قُدّرت قيمة هذه الأشجار بواحد وعشرين ألف جنيه، أي ألف وثلاثمئة دولار في سعر الصرف سنة 2021. أُنيط بالهيئة العامة لنظافة القاهرة وتجميلها التعامل مع أشجار الشوارع والحدائق العامة في مصر، فقدَّمتْ بلاغاً قضائياً ضدَّ وزارة القوى العاملة. قد يتبادر إلى الذهن أن هيئة تجميل القاهرة اتخذت هذا الإجراء لأسبابٍ بيئية أو ربما قانونية لأنَّ القانون يحظر قطع الأشجار، أو لأنَّ التعامل مع أشجار الشوارع حق حصري للهيئة، لكن السبب الحقيقي كان رغبتها في تحصيل أثمان أخشاب الأشجار لخزينتها. انتقل النزاع بعد ذلك إلى مجلس الدولة، وهو جهة قضائية تختص بالفصل في النزاعات الإدارية بين الجهات الحكومية وفي النزاعات بين الجهات الحكومية والأفراد. وأقر المجلس في مارس 2021 بأحقية الهيئة في المبلغ. لم يذكر أحدٌ من هذه الأطراف حقَّ الأشجار في الحياة أو الأثر البيئي لقطعها، ولا قانونية القطع.
كشف هذا النزاع عن بُعد اقتصادي لعمليات التطوير التي اقترنت بقطع الأشجار وتقليص المساحات الخضراء، ولم توقفها حملات مجتمعية ودعاوى قضائية، في ظلِّ سياساتٍ حكومية تهدف إلى "الاستغلال الأمثل" لأصول الدولة.
أشارَ النزاعُ إلى تجارةٍ رابحة، طرفاها الحكومة وتجار الأخشاب الذين وجدوا في جهود المخططين الأوائل بداية من محمد علي في تزيين الشوارع بالحدائق والأشجار، وفي ملايين الساعات من تقليم هذه الأشجار وتسميدها لتبلغ ما بلغته عمراً وحجماً، مورداً اقتصادياً يجبُ استغلالُه للاستفادة من أخشابِ الأشجار المقطوعة في صناعات مختلفة على رأسها الفحم، ثم إقامة محطات بنزين ومقاهٍ ومطاعم وصالات أفراح. مع زرع شتلات وشجيرات جديدة لاستكمالِ الدورة في المستقبل.
اقترن قطع الأشجار في مصر بعنوان "التطوير". في فبراير 2014 دشنت الدولة ممثَّلةً في الهيئة الهندسية للقوات المسلحة مشروعات توسيع الطرق وبناء الجسور العملاقة بمشروع توسيع كوبري الجلاء وشارع العروبة في حي مصر الجديدة. أدّى المشروع إلى تقليص الحديقة الوسطى في الشارع. قُطِعَت أشجار وأُلغيت مساحة من أرصفة المشاة. استمرَّت مشروعات توسعة الشوارع على استحياء هنا وهناك حتى دخلت مصر عصر التوسعات الكبرى للطرق سنة 2015، إذ أعلن الرئيس عبد الفتاح السيسي عن إنشاء عاصمة جديدة لمصر باسم العاصمة الإدارية الجديدة. بدا أنه على القاهرة أن تتحول إلى عدد من المحاور المرورية السريعة التي تؤدي إلى العاصمة الجديدة.
في 2019 بدأت مشروعات توسعة الشوارع في كثير من مدن الجمهورية ومحافظاتها. ربما كان أفدح تلك المشروعات بحي مصر الجديدة التراثي، الذي أنشأه البارون البلجيكي إدوارد إمبان سنة 1905 ليحتوي عدداً هائلاً من الحدائق والأشجار، متبعاً مفهوم المدن الحدائقية الذي ظهر نموذجاً في تصميم المدن أواخر القرن التاسع. وُسِّعت الشوارع الكبرى مثل شارع أبي بكر الصديق، وهو أحد أهم المحاور المرورية في الحي، والذي يصله بألماظة شرقاً وأحياء الزيتون والمطرية غرباً، مما أدّى إلى إزالة الحديقة الوسطى بالشارع، وكان بها نحو خمسمئة وخمسين شجرة فيكس أعمارها تتجاوز السبعين عاماً، وأنواع عدة من الأشجار والنخيل. بلغت مساحة الحديقة المزالة نحو تسعين ألف متر مربع، وهذه الأرقام والمساحات من حساب الكاتب باستخدام الأدوات المتاحة في برنامج غوغل إيرث.
استمرت المشروعات وأزيلت الحدائقُ الوسطى للشوارع الرئيسية بالحي، وهي شوارع محمد فريد والحجاز وفريد سميكة وعبدالعزيز فهمي وعبدالحميد بدوي بإجمالي نحو مئة وثلاثة وسبعين ألف متر مربع، والحديقةُ الوسطى بشارع جسر السويس، وفيها مجموعة من أقدم الأشجار بالحي، وأُزيلت أيضاً حدائقُ ميادين سانت فاتيما والحجاز وعثمان بن عفان وأجزاء من ميداني تريومف وعمر بن الخطاب، ولاحقاً أزيلت حدائقُ شوارع شهاب الدين خفاجة والسباق ونبيل الوقاد وكثيرٌ من الشوارع الأخرى، التي كان أغلبها قليل الكثافة المرورية، وبحالة جيدة لا تستدعي إنفاق أي مال من أجل "التطوير".
