةً مشاعرَ الذعرِ والرِيبةِ بين المواطنين.
ويمكنُ النظرُ للاتحادِ من جهةٍ أُخرى على أنه مصنعُ تصديرِ أجيالٍ جديدةٍ من الموالين للنظامِ. تقولُ نحلاوي: "اتحادُ الطلبةِ هو أيضاً، من زاويةٍ أُخرى، طريقةٌ ممتازةٌ لاستمالةِ بعثِيِّي المستقبلِ وتدجينِهم. ففيهِ يُنتقَى القادةُ الشبابُ ويُمنَحون سُلَّماً يصعَدونه نحوَ أكثرِ المناصبِ نُفوذاً في البلادِ. والكثيرُ من أعضاءِ الاتحادِ السابقِين أصبحوا مسؤولين كباراً في مختلفِ المحافظاتِ".
منذ تأسيسِ الاتحادِ عامَ 1963 ترأَّسَه خمسةُ رؤساءٍ فقط، فقد كان واحدُهم يُعمَّرُ في المنصبِ سنواتٍ طويلةً حتى بعد مغادرتِه مقاعدَ الدراسة. ومِن أولئك الذين صَعدوا سُلَّمَ مناصبِ النفوذِ عمّار ساعاتي. فقد رَأَسَ الاتحادَ سبعَ عشرةَ سنةً ولَم يَتردّدْ في تحويلِه وَكْراً للمعتدين على الطلّاب بعد 2011. ويُتّهَمُ ساعاتي أيضاً بتأسيسِ "كتائب البعث" التي بدأَت برجالِ عصاباتٍ متطوِّعين وأصبحَت جزءاً من القوّاتِ المسلّحةِ السوريةِ. واليومَ ما زال ساعاتي عضواً في اللجنةِ المركزيةِ لحزبِ البعثِ، وقد ذاعَ صيتُه لكثرةِ ورودِ اسمِه على قوائمِ العقوباتِ.
ومِن أعضاءِ الاتحادِ البارزين أيضاً عمر أحمد العروب، المتّهَمُ بالضلوعِ في قمعِ الاحتجاجاتِ الطلابيةِ بطريقةٍ أثارَت قلقاً دولياً. وكادَ العروبُ أن يرأسَ الوفدَ السوريَّ إلى دورةِ الألعابِ الأولمبيةِ في باريسَ صيفَ 2024، قبل أن تَستبعِدَه اللجنةُ الأولمبيةُ الدوليةُ استجابةً لمُطالباتٍ وعرائضَ تقدّمَ بها ناشطون ومنظّماتٌ وذوو بعضِ ضحايا التعذيبِ في سوريا. والعروبُ عضوٌ في المكتبِ التنفيذيِ للاتحادِ ورئيسٌ سابقٌ لفرعِ حلبَ بين سَنَتَيْ 2000 و 2010. وقد كانَ مسؤولَ ارتباطٍ بين قيادةِ الاتحادِ في دمشقَ ورؤساءِ أجهزتِه في حلبَ، وأَسهَمَ في تجنيدِ الطلبةِ وتنظيمِهم في شبكاتِ المخابراتِ السوريةِ.
بَدَأَ عملُ صالح محلياً، مركّزاً على الفِرَقِ الرياضيةِ والمعسكراتِ الطلابيةِ. وقد كانت وظيفتُه إبقاءَ الطلابِ تحت السقفِ المسموحِ به، أي تحتَ مظلّةِ اتحادِ الطلبةِ وتحت مظلّةِ الدولةِ، وبالتالي منعَ أيِّ فعلٍ سياسيٍّ أو مدنيٍّ مستقلّ. أكّدَ صالح أنه تورّطَ في هذه الوظيفةِ دون أن يَعِيَ أنه عملياً يتجسّسُ على زملائِه، وأن لا شيءَ ممّا يفعلُه يخدمُ مصالحَهم. لكنه كان في الوقتِ نفسِه صديقاً لمنظِّمِي الاحتجاجاتِ الأوائلِ ضدَّ النظامِ، لا سيّما احتجاجاتِ التضامنِ مع ليبيا أواسطَ فبراير 2011.
