دولة النهب: صراعات ليبيا تغذّي خليفة حفتر وعائلته

يكاد التوازن السياسي الهش ينهار في ليبيا بين تغوّل خليفة حفتر وأتباعه وصراعه السياسي مع حكومة الوحدة الوطنية، فهل يكون محافظ مصرف ليبيا المركزي هو "الجوكر"؟

Share
دولة النهب: صراعات ليبيا تغذّي خليفة حفتر وعائلته
خليفة حفتر يحضر عرضًا عسكريًا في مدينة بنغازي في 7 مايو 2018 (تصوير: عبدالله دوما / وكالة فرانس برس عبر صور غيتي)

تبدو طرابلسُ مدينةً منسيةً هذه الأيام، وهو أمرٌ غيرُ معتادٍ للمدينة التي كانت محورَ الصراعِ على السلطة والثروة في ليبيا في السنوات الأربع عشرة الماضية. كلُّ الأحداثِ الآنَ تجري في مكانٍ آخر. يعودُ رجالُ الأعمال الليبيون والدبلوماسيون الأجانب من شرق ليبيا مذهولين، يتحدثون بدهشةٍ عن نشأة الطرق الجديدة والجسور والمباني العامة ومشاريع الإسكان بسرعة فائقة.

وربما تُعزى هذه الدهشةُ إلى أن هذه المشاريعُ جاءت بعد أكثر من عقدٍ توقفت فيه مشاريعُ البنية التحتية الكبيرة. لكنَّ إعادةَ الإعمار الآن في المناطق التي تسيطرُ عليها عائلةُ خليفة حفتر، قائدُ ما يُعرف بالجيش الوطني الليبي،"غير مسبوقة" حتى مقارنةً بعهد القذافي، وهو ما عبَّر عنه أحدُ سكان بنغازي هاتفياً، ذلك أنك عندما تكتب عن القمع والفساد في ظلِّ القوةِ العائلية لحفتر، كما فعلتُ، من الأفضل ألا تذهبَ لتفقُّد الأمر بنفسك.

أما في طرابلس، فيسودُ الفتورُ في الإنشاء والبناء إلا طريقاً سريعاً يمرُّ بالمناطق الجنوبية من العاصمة وتبنيه مجموعةُ شركات مصرية في محاولة رئيس الوزراء عبد الحميد الدبيبة المقيم في طرابلس استرضاءَ الحكومة المصرية. يشكو المقاولون العاملون في مشاريع أخرى غربَ ليبيا من صعوبات في الحصول على مستحقاتهم ما لم يكن لديهم حلفاء في الدائرة المقربة من الدبيبة. وحتى إذا حصلوا عليها، فإن الأعمال تسير ببطء، لأن الحكومة لا تستطيع الوصول إلى التمويل المخصص للتنمية.

يبدو التناقض صارخاً، وسببه أن المؤسسة الوطنية للنفط ومصرف ليبيا المركزي يحتكران أموال النفط الليبي، وكلاهما في طرابلس ويتعاونان رسمياً مع حكومة الدبيبة لا مع الحكومة المنافسة بقيادة أسامة حماد المتخذة من بنغازي مقراً لها والبارزة واجهةً مدنية لحكم عائلة حفتر. لم يصرف المصرف المركزي في طرابلس أي أموال لحكومة أسامة حماد رسمياً حتى وقت كتابة هذا التقرير. وتمويلُ المشاريع الضخمة في المناطق الخاضعة لسيطرة حفتر غير واضح المصدر، وهي المشاريعُ التي يديرها كيانٌ يرأسُه بلقاسم حفتر وهيئةٌ تتبعُ صدام نجل حفتر أيضاً.

في صميم هذه الأحجية يكمنُ صراعٌ على السلطة في طرابلس أعادَ تشكيل التحالفات السياسية في ليبيا، وساعدَ عائلة حفتر على امتلاك ثروة ضخمة. لقد أثبتت عائلةُ حفتر براعتَها في استغلال الصراع بين الصدّيق الكبير محافظ المصرف المركزي، والدبيبة أو بالأحرى إبراهيم ابن شقيقة الدبيبة، المتصرف الأكبر في سلطة حكومة طرابلس. يزداد هدر الأموال في الدولة نتيجة هذا الصراع، ويعزز أبناءُ حفتر قوتهم مما قد يؤدي إلى انهيار التوازن الهش الذي حافظ على الهدوء في ليبيا في السنوات الماضية. وحتى وقت كتابةِ هذه الكلمات تشهدُ العاصمةُ الليبيةُ توترّات سياسية وأمنية فقد استنفر عبدالحميد الدبيْبَة القوّات الموالية له، وشهدت المدينةُ انتخاباتٍ داخليةً بين أعضاء المجلس الأعلى للدولة لانتخاب رئيس المجلس وقد شابتْ تلك الانتخابات تهم فساد. ورفضَ رئيسُ المجلس السابق محمد تكالة التسليمَ بفوزِ خالد المشري الذي رأس المجلسَ قبل تكالة أيضاً، وأصدر المدعي العام العسكري أمرَ اعتقالِ محافظ مصرف ليبيا المركزي الصدّيق الكبير، في سابقة لم يتجرأ عليها أحد من قبل.