تحولت الشوارع الداخلية في المدن بفضل هذا التطوير إلى محاور مرورية سريعة غير صالحة لعبور المشاة، مما يعود بالمنفعة على أصحاب السيارات، البالغة نسبتهم 9 بالمئة فقط من الأسر المصرية، وفقاً لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء سنة 2023، بينما يلحق ضررُهُ بالغالبيةَ العُظمى من المصريين الذين يستخدمون وسائل النقل العامة، وبالمشاة الذين لا يتمكنون من عبور الشوارع، ولا يجدون أرصفة مظللة تصلح للمشي بعد قطع الأشجار.
لم تكن الحدائقُ العامة بعيدةً عن التطوير أيضاً، فبُني عليها مقاه وقاعات أفراح، وحُوّلت مساحات واسعة منها إلى مقاهٍ ومطاعم أو محطات بنزين. حدث هذا في حديقة الأسرة بألماظة، وحديقة ميدان عمر بن الخطاب وحديقة ميدان بيروت وغيرها. وأُزيلَ مشتلُ مصر الجديدة، وهو بمساحة نحو أربعة وعشرين ألف متر مربع، للغرض نفسه.
قال شكري أسمر منسق مبادرة تراث مصر الجديدة إنَّ حيَّ مصر الجديدة وحده فقد نحو ثلاثمئة وستة وتسعين ألف متر مربع من المساحات الخضراء في عمليات التطوير وتوسيع الطرق بين أغسطس 2019 ويناير 2020. وقال أيضاً إنَّ أعضاء المبادرة أحصوا المساحات الخضراء التي أُزيلت من الحي وأرسلوا إحصائية مفصلة إلى وزيرة البيئة لإيقاف قطع الأشجار والبناء على الحدائق بمصر الجديدة، إلا أن شيئاً لم يحدث. وما زال قطع الأشجار مستمراً حتى اليوم بلا تقنين أو تجريم.
وضّحَ شكري أن أكبر معضلة تواجهها مبادرته هي عدم إعلان أيِّ جهة حكومية مسؤوليتها عن قطع الأشجار، مضيفاً "لا يوجد مسؤول محدد نتحدث معه"، ومشيراً إلى أن الجهات الحكومية، في الحي أو المحافظة أو الهيئة العامة لنظافة وتجميل القاهرة، تتنصل من مسؤوليتها.
لجأت مبادرة تراث مصر الجديدة إلى أعضاء مجلس النواب عن دائرة مصر الجديدة وغيرها ووعدوا بالتدخل لكن بلا فائدة، كما يقول شكري مضيفاً "يُنكِرُ الجميع مسؤوليتهم عن قطع الأشجار، وفي الوقت نفسه يؤجرون حدائق الشوارع للمقاهي ليقوم أصحابها بإزالة الأشجار والبناء على الحديقة، ولدينا نماذج عديدة لهذا الأمر أبرزها مؤخراً حديقة ميدان بيروت وحديقة نافورة روكسي".
ما حدث في حي مصر الجديدة تكرر في معظم الأحياء الأخرى، ففي حي مدينة نصر، وهو حي نشأ في الستينيات بتصميم حديث للمصمم الرائد سيد كريم، أُزيلت الحدائقُ الوسطى للشوارع بطول مئات الكيلومترات. حدث هذا في شوارع عباس العقاد ومكرم عبيد وذاكر حسين وحسن المأمون وأحمد فخري وعبد الرازق السنهوري ومعز الدولة وحسن الشريف وغيرها. آلاف الأشجار والنخيل قُطعت وباتت كأنها لم تكن.
لم تسلم الحدائق العامة أيضاً إذ اقتُطعت أجزاء من حديقة الطفل المفتتحة سنةَ 1996 بمساحة نحو اثنين وتسعين ألف متر مربع، والحديقة الدولية التي افتُتِحت سنةَ 1987 بمساحة نحو مئتين وخمسين ألف متر مربع، وهما من أكبر حدائق القاهرة، لبناء المقاهي والمطاعم. وأُزيلت حديقة عجيبة كاملة، وهي حديقة أنشأتها شركة عجيبة للبترول سنة 1991 بمساحة نحو اثني عشر ألف متر مربع، وأُزيلَ نصفُ حديقة اللوتس ومساحتها نحو خمسة عشر ألف متر مربع. وحُوِّلت حديقةُ العاشر من رمضان، التي مساحتها نحو خمسة وثلاثين ألف متر مربع، إلى ملاهٍ شعبية ومحطة بنزين ومقاه.
تكرر الأمر نفسه في أحياء أخرى عدّة بالقاهرة الكبرى، أي محافظات القاهرة والجيزة والقليوبية. ففي الزمالك نهاية 2022 نظَّم عددٌ من سكان الحي الراقي المطل على نيل القاهرة وقفة احتجاجية شارك فيها عددٌ من الوزراء السابقين، من بينهم الأمين العام لجامعة الدول العربية والمرشح الرئاسي الأسبق عمرو موسى اعتراضاً على إزالة أشجار شارع سرايا الجزيرة، وقطع أشجارها، وردم مدخل الشارع المطل على النيل من أجل بناء مرآب للسيارات بطوابق عدّة في مشروع ممشى أهل مصر السياحي. نفت الحكومة الأمر بداية ثم استؤنف المشروع بعد أشهر قليلة من الهدوء وما زال ماضياً في طريقه.
لم تُوقف الاعتراضات الشعبية قطع الأشجار، فأزيل الحزام الأخضر المزروع جوار الطريق الدائري الذي نفذته وزارة البيئة بطول كيلومترات عدة. وأما في حدائق الأحياء الأخرى فقد بُني على حديقة 6 أكتوبر بحلوان، وهُدمت حديقة المستقبل بالحي نفسه، وأزيلت حديقة جامع عمرو بن العاص في مصر القديمة، وفي حي العباسية شرق القاهرة أزيلت أجزاء من حديقة عرب المحمدي، وحديقة البانسيه، وحديقة سكة الوايلي بحدائق القبة، وحديقة ميدان الجمهورية أمام قصر عابدين، وحديقة الطاهرة في حي الزيتون الملاصق لحي مصر الجديدة، وبنيت عليها مطاعم ومقاهٍ.
