عام على احتجاجات السويداء: حراك مستمر وتباين في المطالب

مع انقسام الحراك الشعبي في السويداء ذات الأغلبية الدرزية إلى مكوّنٍ سياسيٍّ يطالب بإسقاط النظام السوري وآخر أهلي يقدّم المطالب الخدمية والمعيشية، خطت أطراف الحراك خطوات نحو الوِحدة فقاطعت انتخابات مجلس الشعب وشكلت هيئة عامة للحراك السلمي.

Share
عام على احتجاجات السويداء: حراك مستمر وتباين في المطالب
احتجاجات في مدينة السويداء بجنوب سوريا في 1 سبتمبر 2023. (تصوير: سام الحريري / وكالة فرانس برس/ خدمة صور غيتي)

اعتدتُ كلَّ يوم جمعةٍ من الأشهر الماضية أن أشاهد الفيديوهات والصور المنشورة على المواقع الإخبارية المحلية السورية عن مظاهرات ساحة الكرامة في مدينة السويداء، فضلاً عما يشاركه الأصدقاء في وسائل التواصل الاجتماعي. تأخذني الصور والفيديوهات، وأنا المقيم في باريس، إلى مسقط رأسي لأشاهد أهل مدينتي، ومنهم رفاق ومعارف وأقارب، يغنّون ويهتفون ضد نظام بشار الأسد. لحظات أسرقها أسبوعياً لأزور المدينة، ولو من بعيد، وأشاهد بثّاً حيّاً لانتفاضة جديدة من قلب سوريا مع كل الأهوال التي أعقبت ثورة 2011.

أشعر كأني في السويداء وأنا أنظر في الفيديوهات والصور إلى وجوه أعرفها، وأرى كيف غيّرهم الزمن فأحدهم فقد وزناً، والآخر بات يمشي متكئاً على عصاً، وكثيرون غزا الشيب رؤوسهم. منذ بدأ الحراك في 17 أغسطس 2023 مات بعض المشاركين أو قتلوا، وصاروا صوراً محمولةً في الساحة.  

بعد مرور سنة على الاحتجاجات السورية السلمية المعارضة لنظام الأسد في محافظة السويداء ذات الأغلبية الدرزية، الواقعة على بُعد مئة كيلومتر إلى الجنوب الشرقي من دمشق، تبدّى بوضوحٍ انقسام الحراك إلى فئتين إحداهما تطالب بحلّ سياسي لكامل سوريا بإسقاط نظام الأسد وتحقيق انتقال سياسي سلمي للسلطة، وأخرى معنية أكثر بتحسين الأوضاع المعيشية والاقتصادية المحلية. ومع محاولات النظام القضاء على الحراك بالتجاهل وتسليط آلته الإعلامية للتحريض تارةً، ومحاصرة المنطقة وجرّها إلى العنف تارةً أخرى، ما زال هذا العصيان المدني مستمراً وما زالت الفئتان تسعيان للتقارب والالتحام في جسمٍ واحدٍ، وقد حققا بعض خطواتٍ في هذا الاتجاه منها مقاطعة انتخابات مجلس الشعب النيابية مؤخراً وتشكيل هيئة عامة للحراك السلمي.


خرج المئات من أهالي السويداء في 17 أغسطس 2023 عفوياً إلى الشارع عقب قرارِ مجلس الوزراء السوري بتحرير بعض أسعار المواد الأساسية، أي ترك تحديد سعرها للسوق بدلاً من توفير الدعم الحكومي لثبيت سعرها، ومنها المحروقات. تظاهر الأهالي مطالبين بإلغاء القرار. كانت تلك المرة الأولى، على محاولاتهم الكثيرة للتجمع والتظاهر منذ سنة 2011، التي تمكنوا فيها من التجمهر في ساحة السير وهي الساحة المركزية في مدينة السويداء المحاطة بمباني الجهات الرسمية والسوق المركزي، من غير أن تواجههم قوات النظام بالعنف، أو تحشد ضدهم مسيرات موالية كما كان يحدث في الموجات الاحتجاجية السابقة. وأمام هذا الانتصار المعنوي اتَّخذَ المتظاهرون من ساحة السيّر، التي سمّوها ساحة الكرامة، موقعاً رئيساً لتجمعاتهم السلمية اليومية، إذ يجتمعون ويغنون ويرقصون ويدبكون ويرسمون ويلونون ويهتفون. وتزداد هذه المظاهرات غزارةً يومَ الجمعة.

