كان اليومُ الذي غادرَ فيه السِجنَ آخِرَ عهدِ الصحافةِ بالاكتراثِ له، لأنّه هوى من عرشِ النجوميةِ إلى دركِ المجاهيل. إذ كان أوّلَ فنّاٍن عربيٍّ يتقلَّدُ "وسامَ الاستحقاقِ" في فرنسا سنةَ 2003 من يَدَي الرئيسِ جاك شيراك، الذي برَّرَ اختيارَه قائلاً: "نظير موهبتِه فناناً كبيراً أوصلَ موسيقى الرّاي إلى العالَميّةِ". وسحبت منه الدولةُ الفرنسيةُ وسامَ الاستحقاقِ كما وردَ في الجريدةِ الرسميةِ بتاريخ الرابع عشر من نوفمبر 2011، فكلُّ فنّانٍ يُدانُ ويُسجَنُ سنةً أو أكثرَ يُسحَبُ منه ذلك الاستحقاقُ، سواءً كان فرنسياً أو أجنبياً. ومع ما بدا على مُحَيَّا الرجلِ من سَكينةٍ كان متأثّراً بما وقع، قال لي: "عُمري ما تخيّلت ندخل حبس". وافقتُه الرأيَ، فكلُّ شيءٍ كان يوحي بأن الرجل في طريقه إلى النجاح. لكن في يوليو 2009 حُكِمَ عليه بالسجن خمس سنواتٍ في محكمة بوبينيه الفرنسية، ثم استفاد من إفراجٍ مشروطٍ قبل نهاية تلك المدّة، لحسنِ سلوكِه في سِجنِ مولان غربَ باريس. كانت التهمةُ التي وُجِّهَتْ إليه، وأَقرَّ بها أمامَ القضاءِ، هي محاولةُ إجهاضِ صديقتِه إيزابيل سيمون قَسْراً.
بدأت القصة في أغسطس 2005، كما تنقل جريدة لوفيغارو في العدد الصادر يوم التاسع عشر من مايو 2007 عن إيزابيل سيمون. يومئذٍ علم المغني أن صديقته حامل لكنه رفضَ أن تكمل حملها أو تلد الجنين. إلا أنّها أصرّت على الإنجاب، فدبّر لإجهاضها قسراً. كانت صديقته مصوِّرةً فاستدرجها إلى وهران قصدَ تصوير حفلة له، كما قالت. وهناك كلّف شخصاً بتنويمها في شقّة قربَ البحر، ثم تدخّلت امرأتان لإجهاضها بالقوة. بيد أنَّ المصوّرة نجت وحافظت على الجنين، وعادت إلى فرنسا وأنجبت طفلة، ثم اشتكت على الشّاب في مامي. أوقفت الشّرطة المغني في الخامس والعشرين من أكتوبر 2006 بتهمة "العنف المتعمد، والاحتجاز والتهديد"، ودفع كفالة بقيمة مئتي ألف يورو، كما أوردت جريدة لو باريزيان بعددها الصادر في الثامن عشر من مايو 2007، واستفاد الشّاب من إفراج مشروط على أن يحضر يوم المحاكمة، لكنه فرّ إلى الجزائر ولم يعد إلى فرنسا حتى التاسع والعشرين من يونيو 2009، حين حُكِم عليه وسُجن.
كان لقائي به أوّل لقاء له مع صحفي عقبَ "محنة الحبس"، كما سماها. استأذن منّي ألا أخوضَ بالسؤال عما جرى له خلف القضبان مكتفياً بالقول: "كنت نشوف في التلفزيون، أعرف وش يجرى في الدنيا". زوّده محاميه، في زيارته المتعددة، بأخبار عن الجزائر والبلدان الأخرى مع موجة الرّبيع العربي. طلب منّي الشاب مامي أن أسأله عن حياته الفنيّة، تفهّمته، فمَن يخرج من كابوس لا يودّ العودة إليه. وحدّثني من غير أن أسأل: "إن شاء الله في الأيّام الجاية نرجع للغْنَا"، أي للغِناء.
