تكاليف العلاج وعدم الاعتراف بالعقم يدفع المغاربة إلى الوصفات الشعبية وأضرحة الأولياء

الوصفات الشعبية إحدى حلول الموروث الشعبي التي يلجأ إليها الأزواج في ظل ارتفاع تكاليف العلاج وغياب الاعتراف بالعقم مشكلةً يواجهه المغاربة.

Share
تكاليف العلاج وعدم الاعتراف بالعقم يدفع المغاربة إلى الوصفات الشعبية وأضرحة الأولياء
تصميم حاتم عرفة لمجلة الفراتس

اتصلت عزيزة غلام (37 سنة) بزوجها محمد لتخبره بأنها تواجه صعوبة في الحمل لتشوهات في المبيض، وأنها بحاجة عمليات مكلفة لصعوبة حالتها، كما قال الطبيب بعد نتيجة الفحص الطبي. صُدم الزوجان وعائلتهما بالخبر. فقد كانت عزيزة تحلم وزوجها محمد بطفل يملأ عليهما الدار، لكن شاء القدر أن تكون عزيزة عاجزة عن الإنجاب ومهددة بفقدان خصوبتها كلما تقدمت في السّن. وقف محمد مع زوجته مادياً ومعنوياً، وتشبَّث بالأمل في الطب لعلّه بفضل الله يحقق لهما حلم الأمومة والأبوة.

يهدد العقم وتأخر الإنجاب العلاقة بين الزوجين في المغرب، وتنتج منهما مشكلات اجتماعية كثيرة، لقيمة الإنجاب في الثقافة المغربية. فالعقم أو التأخر بالإنجاب يجعلان الزوجة محطَّ شكوك أمّ الزوج وأهله وأهلها وجيرانها. تقول عزيزة في مقابلتي معها لبحث ميداني للدكتوراه في علم اجتماع الصحة سنة 2022: ''في الأشهر الأولى للزواج، يسأل الأقارب وأفراد العائلة في المناسبات الدينية والعائلية أسئلة تتكرر في معظم العائلات المغربية: متى سنفرح بك؟ ومتى سنرى أولادك؟ وهل زرتم الطبيب لإجراء فحوص الحمل؟''. وأحياناً يختار الزوجان إخفاء الأمر عن الأقرباء والجيران خشيةَ نظرة المجتمع. ودائماً ما يبحثونَ عن حلٍّ لعدم الإنجاب بالتدخل الطبي. وعندما ييأسون من الطبّ يلجؤون غالباً إلى الموروث الثقافي الشعبي. تُعدُّ وصفات هذا الموروث التي توصي بها العجائزُ والمعالجون التقليديون النساءَ صورةً من صور التعاطف والتضامن الاجتماعي. وكثيراً ما تكون هذه الوصفات احتفاليةً أو بطقوس معينة. ولا تقتصر صور التضامن الاجتماعي في مواجهة العقم في تقاسم الوصفات الشعبية، بل تتجلى في تحويل التجربة الفردية الأليمة مع العقم إلى تجربة أمل جماعية للعلاج.


عزيزة ومحمد إحدى حالات كثيرة تُسجّل سنوياً في المغرب. فقد كشفت إحصاءات وزارة العدل المغربية أن نسبة الأزواج الذين يعانون العقم وضعف الخصوبة، تتراوح ما بين 15 بالمئة إلى 17 بالمئة من بين ثلاثمئة وخمسين ألف زواج مسجلٍ سنوياً. ويصف الأطباء الزوج أو الزوجة بالعقيم بعد سنة على الأقل أو سنتين من العلاقة الزوجية المنتظمة بلا موانع الحمل ومن غير حدوث حمل، كما في المجلة الدولية لصحة الأسرة. ويسمّى هذا النوع من العقم العقمَ الأولي، وترجع أسبابه إلى مشكلات تشريحية ووراثية، وإلى مشكلات الغدة الصماء والمناعة التي تمنع الحمل. أما العقم الثانوي فيحدث بعد حمل ناجح، فتُعد المرأة التي أجهضت عفواً امرأة تواجه العقم طبيّاً.