لم يتوقف توسيع الشوارع وإزالة الحدائق الوسطى عند القاهرة، إنما امتد إلى معظم المحافظات والمدن الأخرى. ورُدِمت الترع وحُوِّلتْ إلى طرق سريعة وأُزيلت مئات الأشجار على ضفافها كما حدث مع ترعة المحمودية التي أمر محمد علي باشا بحفرها سنةَ 1807 بطول نحو سبعين كيلومتراً. وفي الإسكندرية بُني على حديقة فريال، التي تُعرف أيضاً بحديقة الخالدين، محالٌّ ومقاهٍ، وأزيلت الأشجار جميعها من الحديقة الضخمة إلى ميدان محطة مصر، الذي يُعرف أيضاً بميدان الشهداء. وأزيلت عشراتُ الأشجار من حدائق قصر المنتزه التاريخية، ومساحاتٌ من حدائق النزهة، وبُنيَ على أجزاء من حديقة أنطونيادس التاريخية، التي يرجّح أنها تعود إلى العصر البطلمي، مطاعم ومقاه.
أما في المنصورة، فأزيلت حديقة الهابي لاند، وحديقة الحيوان، وجزء من حديقة شجرة الدر التي بُني عليها ستة وسبعون محلاً تجارياً. في الإسماعيلية أزيلت أشجار كثيرة من ميدان شامبليون التاريخي، وأنشئت مراكن للسيارات ومقاه. وفي مدينة إدفو أزيلت الحديقة العامة. وفي طنطا طورت حديقة الحيوان التاريخية وبُني فيها قاعة أفراح ومجموعة مطاعم، وتُعرفُ الحديقةُ نفسُها بحديقة الأندلس، بعدَ نقل ملكيتها إلى صندوق مصر السيادي، وهو صندوق حكومي تأسس سنة 2018 يهدف إلى استغلال أصول الدولة. وفي مدينة أسوان أزيلت أشجار حديقة درة النيل، وفي مدينة بني سويف بُنيَ على حديقة النيل، والقائمة لا تنتهي.
للأماكن الأثرية أيضاً نصيب من التطوير المقترن بقطع الأشجار. إذ أزيلت معظم الأشجار من قلعة صلاح الدين، وبنيت مجموعة من المتاجر على حديقة المتحف المصري بالتحرير، وأزيلت الأشجار أيضاً في معبد الأقصر بمدينة الأقصر، وفي المقر التاريخي لشركة قناة السويس بمدينة الإسماعيلية عند تحويله إلى متحف قناة السويس.
واتبعت الحكومة نهجاً في تطوير الحدائق يقوم على إنشاء حدائق بلا ظل، أي دوائر من الممرات المبلطة الممتدة على مساحات من النجيلة، مع زرع بضع نخلات متناثرة هنا وهناك بلا أشجار.
قدرت دراسة أعدتها داليا علي الباحثة المعمارية في جامعة عين شمس بمصر، وبرانكا ديميتري جيفيتش الباحثة المعمارية في جامعة ستراثكلايد بالمملكة المتحدة، المساحات الخضراء التي فقدتها القاهرة بين سنتي 2017 و2020، بنحو تسعمئة وعشرة آلاف متر مربع، وكان النصيب الأكبر في هذه الخسارة من نصيب الحيين المنكوبين، مصر الجديدة ومدينة نصر.
ومصر من أقل الدول في العالم بنسبة نصيب الفرد من الأشجار، بمعدَّلِ شجرة واحدة لكلِّ فرد، كما تنصُّ دراسة أجرتها مجلة نيتشر سنةَ 2015 قبل زيادة قطع الأشجار في 2019. ولا بد أن الرقم تقلَّص كثيراً الآن.
امتدَّ استهداف الأشجار في مصر إلى تلك المزروعة على المجاري المائية أيضاً. في 2019 ظهر مشروع "ممشى أهل مصر" لإنشاء ممشى على النيل لخدمة هواة المشي. ومع أن أهداف المشروع المعلنة هو تحسين جودة حياة المصريين وزيادة نصيب الفرد من المسطحات الخضراء، فإن القائمين عليه قطعوا مئات الأشجار على النيل، التي يصل عمر بعضها إلى نحو مئتي عام، وما تُرك منها قُلِّم تقليماً جائراً، وزرعوا بضع شتلات هنا وهناك، وبلطوا الأرض المحاذية للنيل وأقاموا عليها مقاهي ومطاعم ومحالّ تجارية وأماكن لانتظار السيارات. من المقرر أن يمتد المشروع في القاهرة من شبرا الخيمة شمالاً حتى حلوان جنوباً، بتكلفة وصلت في المرحلتين الأولى والثانية إلى نحو 1.4 مليار جنيه. تبلغ قيمة تذكرة الدخول للممشى عشرين جنيهاً مصرياً، وقيمة انتظار السيارات ثلاثين جنيهاً للساعة الأولى ثم عشرين جنيهاً لكل ساعة.
كان يمكن لهواة المشي أن يتنزهوا على النيل مجاناً، ويسيروا في ظلال الأشجار الوارفة الضخمة، لكن وجب عليهم الآن أن يدفعوا مقابل المشي على البلاط تحت الشمس الحارقة. تكرر المشروع نفسه في مدن أخرى، منها مدن بني سويف والمنصورة والفيوم وأسوان والأقصر وشبين الكوم وسوهاج وأسيوط.