وإبّان عملِه في الاتحادِ وطَّدَ عمادُ علاقتَه بعمر العروب. فهو يصفُه بأنه كان "صديقاً حميماً، للأَسفِ". تعارَفا أوّلاً في اتحادِ الطلبةِ ثمّ تقارَبا لاحقاً وتعرّفَ كلٌّ منهما على عائلةِ الآخَرِ. وقتَها أدركَ صالح أن دَورَه ليس إلّا تُرساً صغيراً في آلةِ قمعٍ عملاقةٍ. كان اتحادُ الطلبةِ يغلي منذ وصلَتْ أخبارُ الثورةِ التونسيةِ حتّى قبلَ أن تبدأَ الاحتجاجاتٍ في سوريا. يروي صالح أن الاستعداداتِ بدأَتْ منذ تلك اللحظةِ، وحُشِدَت المواردُ وانطلقَت حملةٌ استباقيةٌ لمنعِ جميعِ أشكالِ الحراكِ الشعبيِّ المشابهةِ. وبدأَ بالتوازي تحضيرُ سَرديّةٍ ملائمةٍ لمصالحِ النظامِ. أُرسِلَ العروبُ إلى حلبَ ليقودَ هذه الحملةَ الاستباقيةَ هناك.
في الخامس من فبراير 2011 اعتُقِل غسان النجا البالغُ 73 عاماً لمحاولتِه تنظيمَ مظاهرةٍ ضدَّ نظامِ الأسدِ. كان العروبُ قد جمعَ طلاباً من جامعةِ حلب ووزَّعَهم في مبانٍ متعدِّدةٍ للإجهازِ على كلِّ الاحتجاجاتِ أو الأنشطةِ المشبوهةِ. يَذكُرُ صالح أنهم "كانوا على استعدادٍ كاملٍ لقمعِ أيِّ احتجاجٍ، وكانوا مُتفانِين في محاولاتِ تجنيدِ الطلابِ وإيجادِ أدواتِ ردعِ تَحُولُ دون أيِّ حراكٍ في الجامعاتِ".
كان حرمُ كليةِ الآدابِ مسرحَ أوّلِ مظاهرةٍ في جامعةِ حلبَ في الثالثِ عشرَ من أبريل 2011. كان اتحادُ الطلبةِ متأهِّباً، فقد ملأَ صفوفَه بمجنَّدين من معاهدِ التربيةِ الرياضيةِ، ربما مِن بابِ التعويلِ على قدراتِهم البدنيةِ العاليةِ. وربما لأن العروبَ مسؤولُ المعاهدِ المتوسّطةِ في اتحادِ الطلبةِ وله علاقاتٌ واسعةٌ بين طلابِ المعاهدِ. كان لعناصرِ الاتحادِ صلاحياتُ ترهيبِ كلِّ مَن يتجرَّؤون على إعلانِ معارَضةِ النظامِ بما في ذلك إيذاءُ المقرَّبين منهم ولو لَم يكونوا معارِضين. كانت الغايةُ توزيعَ الأَذَى عشوائياً وبَثَّ الفُرقةِ والتحريضَ على دعاةِ الاحتجاجاتِ.
كان عناصرُ الاتحادِ، بتعاونٍ وثيقٍ مع أجهزةِ المخابراتِ، يشنّون هجماتٍ بالغةَ القسوةِ على مجمَلِ الاحتجاجاتِ التي تَشهدُها الجامعةُ توازياً مع كلِّ زخمٍ جديدٍ يكتسبُه الحراكُ الاحتجاجيّ. يَذكرُ شهودٌ في تقريرِ المجلسِ السوريِّ البريطانيِّ تفاصيلَ كثيرةً عن الشتائمِ المقذعةِ والهجوم بالهراواتِ وإرهابِ الطلّابِ بتطويقِهم بالمسلَّحين. ويؤكِّدُ التقريرُ عمقَ التعاونِ بين عناصرِ الاتحادِ وأجهزةِ المخابراتِ، فقد كانت الحافلاتُ الحكوميةُ تنقلُ مسلَّحين يرتدون الزيَّ العسكريَّ إلى الجامعةِ فكان هؤلاءِ يشنّون هجماتِهم المنسَّقةَ جنباً إلى جنبٍ مع أعضاءِ الاتحادِ.