 تتعدد أسباب العقم الطبية عند النساء والرجال. فتُعزى الأسباب الطبية لعقم المرأة إلى اختلالات وظيفية أو تشوهات في المبيضين أو الرحم أو عنق الرحم أو المهبل أو قناتي فالوب وهما مكان التقاء الأمشاج الذكرية والأنثوية. تؤثر هذه الاختلالات والتشوهات على خصوبة المرأة وإمكانية حملها. وأكثر أسباب العقم شيوعاً عند المرأة تشوهات المبيضين وقناتي فالوب، بنسبة 70 بالمئة من الحالات. أما الرجل فتتمثل أسباب عقمه في غياب الحيوانات المنوية في السائل المنوي أو نقصها، وضعف القدرة الحركية للحيوانات المنوية، وتشوهات في 40 بالمئة من الحيوانات المنوية، أو مشكلات تشوهات الخصيتين، من بينها اختفاء الخصيتين في قناة الأربية، أي المكان الذي تكونان فيه عند الولادة، وعدم خروجهما إلى كيس الصفن.

بينت نتائج دراسة أجرتها الباحثة أمل بن بلة، المتخصصة في العلوم الطبية بجامعة محمد الخامس، في مركزٍ صحي للصحة الإنجابية بالرباط عن أسباب العقم، أن 27.5 بالمئة من عقم النساء سببه اضطرابات المبيض، بينما 26.6 بالمئة لانسداد قناة فالوب، وأما تشوهات الرحم المكتسبة، أي غير الوراثية، فبنسبة 10 بالمئة. وأسباب العقم عند الرجال تكمن في تشوه الحيوانات المنوية بنسبة 11 بالمئة، وانسداد القنوات 9.3 بالمئة، بينما يمثّل ضعف حركة الحيوانات المنوية نسبة 6.7 بالمئة، والنقص في عدد الحيوانات المنوية 6.1 بالمئة. ومرض دوالي الخصيتين عند الرجال أهم أسباب العقم، إذ وجدت الباحثة أنّ 14.3 بالمئة من حالات العقم سببها هذا المرض، تليه تشوهات الحيوانات المنوية مجهولة السبب بنسبة 12.3 بالمئة. وتذكر الدراسة أسباباً أخرى للعقم كمرض السّل والأمراض المنقولة جنسياً والسمنة والتدخين واستهلاك الكحول، وهي أسباب مشتركة بين الأزواج، ويمكن الوقاية منها، لأنها ترتبط أساساً بنمط الحياة. 

ولعل إحدى أهم طرق علاج العقم شيوعاً هي التخصيب الصناعي خارج الرحم. ويتراوح ثمنها في المغرب ما بين ألفين ومئة دولار أمريكيٍّ إلى أربعة آلاف ومئة دولار في المحاولة الواحدة. ويحتاج الأزواج محاولات عدّة لزيادة فرص النجاح، لذا هي صعبة المنال، لا سيما أن برنامج التأمين الصحي لا يشملها. أجرت عزيزة وزوجها محمد عمليات تخصيب خارج الرحم مرات عدة. كلفهما ذلك معظم دخلهما ومدخراتهما، ولم يكن ذلك كافياً ليمكنهما من حضن طفل حلما به طويلاً وتخيلا ضحكاته ولعبه في زوايا البيت. تقول عزيزة: '' لقد تعبت كثيراً من كثرة الفحوص الطبية والعمليات المتكررة التي أرهقتني جسدياً ومادياً ونفسياً، ولم أحقق حلم الأمومة والأبوة لي ولزوجي''. 

مع عجز الطّب الحديث عن إشباع رغبة الأزواج الملحة في تحقيق غريزية الأمومة والأبوة، وارتفاع تكاليف العلاج يصبحُ الطبُّ الشعبي ملاذاً آخر للأزواج وللمرأة خصوصاً. ففي رحلتها بحثاً عن طفل تلجأ إلى الموروث الشعبي الزاخر بكثيرٍ من الوصفات الشعبية وبالطقوس العلاجية، التي يختلط فيها الطعام والعلاج والطقوس الدينية والسحرية.