نادراً ما تصدرت السياسةُ الليبيةُ عناوينَ الأخبار الدولية في السنوات الأخيرة. فمع أنّ العقد الأول بعد سقوط القذافي سنةَ 2011 قد اتَّسم بالاضطرابات والحروب الأهلية المتكررة، كانت الفترةُ منذ سنة 2022 فترةَ جمود وصفقات خفيّة. إذ لم تعد السياسة شأناً عاماً، بل أصبحت جزءاً من المؤامراتِ الخفيةِ التي تُحيكها قلةٌ من "النخبة".

تبدو الملامحُ الأساسية لهذه المرحلة بسيطة، حكومتان متنافستان وكتلتان عسكريتان تدعمهما قوتان أجنبيتان هما تركيا وروسيا. وحالَ الوجودُ العسكريُّ لهاتين الدولتين من غير العودة إلى الحرب الأهلية منذ أن أحبطت قواتُ غرب ليبيا التي تدعمها تركيا، منتصفَ 2020 هجومَ حفتر على طرابلس. عقب ذلك الصراع توسَّطت الأممُ المتحدة لتشكيل حكومة وحدة وطنية بقيادة الدبيبة مطلعَ سنة 2021 إلا أن خطة الأمم المتحدة لتنظيم انتخابات في وقت لاحق من ذلك العام قد أخفقت. تحالفت القوى المستاءة من الدبيبة غربَ ليبيا مع حفتر لتشكيل حكومة جديدة، لكن الدبيبة نجح في الفوز بولاء المجموعات المسلحة في طرابلس، مما ترك الحكومة المنافسة مسؤولةً صورياً عن مناطق شرق البلاد وجنوبها الخاضعة لسيطرة حفتر.

لكنَّ الانقسامات الشكلية تُخفي تواطؤاً متزايداً بين الخصوم في ليبيا. ففي يوليو 2022 أبرم إبراهيم الدبيبة وصدام حفتر صفقةً لتعيين مرشح حفتر، فرحات بن قدارة، رئيساً للمؤسسة الوطنية للنفط، ومقابل ذلك رفع حفتر الحصارَ جزئياً على إنتاج النفط الذي كان وسيلة الضغط على رئيس الوزراء الدبيبة ليجبره على التنحي. منذ ذلك الحين عادت صادراتُ النفط لضخِّ الإيرادات إلى مصرف ليبيا المركزي ثمَّ إلى حكومة طرابلس التي دفعت الرواتب في البلادِ كلها. وتعاون الدبيبة مع محافظ المصرف المركزي الصدّيق الكبير واعتمد كلٌّ منهما على الآخر لضمان بقائهما السياسي.

وفَّر هذا الجمود وضعاً مريحاً للسياسيين. فقد استولى كلٌّ من حفتر وخصومُه، من قادة المجموعات المسلحة الذين ضمنوا بقاء الدبيبة، على مبالغَ ماليةٍ أكبر والنفوذِ اللازم لتوزيع المناصب. واعتاد إبراهيم الدبيبة والقادةُ المتحالفون معه التعاملَ مع أبناء حفتر، وهُمِّشَ معارضو الدبيبة غربَ ليبيا وندرت الاشتباكاتُ التي كانت شائعة سابقاً في طرابلس. بينما استمرّ نهبُ أموال الدولة، ممّا سبَّبَ عدداً من المواجهات والانقلابات المفاجئة، في الوقت نفسه تراكمت الثروة والقوة في أيدي العائلتين الحاكمتين وزعماء المجموعات المسلحة المتحالفين معهما.


ثمة رواياتٌ متضاربةٌ عن أسباب خلاف رئيس المصرف المركزي، الصدّيق الكبير، مع الدبيبة الذي أنهى حالة الهدوء صيفَ سنة 2023. يؤكد الكبير ومستشاروه أن إنفاقَ حكومة الدبيبة مرتفعٌ وغيرُ مستدام، ممَّا أجبر المصرف المركزي في أكتوبر 2023 على تعليق تصاريح الدفع لكلِّ شيءٍ إلا الرواتب. أخبرني أحدُ مستشاري الكبير أواخرَ سنة 2023 أن من نقاط الخلاف كانت الإنفاق الخيالي في هيئات القطاع العام التي يرأسها حلفاء مقربون من إبراهيم الدبيبة، مثل جهاز دعم الخدمات العلاجية وتطويرها، الإدارة التي تدفع للعلاج في المستشفيات خارج البلاد. أعرب الكبير علناً عن قلقه من الزيادة الكبيرة في بياناتِ واردات الوقود، والانخفاض في نسبة عائدات تصدير النفط التي تحوِّلُها المؤسسةُ الوطنية للنفط إلى المصرف المركزي.