كانت هذه لحظةَ تحوّلٍ في وعيِ عماد صالح. يقول: "شعرتُ في تلك اللحظةِ أن عضويَّتي في الاتحادِ خطأٌ جسيمٌ، وأدركتُ أن الاتحادَ مصمَّمٌ من أجلِ قمعٍ كهذا في لحظاتٍ كهذه". استمرّتْ عضويةُ صالح في الاتحادِ بضعةَ أشهرٍ أُخرى شهدَ فيها قمعَ أشكالِ الاحتجاجِ كافّةً في حرمِ الجامعةِ "بمنتهى القسوة". كان هناك أشخاصٌ ليسوا من الاتحادِ، منهم تجّارُ مخدِّراتٍ من عشائرِ الريفِ، قَدِموا إلى حلبَ للمشاركةِ في سحقِ المحتجِّين السِلميِّين. كان هؤلاءِ العناصرُ يقتحمون سَكَنَ الطلابِ بعد تفريقِ المظاهرةِ وقلّما يرتدِعون عن إيذاءِ كلِّ من يُشتبَهُ بمشاركتِه خصوصاً القادمين من مناطقَ "معادية". كانوا يحطِّمون الحواسيبَ أو يمزِّقون الأوراقَ الدراسيةَ مِن رسوماتٍ ومسوّداتٍ وما شابَهَ. وويؤكِّد صالح بأنّ الاتحادَ لَم يَأْلُ جهداً في سحقِ الاحتجاجاتِ وإجبارِ المشارِكين فيها على التراجعِ. وقد شهدَ بنفسِه أعضاءَ الاتحادِ يقبِضون على طلابٍ ويسلِّمونهم إلى قوى الأمنِ "تقريباً في كلِّ مَرّةٍ". في مرّاتٍ نادرةٍ كان المعتقَلُ ينالُ حرِّيتَه لاحقاً لكنّ الأرجحَ كان التغييبَ والإخفاءَ. كثيرون ممّن اعتُقِلوا آنذاك انقطَعَ أثرُهم تماماً.
يؤكِّدُ صالح للفِراتْسِ أنه لَم يَرتكِبْ جريمةً طُوالَ عملِه مع اتحادِ الطلبةِ ولكنّه شَعَرَ أنّ مجرّدَ عضويّتِه جريمةٌ. كان له أقاربُ معتقَلون، وكان يعرفُ ما سيحِلُّ به لو تسرّبَ موقفُه الحقيقيُّ. كان زميلُه في الاتحادِ قد شَكّكَ في فكرةِ تجنيدِ عناصرَ خارجيّين ما تسبّبَ باعتقالِه مدّةً ثمّ إطلاقِ سراحِه بعد رشوةٍ باهظةٍ. بدأَ صالح يَكرَهُ نفسَه لأنه يشتغلُ عملياً مع المخابراتِ: "كنتُ في مؤسّسةٍ يتفاخرُ أعضاؤها بغلظتِهم وقسوتِهم، بل ويتكاثرون أَيُّهم قد ضَرَبَ طلاباً أكثرَ. سمعتُ أحدَهم يلومُ نفسَه على تردُّدِه في رميِ أحدِهم من الشُبّاكِ. كنتُ آسَى على نفسي لعضويّتي في الاتحادِ".