مرّت ثلاث عشرة سنة على ذلك اللقاء، ولم يعد الشّاب مامي إلى الغناء كما وعد. ازدادت حاله سوءاً. ذلك الرّجل الذي لُقِّب "أمير الراي"، وفُرِش له السجادة الحمراء حيثما حلّ، بات اسماً في غياهب الأرشيف. كيف حصل كلّ ذلك، وكيف انتقل من نجم الصّف الأوّل إلى حكاية تطوى بعد أن غنّى مع ستينغ وكاظم السّاهر وإليسا وغيرهم، وبعد أن أقبلَ النّاسُ إلى حفلاته بالآلاف. لم تكن "المحنة" السبب الوحيد الذي أسقطه، فبعدما كان الشّاب مامي مرادفاً لموسيقى الراي، صار مطَارَداً بلعنة السياسة. عمّق السّجن من عزلته، وبات شخصاً غير مرغوب فيه، يحاول محو ماضيه بلا جدوى. فالرجل ارتبطَ بعلاقة صداقة مع الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة، جعلته يُسهم في الدعاية السياسية للرئيس، قبل أن يغليَ الشارع الجزائري ويُرغمَ بوتفليقة على الاستقالة في أبريل 2019، فنبذ الجزائريون كلَّ من تعاون معه.
حاق بكثير من فناني الراي مصير الشاب مامي نفسه، فما إن يرتبط اسم الفنّان بالسلطة والسياسة، تأييداً أو معارضةً، حتى يصبح مصيره مرتبطاً بها أيضاً. وهذا ما توضحه أمثلة عدّة من سير فنّانين جزائريين وقعوا في الفخ نفسه. مثل الشيخة الريميتي، مؤسِّسة هذا الفن، والتي همّشتها السلطة الجزائرية، والشاب خالد الذي والى السلطة، والشاب عز الدين الذي كانت معارضته السلطة الجزائرية وانتقادها في أغانيه وبالاً عليه فسُجِن. وهذا ليس بجديدٍ على موسيقى الراي، فهي موسيقى سياسية ارتبطت بحركة التحرير الجزائرية، وكانت تعبيراً عن علاقة الجزائري بسلطته الحاكمة. والتاريخ الجزائري يزخر بالأغاني التي وثّقت هذا الارتباط، كما يزخرُ بسِيَر فنّاني الراي الذين عاشوا في أحضانِ السلطة وأولئك الذين عارضوها.
بلغ عددُ أشرطة موسيقى الراي الموزّعة في الأسواق سنة 1983 أربعةَ ملايين شريطٍ، وبلغ عدد شركات الإنتاج مئةً وعشرين شركة، كما يشير بوزيّان داودي الناقد الموسيقي والحاج ملياني، الباحث في علم الأناسة، في كتابهما "مغامرة الراي" الصادر بالفرنسية سنةَ 1996. تزايدت محال بيع الأشرطة، وبات الناسُ يسمعونَ عن نجومٍ مثل الشّيخة الرّيميتي وأحمد وهبي وبْلاوي الهُوّاري. أُعجب محمّد خليفاتي بأغنية أدّاها بلاوي هوّاري اسمها "المرسم"، وتقدّم إلى برنامج ذائع الصيت في التلفزيون اسمه "ألحان وشباب" يُعنى باكتشاف المواهب الصاعدة. رغب في تأدية أغنية المرسم. سأله معدّ البرنامج عن اسمه، فخشي محمّد خليفاتي أن يعلم أهله بأنه يغني، لأنهم يعارضون هذه الفكرة، فابتكر فوراً اسماً مستعاراً، مجيباً: "اسمي الشّاب مامي"، "مامي" تصغيراً لاسم محمّد، و"الشاب" الكلمة درج إطلاقها على كلّ مغني راي لتمييزه عن الشيوخ وأساتذة الغناء.