أشارَ الكبيرُ بأصابع الاتهام إلى وارداتِ الوقودِ لأنَّها المصدرُ الرئيسُ لتمويلِ عائلة حفتر. قدرةُ ليبيا على تكريرِ النفط محدودة، وتستوردُ معظم وقودها من الخارج. وتشتري المؤسسةُ الوطنية للنفط الوقودَ بأسعار السوق العالمية، لكن الشركات التابعة لها تبيعه للمستهلكين الليبيين بأسعار من بين الأدنى في العالم، إذ يبلغ سعر لتر البنزين مئة وخمسين درهماً، أي 0.15 دينار ليبياً، أو ثلاثة سِنتات بالسعر الرسمي وهو ما يقارب 4.8 دينار ليبي للدولار الواحد. وهذا الفرق في السعر يوفر فرصاً هائلة لتحقيق أرباح غير مشروعة، وقد كان تهريب الوقود إلى الدولِ المجاورةِ شائعاً حتى في عهدِ القذافي، لكن منذ 2011 حلَّت شبكاتٌ ضخمة محل صغار المهربين.

قادت قوّاتُ حفتر سوقَ تهريب الوقود منذ أن بسطت سيطرتَها على جزء واسع من الحدود البرية والبحرية لليبيا، وتحولت قيادتُها هذه إلى هيمنة كاملة بعد أن تولى مرشح حفتر، فرحات بن قدارة، منصبَ رئيس المؤسسة الوطنية للنفط منتصفَ سنة 2022. ثم عيَّن لاحقاً أحدَ الموالين لابنه صدام رئيساً لشركة البريقة التابعة لها، وهي شركة تتولى مبيعات الوقود، ومنذ ذلك الحين استمرَّت كمياتُ الوقود المستورد في النمو، وزادت عملياتُ التهريب في المناطق الخاضعة لسيطرة حفتر. وقد لحقت اتهامات المخالفات بالنظام الغامض الذي تقايض بموجبه المؤسسة الوطنية للنفط الوقودَ الذي تستورده بصادرات النفط الخام، فهو يمثل "صندوقاً أسود" مثلما يصفه أحدُ كبارِ المسؤولين الماليين.

شهدت الأشهرُ التي سبقت تعيينَ فرحات بن قدارة تحميلَ الوقود في ناقلات النفط من ميناء بنغازي أحياناً لتهريبه إلى الخارج. أما بعد ذلك فقد أصبحت هذه الشحناتُ أمراً معتاداً، وهو ما أكده تقرير لجنة الخبراء التي تراقب انتهاكات العقوبات التي تفرضها الأممُ المتحدة على ليبيا. فصارت شاحنات الوقود تنتقل من المستودعات التي تسيطر عليها قوات حفتر وتمر بنقاط تفتيش تديرها هذه القوات في طريقها إلى السودان وتشاد وصولاً إلى جمهورية أفريقيا الوسطى. وقد أكد رجال أعمال مطلعين على العمليات في ميناء بنغازي أنَّ صدام حفتر هو المسؤول الأول عن الإشراف على عمليات تهريب الوقود، وزعموا أن الأرباح يُعاد استثمارُها في وحدات عسكرية تابعة لصدام وشقيقه خالد وأقارب آخرين.

قال الكبير إن تكاليف استيراد الوقود المتزايدة والداعمة لهذه الأنشطة كانت غير مستدامة. فبين سنتي 2021 و 2023 زادت بياناتُ استيراد الوقود السنوية أكثرَ من الضعفِ لتبلغ ثمانية مليارات ونصف المليار دولار، أي ما يعادل ثلث عائدات النفط التي حُوِّلَت إلى مصرف ليبيا المركزي سنةَ 2023. وندَّدَ الكبير أيضاً بالترتيبات المالية التي فَقَدَ السيطرةَ عليها وهو محافظ المصرف المركزي. فمنذ انقسام مؤسسات الحكومة الليبية سنة 2014 كان الكبيرُ المرجعيةَ المركزيةَ للسياسة النقدية والمالية في ليبيا، بينما منعتْ مقايضةُ المؤسسة الوطنية للنفط بقيادة فرحات بن قدارة رقابةَ المصرف المركزي على واردات الوقود. والأهم من ذلك أنَّ التوسعَ المتهورَ في تهريب الوقود الذي أتاحته هذه الواردات كان جزءاً من الترتيبات الضمنية الرابطةِ بين رئيس الوزراء الدبيبة وحفتر. وسواء أحب الدبيبة ذلك أم لا، فقد كانت جزءاً من الثمن الواجب دفعه للحفاظ على تدفق النفط. كانت هذه الترتيبات في صميم السياسة الليبية ولكنها تجاوزت الكبير فقوَّضت مكانتَه المركزية.


يتهم الكبير وحاشيتُه بأن فساد حكومة الدبيبة هو سبب الخلاف. قال لي مسؤول ماليٌّ كبيرٌ مقرَّب من الكبير في ديسمبر الماضي: "إن التزامات إبراهيم تجاه حفتر وصدام وغنيوة [زعيم مجموعة مسلحة قوي في طرابلس] تتجاوز بكثير ما وافق عليه الصدّيق [الكبير]".