في أغسطس 2011 اغتنَمَ صالح عطلةَ الصيفِ وعودةَ الطلبةِ إلى بيوتِ أهليهم لينشقَّ بصمتٍ. كان يعلمُ أن مغادرةَ الجامعةِ لا تكفي، بل عليه أن يَهربَ من حلب. وحتى بعد ذلك، كان ممثِّلو الاتحادِ يتّصِلون به ويَأمُرونه باستئنافِ عملِه مع تهديدِه بالاعتقالِ إن لَم يستجِبْ. بَعَثَ عمّار ساعاتي إليه مبعوثاً يهدِّدُه شخصياً. رفضَ صالح العودةَ إلى الاتحادِ، لكن مشاهدَ الضربِ والاعتقالِ ما تزال تطاردُه حتى اليومِ.
أَدخلَها الحارسُ في غرفتِه قربَ مدخلِ الجامعةِ واتّصَلَ بعناصرِ الاتحادِ الذين كانوا يقمعون المظاهرةَ وأخبرَهم أنها في حوزتِه. جاءَ العناصرُ وأَخذوا يُفتِّشونها. صادَروا هاتفَها وحاسوبَها ثمّ سَحَبوا مِن هاتفِها بطاقةَ الذاكرةِ التي كانت مَلْأَى بموادَّ حسّاسةٍ ستسبّبُ لها الكثيرَ من المتاعبِ. طَلَبَتْ منهم أن تتوضّأَ من المغسلةِ، الأمرُ الذي وافقَ عليه الحارسُ بعد إلحاحٍ شديدٍ. غافلَته وأَخَذَتْ بطاقةَ الذاكرةِ ثمّ حاولَت التخلّصَ منها في المغسلةِ، وحين فَشِلَت قرّرَت ابتلاعَها في قرارٍ خاطفٍ، ولَم يلاحِظْ أحدٌ اختفاءَ البطاقةِ.
شَعَرَت التلُّ بتخبّطِ عناصرِ الاتحادِ. فمَن حقَّقوا معها لاحقاً وَجَدوا في ملفّاتِها بياناً ثوريّاً كَتَبَتْه بنفسِها، فسألَها أحدُهم عمّا إذا كانت قد نَسَخَتْه مِن مقطعِ يوتيوب. كان واضحاً أن صاحبَ السؤالِ لا يَعرفُ ما هو يوتيوب. تحايلَت التلُّ على جهلِ المحقّقين وادَّعَتْ أنها من عائلةٍ محافِظةٍ، مؤكِّدةً أن هذا الملفَّ ليس أكثرَ من مراهَقةٍ ثوريةٍ.
مع فقدانِها معلوماتِ حساباتِها لَم يتوانَ المحقّقون عن تفتيشِ حاسوبِها وصولاً إلى ملفّاتٍ كانت قد نَسِيَتْ وجودَها بالكاملِ. "كانوا يقولون لي مثلاً، سَمِعْنا صوتَكِ في هذه الثانيةِ من هذا المقطعِ، ثمّ في مقطعٍ آخَرَ، ووَجَدْنا هذه الكلماتِ في ذلك المكانِ". أدهشَتْها سرعةُ بحثِهم ودقّتُه ثمّ قدرتُهم على توظيفِ التقنيةِ في استجوابِها.
كان اكتشافُ كلِّ دليلٍ جديدٍ في ملفّاتِها يعني تصعيدَ عنفِ عضواتِ الاتحادِ على جسمِها، في حينِ كانت الأسئلةُ تنهالُ عليها من العضواتِ وعناصرِ المخابراتِ معاً. مِن بين كلِّ الشتائمِ والعباراتِ المقذِعةِ كان أكثرُ ما يؤلمُها قولَهم: "الرئيس مَنَحكِ هذه الشهادةَ ونستطيعُ سحبَها منكِ في أيِّ وقتٍ". تقولُ التلّ: "كان هذا أكثرَ ما آلمَني في التجربةِ كلِّها. لقد كنتُ طالبةً متفوّقةً، من النخبةِ في دُفعَتي، وكانت علاماتي عاليةً ونِلْتُ المركزَ الثانيَ على مستوى الكلّيةِ. نِلْتُ كلَّ ذلك بعد كدٍّ وسهرٍ. لَم أَكُنْ أَلْهُو في منزلي لِيَجِيءَ الرئيسُ ويمنحَني الشهادةَ. لقد نِلتُها بنفسي". في التحقيقِ الذي دامَ يوماً كاملاً تعرَّفَت التلًّ إلى عضوٍ في الاتحادِ يعملُ في تنظيمِ حفلِ تخرُّجِها. طَلَبَتْ منه إطلاقَ سراحِها متّكِئةً على سُمعتِها طالبةً متفوّقةً. كان جوابُه قاطعاً: "لا يمكنُني مساعدتُكِ الآنَ".