يعدُّ كثيرٌ من المغاربة أنّ العقم مشكلة خاصة بالمرأة. فقد كتبت عالمة الاجتماع المغربية رحمة بورقية في كتابها "النساء والخصوبة" المنشور سنة 1995، أن التصور العام بين الرجال يرجع العقم إلى شرٍّ أو مرضٍ لا يُصيب إلا النساء، لأن جسد الذكر في نظرهم هو جسد للسلطة لا يصاب بالعقم. فقبول العقم هو قبول فشل هذا الجسد الذي يَفقد سِمَة رئيسة من سلطته وقُوَّتِه. لذلك فالعقم عند المغاربة ملتصق بالمرأة، كما تقول الباحثة في علم الاجتماع هدى العدوني التي ناقشت مسألة العقم الأنثوي بالمغرب؛ إذ راعت كيفية معالجة الجسد الأنثوي العقيم في الذاكرة الاجتماعية المغربية التي جعلت علاجه شأناً نسائياً. وقد سجلت الباحثة أن بعض أساليب العلاج النسائي التقليدي بدأ يختفي.

امرأة تحمل ابنها على ظهرها في شوارع سيتي برتوغايس. (تصوير: راكيل ماريا كاربونيل عبر صور غيتي)

إحدى تلك الأساليب اختبار "حبة الحلبة". يُعتقد شعبياً أنّ هذا الاختبار يوضح من المسؤول من الزوجين عن عدم الإنجاب، إذ تأتي المرأة بحبات الحلبة الجديدة، لا القديمة، ثم تضعها في التراب وتتبول عليها، ثم تضعها في إناء صغير، ويكرر الزوج العملية ذاتها. فإن نبتت حلبتها على بولها تنجب، وإن نبتت حلبته على بوله ينجب هو وهي لا تنجب. 

ومن الأساليب الأخرى أن تأخذ أمُّ الزوجة ابنتَها بعد تأخر الحمل إلى القابلة التقليدية أو ''العوادة''، وهي معالِجة شعبية متخصصة في أمراض النساء والأطفال وكل ما يتعلق بالصحة الإنجابية والجنسية والحمل عند النساء. تدلّك العوّادة أولاً بطن المرأة بغية إرجاع الرحم إلى مكانه، لاعتقادهنّ أن سبب تأخر الحمل هو نزول الرحم من مكانه الطبيعي إلى الأسفل، أي ''الوَالْدَةْ طَايْحَةْ'' باللهجة المغربية. وهذا ما توضّحه العوّادة فاطنة (68 سنة)، في مدينة مكناس، قائلةً: ''أستعمل التدليك والكدرة أو الطنجية [وهو قدر خزفي] على بطن المرأة لجر رحمها إلى أعلى البطن، وأدلّك ساقي المرأة تصاعدياً حتى أصل إلى مستوى الرحم، لأن عروق الرحم متصلة بساقي جسد المرأة، وأقدم للمصابة طعاما ساخنا وقت التدليك مثل حساء الشعير والمساخن [الأعشاب الطبية]، وأجمع اثنى عشر كأسا من الطحين [دقيق القمح] من كل بيت ولا يعلم أهله سبب طلب كأس الطحين، ثم أعجنها وأطهو خبزة تأكلها المرأة المصابة''. 

وإذا لم تحمل المرأة فتُؤخذُ إلى ''الطَالب'' أي الفقيه أو الشيخ. تذهب المرأة مع أمها أو حماتها إلى ''الطَالْبْ'' الذي يكتب لها حجاباً، وهو مخطوطة تضعها في حزامها، لعلّه يقيها من العين الشريرة أو السحر ويسرّع حملها وفق المعتقدات الشعبية المحلية. 


