انتشرت الشائعاتُ في الإنترنت سريعاً مدعيةً كذباً أن القاتل كان مسلماً وطالباً للجوء، لكنه كان في الواقع من عائلة مسيحية ملتزمة، ووُلد في بريطانيا لوالدين ولدا في رواندا، وانتشرَ اسمٌ مزيفٌ للقاتل يبدو عربياً. ضخَّم النشرُ على مواقع التواصل الاجتماعي هذه الرواية الزائفة، وبدأ تجييشُ الناس، وحوّل بعضُ المتجمعين خارجَ مسجد وقفةً صامتة من أجل الضحايا في ساوثبورت إلى أعمال عنف ضدَّ الشرطة شملت تخريبَ الممتلكات. في اليوم التالي تشكلت مجموعة متطوعين من المدينة من أعضاء المسجد ومن غير المسلمين لإعادة بناء جدار المسجد وإزالة آثار الفوضى. انتشرت الحشود في البلدات الأخرى في إنجلترا وإيرلندا الشمالية وخرجت مسيرات لليمين المتطرف واحتجاجات مضادة لها تؤكد أن اليمين المتطرف لا يمثّل المملكة المتحدة.
حصل كل ذلك بعد شهر تقريباً من انتخابات نيابية أُجريت في الرابع من يوليو انتصرَ فيها حزبُ العمال بقيادة كير ستارمر بأغلبية ضخمة على حزبِ المحافظين الذي حكم البلاد أربعَ عشرةَ سنةً لكنه تلقى أسوأ هزيمة انتخابية في تاريخه. شهد الاتحادُ الأوروبي قبل شهرٍ من بدء الانتخابات البريطانية انتخابات تقدَّم فيها مرشحون من أحزاب أقصى اليمين في بلدان منها النمسا وألمانيا وفرنسا، بينما توجد في إيطاليا والمجر حكومات يمينية. لذلك بثّت نتائجُ الانتخابات البريطانية الطمأنينة والزّهو معلنة فشل اليمين المتطرف، مع أن أصوات حزب الإصلاح البريطاني اليميني المناهض للهجرة كانت عاليةً في الحملة الانتخابية.
بعد شهرٍ واحد تعرَّضت أكثرُ من عشر بلدات ومدن في بريطانيا لعنف اليمين المتطرف. وانتشرت مقاطعُ مصورةٌ لأشخاصٍ يُسحلون من سياراتهم وأصبحت الأعمالُ التجارية التي يديرها أناس من غير البيض أهدافاً للعنف. وهوجمت الفنادقُ التي يُظنُّ أن طالبي اللجوء يقطنون بها. وكثيراً ما خرج العنف عن السيطرة ليصبحَ تدميراً ونهباً. هوجم أفرادُ الشرطة الذين حاولوا الحفاظ على السلم ونُقل بعضهم إلى المستشفيات.
اعتقلت السلطاتُ في بريطانيا أكثرَ من أربعمئة شخص على خلفية أعمال الشغب، وأخلي خمسمئة مكان بالسجن تمهيداً للإجراءات القضائية المتخذة سريعاً بحق المذنبين. وَعَدَ السياسيون المتورّطين في الشغب بعواقب وخيمة، وهو أمر ليس بغريب على رئيس الوزراء كير ستارمر. وقعت آخر أعمال شغب كبيرة في لندن سنة 2011، حين كان ستارمر مديراً للنيابة العامة، واتخذت أحكام عقابية شديدة حينها بحق أي شخص شارك في نهب الممتلكات أو تدميرها.
ليس ستارمر وحده الموجود في منصب مختلف تماماً بعد ثلاثة عشر عاماً، بل إن المشهد السياسي بالبلاد بأسرها قد تغير جوهرياً. كان استفتاء الخروج من بريطانيا، المعروف باسم "بريكست"، سنة 2016 هو الحدثُ الأكبر المتوِّج مدةً طويلةً تصدَّرت بها الهجرةُ الأجندةُ السياسيةُ على حساب قضايا أخرى، مع فشل صانعي السياسات في تحقيق وعودهم. حاول سياسيون يمِينيون مراراً تأجيج الخوف العام من الهجرة، وإدارته واستغلاله بما يتناسب مع أجنداتهم، وتماهت أصواتهم مع أصوات إعلاميين وناشطين يمينيين ومجموعات في حزب المحافظين وفي حزب العمال أحياناً، إذ رأوها مشكلة قد فتحت الباب لهم ليتمايزوا عن خصومهم.