سرعان ما تجاوزت مطالب فئة من المحتجين مسألة السلع الأساسية إلى مطالب سياسية، إذ رفعوا في ساحة الكرامة شعاراً رئيساً هو المطالبة بانتقال سياسي في سوريا، بعملية تقودها الأمم المتحدة تطبيقاً لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 سنة 2015 والقرارات الدولية ذات الصلة. وقد حظي الحراك بدعمٍ واضحٍ من الرئاسةِ الروحية للموحدين الدروز ممثَّلين بشيخ العقل حكمت الهجري، وشيخ العقل حمود الحناوي، مانحينَ الحراك حمايةً برمزيةٍ دينية. وشهدت الاحتجاجات حضوراً نسائياً فاعلاً ومميزاً على صعيد التحشيد، والتنظيم والقيادة.

تجاهل النظام الاحتجاجات في الأشهر الأولى من التظاهر، ولم يبادرها بالعنف أو القمع، مما أعطى المحتجين فرصة نادرة للتعبير عن آرائهم والنقاش والجدال في جوٍّ لم يتح للثوار سنة 2011 مع تأكيدهم في هتافاتهم "سلمية، سلمية". وانتشرت في السويداء تجمعات شبه دائمة في أكثر من قرية، أبرزها في بلدة القريا أمام متحف الثورة السورية الكبرى الذي يضم رفات قائد الثورة ضد الاستعمار الفرنسي سلطان باشا الأطرش. وكذلك بزياراتِ وفودٍ تُمثل المحتجين دارةَ شيخ العقل حكمت الهجري في بلدة قنوات، وشيخَ العقل حمود الحناوي في دارته في بلدة سهوة الخضر، لإعلان دعم موقف الشيخين المناصرين للحراك، وللتشاور في مطالب الحراك. شهدت السويداء كثيراً من الفعاليات الجماعية، مثل تخصيص يوم للمعتقل السوري، ورفع صور المعتقلين والمغيبين في سجون النظام، من أبناء المحافظات جميعها. إلا أنَّ الشكلَ الأبرزَ الطاغي على الاحتجاجات هو التجمع والغناء والهتافات في ساحة الكرامة.

عقب بدء الاحتجاجات ظهرت مبادرات متنوعة، مثل تشكيل تجمعات مهنية للمعلمين والأطباء ومعتقلي الرأي السابقين. إلا أن أياً من هذه التجمعات لم يتحول إلى شكل نقابي بديل عن النقابات التي يسيطر عليها النظام. وفي الأسابيع الأولى للاحتجاجات كان المحتجون يميزون بوضوح بين الدولة والنظام، إذ أغلقوا مقرات حزب البعث في كثير من البلدات والقرى في المحافظة، استناداً إلى أنَّ دستور سنة 2012 ألغى المادة التي تنص على أن حزب البعث قائد للدولة والمجتمع. بينما لم يغلقوا أي مقر لمؤسَّسةٍ رسمية رغبةً باستعادة دورها مزوِّداً رئيساً للخدمات وتفعيله وهو من المطالب الرئيسة للمحتجين.