لم تسلم الأرياف والقرى والطرق الزراعية من قطع الأشجار، وكانت على موعد مع تطوير الترع والمصارف بهدف الاستفادة من الموارد المائية المحدودة وتقليل هدر المياه. وهو ما عُرف بمشروع تبطين الترع. والترع مجارٍ مائية محفورة لغرض إيصال مياه النيل إلى الأراضي الزراعية، وحُفر الجزء الأعظم منها في عهد الخديوي إسماعيل، الذي أنجز شبكة من مئة واثنتي عشرة ترعة كلّفت نحو ثمانية وعشرين مليون جنيه إسترليني من نقود القرن التاسع عشر.
بدأ تنفيذ المشروع نهايةَ 2020. واستهدف تبطين عشرين ألف كيلومتر من الترع في عشرين محافظة مصرية، وذلك بكساء السطح الترابي للترعة بطبقة من الأحجار تعلوها طبقة من الخرسانة، بتكلفة ثمانين مليار جنيه.
قطع القائمون على المشروع آلاف الأشجار المعمرة المزروعة على جانبي الترع التي بُطِّنت. تعود كثير من الأشجار إلى عصر الخديوي إسماعيل، وبعضها يرجع إلى عهد محمد علي باشا. كانت الأشجار، لا سيما أشجار الكافور الضخمة، تُزرع على جانبي الترع عند إنشائها، لتثبيت التربة. وكانت الأشجارُ تُوفِّرُ ظلاً يساعد على التقليل من تعرض سطح الترع لأشعة الشمس مما يقلل تبخير المياه. دمر المشروع البيئة الريفية في الأماكن التي نُفِّذ فيها، فقد فقدت أيضاً آلافُ الطيور أعشاشها، وفضلات الطيور تُسهم في تسميد الأراضي الزراعية، وتساعد على التخلص من الآفات والحشرات. المشروع أيضاً قضى على الكائنات الحية التي تعيش في الترع، مثل الأسماك التي تحفر في الطين لوضع بيوضها.
علاوة على ذلك، ثمّة شك في جدوى المشروع ذي التكلفة الهائلة بتقليل فقد المياه، لأن المياه التي كانت تسرب إلى باطن الأرض من الأرضية الطينية التقليدية للترعة كانت تدخل في مخزون المياه الجوفية وتُستعمل مرة أخرى، كما صرّح محمد نصر علام وزيرُ الري السابق.
في يناير 2023، قال وزير الري هاني سويلم إن "تبطين جميع الترع إهدار للمال العام" رداً على طلبات إحاطة من أعضاء مجلس النواب عن جدوى مشروع تبطين الترع بعد ازدياد الشكاوى من المشروع وظهور شقوق في الخرسانة بعد التبطين. اعتقد بعضهم أنَّ المشروع توقف بسبب المشكلات التي واجهته ولتكلفته الهائلة، لكن في مارس 2023 عدل الوزير عن حديثه وصرح بأن المشروع لم يتوقف، وأن أكثر من ستة آلاف كيلومتر من الترع بُطِّنت، وأن الرقم سيصل إلى عشرة آلاف كيلومتر قريباً. ما زال مشروع التبطين مستمراً حتى اليوم، وتُظهرُ صور الأقمار الاصطناعية إزالةَ آلاف الأشجار بامتداد مئات الكيلومترات ولا حديثَ إلا عن سلامة الخرسانة، ولم يذكر أحد آلافَ الأشجار التي ذبحت على امتداد آلاف الكيلومترات في أثناء تنفيذ المشروع.
يقول محمد خليفة تاجر أخشاب الأشجار بمحافظات الصعيد: "لو الشجرة وزنها طن أو طنين بشتريها بألفين ونص لكن الشجر الكبير خمسة أو ستة أو سبعة أطنان بثلاثة أو أربعة آلاف جنيه شاملة القطع والتنضيف من الخضرة والنقل". وجدنا رقم محمد على عدد كبير من غروبات أخشاب الأشجار، مضيفاً في حديثه معنا في الهاتف أنه يتعامل بأنواع الأشجار القادمة من الأهالي أو من مزادات الحكومة كلِّها.
وأوضح تاجر أخشاب الأشجار أنه في المناطق الشعبية والأماكن الريفية يبيع الناس أحياناً الأشجار التي تقع أمام منازلهم أو تلك المزروعة على الترع، من غير الرجوع إلى الحكومة. ويكون البيع عادةً في الصباح الباكر وسط تدابير معينة لضمان عدم اعتراض الأهالي. ويشتري خليفة أيضا الأشجار من الفلاحين الذين يقتلعون أشجار المانجو والبرتقال وغيرها من أراضيهم لزراعة محاصيل أخرى.
وأشار خليفة إلى مزادات الحكومة توفِّرُ فرصاً للحصول على كميات كبيرة من الأخشاب، مضيفاً "مزادات الحكومة أسعارها عالية لكن التجار بتفضلها عشان الكمية كبيرة"، وقال: "الأهالي أكتر كمية عندهم مئة طن لكن الحكومة مزادتها بتبدأ من سبعين وثمانين ألف طن"، وأوضح التاجر أن التعامل مع الحكومة لشراء الأشجار يحتاج شهادة ضريبية وسجلاً تجارياً، مضيفاً: "نعلم من الموظفين أن هناك مدرسة أو مستشفى أو شركة حكومية بها عدد من الأشجار تريد الجهة الحكومية بيعها، فنقوم بتقديم الشهادة الضريبية وصورة البطاقة الشخصية وسعر مقترح للشراء، والجهة الحكومية من جانبها تفاضل بين الأسعار المقترحة وتختار أعلى سعر".