عندما اكتشَفوا حساباً لها على فيسبوك كانت قد اعترفَت به صديقةٌ وزميلةٌ استُجوِبَت قبل بضعةِ أشهرٍ زادَت رِيبةُ المحقِّقين. "بدا كأنه هديّةٌ وصلَتْهم للتوِّ. صاروا يتصرّفون وكأنهم قبضوا على مجرمٍ خطيرٍ". وقتَها شَعَرَت نور التلّ أنها تتابعُ المشهدَ من خارجِ جسدِها كأنها تشاهدُ فيلماً من بطولتِها. بعد أن تَعِبوا من لَكْمِها أَخَذوا عِصِيّاً خشبيةً ليتابِعوا الضربَ. تتذكّرُ أنهم كانوا يشرَبون شاياً ساخناً، وأنّ واحداً مِن أعضاءِ الاتحادِ ابنُ بلدتِها داريّا، هدَّدَها بالشايِ الساخنِ وبدأَ يوهِمُها بصبِّ الإبريقِ على رأسِها. مَرَّتْ لحظاتٌ كأنها سنواتٌ.
كان كلُّ ذلك يجري في الحرمِ الجامعيِّ. بعد ساعاتٍ من التعذيبِ، نُقِلَت في سيارةٍ مدنيةٍ إلى أحدِ فروعِ أمنِ الدولةِ حيث أمضَت ليلةً هناك مع تعهُّدِها بألّا تَذكُرَ لأحدٍ ما جَرَى. ثمّ نُقِلَت في اليوم التالي إلى سجنٍ للنساءِ ولَم يُبلَغْ أيٌّ مِن أقاربِها أو أصدقائِها بمكانِها.
وثَّقَت الشبكةُ السوريةُ لحقوقِ الإنسانِ اعتقالَ أكثرِ مِن خمسةٍ وثلاثين ألفَ طالبةٍ وطالبٍ في سوريا بين 2011 و 2013 ما يَشِي بالقسوةِ الأَمنيّةِ التي عومِلَت بها الاحتجاجاتُ. وصفَ شهودٌ كثيرون اعتقالَ عناصرِ الاتحادِ زملاءَهم بالتعاونِ مع المخابراتِ ثمّ نَقْلَهم إلى فروعِ الأمنِ السياسيِّ والمخابراتِ الجويةِ، لتبدأَ هناك حفلاتُ التعذيبِ من الصِفرِ.
تَرَكَ أعضاءُ الاتحادِ الذين أَشبَعوا التلَّ ضرباً تشوّهاتٍ في وجهِها وكدماتٍ في أنحاءِ جسمِها كافّةً. حين رَأَتْ زميلاتُها في الزنزانةِ آثارَ الضربِ مَنَحْنَها فُسحةً إضافيةً لتنامَ دونَ احتكاكٍ زائدٍ. لَم يُعطِها طبيبُ السجنِ سِوى مسكِّنِ أَلَمٍ. التَقَتْ ببعضِ زميلاتِ سجنِها بعد إطلاقِ سراحِها لكنّهنّ لَم يتعرّفْنَ إلى وجهِها بعد زوالِ التورّمِ والازْرِقاقِ.