ثمة روايةٌ أخرى لسبب الخلاف بين الكبير وعائلة الدبيبة مدارها المكائد السياسية بين سماسرة السلطة الذين يعيِّنون المسؤولين الكبار ويعزلونهم لتحقيق أهدافهم الخاصة في مؤسسات الدولة الليبية. ترى هذه الرواية أنَّ قوة إبراهيم الدبيبة هددت الكبير قبل أشهر بإنذاره بخطورة الإنفاق المتزايد. في يوليو 2023 مكّن اثنان من قادة المجموعات المسلحة، المتحالفين مع إبراهيم الدبيبة، توليَ موظفٍ جديدٍ رئاسةَ هيئة الرقابة الإدارية، وهو منصب يمنح حقّ النقد على التعيينات والعقود في القطاع العام. قال مسؤول مالي كبير: "عندما حدث ذلك، بدأ الصديق [الكبير] يقلق على منصبه". يتفق قادةُ المجموعات المسلحة في طرابلس والمسؤولون الكبار على أن الرئيس السابق كان يخضع لنفوذ محمد الطاهر عيسى، رجل الأعمال البارز الذي تربطه علاقات وثيقة بالكبير. دعمَ محمد عيسى بشدة رئيس الوزراء الدبيبة في سعيه إلى الاحتفاظ بولاء الجماعات المسلحة في طرابلس، لكن بعد التغيير حاول محمد عيسى جمعَ تحالف يهدف إلى الإطاحة بالدبيبة.

وفي الشهر نفسِه اعتُقِلَ فرج بومطاري وزيرُ المالية السابق عندَ وصوله إلى طرابلس، إذ كان يسعى إلى أن يدعمه النوّاب في محاولته إزاحة الكبير في منصبه محافظاً لمصرف المركزي والسيطرة عليه، وبدعم من إبراهيم الدبيبة وصدام حفتر على ما يبدو. ولحماية نفسِه من مكائد إبراهيم، بنى الكبير تحالفاته مع الفصائل الشرقية، فطلب دعم عقيلة صالح رئيس مجلس النواب الليبي شرق البلاد، الذي كان يرى الكبير مغتصباً للسلطة، ويرى أنَّ ولايته محافظاً للمصرف قد انتهت منذ زمن. بعد أسابيع قليلة من حادثة وزير المالية السابق حصل الكبير على مرسوم من رئاسة النوّاب يقره في منصبه، وكذلك منصب نائبه في الشرق مرعي البرعصي، وهو مسؤول آخر يدين بتعيينه في منصبه إلى أبناء حفتر. منح هذا المرسوم كلاً من الكبير والبرعصي الصلاحيات التي كان يتمتع بها مجلس محافظي المصرف المركزي اسمياً، فتعاونا تعاوناً وثيقاً.

في الخريف سنة 2023 حجب الكبير معاملات حلفاء إبراهيم السياسيين ثم امتد الأمر ليشمل رأسَ المال والنفقات التشغيلية على نطاق أوسع، قائلاً إن أموال سنة 2023 قد نفدت. ثم أقدم اثنان من قادة المجموعات المسلحة المقربين من إبراهيم على تهديد الكبير مباشرةً، وهي رواية مسؤولَين كبيرَين مقربَين منه. قال أحدهما: "كان هذا تجاوزاً للحد بالنسبة إليه". بُعيْد ذلك في أوائل نوفمبر غادر الكبير إلى تركيا، حيث ألمّ به حادث سيارة هناك، فانتشرت شائعات عن محاولة اغتياله. مهما كانت الحقيقة، فقد بقي الكبير في تركيا أكثر من شهر لتلقي العلاج الطبي. وفي الوقت نفسه كان يعرقل تفويضات الدفع لحكومة الدبيبة. اعتقد السياسيون وقادة المجموعات المسلحة في طرابلس أن الكبير كان يحاول إسقاط الدبيبة، فقد كان محمد الطاهر عيسى حليف الكبير يعقد اجتماعات لحشد الدعم لتغيير الحكومة، بينما واصل سعر الدينار انهياره مقابل العملات الأجنبية في السوق السوداء.


في الأشهر الأولى من سنة 2024، واصلت محنة الدبيبة المالية تفاقمها بينما غرقت عائلة حفتر وحكومتها في الشرق فجأة بالمال. قال لي مسؤول مالي كبير في يونيو: "اعتاد حفتر التفاوض معنا على مليار دولار في هذا الشأن، وبضع مئات الملايين في ذاك. أما الآن، فلم يعد يطلب أي شيء، لقد أصبح في حوزته أكثر مما يحتاج إليه".

والسبب الأهم لتراجع الدينار أن عائلة حفتر كانت تطبع النقود مجازاً، بالاستفادة من فرق سعر الدولار الرسمي والمتداول في السوق السوداء، وحقيقةً بطباعتها الأوراق النقدية، ثم تحوِّل تلك الأموال إلى عملة صعبة في السوق السوداء، مما أدى إلى تعزيز الطلب على الدولار. أشار كلٌّ من الكبير والدبيبة علناً إلى هذا بأنه "إنفاق موازي مجهول المصدر". زعم الكبير أن التهديد الذي يواجهه الاقتصاد الليبي من الإنفاق الموازي يستلزم التفاوض على ميزانية موحدة بين الإدارتين. بينما كان يسهّل بنفسه آليات تمويل السلطات في شرق ليبيا.