اتفق نادر إبراهيم، وهو تاجر خشب أشجار مقيم في البحيرة غرب الدلتا، مع محمد على أنَّ مزادات أشجار الحكومة توفِّر كميات كبيرة من الأشجار عكس الكميات التي يحصل عليها من الفلاحين أو الأهالي، كما يقول. وأكَّد أنه لا يفضِّل العملَ مع الحكومة لأنَّ "سعرهم واحد ومفيش فصال"، ويضيف إبراهيم أنَّه يعمل في محافظته وخارجها، وأنّه "سايب رقمي على فيسبوك واللي عنده شجر عايز يتقطع بيكلمني"، وضرب إبراهيم مثالاً بطريقة عمله "السنة اللي فاتت اتصل بيا شيخ من مدينة بدر [التي تبعد عن وسط القاهرة 46 ألف كيلومتراً] وقالي إنه عايز يقطع ثمان شجرات كافور موجودين حوالين الجامع روحت قلعتهم وقطعتهم وبعد الوزن طلعوا عشرة طن وحاسبت الشيخ على ألف جنيه للطن" ومع أنَّ المسجد تابع لوزارة الأوقاف، كما يقول تاجر البحيرة، غير أن الشيخ لم يطلب منه أي أوراق، وتساهل معه في السعر. وأضاف أن العقبة في مثل هذا الأمر هو اعتراض الأهالي، لافتاً إلى أنَّه قبل أشهرٍ عدّةٍ قطعَ عشر شجرات أمامَ مسجدٍ بقرية التكامل التابعة لمحافظة الإسكندرية، وعند انتهائه من قطع الأشجار قبلَ دقائق من موعد صلاة الفجر، اشتبك معه مَن وصل مِن المصلين للصلاة اعتراضاً على قطع الأشجار قبل أن يبلغهم أنه جاء بطلب شيخ الجامع وأنه المسؤول. وقال التاجر "نقوم بقلع الأشجار من الأرض وتنظيفها من الفروع والأوراق الخضراء ثم تقطيعها إلى قطع طولها متر أو أكثر ووزنها، ثم تحميلها في سيارات بعد دفع قيمة وزنها".
ويتّفق التاجران أن معظم الأشجار المقطوعة تذهب إلى مكامير الفحم لتتحول إلى فحم نباتي، بينما تذهب نسبة قليلة إلى ورش النجارة، وأنهم يقطعون "الشجر بأطوال تتراوح ما بين طول نصف متر ومتر ونتركها في الشمس لعدة أشهر قد تصل إلى سنة حتى تجف وبعدها نضعها داخل المكمورة أو الجورة، وهي عبارة عن فتحة بطول متر تحت الأرض وعرض ثلاثة أمتار، ويتم وضع أخشاب الأشجار بطريقة معينة ويوضع فوقها قش الأرز ومواد أخرى وإشعال النار فيها حتى يتحول خشب الأشجار إلى فحم". ثمة أنواع من الأخشاب تحتاج إلى ورش أو مكامير كبيرة مثل أشجار البرتقال والفيكس واللبخ وغيرها من الأشجار الكبيرة.
تلجأ الجهاتُ الحكوميةُ إلى مقاولي الأخشاب عند الرغبة في قطع الأشجار. وهو ما عبرت عنه محافظة الغربية في يوليو 2021، إذ نشرت صفحة المحافظة على فيسبوك إعلاناً عن مزاد علني لبيع 895 شجرة كافور ومجموعة كبيرة من الأشجار المتنوعة بإجمالي 1563 شجرة في مدن طنطا وزفتى ومنوف. عقب هذا الإعلان قدَّم الناشط البيئي وليد منصور، بالتعاون مع المحامي أحمد الصعيدي، بلاغاً إلى النائب العام بالواقعة. عند بدء النيابة التحقيق في الواقعة قال الموظف الذي مثَّل المحافظة في التحقيق إن المزاد قد أُلغيَ، وحُفِظَ المحضر، كما أخبرنا المحامي.
لم يتوقَّف قطع الأشجار وبيعها في المزادات. ففي 2022 أعلنت هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة عن عرضِ خمسمئة فدان من أشجار الكافور والكازورينا بالغابة الشجرية بحدائق أكتوبر للبيع. تبع ذلك اختفاء مساحات شاسعة من الغابة الشجرية وتحولها إلى مساكن قيد الإنشاء، كما تُظهر صور الأقمار الاصطناعية. الغريب أن تلك الغابة تحدّها مساحات هائلة من الصحراء، ويُمكن بناء المساكن على الصحراء وترك الغابة.
يقول التاجر محمد خليفة إنَّ تجار خشب الأشجار يعرفون عن المزايدات من الموظفين الحكوميين أو من إعلانات تنشر في مقر الجهة الحكومية، مضيفاً "عشان القلق اللي بيحصل على فيسبوك الموظفين بيبلغوا تجار الأخشاب المعروفين عن المزاد والتجار بيقولوا لبعض من غير إعلانات في الجرايد أو على فيسبوك".
يُعدُّ خشب شجرة الفيكس نيتيدا، وهي الشجرة الأكثر انتشاراً في الشوارع المصرية، خشباً محدود القيمة الاقتصادية، ويمكن استخدامها لإنتاج الفحم النباتي. وخشب شجرة البونسيانا، الشجرة الأخرى المنتشرة في الشوارع المصرية، ذو قيمة اقتصادية محدودة. ومن الأشجار التي تستخدم أيضاً لصنع الفحم النباتي أشجار المانجو والتوت والبرتقال والكازورينا والكافور والصفصاف والسرو. أما أخشاب أشجار الصنوبر فيمكن أن تدخل في أعمال النجارة.