توجه المحافظون إلى الانتخابات العامة سنة 2010 بهدفٍ معلنٍ هو تقليلُ عدد المهاجرين من مئتي ألف تقريباً سنوياً إلى "عشرات الآلاف". بعد ذلك تبنت تيريزا ماي هذه السياسة وحافظت عليها طوالَ الأعوام الستة التي عملت بها وزيرةً للداخلية، ثم في فترة رئاستها الوزراء، مع أن ذلك الهدف كان بعيد المنال. تحملت ماي حينئذٍ هجمات مُعادي المهاجرين الهادفة إلى كبح الهجرة وتقييد حركة المهاجرين الذين لم يملكوا حقاً قانونياً كاملاً وموثقاً بالإقامة في المملكة المتحدة، سياسة ساهمت بفضيحة ويندراش حين احتجزت السلطاتُ البريطانيةُ المئات من المهاجرين من دول الكومنولث ورحَّلتهم بعدَ حرمانهم من حقوقهم القانونية على إقامتهم الطويلة في البلاد.
فشلت سياسةُ الهجرة تلك السنوات فشلاً كبيراً، إذ استخدمت ماي القضيةَ لتعزز الثقة بها مع أنها كانت عاجزة عن تحقيق هدفها الأساسي. أدّت القضية دوراً واضحاً بحملة البريكست، وبقرار ماي إلغاء حرية الحركة بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي. لم يجر إلا نقاشٌ محدودٌ عن الأسباب التي تجعل هدف تخفيض عدد المهاجرين مستحيل التحقيق، بما في ذلك حاجة البلاد إلى العمال، والتزامها بالقانون الدولي، وضرورة الهجرة لدعم قطاع التعليم العالي الناجح بالبلاد.
سعى وزراءُ الداخلية اللاحقون لماي، ومنهم بريتي باتيل وسويلا بريفيرمان، إلى استخدامِ المنصب بتقديم أنفسهم متشددين بينما تجاهلوا توضيحَ كيفية تقليل أعداد المهاجرين أو ضمان معالجة وافية لمعاملات طالبي اللجوء. بلغ هذا الأداء العقيم ذروتَه بفشل سياسة بريطانيا في ترحيل المهاجرين إلى رواندا، ودفعت تحدياتُها القانونيةُ المتعددةُ في الحزب إلى المطالبة بانسحاب بريطانيا من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان. مع التركيز السياسي، في الأعوام الماضية، على إيقاف قوارب اللاجئين الصغيرة من عبور القناة الإنجليزية، بقيت أرقام الهجرة الكلية مرتفعة، بسبب حاجةِ بريطانيا للعاملين بالصحة والرعاية، وقبولِها أعداداً كبيرةً من الطلاب الأجانب، وفتح مسارات الهجرة الرسمية التي توفرها من هونغ كونغ وأوكرانيا. أضرّت هذه الخططُ مستحيلةُ التنفيذ الاقتصادَ، وعززت هذه المحاولات الفاشلة مراراً القضيةَ عند سواد الناس في وقت ازدادت به العواطف المضطرمة نحوَ القضية. واستغل الانتهازيون الغضب سريعاً وساهموا بتأجيجه.
ليست كلُّ مظالم روبنسون مرتبطة بالإسلام والمسلمين، إذ إنَّ بعض المواضيع مرتبطة بمناهضة الهجرة ولوم القادمين الجدد على انهيار الخدمات العامة من الإسكان والخدمات الصحية، التي لم يُلقَ اللومُ بها على تخفيض المحافظين النفقات في أعوامهم الأربعة عشر في الحكم، إنما على المهاجرين المتسببين بمزيدٍ من الطلب على الخدمات.
هذه الاستعاراتُ قديمةٌ في الخطاب السياسي لبريطانيا لكنها دُعمت مؤخّراً. كان حزبُ الإصلاح البريطاني أحد الإضافات للبرلمان هذا العام وهو بقيادة نايجل فاراج الشخصية المثيرة للجدل والفرقة، ومؤسس حزب الاستقلال البريطاني، الذي كان هدفه الوحيد هو مغادرة الاتحاد الأوروبي. بعد تحقيق "بريكست" أهدافَه سنة 2016 استقال فاراج من السياسة. لكنه لم يستطع الابتعاد كثيراً. قاد فاراج حزب بريكست المشكَّل حديثاً إلى انتصارٍ كبير في أثناء انتخابات سنة 2019 الأوروبية، ومع بداية الحملات في الصيف الماضي، قبلَ أسابيع فقط من الانتخابات العامة، أعلن قراره الترشح للبرلمان رئيساً لحزب الإصلاح، خليفة حزب البريكست الفائز بخمسة مقاعد، وأصبح به فاراج برلمانياً أوّلَ مرّة.