في الأشهر الأخيرة من سنة 2023، أعاق التنافس بين الحكومتين الاستجابةَ للفيضانات الكارثية في مدينة درنة. دمّر انهيارُ سدّين بسبب هطول أمطار غزيرة أجزاءً كبيرة من وسط المدينة في سبتمبر ولقي أكثر من أربعة آلاف حتفهم، بينما ظلّ ثمانية آلاف آخرين مفقودين.

استغلت الفصائل الليبية هذه الكارثة للتقدم على منافسيها. أصدر الدبيبة صورياً على الورق مرسوماً بتخصيص ملياري دينار، أي نحو أربعمئة مليون دولار آنذاك بسعر الصرف الرسمي، للاستجابة الطارئة وإعادة الإعمار، بينما خصَّصَ مجلسُ النواب في الشرق خمسةَ أضعاف هذا المبلغ للحكومة الموازية. لكن لم يكن لحكومة الدبيبة وجود في درنة ولم يكن للحكومة الموازية وصول منتظم إلى التمويل من المصرف المركزي. وفي الوقت نفسه أصرَّ الكبير على أن إعادة الإعمار يجب أن تكونَ بإشرافٍ مشترك وبمشاركة البنك الدولي لضمان الشفافية. أدَّت هذه الأزمة إلى تعليق إعادة الإعمار شهوراً مع بقاء أكثر من أربعين ألفاً نازحين من منازلهم منذ الفيضانات.

كان صدام حفتر قد أشرف على الاستجابة الأولية للأزمة، بينما أصبح شقيقه بلقاسم رئيساً للجنة إعادة إعمار درنة التابعة للحكومة الشرقية في ديسمبر 2023. لم يكن بلقاسم قادراً على فعل الكثير ولكن بعد شهرين حوَّل مجلس النواب في شرق البلاد اللجنة إلى صندوق لإعادة الإعمار والتنمية في ليبيا بأكملها، وأعفاه من أشكال الرقابة الإدارية والمالية جميعها. بعد فترة وجيزة أفسحت الأعمال البطيئة الهادفة إلى إزالة الهياكل التالفة أو المبنية بشكل غير قانوني في درنة المجال أمام أنشطة بناء محمومة. ولم يعد الأمر مقتصراً على درنة فقط، إذ شرعت الشركاتُ المصرية والتركية في بناء الطرق والجسور والمباني في بنغازي ومدن أخرى.

ولكن من غير الواضح من أين جاءت الأموالُ اللازمةُ لهذا الطفرة المفاجئة. قال بلقاسم حفتر في حديثه إلى الصحافيين إن تمويل المشاريع التي يشرف عليها يأتي من المصرف المركزي، ويعتقد دبلوماسيون غربيون أيضاً أن المصرف المركزي في طرابلس قد موَّلَ الحكومةَ الشرقية، وإن كانوا يجهلون التفاصيل. وقال بعض كبار المسؤولين الماليين في طرابلس إن المصرف المركزي قد أجرى تحويلات مباشرة إلى الحكومة الموازية، وصندوق بلقاسم. لكن المصرف المركزي نفسه ينشر بيانات مفصلة عن عمليات الصرف التي يأذن بها، ولم يعلن عن أي تحويلات. وفي أغسطس 2024 أقرَّ المصرفُ المركزيُّ في طرابلس أوَّلَ مرة أن فرع بنغازي استخدم تسعمئة وخمسين مليون دولار في مشاريع البناء في الشرق، لكنه لم يذكر من أين جاء ما يعادل هذا المبلغ بالدينار. ونفى مستشار مقرَّب من الكبير لي مراراً أن يكون المصرف المركزي قد حوّلَ إلى صندوق بلقاسم أو أذرع أخرى في الحكومة الشرقية. لكن هذا قد يتغير، ففي يوليو 2024 اعتمد مجلس النواب في الشرق ميزانيةً موحَّدةً مشتركة بين الحكومتين الموازيتين، كما اقترح الكبير. ولكن حتى وقت كتابة هذا المقال، ما زال الخلاف قائماً بين مجلس النواب والكبير بشأن الميزانية التي يبدو أنها لا تتوافق مع توقعات الكبير.


قدَّم ثلاثة مسؤولين ماليين كبار تفسيراً آخر لهذه الثروات الطائلة. يشير هذا التفسير إلى تدفق أقل للأموال من المصرف المركزي، ولكن مع ذلك فهو يخضع لإشراف الكبير. في المرسوم الذي حصل عليه الكبير من رئاسة البرلمان لحماية منصبه تعهد بنقل الأصول التي تحتفظ بها المصارف التجارية في حسابات المصرف المركزي الموازي في بنغازي إلى حسابات المصرف المركزي في طرابلس، والسماح للمصارف باستخدامها. تمثل هذه الأصول البالغة نحو واحد وخمسين مليار دينار، أي نحو عشرة مليارات دولار بسعر الصرف الرسمي، الجزء الأكبر من الديون المتراكمة على السلطات الشرقية في السابق.