يُشيرُ تقريرُ المجلسِ السوريِّ البريطانيِّ إلى أنّ عناصرَ اتحادِ الطلبةِ عَذّبوا زملاءَهم بالضربِ والركلِ والصعقِ وغيرِ ذلك. ذَكَرَ أحدُ الشهودِ أنه هُدِّدَ بتجريحِ جسمِه بلوحِ زجاجٍ كبيرٍ. وقد أَدْلَى كثيرون، منهم التلّ، بوصفٍ مفصَّلٍ لآثارِ الضربِ والتعذيبِ على أجسادِهم وأجسادِهن. وقالَ بعضُهم إنهم احتاجوا إلى تقطيبِ الجروحِ وربما أَجْرَوا عملياتٍ جراحيةً معقّدةً. أَحَدُ الشهودِ ذَكَرَ أنه دُفِعَ مِن أَعْلَى السلالمِ ليتدحرجَ وتتورّمَ جوانبُه. تقولُ نحلاوي للفِراتْس: "الشهاداتُ مرعِبةٌ. هؤلاءِ طلابٌ اعتُقِلوا من حرمٍ جامعيٍّ، أحياناً لمجرّدِ المشاركةِ في احتجاجٍ، ولا داعيَ للتذكيرِ أنه احتجاجٌ سِلميٌّ. هناك مَن اعتُقِلَ لأنه كان في المكانِ الخطأِ، من المكتبةِ أو من المقصفِ أو من سَكَنِ الطلابِ. بعضُهم اعتُقِلَ بسببِ منشورٍ على الإنترنتِ، أو بسببِ الاشتباهِ بمعارَضةٍ للنظامِ، أو بسببِ معرفةِ أحدِ المشتبَهِ بمعارَضتِهم للنظامِ. وَثَّقْنا الكثيرَ من حالاتِ التعذيبِ داخلَ حرمِ الجامعةِ. هل يمكنكَ تخيّلُ طالبٍ جامعيٍّ يَجُرُّهُ زُملاؤه الطلابُ الجامعيون إلى مكتبٍ ناءٍ في أحدِ المباني، ثمّ يَبدَؤون بتعذيبِه؟"
لَم تَشعُر التل بالخوفِ أو العارِ من روايةِ قصّتِها، بل بالغبطةِ لأنّ اعتقالَها لَم يَدُمْ أكثرَ من شهرٍ ولأنّها سَمِعَت قصصاً أكثرَ رعباً من أصدقاءَ اعتُقِلوا ومَرُّوا بالفروعِ الأَمنيّةِ نفسها. "هناك مَن يَقبعُ في السجنِ منذُ 12 عاماً. اختفاءٌ تامٌّ. لا أحدَ مِن أقاربِهم يعرفُ شيئاً عن مصيرِهم. الكثيرُ من السوريين لا يَعرفون مصائرَ أحبابِهم مِن ضحايا التغييب. بعضُ هؤلاءِ أصدقاءُ مقرَّبون، وبعضُهم أقاربُ". في كُلِّ مَرَّةٍ تتحدّثُ فيها عن تجربتِها أو تسمعُ مِن شخصٍ آخَرَ تجربةً مشابهةً تُصِرُّ التلُّ على التذكيرِ بالمفقودين الذين تنتظرُهم عائلاتُهم. "ما زال هناك من يُعانُون من الضَيْمِ والتعسُّفِ، وما زال الاعتداءُ عليهم متواصلاً".