يستخدم الفحم النباتي في أغراض التدفئة والطهي والشواء، وأيضاً في إشعال الشيشة أو النرجيلة. ممّا يعني أن الأشجار التي تسحب ثاني أكسيد الكربون من الهواء وتحوّله إلى أكسجين أصبحت هي نفسها تحترق لتتحول إلى دخان في الهواء والصدور. صارت الدولة تشجع حالياً صناعة الفحم النباتي. في 2016 أصدر رئيس مجلس الوزراء القرار رقم 2914، لتقنين أوضاع مكامير الفحم النباتي، وتنظيم الانتقال إلى العمل بالأفران المطورة. ومددت فترة توفيق الأوضاع بعد ذلك مراتٍ عدّة في 2017 و2018 و2019.
قبل القرار المذكور، وفي 2015، التقى وزيرُ البيئة السابق خالد فهمي رئيسَ الهيئة العربية للتصنيع، وهي هيئة حكومية مصرية تُعدُّ من ركائز الصناعة العسكرية في مصر، لبحث أوجه التعاون مع الهيئة واستغلال إمكاناتها في تصنيع مكامير الفحم النباتي الصديقة للبيئة، التي توفر عوائد كبيرة تقدر بنحو 200 بالمئة ربحاً بعد إنتاج الفحم.
يشير موقع "تريند إيكونومي"، إلى ارتفاع صادرات مصر من الفحم النباتي من 7.9 مليون دولار عام 2022، إلى 11.6 مليون دولار عام 2023، بنسبة زيادة بلغت 67 بالمئة. تشير بيانات الموقع نفسه، بالنسبة للصادرات المجمعة من الفحم النباتي والأخشاب ومصنوعات الأخشاب، إلى ارتفاع قيمة صادرات مصر من أربعة وعشرين مليوناً وثلاثمئة ألف دولار عام 2022، إلى اثنين وأربعين مليوناً وسبعمئة ألف دولار سنة 2023 بنسبة زيادة بلغت 75 بالمئة.
يبلغ إنتاج مصر السنوي من الفحم النباتي نحو واحد ونصف مليون طن، كما تنص بيانات منظمة الفاو في إحصاء 2022. وطن الفحم النباتي ينتج عن نحو ثلاثة إلى أربعة أطنان من الأخشاب، فهذا يعني أن هذا الإنتاج السنوي يأتي على الأقل من نحو أربعة ملايين وخمسمئة طن من الأشجار المقطوعة. هذه الأرقام لا تدخل فيها الأشجار المقطوعة التي تستخدم في أغراض أخرى كالمشغولات الخشبية وأعمال النجارة. ويرجح أن كل هذه الأشجار تأتي من الأراضي الزراعية، ومن شوارع المدن.
وكانت عضوة مجلس النواب سميرة الجزار قد تقدمت بطلب في يونيو 2024 إلى رئيس المجلس لدعوة رئيس مجلس الوزراء ووزراء الاستثمار والتجارة والصناعة والتنمية المحلية والصحة والزراعة والبيئة لوقف تصدير الفحم وحظره فوراً، والتحقيق مع الشركات المصدرة عن مصدر الفحم، وما إذا كان المصدر هو أشجار الشوارع والحدائق العامة المملوكة للشعب في محافظات مصر كلها.
لم يعلق المهندس محمود سعد عضو مجلس إدارة الهيئة العامة لنظافة وتجميل القاهرة على حديث إبراهيم، غير أنه بدأ حديثه مع الفِراتس قائلاً: "نحن لا نقطع الشجر، نحن الجهة المعنية بغرس الأشجار وتقليمها وعمل محاضر لمن يقطع الأشجار"، موضحاً أن الهيئة مسؤولة عن العناية بأشجار الشوارع والميادين والحدائق العامة في أنحاء القاهرة، وفيما يتعلق بحملات قطع الأشجار في كثير من مدن العاصمة وأحيائها، قال سعد إن الهيئة العامة لنظافة وتجميل القاهرة لا علاقة لها إطلاقاً بقطع الأشجار في الشوارع والميادين، وأن من يقطع الأشجار جهات أخرى. وأضاف أن دور الهيئة هو التقليم والعناية فقط، وإذا ما وُجدت شجرة ميتة أو آيلة للسقوط تُؤسَّسُ لجنةٌ ومحضر لإزالة الشجرة، والتعاقد مع أحد مقاولي الأخشاب لوزن الشجرة وبيعها، ثم يذهب الثمن إلى صندوق الهيئة المخصص للإنفاق على تشجير القاهرة.
وفسر سعد "لو أي جهة حكومية، وزارة أو شركة أو مدرسة، جامعة، مستشفى، قطعت الشجر الموجود داخل أراضيها ليست لنا ولاية أو سلطة عليها وتعود لها تكاليف الأخشاب، لكن لو قدام الجامعة الشارع ملكنا وتعود لنا ملكية الأخشاب". وقال عضو مجلس إدارة هيئة نظافة وتجميل القاهرة "الشجر اللي على الترع تابع لوزارة الري لكن لو على الرصيف يكون للوحدة المحلية التابعة للمحافظة"، أما الطرق الجديدة التي عرَّفها سعد بأنها الطرق التي نفَّذتها الهيئة الهندسية في القاهرة أو خارجها فتبعية الشجر الموجود بها تؤول إلى الهيئة الهندسية، مضيفاً أن الجهة المعنية تقيم مزاداً على الأشجار قبل قطعها "واللي بياخد الأشجار هو من يتولى عملية قطع الأشجار وتنظيفها من الخضرة للحصول على الأخشاب".