منذ سنة 2015 شرعت المصارفُ في الشرق تصرِّفُ الأموال بناءً على طلب السلطات الشرقية مقابلَ سندات الخزانة، وذلك بضغط من قوات حفتر. ثم اشترى المصرفُ المركزيُّ في الشرق هذه السندات اسمياً، وأودع في المقابل أصولاً في حسابات المصارف. كانت هذه الأصولُ افتراضية بحتة، ذلك أن المصرف المركزي الشرقي لم يستطع الوصول إلى الإيرادات. وفي الوقت الذي شن فيه حفتر هجومه على طرابلس سنة 2019، كانت هذه المراوغة المالية قد أوصلت المصارف في الشرق إلى حافة الإفلاس، مما دفع المصرف المركزي الشرقي إلى إنهاء ذلك. ومع هذا ظلت هذه الأصول التي لم تتمكن المصارف من السحب منها مشكلة عصية على الحل.

شرع الكبير في إيداع جزء من هذه الأصول في المصارف شرق البلاد أوائل سنة 2023 في الوقت الذي كانت علاقته ما زالت حسنة مع الدبيبة. في يونيو من ذلك العام، أخبرني مسؤولون في المصرف المركزي عن "تحويل" نحو ثمانية عشر مليار دينار، أي 3.7 مليار دولار. ولكن بعد خلاف الكبير مع الدبيبة وتواصله مع الشرق، تسارعت هذه العملية، واكتملت نهاية العام. وقدَّم المصرفُ المركزي مليارات الدولارات قروضاً طويلة الأجل بلا فوائد للمصارف. أدَّت التعديلاتُ في مجالس الإدارات إلى خضوعِ المصارف الشرقية لسيطرة حفتر الفعلية، وهي مصارف تمتلك الآن أصولاً بقيمة عشرات المليارات من الدنانير في حساب المصرف المركزي في طرابلس. وهذا يعني أن الحكومة الشرقية، وصندوق بلقاسم حفتر أصبحا قادرين من جديد على سحب الديون من المصارف التجارية القادرة على الوفاء بالتزاماتها، بمساعدة المصرف المركزي في بنغازي. لقد أدى القانون الذي أنشأ صندوق بلقاسم إلى تمكينه من ذلك صراحةً. ومكّنت السيطرة على المصارف أبناء حفتر من شراء العملة الصعبة رسمياً بالائتمان، ثم سداد ما يعادلها بالدينار بعد تحويل العملة الصعبة في السوق السوداء، والحصول على الفرق.

أنكر الكبير ظاهرياً أي علاقة له بالإنفاق المدعوم بالديون في الشرق عندما وصفه بأنه "إنفاق موازٍ مجهول المصدر". لكن مسؤولي المصرف المركزي كانوا على دراية بكيفية استخدام الأموال الممنوحة للمصارف في الشرق، غير أنهم ظلوا صامتين في العلن. قال لي أحد مستشاري الكبير في يونيو الماضي: "يعمل مرعي البرعصي تحت تهديد السلاح، لذا علينا أن نكون متساهلين معه"، في إشارة إلى نائب الكبير المقيم في بنغازي.

وقد تساهل الكبير في أمر العملة المزيفة التي طُبعت، على ما يبدو، برعاية حفتر في شرق ليبيا. طبع المصرف المركزي في بنغازي أوراقاً نقدية من فئة الخمسين ديناراً في روسيا بين سنتيّ 2016 و 2021، وسمح المصرف المركزي في طرابلس بتداولها على مضض. لكن مطلع سنة 2024 وصلت كميات كبيرة من الأوراق النقدية من فئة الخمسين ديناراً إلى التداول، وقد عدها المصرف المركزي مزيفة وجودتها أدنى من الأوراق النقدية المطبوعة في روسيا. أفاد المصرفُ المركزيُّ ومسؤولون ماليون آخرون أنَّ عائلة حفتر قد جلبت آلة طباعة لإنتاج الأوراق النقدية في شرق ليبيا، وتتفاوت تقديراتهم لكمية الأوراق النقدية المزيفة لتتراوح بين مليارين وسبعة مليارات دينار، أي 400 مليون دولار و 1.4 مليار دولار. نبّه المصرفُ المركزي النائبَ العام بشأن الأوراق النقدية في فبراير، لكنَّه انتظر حتى أبريل ليعلنَ ذلك. وحتى بعد الإعلان عن سحب الأوراق النقدية من فئة الخمسين ديناراً من التداول، أمهلَ المصرفُ المركزي المصارف حتى نهاية أغسطس لاستخدامها. في هذه الأثناء ظلَّ تداولُ الأوراق النقدية المزيفة شرق ليبيا مستمراً.

يتلقى حفتر وأبناؤه الآن مئات الملايين من الدنانير من حكومة طرابلس شهرياً، حتى مع مواصلة احتفاظهم بحكومتهم المنافسة. ويمتد نفوذ عائلة حفتر إلى أعلى مستويات المؤسسة الوطنية للنفط، وتضطلع العائلة في تهريب الوقود المستورد على نطاق واسع. ومكَّنتها سيطرتها على كل من المصارف التجارية والمصرف المركزي في بنغازي من محو الديون القديمة والبدء في الإنفاق بالائتمان، وتُحَوَّل الدنانير التي تظهر من العدم إلى عملة صعبة. لقد انتقل مركز ثقل حالة النهب في ليبيا إلى الشرق، وبعد سنوات من تسبُّبهم في الدمار، يسعى خليفة حفتر وأبناؤه الآن إلى ترويج صورتهم الجديدة بناةً لليبيا.