أصبحت أغنيةُ "المرسم"، كما أدّاها الشاب مامي عام 1982، أوّل أغنية راي يبثّها التلفاز. كان الراي قبل ذلك يُعَدّ غناءً "خارج التّقاليد" الجزائرية، كما ذكرت جريدة الشّعب الحكوميّة في عددها الصادر في الثامن والعشرين من أغسطس 1979. فقد جرت العادة في تلك السنوات أن يكون الغناء في مديح حربِ التحرير ومخرجاتها، أي أن يكون غناءً يدور في فلك السّلطة، لكن الراي يُدرِج كلمات في مديح الجسد والحبّ والشرب. احتل محمّد خليفاتي المرتبة الثانية في برنامج "ألحان وشباب" وصار نجماً في بلده، وهو ما يزال في السادسة عشرة من عمره. بعد التتويج عاد محمّد خليفاتي إلى بيته. توقّع أن يكون والده مستاء بعد أن شاهده على التلفاز، ولكن "عِجْبَه الحال"، كما قال لي. أحسّ والده أن ابنه يعرف الطريق التي يسير فيها، وأن بوسعه كسب مال لإعانة عائلته الفقيرة. وفي سبيل إعانتها توجّب على مامي الانتقال إلى مدينة وهران، حيث شركات الإنتاج والملاهي والحفلات.
التقى الشابُ مامي في وهران بمنتِج اسمه بوعْلام بِن حوّة، يمتلك شركةَ إنتاج اسمُها "ديسكو مغراب"، فأتاح له تسجيل ألبومين لم يحملا عناوين. كُتِبَ على غلاف الألبوم الأول "الشاب مامي" وصدر سنة 1984، أمّا الثاني فكتب على غلافه "أمير الراي" وصدر سنة 1985. وكان المتّفق عليه في الثمانينيات أن كلّ مغني راي يُصدر ألبوماً ليس بقصد كسب المال ولا حساب أرقام المبيعات بل ترويجاً لنفسه كي يُدعى إلى الملاهي والحفلات التي يتقاضى منها مالاً يعينه على تلبية شروط العيش، ليصل إلى فرنسا. وذلك ما حصل، ففي يناير 1986 ذهب الشاب مامي إلى فرنسا أوّل مرّة، وشارك في مهرجان أغنية الراي في ضاحية بوبينيه على بعد أمتار من المحكمة التي ستودي به إلى أسوأ أيّامه. التقى الشاب في فرنسا ميشيل ليفي الذي غيّر حياته.
بعدَ نهايةِ مهرجان بوبينيه عاد مامي إلى الجزائر، واضطّر إلى تأدية الخدمة العسكرية الإلزامية عامين. ثم رجع إلى الغناء وصوّر أوّلَ فيديو غنائي بعنوان "لَزْرِق اسْعَاني"، غنّى فيه عن رجلٍ يُولع بفتاةٍ وهي تتمنّع، وبُثَّ الفيديو في التلفاز. كانت تلك آخر مرّة يظهر فيها الشاب مامي في العلن، إذ دخلت البلدُ مطلع التسعينيات في العشرية السوداء، أي الحرب الأهلية مع الجماعات المتطرفة. ورحل الشاب مامي، على غرار مغنّين آخرين، إلى المنفى في فرنسا بعدما صارت تلك الجماعات المتطرّفة تستهدف الفنّانين، والتقى مرّة أخرى ميشيل ليفي الذي أصبح وكيل أعماله.