يلجأ معظم الأزواج في المغرب إلى الطب الشعبي، أو ما يسمونه "طب المسلمين" أو "طب العرب" حلّاً بديلَ الحل الطبي أو مكملاً له. فإذا ما أثبت الطّب عدم فعاليته أو ارتفعت مصاريف العلاج، فإنهم يلجؤون إلى الأعشاب التقليدية أو زيارة الأضرحة وتقديم النذور. ذلك أن بعض الأزواج المغاربة يلجؤون إلى هذه الوصفات، مع اللجوء إلى التكنولوجيا المساعدة على الإنجاب، لاعتقادهم بقدرة الطب الشعبي على تحقيق ما يعجز الأطباء عن تحقيقه.

 لم تكن عزيزة، المرأة المسلّحة بالثقافة والمؤمنة بالعلم والطّب، مقتنعة بجدوى تجريب وصفات شعبية من وحي الثقافة الشعبية للنساء. ولكن مع عجز الحلول الطبية رضخت لطلب حماتها وإصرارها. فقد وصّتها بأكل وصفة ''الحَرْتُوكة'' وهي سمك ممزوج بأعشاب تنشيطية تستعمل لرفع حرارة جسد المرأة تحفيزاً على الحمل. تقول عزيزة: ''طالما أن الوصفة عبارة عن وجبة سمك شهية، لا ضرر من أكلها، وطالما أنها تعبير عن عربون مساعدة من حماتي، التي لم تشعرني قط بالحرج أو تقل لي كلاما جارحا بسبب غياب الأطفال، قبلت خوض التجربة''.

سُميّت الوصفة بالحرتوكة نسبة إلى التسمية الشعبية التي تطلق على سمك قط البحر أو القروش القطية. ويُحَضَّرُ فيها قط البحر في "طاجين" مغربي يُخلط بأعشاب طبية، وتطهوها أم الزوجة أو حماتها أو إحدى قريباتها. وتُحَضَّرُ بوضع قط البحر ثلاث ساعات في صلصة من زيت الزيتون والملح مع الكرفس وراس الحانوت والثوم والكزبرة والبقدونس والكمون والكركم والإبزار والزعتر، ثم تطهى على الفحم. وهي وصفة ليلية في الموروث الشعبي؛ إذ ينبغي أن يأكلها كلٌّ من الزوجة والزوج ليلاً قبلَ النوم لتهيّج مبيض المرأة وتنشّطه، وتزيد قدرة الزوج الجنسية، فإذا أُتبع أكلها بالجِماع، يمكن أن تحمل المرأة. 

وهناك وصفة شعبية أخرى لعلاج العقم في المغرب تسمى ''العَتّوقة البَلدية'' أي الدجاجة البلدية. اقتُرحت هذه الوصفة على جميلة، 38 سنة، من مدينة طنجة لإنهاء معاناتها من العقم الأولي لتكيس المبيضين. لم تفكر جميلة من قبل أنها ستمر بتجربة العقم وأن حياتها وأحلامها ستنقلب رأساً على عقب. ولم تستطع تحمل ضغوط زوجها الممتنع عن إجراء فحوص الحيوانات المنوية، ونظرة أهله. جعلها هذا الأمر تمتنع من المشاركة في المناسبات العائلية وحضورها، لكن ذلك لم يبعد عنها عنف زوجها اللفظي وتهديده بالزواج بأخرى فعجّل بطلاقهما بعد أن خيّرها بين القبول بالضرّة أو الطلاق. تقول جميلة عن اقتراح العتوقة عليها: "في ظل عدم قدرتي على استعمال التكنولوجيا المساعدة على الإنجاب والعمليات الضرورية لعلاج العقم، وذلك نظرا إلى ضعف الإمكانيات المادية لزوجي وأسرتي، كانت الجارات والنساء من أفراد عائلتي ينصحنني بتجريب الوصفات الشعبية كي أحمل، وكن يحكين لي قصصا لنساء منحهن الله الأبناء بعد سنوات طويلة من العقم، وصلت لدى إحداهن إلى عشر سنوات من المعاناة".