ومِن بينِ أولئكَ الشهودِ طارق بكري، وهو اسمٌ مستعارٌ لشخصٍ كان طالباً في كليةِ الزراعةِ في جامعةِ دمشقَ عندما اعتقلَه عناصرُ الاتحادِ في مارس 2012. يقولُ بكري: "كنتُ أغادرُ كليةَ الزراعةِ حين جاءَني عنصرٌ من الاتحادِ وطلبَ منّي أن أرافقَه إلى سيارةٍ معتمةِ النوافذِ. هذا النوعُ من السياراتِ ممنوعٌ في سوريا ما لَم يكُن سائقُها تابعاً للمخابراتِ أو لأحدِ كبارِ المسؤولين". رفضَ بكري مرافَقةَ العنصرِ وركبَ حافلةً قريبةً، ولكنّ السيارةَ لحقَتْه حتى ترجَّلَ من الحافلةِ. ثمّ اقتربَ منه ثلاثةُ عناصرَ من اتحادِ الطلبةِ عرفَهم على الفورِ، وقَبضوا عليه وأَجبَروه على ركوبِ السيارةِ التي اتّجَهَت إلى فرعِ المخابراتِ الجوّيةِ. كان سببُ اعتقالِه تقريراً يتّهمُه بأنه ناشطٌ في "اتحاد طلبة سوريا الأحرار". استمرَّ احتجازُه في الفرعِ اثنَيْ عشرَ يوماً ثم نُقِلَ إلى فرعٍ آخَرَ. "سألوني عن حساباتي على الإنترنت، خاصّةً فيسبوك حيث كنّا ننظّمُ المظاهَراتِ. كان حسابي نظيفاً والحمدُ للّهِ، لأنني كنتُ أستخدمُ حساباً وهمياً للمظاهَراتِ والتنظيمِ وما شابَهَ".
وفي التحقيقِ، عُرِضَتْ عليهِ نصوصُ مكالَماتٍ هاتفيةٍ أَجراها أو تلقّاها طيلةَ ثلاثةِ أشهرٍ، وكانت بعضُ الكلماتِ مظلَّلةً بالأَصفرِ. لا يَعلمُ بكري حتى الآنَ كيفَ تَنَصَّتوا عليهِ، وما إذا كانوا يسجِّلون المكالماتِ عشوائياً أَمْ أنّ أجهزةَ التنصّتِ تَتعقّبُ من يَتفَوّه بكلماتٍ محدَّدةٍ. سُئِلَ عن طلابٍ آخَرين كانت لديهِ أرقامُ هواتفِهم وعَلِمَ لاحقاً أنهم اعتُقِلوا. تعرّفَ بكري مِن الاستجوابِ إلى صوتِ أحدِ عناصرِ الاتحادِ ممّن جَمَعَتْه به علاقةٌ ودّيةٌ قبلَ الثورةِ. "حاولَ بشار الأسد أن يفرِّقَ السوريين ويحرِّضَهم على بعضِهم. صار الطالبُ يَعتقلُ زميلَه، والطبيبُ يَعتقلُ مريضَه".
أُجبِرَ على توقيعِ تعهّدٍ بعدمِ التعرّضِ لأعضاءِ اتحادِ الطلبةِ بعد إخلاءِ سبيلِه. أَخبرَه والدُه لاحقاً أنّ أحدَ أعضاءِ الاتحادِ اعتذرَ له مدّعِياً أنه لَم يشارِكْ بنفسِه في إيذاءِ ابنِه. أَدركَ بعد فترةٍ أنّه قُبِضَ على عدّةِ طلابٍ في حملةِ الاعتقالِ نفسِها. "في الصفِّ التاسِعِ، كنّا مجموعةً من خمسةَ عشرَ صديقاً مقرّباً، ثمّ تناقَصَ عددُنا حتى أصبحْنا أربعةً في سَنَتِنا الجامعيةِ الأخيرةِ. اعتُقِلَ كثيرون، وماتَ ستةٌ في السِجنِ، وقُتِلَ أحدُنا نتيجةَ قصفِ جيشِ الأسدِ".
تَحدّثَ بكري للفِراتْسِ عن عُقدةِ الذنْبِ التي تُراودُه لأنه نَجا. يقولُ: "مع كلِّ هذه السنواتِ، ما زلتُ أشعرُ بأنّي نَجَوْتُ بمشيئةِ اللهِ وبالحظِّ. ما مِن معيارٍ واضحٍ وعادلٍ يحدِّدُ الناجيَ مِن المقتولِ. حاوَلْنا محاسَبةَ مَن قَتَلوا أصدقاءَنا، ولكنّ الجُناةَ والمجرِمين ما زالوا يُمثِّلون سوريا دوليّاً؛ أولئكَ الذين يَقتلون الطلابَ لمجرّدِ مطالبتِهم بأبسطِ الحرّياتِ. والآنَ، يَذهبُ العروبُ، بكلِّ الانتهاكاتِ التي في سجلِّه، ليمثِّلَ سوريا دوليّاً (في الألعابِ الأولمبيةِ)".