في العشرية السوداء استهدفت الجماعاتُ المتطرّفة المغنّين، مثل الشاب حُسْني الذي أُصيب برصاصتين قربَ بيته سنةَ 1994. تلاه المغني والمنتج الموسيقي رشيد بابا أحمد سنةَ 1995، ثم قُتِلَ الشاب عزيز سنة 1996 وهو مغنٍ لم ينخرط في الراي، لكنه كان من مشاهير الحقبة. وفهم الفنّانون أنّ البلد لم تعد آمنة للفنِّ وأهله، فغادرها كثيرٌ، منهم الشاب مامي.
سجّل الشاب مامي أربعةَ ألبومات في التسعينيات، صدرت عن شركتين مهمّتين في الصناعة الموسيقية هما "فرجين" و"إي آم أي". وبفضل ميشيل ليفي وموهبة مامي وأدائه، تعززت مكانةُ الشاب الذي طافَ العالم بأغانيه. لكن في سنة 2005 وعقب مسيرة تجاوزت عشرين سنة في الغناء، بدأ اسم الشاب مامي يرتبط بالسياسة متخذاً مسار السقوط وفقدان لقب أمير الراي. بسبب علاقته مع الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة.
سادت حالة من الغموض في الجزائر نهاية 2005، إثرَ غياب الرّئيس بوتفليقة للعلاج في مستشفى فال دو غراس بباريس. طالت رحلة العلاج وتفشّى القلق بين الناس، بينما اكتفى الإعلامُ الرّسمي بالقول إنّ الرئيسَ "خضع لجراحة لعلاج قرحة مَعِدِيّة". سرت الشّائعات عن تدهور صحّته، ولكبحها ظهر الشّاب مامي يومَ السابع عشر من ديسمبر 2005 في حوار مع صحيفة لوباريزيان الفرنسيّة، وأخبر الجزائريين أن "بوتفليقة بخير" فقد زاره في المستشفى ورآه "مبتسماً في فترة نقاهة". بذلك تمكّن مغنٍ ممَّا عجز عنه وزراء ومقرّبون من بوتفليقة.
لم يكتفِ الشّاب مامي بإخبارنا أن بوتفليقة بخير، بل أشار لقاؤه إلى أنه مقرّبٌ منه. وقبل أن يسلّم نفسه للقضاء في فرنسا في يونيو 2009 ليُحاكم، زرتُ الحيّ الذي وُلد وسكن فيه في مدينة سْعيدة. هناك كان جيران المغني يرددون أن "بوتفليقة لن يتخلّى عن الشاب مامي". ظنّوا أن بوتفليقة سيتدخّل من موقعه رئيساً للجزائر ويجنّب المغني السجن. ويبدو أن الشاب مامي ساوره الأمر نفسه؛ إذ ظنّ أن الرئيس سيتدخّل. تعلّق بالسلطة، ثم دفع الثّمن وحده.
تقرر إجراء انتخابات 2014 التي أفضت إلى عهدة رابعة لبوتفليقة، في السابع عشر من إبريل من ذاك العام. وقبل شهرٍ من الموعد ظهر الشّاب خالد في فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي معلناً دعم بوتفليقة ومبرّراً خيارَه بأنّ الرئيس "أعاد الأمن إلى البلاد وقدّم إنجازات كبيرة". لم يخبرنا الشّاب خالد ما هي الإنجازات الكبيرة التي حققها بوتفليقة، لكنّه ظهر في الأسبوع التّالي في فيديو غنائي مع مغنين هواة صادحاً: "خلّوني نغني، خلّوني نفرح، برايس بلادي".
صعد نجم الشاب خالد منذ أغنية "دي دي" التي أطلقها سنةَ 1992 وتصدّرت المبيعات في فرنسا شهرين كاملين. ثم باع مليون نسخة من ألبوم "صحراء" سنة 1996، وهو الفنان الذي اختارته منظمة الغذاء الأمميّة سفيراً لها سنةَ 2003، وقد غنّى في حفل افتتاح كأس العالم في جنوب إفريقيا سنةَ 2010. بدا الرجل في صورة غير مألوفة وهو يغني مع شباب غير معروفين سنةَ 2014، في مدح بوتفليقة والدّعوة إلى التّصويت له.