تحضِّرُ النساء ذوات الخبرة، الأمّ أو مَن تقوم مقامها، وصفةَ العَتوقة البلدية في البيت. ويشترط أن تكون الدجاجة سوداء لم تضع بيضاً قط، وتضمّخ الدجاجة بالأعشاب الطبية والتوابل مثل راس الحانوت والزعفران والثوم والملح والزنجبيل والزعتر والنعناع الأوروبي وزيت الزيتون والإبزار. ولإعداد الوصفة تحشي النساء الدجاجة وتدهنها بالصلصة ثم تتركها يوماً حتى تتشبع بهذه المكونات. بعد ذلك يضاف إليها الماء والبصل وتطهى كل مكونات الوصفة في قدر خزفي أو معدني حتى تتكوّن "شربة"، وتقدّم بخَبز خُبز السميد وتفتيته في طبق ووضع الشربة عليه. ومن الطقوس الضرورية لأكل العتوقة البلدية الاستحمام في الحمام المغربي التقليدي، وكذلك وَجَب أكلها مساءً مع الشاي الساخن وتجنب شرب الماء بعد أكلها، وينبغي للمرأة بعد العَشاء أن تشد بطنها إلى الأعلى بحزام طيلة الليل. 

وتعد الأعشاب التنشيطية ''التسخينية'' من أشهر البهارات المعروفة في المغرب، وتباع عند العطار، وتُعرف في اللهجة المغربية باسم "المساخن". تستعمل لعلاج نزلات البرد وأمراض المسالك البولية ومشكلات العقم، وفيها مكونات عدة، منها رأس الحانوت وهو لفيف من التوابل التي ينبغي أن تجفف جيداً ثم تُغربل وتنقّى من الشوائب وتطحن. والعطار أو المعالج التقليدي وحدهم من يستطيعون تحديد الكمية المناسبة منها لعلاج هذه الأمراض.

ترى الباحثة في علم الاجتماع هدى العدوني أن تحديد هذه الوصفات يرتبط بالفهم الشعبي لأسباب العقم الذي يُمكن أن يُسبّبه البَرْد، إثر تعرض أعضاء المرأة التناسلية أو بطنها لدرجة حرارة منخفضة. أو أن تسبّبه العين الحاسدة أو السحر أو جني شرير. وتحديد سبب العقم في هذا النوع من العلاج اختصاص الْفْقِيه و''الشُوَّافة'' أي العرافة. وانطلاقاً من مقاربة إثنية وطبية اعتمدتها عالمة الاجتماع المغربية رحمة بورقية لفهم وظيفة هذه الوصفات التي تَعتمِد على مواد طبيعية نباتية وحيوانية لعلاج العقم، توصّلت الباحثة إلى أنها جميعاً تقوم على مبدأ واحد ألا وهو التعارض بين البارد والساخن الذي يميز الطب التقليدي أو ''طب المسلمين'' أو ''طب العرب''؛ ذلك أن العقم يرتبط بالبرد والخصوبة ترتبط بالسخونة. 


لا يكتمل علاج العقم عند المعتقدات الشعبية المغربية إلا بزيارة ضريح أحد الأولياء المعروفين. من هذه الأضرحة ضريح "مولاي بوشعيب الرداد" بمدينة أزمور جنوب مدينة الدار البيضاء. يُسمى مولاي بوشعيب شعبياً في المغرب ''عَطاي لَعْزارة''، أي واهب الأطفال الذكور. وفي المعتقد الشعبي أن لهذا الولي كرامة علاج العقم ومنح الذرية الصالحة للأزواج. تقول المعالجة التقليدية فاطنة: '' الولي أدرك الخُبْزَة [أي الخير المادي والمعنوي] مع الله، وحتى العبد ينبغي أن يُدركها، لذلك يجب على الإنسان عند زيارة الولي، أن يطلب من الولي أن يتضرّع معه إلى الله، لكي يُدرك هو أيضا الخبزة، لأن الولي لديه البركة ''. 