يؤكِّدُ بكري أنّ دورةَ الألعابِ الأولمبيةِ حدثٌ رياضيٌ لا مناسبةٌ دبلوماسيةٌ ولا مهمّةٌ سياسيةٌ، لذلك لا يجوزُ التساهلُ مع مشاركةِ شخصٍ متورِّطٍ في أعمالِ قمعٍ وحشيةٍ للطلابِ. يتذكّرُ منعَ المنتخبِ الروسيِ لكرةِ القدمِ من المشاركةِ في تصفياتِ بطولةِ أُمَمِ أوروبا لعامِ 2024، "أمّا سوريا التي ارتَكَبَتْ فظاعاتٍ أشدَّ وأكثرَ فما تزالُ قادرةً على إرسالِ مجرمي الحربِ ليمثِّلوها".
يحاولُ المجتمعُ الدوليُّ تقليبَ احتمالاتِ عودةِ العلاقاتِ مع النظامِ السوريِّ. شَهِدَ اتحادُ الطلبةِ بعضَ التغييراتِ لكنّ كثيرين يُشكِّكون في معنى هذه التغييراتِ. سنةَ 2020 تَوَلَّت دارين سليمان رئاسةَ الاتحادِ بدلاً مِن عمار ساعاتي متعهِّدِ القمعِ الوحشيِّ في مختلفِ الجامعاتِ بعد 2011. وَعَدَتْ سليمانُ أن تمثِّلَ "الطلبة السوريين كافّةً" وأن تحاسِبَ من ارتكَبوا "أخطاءَ فرديّة". لكن يمان زباد يَرى في هذا التغييرِ محاولةً للترويجِ للاتحادِ بمنحِه واجهةً نِسويّةً. ويَعقِدُ زبادُ مقارَنةً بين دارين سليمان وزوجةِ الرئيسِ السوريِّ أسماءَ الأسد، ابنةِ لندنَ التي رَأَى كثيرون في انضمامِها إلى العائلةِ الحاكمةِ مشروعاً لتلميعِ صورةِ النظامِ في أَعيُنِ الغربيِّين.
تَأْملُ نحلاوي أن يُسهِمَ تقريرُ المجلسِ السوريِّ البريطانيِّ في لفتِ الانتباهِ إلى الجرائمِ المسجَّلةِ بِاسمِ اتحادِ الطلبةِ وأن يؤدّيَ في النهايةِ إلى محاسَبةِ الجُناةِ. "مع أن الجرائمَ حدثَت قبل ثلاثةَ عشرَ عاماً، إلّا أنّ آثارَها العميقةَ ما تزالُ باديةً على الضحايا والناجين، والذين لن يَكُفّوا عن المطالَبةِ بالعدالةِ، سواءً بحملاتِ المناصَرةِ، أَو الولاياتِ القضائيةِ الشاملةِ في الخارجِ أو في المحكمةِ الجنائيةِ الدوليةِ، أو على الأقلِّ بتسميةِ المجرِمين وفضحِهم. سنواصلُ العملَ على هذه الجبهاتِ كافّةً ولن نتراجعَ. سنمنعُهم من الإفلاتِ من العقابِ شيئاً فشيئاً، إلى أن تتحقّقَ العدالةُ التي يستحِقُّها الضحايا والناجون". يقولُ صالح إنّ واجبَه إخبارُ الجميعِ بما فعلَه اتحادُ الطلبةِ ولا سيّما غير السوريين الذين قد يتوهَّمون أن الاتحادَ مجرَّدُ منظّمةٍ طلابية.