لم يُعْرَف أن للشّاب خالد علاقة بالسّياسة قبل 2014. كان حذراً في تعامله مع السّاسة ومع القضايا، وفضّل الصّمت على الخوض في الجدال. لم يفرج عن لسانه سوى في الغناء أو الضّحك، فكانت آنذاك أوّل مرّة يعرب فيها عن انخراطه في فعل سيّاسي. فسّر بعضهم التّحوّل في حياة الشّاب خالد بالغيرة من الشّاب مامي، إذ سادت العلاقة بين الرّجلين كثير من الخلافات الصّامتة، كلّ واحد منهما ظنّ نفسه سيّداً على مملكة الرّاي. وتذهب الآراء إلى أن خالد أراد بدوره موطئ قدم في السّلطة التي تقرّب منها مامي قبله، وهذا ما يبرّر انضمامه إليها. وظلّ متشبثاً بخياره حتى فبراير 2019، عقب اندلاع مظاهرات أطلق عليها اسم "الحراك" مناهضة لعهدة خامسة للرّئيس عبدالعزيز بوتفليقة.
لم يخلُ الحراك من إقصاء كلّ الأشخاص الذين ارتبط اسمهم بعهد بوتفليقة. ومنهم الشّاب خالد الذي وجد نفسه معزولاً، فلم يُقِم حفلة واحدة في الجزائر في السّنوات الخمس الماضية، ولم يُسْتَدْعَ في المهرجانات ولا في الاحتفالات الوطنيّة. فُرض عليه حصار في بلده، وفهم الرجل أن النجومية التي مكث فيها طويلاً، في طريقها إلى الاندثار، فظهر قبل ثلاثة أشهر في فيديو على صفحات فيسبوك وهو في حالة نفسيّة متعبة يقول فيه: "كلّنا إخوة، كلّنا جزائريين. إذا أخطأت في حقّ أحد من غير علم منّي، أطلب منه الصّفح. أطلب الصّفح من كلّ شخص أسأت إليه. ولكن لا أسمح لأحد أن ينزع منّي وطنيّتي. أظلّ دائماً جزائرياً. وتحيا الجزائر". جاءت هذه الرّسالة، التي أراد منها استعطاف الجزائريين، متأخّرة، فقد دنا خالد من وهج السّياسة في فترة حرجة فاحترق. انحاز إلى رئيس منتهية ولايته، بينما الشّارع يغلي برفض ترشّحه مرّة أخرى.
يِدُّولْنَا (يسلبوننا) في رزقنا الخْلاخِل (القيود) في يِدنا
يِحْرموا فينا على (يحرموننا من) أولادنا
والقانون يشوف
شوف الحقرة شوف
شوف الظّلم شوف
يِبْكّولنا أولادنا
القضاء جَاو ضدّنا
شوف يا بوتفليقة شوف.
صدر أمرٌ بالقبض على المغنّي عقب صدور الأغنيّة بيومَيْن، فكلّفَت صاحبَها السجن عاماً كاملاً بتهمة الإساءة إلى رئيس البلد. فكانت هذه الواقعة فرصة عزّ الدين ليغير مساره ويراجع نفسه ويتجنّب المواجهات السّياسية في أغانيه، لكنَّه آثرَ حياة مقاومة على الخضوع. ظهرَ في حوارٍ على قناة النّهار سنةَ 2015، مدافعاً عن قناعته بأن المسؤولين الذين هجاهم في أغنيتهم كلُّهم "مافيا"، مضيفاً: "لماذا لا يُحاسَب المسؤولون الذين يَختلِسون المالَ العامَّ، بينما أنا دخلتُ السّجنَ لأنني غنّيتُ الحقيقةَ؟" منذ أن أدّى تلك الأغنيةَ، لَم يَرَ الناسُ الشابَّ عزّ الدين في المهرجانات التي ترعاها الحكومة. غاب اسمُه وغُيِّبَ عن ملاقاةِ الجمهور، وظَلَّ يغنّي في حفلاتٍ بفرنسا، محروماً من الغناء في الأمكنة العامّة في بلدِه، بينما يَتداول الناسُ أغانيه كأنّها سلعةٌ نادرة. حَظِيَ بحبِّ الناس، وإن كان قيدَ المنعِ والرقابة.