جهود حفتر وعائلته في إعادة الإعمار لا تُنكر وتتقدم سريعاً وتحقق نتائج واضحة. ولكن من الواضح أيضاً أن العائلة ترى المناطق التي تسيطر عليها في ليبيا ممتلكاتٍ شخصية.

شرع الجهاز الوطني للتنمية في أعمال بناء واسعة في سرت ومدن أخرى مؤخراً. وليس اسم "الجهاز الوطني للتنمية" إلا اسماً جديداً لكيان أنشأه صدام حفتر، وهو جهاز طارق بن زياد للخدمات والإنتاج. يُقال إن رئيس الجهازين، جبريل البدري، يشرف على تهريب الوقود من بنغازي. وكان جهاز طارق بن زياد وسيلة لنقل الأرباح من الاختلاس والنهب إلى وحدات صدام العسكرية، بما في ذلك إجبار سكان المناطق المدمرة وسط مدينة بنغازي على التنازل عن ممتلكاتهم مقابل تعويضات ضئيلة أو معدومة، ثم أخلى بعد ذلك المنطقة. والآن يعمل الجهاز الوطني للتنمية على تطوير العقارات الرئيسة التي استولى عليها صدام في بنغازي. قال لي أحد سكان بنغازي في يونيو: "أغلق جبريل البدري الواجهة البحرية، ولا يستطيع الناس استخدامها. هم حتى لا يعرفون ما يجري هناك".

في سرت، يُدير محمود الفرجاني مشاريع الجهاز الوطني، وهو الذي أدار أيضاً قناتين تلفزيونيتين لدعم حفتر. يقول مسؤولو البلديات إنهم لم يُبَلَّغوا حتى، ناهيك عن استشارتهم، بخطط الجهاز. قال أحدهم: "ظهرت شركات مصرية وشرعت في العمل دون أن يعرف أحد ما الذي تبنيه".

قال لي مصدر في بنغازي على صلة وثيقة بالدائرة الداخلية لحفتر: "بعض المشاريع تعود لصدام، وبعضها لبلقاسم، وبعضها لخالد [ابن آخر]. كل المشاريع مقسمة بينهم". وأكد ذلك رجل أعمال من غرب ليبيا يعمل في الشرق: "يتعين على الشركات التركية والمصرية التعاقد مع إحدى شركتين، إحداهما تابعة لصدام، والأخرى لبلقاسم. ويتعين على جميع الشركات الليبية العاملة في مجال البناء التعاقد مع هاتين الشركتين".

لقد وفد رجال الأعمال وقادة المجموعات المسلحة من غرب ليبيا إلى الشرق للتودد لأبناء حفتر، وكذلك فعل الدبلوماسيون الغربيون. وقبل طفرة إعادة الإعمار لم تُعقد اجتماعاتٌ عامَّةٌ بين الممثلين الغربيين وأبناء حفتر. كان الدبلوماسيون قد التقوا بحفتر نفسِه سنوات، لكنهم تجنبوا الحكومة الموازية في الشرق، وكانوا مترددين في الارتباط بالمحسوبية الصارخة التي تهيمن على العلاقات مع عائلة حفتر. لكن منذ أبريل أصبحت الاجتماعات مع بلقاسم وصدام وخالد حفتر جزءاً من الجدول المعتاد للدبلوماسيين الغربيين الذين يزورون شرق ليبيا. وترأس السفير الفرنسي وفداً من رجال الأعمال للقاء بلقاسم، ومن المرجح أن يحذو آخرون حذوه. قال أحد الدبلوماسيين المحبطين في طرابلس: "استسلمت الأطراف الدولية بالكامل لتطبيع العلاقات مع دولة مافيا".

في تصريحاتهم العامة بشأن ليبيا، أكدت الحكومات الغربية منذ فترة طويلة ضرورةَ إدارة الأموال العامة بشفافية. لكنها لم تطرح بعد السؤال المتعلق بمصدر أموال إعادة الإعمار وكيفية استخدامها. عندما تحديت سفيراً أوروبياً مؤكداً أن الاجتماعات مع أبناء حفتر قد أسبغت الشرعية على طموحاتهم الرامية إلى تعزيز حكم عائلتهم، دافع عن نفسه بالقول إنه التقى بلقاسم بصفته الرسمية فقط، وليس لأنه ابن حفتر.


ثمة اختلافات كبيرة بين هياكل السلطة المتنافسة في ليبيا، أي بين الاستبداد الوحشي لحفتر، ومهارة الدبيبة في التلاعب بالفصائل المتنافسة. وأما بنهب موارد الدولة فتتميز أساليب عائلة حفتر عن غيرهم، لكن ثمة أوجه تشابه. أهمها المحسوبية، فليس صدفةً أن يكون إبراهيم الدبيبة صاحب النفوذ الأكبر في طرابلس، إذ تدين عائلة الدبيبة بنفوذها إلى صعود والد إبراهيم، علي، في عهد القذافي. فقد أصبح علي الدبيبة، ابن عم رئيس الوزراء وصهره، فاحشَ الثراء، وكان يرأس جهازاً حكومياً مسؤولاً عن مشاريع البنية التحتية، هو جهاز تنمية المراكز الإدارية وتطويرها. وقد امتلك هو وأبناؤه وأقاربه إمبراطورية من الحسابات المصرفية الخارجية والشركات والعقارات خارج البلاد.