اتفق المهندس حافظ سعيد الرئيس السابق للهيئة العامة لنظافة وتجميل القاهرة مع سعد على أنَّ الهيئة ليست مسؤولةً عن قطع الأشجار في أحياء القاهرة وشوارعها غير أنه لم يعفها من المسؤولية كاملة، موضحاً أن إزالة مشتل مصر الجديدة الذي كان تابعاً للهيئة حتى يوليو 2021 كانت "بأوامر سيادية" موضِّحاً أنَّ "الهيئة الهندسية للقوات المسلحة صاحبة القرار". وعن غير واقعة مشتل مصر الجديدة قال سعيد إن هيئة نظافة وتجميل القاهرة هي المسؤولة عن تأجير أراضي الحدائق العامة إلى أصحاب المقاهي وقاعات الأفراح، مشدداً "أنا ضد مثل هذه التصرفات لأنها تتعارض مع رؤية دولة استضافت قمة المناخ وتعهدت باتباع سياسات تحافظ على البيئة". وأضاف رئيس الهيئة السابق "حديقة البانسيه في منتصف ميدان العباسية بشرق القاهرة كانت تزين ميدان العباسية وكان لا يسمح بوجود الجمهور فيها قطعت أشجارها وحل محلها مطاعم". وقال إنه اندهش من اقتطاع جزء كبير من حديقة سكة الوايلي الموجودة أمام القصر الجمهوري بحدائق القبة لبناء قاعات أفراح تكتظ أمامها السيارات، إذ "كيف سمحت هيئة نظافة وتجميل القاهرة والمسؤولون عن القصر الجمهوري الذي يستقبل ضيوف مصر بهذا الأمر". وأوضح سعيد أن تلك الحدائق تتبع هيئة نظافة وتجميل القاهرة وكانت متنزهاً للناس، خصوصاً "اللي معندهمش اشتراك في نادي واللي مايقدروش يروحوا الحدائق اللي تذكرتها أصبحت بأربعين جنيهاً أو بسبعين جنيهاً"، لافتاً إلى أن حديقة الفسطاط كانت تتبع هيئة النظافة والتجميل بالقاهرة غير أن ملكيتها انتقلت إلى الهيئة الهندسية لإقامة حديقة سياحية عليها، ومضيفاً أن عوائد المطاعم والمقاهي وقاعات الأفراح التي أُسِّست على الحدائق التابعة للهيئة تذهب إلى صندوق الهيئة، وهو صندوق خاص يصرف على منظومة التشجير بالقاهرة.
ما تحدث عنه الرئيس السابق لهيئة نظافة وتجميل القاهرة والعامل بمشتل مصر الجديدة المزال بأنّه حقيقة مؤكدة لم تعترف به أجهزة الدولة في أوراق رسمية حتى كتابة هذه السطور، فعندما أقام سكان المنازل المجاورة للمشتل دعوى قضائية لوقف قرار قطع الأشجار وتغيير نشاط المشتل غاب أي ممثل عن هيئة نظافة وتجميل القاهرة عن الشهادة أمام المحكمة، ولم يحضر ممثل محافظة القاهرة الجلسات، وفي تقرير أصدرته لجنة خبراء شكلتها المحكمة لكتابة تقرير عن الواقعة، في يونيو 2024، قالت اللجنة إن أرض المشتل أصبحت "أرضاً فضاء، وجزء منه فتح كطريق، وجزء مقام عليه مبنى مستغل كراج سيارات، ومحطة وقود (شيل أوت)، ومركز خدمة سيارات، وتوجد عدة مبانٍ متفرقة عبارة عن مطاعم وكافيهات بعضها مكون من دور واحد والبعض الآخر من دورين ويتوسط هذه المساحات مناطق ترفيهية، عبارة عن لاند سكيب وحمامات سباحة وهي عبارة عن حدائق خاصة باسم شيل أوت بارك وميرلاند شيل أوت بارك وتوجد بعض المباني تحت الإنشاء".
تجاهلُ الحكومةِ تحديد الجهة المسؤولة عن قطع الأشجار تكرَّرَ في التصريحات الرسمية منذ نوفمبر 2019، فقالت وزيرة البيئة ياسمين فؤاد في لقاء جمعها برئيس الوزراء لمناقشة خطط الوزارة الخاصة بالتشجير إنها تواصلت مع الجهة المنفذة لأعمال التطوير حالياً بمصر الجديدة منذ 2019 وأكدت أنها تمتلك معدات متطورة تزيل أي شجرة في محاور التطوير من جذورها، ثم يزرعها مرة أخرى، حفاظاً على هذه الأشجار المهمة والمظهر الحضاري، وهو ما أتبعه رئيس الوزراء بتشكيل مجموعة عمل من وزراء الري، والتنمية المحلية، والبيئة، والزراعة، والإسكان للتنسيق بينهم بما يتعلق بالتشجير. وكلفهم بزراعة شجرتين بدلاً عن أي شجرة تُزال، بشرط أن تكون أشجاراً مثمرة أو منتجة للأخشاب.
قرار رئيس الوزراء تبعته قرارات عدّة تعهدت الحكومة بزراعة مئة مليون شجرة في سبع سنوات، وذلك بالتزامن مع تنظيم مصر قمة المناخ "كوب 27" في شرم الشيخ سنة 2022، بواقع عشرة ملايين شجرة في السنة الأولى 2022 - 2023، ثم خمسة عشر مليون شجرة في كل سنة تالية، وتحديد تسعة آلاف وتسعمئة موقع لزراعة الأشجار لتصل المساحة الإجمالية إلى ستة آلاف وستمئة فدان. تختار وزارة البيئة أنواع الأشجار التي ستُزرع ليكون لها عائد اقتصادي، كأن تكون أشجاراً مثمرة كالزيتون، أو أشجاراً خشبية.