لا إحصائيات لمبيعاتِ الموسيقى في الجزائر، لأن القرصنةَ منتشرة. لا يلبث أن يُصدِرَ مغنٍّ ألبوماً بداية الألفية، حتى يُنسَخَ على نطاقٍ واسعٍ في أقراصٍ مضغوطة. فتُداول النسخُ المقلّدةُ من الألبوم لا الأصلية. ومقياس معرفة نجاح الفنان حفلات الزفاف. فكلّما شاعت أغنيةٌ في حفلات الزّفاف، التي تزدهر في الصّيف، فذلك برهان نجاحها. وأغاني الشاب عزّ الدين كانت الأكثرَ انتشاراً في البلاد.
صار الشاب فضيل نجماً في فرنسا في العشرين من عمره. حقّق في وقتٍ قصير ما عجز عنه آخرون في سنين طويلة. وانهمك في جولات فنيّة من أوروبا إلى أمريكا، وظهر في أفلام جزائرية وأخرى فرنسية على غرار فيلمي "خفقة جناحي فراشة" الفرنسي الصادر سنةَ 2000 و"باب الويب" الجزائري الصادر في 2005. أصدر ألبوماً بعنوان "مونديال كوريدا" سنةَ 2006 تضمن أغنية اسمها "بلدي". صارت الأغنية الأكثر مبيعاً ذلك العام كما أفادت إذاعة فرنسا الدّولية. ومع ذلك انخرط الشاب فضيل في ربيع 2007 في السّياسة وخسر كلّ شيء، وتبخرت كلّ الأمجاد التي صنعها. حينئذٍ كان نيكولا ساركوزي قد دخل الانتخابات الرئاسية في فرنسا، وكان من بين مسانديه الشاب فضيل، مما أثار غضب الجالية الجزائرية عليه، بسبب مواقف ساركوزي اليمينيّة والمعادية للمهاجرين، لا سيما عندما كان وزيراً للدّاخلية. فقد مرَّر ساركوزي سنةَ 2006 قانوناً في البرلمان يشرّع تشديد المراقبة على الوافدين إلى فرنسا. اختار فضيل أن يركب قارب السّياسة وخسر مقرّبيه.
فاز ساركوزي في الانتخابات، لكن سمعة فضيل ساءت. ففي مايو 2007 ظهر ساركوزي في ميدان كونكورد في باريس محتفلاً مع أنصاره بالفوز، وإلى جانبه الشّاب فضيل، الذي لم يعلم أن ذلك اليوم كان يوم تأبين مساره الفنّي.
التقيت بالشاب فضيل في يوليو 2009 في مركز رياض الفتح الثقافي بالجزائر عقب حفلة له، في حوارٍ صحفيٍّ لي معه نُشِر في جريدة "الخبر"، وقال لي: "ساركوزي ورّطني في السّياسة". وفي فبراير 2022 ظهر فضيل على القناة الفرنسية الثانية معبّراً عن ندمه لمساندته رئيس فرنسا السابق. لكن الأوان فات فقد عجز عن استعادة مكانته الفنيّة وضيّع كلّ ما بناه. غادر فرنسا بعدما تصدّرَ المبيعات في كلّ ألبوم يُصدره، وفضّل الاستقرار في المغرب. وعاد للغناء، لكن شعبيّته هوت.