يفوزُ بنظام الانتخاب البريطاني الأحزابُ الأكثرُ أصواتاً، ويصعب بذلك على الأحزاب الصغيرة أن تحظى بمقاعد في مجلس العموم، إلا أنَّ هذا النظام يقدّمُ تسهيلات للأحزاب ذات القواعد الانتخابية المرتبطة بالجغرافيا، كالأحزاب القومية في اسكتلندا وويلز. هذا ما أبعدَ فاراج بدايةً عن البرلمان في قصر ويستمينستر، لكن ثمّة أسبابٌ تدفع إلى الاعتقاد بأنَّ انتخابات 2024 حملت بعضَ التغييرات السياسية، مع فوز خمسة مرشحين من حزب الإصلاح ونَيل ممثلي حزب الخضر أربعةَ مقاعد بعدَ أن كان حظهم مقعداً واحداً، وفوز أربعة مرشحين مستقلين بمقاعد إثر الاستياء من تعامل الحكومة البريطانية مع الحرب في غزة.
يختبئ وراءَ هذه الأرقام عددٌ كبير من المقاعد على امتداد شمالي إنجلترا ووسط البلاد، إذ يُعَدُّ حزبُ الإصلاح الآن هو الثاني بعد حزب العمال، وعددٌ كبير من المقاعد على امتداد لندن ومدن أخرى، منها بريستول ومانشستر وشيفيلد، إذ أصبح حزب الخضر هو الحزب الثاني. كشفت الجغرافيا الانتخابية كيف قد تؤدي سياسة البلاد إلى التشظي إن لم يستطع المحافظون التعافي، لا سيما أن العمال بدؤوا يخسرون الدعم.
حتى اليمِينيون المتطرفون الذين أسهموا بتعزيز الجو العام المناهض للهجرة أدانوا هذه التصريحات. كانت باتيل وزيرة الداخلية من أعوام 2019 إلى 2022، ولذلك كانت المسؤولة في أثناء احتجاجات "حياة السود مهمة". مع أن باتيل كانت تعدُّ فاراج "صديقاً"، وصفت تعليقاته عن أعمال الشغب بأنَّها "مضللة للغاية". استناداً إلى موقعه الجديد في البرلمان ربما يُتوقع من فاراج أن يتحرك نحو الوسط، بإظهاره رغبة بالعمل ضمن النظام السياسي القائم ودفعه إمكانية أن يصبح حزب الإصلاح بديلَ حزب المحافظين على المدى الطويل. اختار فاراج التمسك بالمتشدد، وأَجبرَ الآخرين على التجاوب مع توجه حزب الإصلاح. استغل آخرون في اليمين السياسي إبعادَ أنفسهم عن خطابه، لكن سيفكر الجميع بتبعات ذلك. تجري الآن انتخابات لقيادة المحافظين، وسيُختار أوّلُ مرشّحين بهما من الأعضاء على مستوى القاعدة، والذين كانوا مسحوبين أكثر نحو المرشح الأكثر يمينية.
حتى الآن يبدو أن السياسيين المحافظين سيُؤيّدون ردّاً قوياً من قواتِ إنفاذ القانون من العمال، بدل التمسك باليمين أو مهاجمة الحكومة. وبينما ما يزال العنف قائماً ويُتوقّع تزايده، مع وجود أهدافٍ جدد، مثل محامي اللجوء، ربما ستكون النتيجة النهائية أن ستارمر سيحصل على مزيد من الدعم لعقاب المسؤولين عن أعمال الشغب وتعزيز غضب الأغلبية الأخلاقي من العنف، ودعم التضامن مع جاليات المسلمين في بريطانيا. لكن رِهَان فاراج وحزب الإصلاح هو أن بريطانيا ستتحرك ببطء نحو ما تتحرك إليه عدد من الدول الأوروبية، ومع حلول الانتخابات القادمة، بعد خمس سنوات، سيكون حزبه خياراً منطقياً لمزيد من الناخبين.
لا يبدو أن أعمال الشغب ستنتهي قريباً. أتمَّ المتهم بجريمة القتل في ساوثبورت، أكسيل روداكوبانا، عامَه الثامن عشر قبل أيام، ومع عقد محكمة أخرى في أكتوبر قبل بدء المحاكمات في يناير، فثمّةَ نقاط اختلاف عدّة أخرى متوقَّعة. شهر أغسطس ملتهب بالفوضى، مع سعي الحكومة إلى إظهار قدرتها في ضبط النظام، وسعي الناشطين إلى بثِّ التفرقة ودعم الأفكار المتطرفة، ووجود أطراف مثل حزب الإصلاح وفاراج يسعون إلى تقديم خطاب يدعم خطاب أقصى اليمين ويدين ظاهرياً العنف الحتمي المقبل، كلُّ هذا مع توقّع مستقبلٍ يمينيٍّ متطرفٍ في المملكة المتحدة.