تنص المادة 99 من قانون الموارد المائية والري رقم 147 لسنة 2021، على معاقبة كل من يقطع شجرة مزروعة أو يقلعها في الأملاك العامة، بغرامة لا تقل عن ألف جنيه ولا تزيد عن خمسة آلاف جنيه عن الشجرة الواحدة أو النخلة الواحدة. وتتيح المادة مئةٌ وثلاثٌ من قانون البيئة لكل مواطن معني بحقوق البيئة الإبلاغ عن أي مخالفة للقانون.
استغل عشرات المواطنين تلك المواد وقدموا شكاوى إلى وزارة البيئة على قطع الأشجار. قدَّم معد التحقيق، على سبيل المثال، شكوى هاتفية لوزارة البيئة ضد التقليم الجائر للأشجار في شارع أبي بكر الصديق بمصر الجديدة الذي أزيلت أشجاره جميعها في 2019، غير أن متلقي الشكوى سأله عمّن يقوم بالتعامل مع الأشجار، وعندما عرف أنهم تابعون للحي، قال إن أشجار الحي هي ملك للحي، وما دام رجال الحي هم من يتعاملون مع الأشجار فهذا حقّ لهم ولا يمكنه فعل شيء. رفض الموظف تلقي الشكوى.
تكرر الأمر نفسه مع البوابة الإلكترونية لمنظومة الشكاوى الحكومية الموحدة، إذ تقدَّم معدّ التحقيق بثلاث شكاوى على قطع الأشجار، ودعّمها بالصور والعناوين. فكانت الأولى ضد إحدى المدارس التي قطعت الأشجار المعمرة جميعها في حديقة المدرسة، وهي أشجار تعود إلى ثلاثينيات القرن العشرين وقت إنشاء المدرسة. حوّلت المنظومة الشكوى إلى وزارة التعليم، التي أحالتها إلى الجمعية العامة للمعاهد القومية التي تدير المدرسة، والتي أفادت بأن القطع كان بإشراف هيئة الأبنية التعليمية، ثم أُغلقت الشكوى.
أما الشكوى الثانية فكانت ضد إحدى الحدائق لقطعها الأشجار وتقليمها تقليماً جائراً. أحيلت الشكوى إلى الهيئة العامة للنظافة والتجميل بالقاهرة، التي أفادت بأن الحديقة لا تتبعها، إنما تتبع محافظة القاهرة، ثم أحالت تلك الأخيرة الشكوى إلى مشروع إدارة الحدائق المتخصصة، التي أفادت بعدم وجود قطع، وأنّ التقليم الجائر لزيادة دخول الشمس إلى المسطحات، وأُغلقت الشكوى.
والشكوى الثالثة كانت ضد حديقة متحفٍ للقطع والتقليم الجائر للأشجار، ومع إدراج العنوان التفصيلي للمكان بالشكوى، مع اسم الحي، لم يعرف أحد المكان، وظلت الشكوى تتردد بين الهيئة العامة للنظافة والتجميل بالقاهرة، ومحافظة القاهرة، وإدارة الحدائق المتخصصة، وحي النزهة، وحي شرق مدينة نصر، إلى أن أُغلقت في النهاية.
لم تتوقف محاولات وقف قطع الأشجار عند الشكاوى ومطالبة أعضاء البرلمان بالتدخل، إنما امتدّت إلى الملاحقة القضائية للحكومة لوقف مشروعات التطوير التي يقترن بها قطع الأشجار وتقليص المساحات الخضراء.
أقامت مجموعة من المواطنين والحقوقيين المهتمين بشؤون البيئة ومواجهة التغير المناخي دعوى قضائية نهاية سنة 2019 أمام محكمة القضاء الإداري ضد كلٍّ من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ووزراء البيئة والإسكان والتنمية المحلية، طالبوا فيها بوقف قطع الأشجار في عدد من المحافظات، منها القاهرة والجيزة.
يقول أحمد الصعيدي المحامي المتخصص في قضايا البيئة إن المحكمة قررت في فترة التقاضي ندبَ خبير متخصص من وزارة العدل لمعاينة المناطق التي أزيلت منها الأشجار في محافظتي القاهرة والجيزة، ودراسةِ الأثر البيئي لقطع الأشجار عليها. أثبتت المعاينة إزالةَ المساحات الخضراء وتقليصها في ميادين محافظتي القاهرة والجيزة وشوارعهما التي أشار إليها مقيمو الدعوى، واستغلالَ بعض تلك المساحات استغلالاً تجارياً في إقامة كافتيريات.
وقال الخبير في تقريره الذي قدَّمه للمحكمة إن استنزاف الموارد الطبيعية بقطع الأشجار وتقليص المساحات الخضراء يؤدي إلى اختلال التوازن البيئي وتفاقم التدهور البيئي بزيادة تركيز ثاني أكسيد الكربون بالهواء، مما يساعد في انبعاث غازات الاحتباس الحراري مثل الميثان وأكسيد النيتروز.
طلبت المحامية الحاضرة عن الحكومة من المحكمة في أثناء نظر الدعوى عدم قبول الدعوى، لأن مقيميها ليست لهم صفة أو مركز يدفعهم للتصدي لقطع الأشجار. بينما أوصت هيئة المفوضين التابعة للمحكمة بعدم قبول الدعوى لأن الأشجار أزيلت ويستحيل إعادة الوضع لما كان عليه. استجابت المحكمة للتوصية، وقضت في ديسمبر 2022 بعدم قبول الدعوى استناداً إلى رأي محامية الحكومة، وهو ما طعن عليه مقيمو الدعوى قبل أن تُصدِر المحكمة الإدارية العليا في مصر حكماً نهائياً في أبريل 2023 برفض الطعن لعدم وجود صفة للمواطنين مقيمي الدعوى في الاعتراض على قطع الأشجار.