بدأت الشابّةُ الزّهوانية الغناء نهاية السبعينيات وشاع اسمها، ولكن لم يعرف أحد وجهها. لم تظهر صورتُها في ألبوم ولم تغنّ أمام كاميرا، إذ كانت مكتفيّة بحفلات الزّفاف والتّسجيل في استديو حتى نفيها الإجباري إلى فرنسا سنةَ 1994، عقب اغتيال الشّاب حسني حين صار وجهها يظهر في المجلاّت وبعد أن شاركت في برامج تلفزيونية. وسنةَ 2005 ودّ الرّئيسُ بوتفليقة التّقرّبَ من مثقّفين وفنّانين، فتكفّل بمصاريف ذهابهم إلى الحجّ. وكانت الشابة الزهوانية من بين الحجّاج الذين دعاهم إلى مكّة، وكانت توفّق بين الدّين والغناء، حتى صارت نموذجاً في التّوافق بين الأمرين.
ذهبت الشابة الزهوانية إلى الحجّ وعادت منه، وشاركت في تجمعات سيّاسية داعمة للرّئيس. لكنها كانت قليلة الكلام وتكتفي بالحضور. لم تظهر في الإعلام ولم تسجّل فيديوهات في دعم فلان أو في مخاصمة آخر. ظلّت علاقتها بالسّياسة حضورية بلا فعل، مما جنّبها سخط النّاس عقب نهاية حكم بوتفليقة. أتذكّر لقائي بها في فبراير 2009، عندما طلب صحفي من قناة "إم بي سي" مقابلة مصوّرة معها، فردّت: "معذرة، ليس عيباً إن قلت لك إنني لا أحسن الكلام. حاور مغنياً آخر يتحدث أفضل منّي". أُحرج الصحفي وفهم كلام الزهوانية تكبّراً من امرأة لا تخجل من قول "لا أحسن الكلام". قالت لي في لقائنا: "الموسيقى همّي الأسمى، وكذا إرضاء النّاس"، لذلك لم تغال في تودّدها إلى السّلطة، ولم تخسر مكانتها، مثلما خسرها آخرون.
عندما ولد الجيل الأوّل من مغني الراي، مطلع القرن المنصرم، لم يخطر في بالهم أن يصيروا في الصفّ الأوّل في مواجهة الاستعمار. استقلّت الجزائر سنةَ 1962 وجُوبِه مغنّو الراي ومنعوا في أثناء حكم الرئيس هواري بومدين من 1965 إلى 1978. ثم وجدوا انفتاحاً حذراً في سنوات الرئيس الشّاذلي بن جديد بين 1979 و 1992، قبل أن يغرق البلد في حرب ضدّ الجماعات المتطرّفة في العشرية السوداء. دفع فيها مغنّو الراي الثمن بين موت ونفي، وحين استتب الأمن ظنّوا أن حياتهم ستستقر، لكنهم وُظِّفوا سياسياً وفقدوا صلتهم بجمهورهم، ومن قاوم منهم دخل السّجن.
قليلون الذين لم ينخرطوا بتأييد السلطة ولا معاداتها. وفنّ الراي كالجزائريين، يتنوّع موقف فنّانيه من السلطة بين معارضٍ مثل الشاب عز الدين ومؤيدٍ مثل الشاب مامي والشاب خالد. ولا يزال الجزائري كلّما أحسّ بشجن أو ضاق به الحال، يعود إلى الراي ليسمع أغنيات تداوي سوء المزاج وتعبّر عن علاقته المضطربة بالسلطة. لم تشهد الموسيقى في الجزائر حالات منع وتهجير وسجن وتضييق مثلما عرف فنّ الراي. هذه الموسيقى التي ولدت نشيداً معارضاً للراهن، وتقمّصت صوت المحرومين، وغامرت في مناهضة الخطاب السّائد، وحافظت على مكانتها بوصفها اللون الغنائي الأكثر شعبيّة في البلد.