أصبح إبراهيم اليوم اللاعب السياسي الرئيس في عائلته، وقد تحدث بسخرية إلى دبلوماسيين أجانب عن البراعة السياسية التي يتمتع بها عبد الحميد الدبيبة. لكنَّ لإبراهيم أقاربَ وأصهاراً آخرين يشغلون مناصب رسمية. يشكو رواد الأعمال في طرابلس من أن التعامل مع مؤسسات الدولة يتطلب دعماً من إبراهيم الدبيبة، أو من أعضاء آخرين في الدائرة الداخلية لرئيس الوزراء، أو من أحد قادة المجموعات المسلحة القليلة التي تدعم هيكل سلطة عائلة الدبيبة.

يتطلب النهب الوقح لثروات الدولة من قبل قِلَّة مختارة استخدام القمع، وإن كانت له صور مختلفة جداً شرق البلاد وغربها. ففي طرابلس تضايقُ الأجهزةُ الأمنيةُ التي يسيطر عليها قادة المجموعات المسلحة وتعتقل الصحافيين والناشطين في المجتمع المدني، وحتى الأشخاص العاديين الذين يعبّرون عن غضبهم على وسائل التواصل الاجتماعي. أما في المناطقِ التي يسيطر عليها حفتر، لا تقتصر عواقب التحدث علناً على اعتقالك بل تتجاوز ذلك إلى التعذيب أو القتل. لقد أرغم حفتر المجتمع على الصمت. قال لي رجل أعمال ليبي من الغرب يعمل في شرق ليبيا: "يبدو الأمر أشبه بأحلك أيام الثمانينيات والتسعينيات". مشيراً إلى قمع وإرهاب اللجان الثورية في عهد القذافي.

ولكن هل يمكن للنظامين أن يتعايشا إلى ما لا نهاية؟ إن الخلاف بين الصديق الكبير وعائلة الدبيبة يشير إلى أن الترتيبات التي تربط بين الشرق والغرب قد اقتربت من نقطة الانهيار، ولا تظهر أية علامة على تراجع شراهة الأطراف الرئيسية. منحت المؤسسة الوطنية للنفط مؤخراً حصة من إنتاج عدد من حقول النفط لشركة ليبية حديثة التأسيس لم يُكشف عن هوية مالكها، ولكن يشاع أنها تعمل واجهةً لصدام الذي شرع في بيع نفطه. ويزعم كبار المسؤولين الماليين أن فجوة تُقدَّر بمليارات الدولارات قد تراكمت على مدى العامين الماضيين بين قيمة النفط الخام الذي يُحمّل من الموانئ الليبية وتحويلات العائدات إلى حساب المؤسسة الوطنية للنفط في المصرف الليبي الخارجي، وهو فرع تابع للمصرف المركزي. وربما تتكشف مخططات أكثر جرأة. ولكن قد يمثل كل مخطط جديد تجاوزاً لأحد الخطوط الحمراء، وقد يؤدي إلى تفكيك العلاقات الهشة بين عائلة الدبيبة وعائلة حفتر والكبير.

قد يسبب تعزيز قدرة حفتر على الوصول إلى الأموال زعزعة الاستقرار في توازن القوى. تحدث صدام إلى المقربين منه عن سعيه إلى تأليب الفصائل الليبية الغربية ضد بعضها، وشراء دعم قادة مجموعات محددة، وهي مهمة أصبحت أسهل بفضل الأموال التي باتت في تصرُّفه الآن. وأبلغ والدُه الدبلوماسيين الغربيين نيَّتَه تنفيذ محاولة أخرى للاستيلاء على طرابلس، ولا تترك عمليات استحواذ حفتر المستمرة على المعدات العسكرية مجالاً للشك في أنه يعني ما يقوله. اعترضت السلطاتُ الإيطاليةُ شحنةً من الطائرات الصينية المقاتلة بلا طيار في طريقها إلى بنغازي، في صفقة يُزعم أنها تنطوي على مبيعات النفط الخام.

يشكل الوجود العسكري التركي الآن في غرب ليبيا عقبةً كبيرةً أمام هذه الطموحات. وكذلك مصالح قادة المجموعات المسلحة الشخصية، بغض النظر عمَّا إذا كانوا مزدهرين أو يعانون من حكم الدبيبة، إذ يعلمون جميعهم أن استيلاء حفتر على السلطة سيجعلهم أوراقاً محروقة. ولكن مع الوصول المفاجئ إلى الثروة والسلطة غير المرئية، ونتيجة العلاقات مع المبعوثين الأجانب، قد تتعاظم أوهام السلطة المطلقة التي تنطوي على خطر سوء تقدير كارثي.

اشترك في نشرتنا البريدية