تتنوع طقوس العلاج بحسب كل ضريح والمعتقدات الشعبية عن كرامات الولي وبركاته. لكن بعض الطقوس مشتركة مثل الدوران حول الضريح، وإحضار النساء، سواء كنّ عقائم أم لا، الشموع والحليب والثمر عند زيارة ضريح مولاي بوشعيب الردّاد، ثمّ تدور الزائرة حول تابوت الضريح ثلاث مرات. وعند المغادرة يمنحها القيّم على الضريح شمعتين، ويطلب منها أن تشعل واحدة يوم الاثنين والثانية يوم الخميس. وأحياناً أخرى يمنحها مخطوطاً صغيراً ويَطلب منها أن تعلقه باستمرار على صدرها، لأنه يحميها من العين والشيطان.

ومن طقوس العلاج عند الضريح استعمال قطعة قماش طويلة تستعمل لتغطية رأس المرأة حزاماً تربطه المرأة على بطنها. فبعد الدوران حول تابوت الضريح سبع مرات، تحلّ الحزام وترميه وسط الضريح. أو تذهب إلى ''القرنة'' وهو مكان ذبح المواشي خلف الضريح، وترمي الحزام والثمر والشمع وتسكب الحليب وماء الزهر لكي يفك الله حزامها، أي يهبها القدرة على الحمل والإنجاب. وتأخذ بعض النساء الشموع إلى البيت وتزيّنها بالحنّاء وتشعلها. بعد الإنجاب تأتي العائلة مجتمعة إلى الضريح مجدداً وتذبح أضحية خروف وتسمي المولود الذكر باسم مولاي "بوشعيب".


وقد تتداخل زيارة الأضرحة بأكل الوصفات الشعبية والاحتفالات لعلاج العقم. وهذا ما جرى للسعدية (58 سنة) من مدينة فاس التي عانت التبعات الاجتماعية لعقم زوجها. تقول السعدية عن زوجها إنه: "كان يعرف أنه سبب عدم الإنجاب، لذلك كان يعاملني معاملة حسنة. وكان يمنحني الهدايا في المناسبات الدينية، لكن سلوكه معي تغير عندما وصلت إلى سن الأمان [أي اليأس] فلم أعد أحيض، حينها تأكد أنني لن أتركه وأتزوج غيره، فأصبح يمارس عليَّ كل أشكال العنف اللفظي والجسدي والحرمان من كل الحقوق الأساسية، بتحريض من نساء عائلته". وتضيف السعدية والدموع تنهمر من عينيها: "عندما نجتمع في المناسبات مثل الأعراس والأعياد الدينية، ينظرون إلي كأنني ينقصني شيء أو ارتكبت خطأً. إن مجتمعنا لا يرحم، لأن الرجل يريد أن يرى أبناءه يكبرون أمامه ويتفاخر بهم أمام العائلة، لذلك فالمرأة بلا أولاد مثل الخيمة بلا أوتاد، كما يقول المثل الشعبي المغربي، لهذا في المناسبات كلها كانت بعض النساء تشفقن عليّ ويدعين الله أن أنجب طفلا. بالنسبة لعائلة زوجي يبقى الرجل في نظرهم رجلا، بحيث لا يُرجعون سبب العقم إليه، دائما المرأة هي السبب في نظرهم، ولا يريدون الاعتراف بأن ابنهم هو السبب، بل كانوا دائما يحرضونه على الطلاق أو الزواج بأخرى".

جربت السّعدية بعض الحلول الطبية، ولم تستطع تجريب بعضها إما لرفض زوجها وإما لتكاليفها المادية، لينتهي بها المطاف في الطب الشعبي. فقد كانت تتردد مراراً إلى ضريح الولي الصالح "الشيخ الكامل"، بمدينة مكناس، الذي يساعد الأزواج على الحمل بزيارة ضريحه وتقديم النذور وأكل بعض الوصفات التي تحضر بجوار الضريح، كما يرى المغاربة. وجربت السّعدية أيضاً إحدى أشهر الوصفات الشعبية في المغرب وهي وصفة ''القدِّيدَة''، أي اللحم المقدد، التي يأكلها النساء للإنجاب بعد تأخر الحمل.

تنتظر النساء عيد الأضحى لجمع مئة قطعة وقطعة لحمٍ مقددّة من مئة أضحية وأضحية. ولذلك تجوب النساء الحي والأحياء المجاورة، ويطرقن أبواب البيوت حتى يجود عليهن سكّانه بقطعة اللحم المقدد. وبعد جمع كمية اللحم المطلوبة تُستعمل في إعداد وجبة الكسكس بعد يوم عاشوراء في طقوس احتفالية، إيماناً منهنَّ بحدوث المقصود، بغية تحرير جسد المرأة من التعاويذ السحرية المحتملة التي يمكن أن تعيق حملها. وتُخَزَّنُ شرائح اللحم هذه في خليط مشبع بزيت الزيتون ومكون ''المساخن'' وراس الحانوت ليلة كاملة قبل يوم الاحتفال.

وبقدوم يوم الاحتفال تُجهِّز النساء المرأة التي تتوقُ إلى الحملِ وتزيّنها كما لو أنها عروس تزف أول مرة، مسترجعة بذلك ذكريات ليلة زفافها. وتفد على ''العروس'' في هذه المناسبة صديقاتها وقريباتها من كل حدب وصوب لدعمها والدعاء لها بالإنجاب والذرية الصالحة. وتستقبلهنّ مرتدية لباس العروس، مزينة يديها ورجليها بنقوش الحناء على الطريقة المغربية. ومع حلول العصر تتوسط المحتفى بها النساءَ في حفل بهيج صاخب بالطرب والغناء والرقص، وأحيانا تُستدعى لهذه المناسبة راقصات الفن الشعبي المعروفات باسم "الشِّيخات" لتنشيط الاحتفال. وقُبيل نهاية الحفل يُقدّمُ الكسكس المعد بالكديدة والمطبوخ في الصلصة المكونة من المساخن وراس الحانوت للضيوف، وتنصّ التقاليد الشعبية على أن المرأة التي تعاني العقم هي أول من يتذوق طبق الكسكس، تصحبها زغاريد النساء. 

تمثل طقوس احتفال الكديدة عند السَّعْدية إحدى أجمل اللحظات التي بقيت راسخة في ذاكرتها لما مثلته من أسمى قيم التعاطف والتآزر والتضامن الإنساني مع حالتها. تقول السّعدية: "لا يمكن أن أنسى ذلك اليوم طيلة حياتي، إذ ما زلتُ أتذكر أدق تفاصيله، فقد كنت كعروس حقيقية، وحظيت بأبهى احتفال وكنت سعيدة جدا، وكنت مؤمنة بأن الله سيرزقني الذرية الصالحة بعد ذلك الاحتفال. أما الآن فإنني أشعر بحنين كبير إلى تلك اللحظات الجميلة، لا سيما وأنني اليوم أعيش مأساة حقيقية من زوجي وعائلته، ومن مرض السكري والضغط الدموي وسرطان الأمعاء التي أعانيها".

يلعب إيمان المرأة واعتقادها المتين أو ''نيّتها'' في فعالية العلاج التقليدي وتصديق طقوسه ومشاطرتها المعالجين التقليديين في نظرتهم إلى أثر الوهم بفاعلية في فاعليته حقّاً. هذا ما أكده الباحث محمد معروف بجامعة شعيب الدكالي بالجديدة، إذ إنه من غير هذه الشروط الضرورية يصعب أن تستجيب المرأة للعلاج. وهنا يجب التمييز في نظر الباحث بين الشعور بالتحسن والشفاء الفعلي، لأنه يتطلب متابعة طبية دقيقة لمعرفة النتائج. ويُعدُّ هذا النمط من الطقوس العلاجية صنفاً من أصناف العلاج بالوهم، إذ ينتاب المريضَ شعورٌ بالشفاء بغض النظر عن فعالية العلاج، لأنه مقتنع تماماً بأن الوصفة العلاجية التي قُدمت إليه فيها منفعة وقدرة على مقاومة المرض. 


مع أن تجربة عزيزة غلام وزوجها محمد العلاجَ الطبي الحديث والشعبي لم تسفر عن إنجاب، إلا أنها حوّلت تجربتها من فردية إلى جماعية فأسّست جمعية لدعم العقيم من النساء والرجال بمدينة الدار البيضاء سنة 2012. سمّت عزيزة الجمعية المغربية للحالمين بالأمومة والأبوة "مابا"، وكانت المبادرة فريدةً في المغرب، لزرع الأمل في نفوس المتطّلعين إلى الإنجاب. فالضغط الاجتماعي الذي تواجهه المرأة بسبب العقم قد يسبب لها حالاتٍ نفسية صعبة تبتدئ بالقلق النفسي، وقد تصل إلى الاكتئاب والتفكير في الانتحار. ومع اكتشاف حالة العقم يشعر الأزواج بقهر وأزمات نفسية تتمثل في نوبات حادة من ضيق تنفس وشعور بالقلق، نتيجة الشعور بالحسرة، وقد يدخل البعض في حالة من الاكتئاب والقلق الشديد الذي يتطور لدى بعض الحالات النادرة إلى التفكير في إنهاء الحياة عن طريق الانتحار.

في هذا السياق توضح نتائج دراسة ثانية للباحثة أمل بن بلة وفريقها سنة 2018، أن هناك ارتباطاً بين القلق والاكتئاب عند النساء اللائي يترددن إلى المركز الصحي للصحة الإنجابية بالرباط، وتوضح وجود ارتباط بين مدة العقم والقلق. وبينت أن النساء اللائي لم يكملن تعليمهنّ أكثر عرضة للاكتئاب من حاملات الشهادات، وبهذا يمكن الاستخلاص أن الضغط الاجتماعي والعقلي المرتبط بالعقم يمكن أن يكون مسؤولا عن اضطرابات نفسية متعددة، من بينها حالات القلق الشديد والاكتئاب. 

كان من أهداف تأسيس الجمعية دعم هذه الفئة الاجتماعية الهشة التي تعاني نفسياً واجتماعياً ومادياً في صمت، والتعريف بالجوانب الإنسانية لتجربة الأزواج مع العقم، لتحقيق أشكال التضامن والحصول على الاعتراف الرسمي بحق الأزواج في العلاج والدعم العمومي. ولذا جعلت الجمعية التأمين الصحي من مطالبها الموجهة إلى الوكالة الوطنية للتأمين الصحي ووزارة الصحة، وترى الجمعية أنّ ذلك سيمكن الأزواج من التمتع بحقوقهم في تغطية مصاريف تشخيص العقم وعلاجه وضعف الخصوبة. ودعت الجمعية الجهات المسؤولة إلى تسريع وتيرة توفير النصوص التنظيمية لقانون المساعدة الطبية على الإنجاب، وإصدار مخطط علاجي للمصابين بضعف الخصوبة، في إطار حق الزوجين في خدمات الصحة الإنجابية لرفع حظوظهم في الإنجاب، مع تأكيد فتح مراكز ووحدات للعلاج، وتقريب خدمات علاج العقم من المواطنين بالتساوي في أنحاء المملكة جميعها.

ولئن كان العقم وغياب الأطفال معاناة نفسية واجتماعية ومادية لكثير من الأزواج المغاربة، إلا أنّه يُظهر أشكال التضامن التي يحظى بها العقيم لا سيما المرأة، التي خصتها الثقافة الشعبية بوصفات شعبية مليئة بقيم التضامن والتعاون الراسخة في المجتمع المغربي. أضحى كذلك مقر جمعية مابا بالدار البيضاء مكاناً لتقديم الدعم النفسي والمادي للأزواج وتبادل النصائح والوصفات فيما بينهم، وللاحتفال كذلك بازديان فراش الأزواج بمولود بعد سنوات من المعاناة والصبر والأمل، سواء آمنوا بالحلّ الطبّي أم بممارسات الطبّ الشعبي.

اشترك في نشرتنا البريدية