شهدت ساحة الكرامة تحولاتٍ مهمة في الأشهر الماضية. يمكن رصدها بالتغيرات التي طرأت بظهور شرائح مختلفة من المحتجين، وتنوع أساليب مشاركتهم، وحجمها، وشعاراتهم وخطابهم. إذ حافظت شرائح رئيسة على حضورها في الساحة منذ البداية حتى اليوم، وهي تتكون من أبناء المدينة الميسورين والمعارضين التقليديين اليساريين والقوميين، وناشطين في المنظمات المدنية غير الحكومية وناشطات نسويات. ومن الممكن عدّ هذه الفئات المكوِّنَ السياسي للحراك ومعظم المنتمين إليه ميسورون وبينهم الأكثر تعليماً كالأطباء والمحامين والمعلمين والمتقاعدين، أو أعضاء الأحزاب السياسية التقليدية والمعتقلين السابقين. 

مطالب هذه الفئة السياسية إسقاطُ النظام وتطبيقُ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 سنة 2015. وهي الأكثر تواصلاً مع أطياف المعارضة السورية المختلفة الأخرى، بخلفياتها المناطقية والسياسية المتعددة، لا سيما هيئة التنسيق الوطنية، والمجلس الوطني المعارض. يصر المكوّن السياسي للحراك على أن الحلَّ سوريٌّ مركزيٌّ بالعاصمة دمشق، ويضمن الانتقالَ إلى دولة يكون أساسها المواطنة، بما تعنيه من حقوق متساوية للجميع، واحترام التنوع، وتطبيق العدالة بين أفراد المجتمع كافة دون تمييز. ترى مجموعات المكون السياسي أنّ السياسة لا مناطقية ولا محلية، بل على مستوى وطني عام، لذلك لا تحبذ الحلول أو الأطروحات المناطقية القائمة على الحوكمة المحلية من الأسفل، أي على تشكيل هيئات ومجالس ونقابات لإدارة الأزمات المحلية، أو الحلول الأهلية ذات الطابع الجزئي، أي التي تركز على إيجاد حلول لمشاكل معيشية مثل تحسين خدمات المياه والكهرباء.  

شاركت بالاحتجاج شرائح اجتماعية أخرى برهنت على قدرتها في الحشد الجماهيري، وسك تعابير سياسية مختلفة عن السائد في الساحة، لكن حضورها وفاعليتها تراجعتا حيناً بعد حين. يمكن تسمية هذه الفئة المكوِّن الأهليّ، وهم مجموعات عائلية شبه منظمة من أبناء المنطقة، معنية بحفظ الأمن المحلي، وكانت رأس الحربة في الهبّة ضدَّ عصابة بلدة عتيل التابعة لشعبة الأمن العسكري سنة 2022 التي قادها راجي فلحوط وقامت بأعمالٍ إجرامية من خطفٍ بغرض الفدية وتجارة المخدرات، واعتقالاتٍ لصالح الأجهزة الأمنية. معظم ممثلي هذا المكون هم أقل تعليماً من المكون آنف الذكر، فجلّهم من أصحاب المهن الحرّة والورشات المهنية، ممن يحظون بسمعة حسنة. ظلَّ جزء منهم موالياً للنظام أو حيادياً إلى أن تراجعت الأوضاع الاقتصادية والمعيشية خصوصاً مع انهيار قيمة صرف الليرة السورية بسرعة منذ منتصف 2018. خسر بعض أفراد المكون الأهلي هذا جزءاً كبيراً من قدراتهم المالية، وباتت قرارات الحكومة الاقتصادية التقشفية والضريبية ثقيلة الوطأة عليهم. وكثير منهم مِن أصحاب الأراضي الزراعية ذات المساحة الصغيرة، وممن يعملون في حرف ومهن ثانوية مع عملهم بالزراعة.

وإذ كان المكون السياسي وراء معظم التيارات السياسية، والتشكيلات النقابية حديثة النشأة التي رافقت احتجاجات ساحة الكرامة، فقد تولى المكون الأهلي مسؤولية التنظيم في مجموعات كبيرة وفاعلة، مستنداً إلى تقسيم تقليدي لجبل الدروز إلى مناطق تسمى "مقارن" وهي تضم مدينة السويداء وأربع مناطق أخرى هي: المقرن الشمالي، القبلي، الغربي والشرقي. ولا تتوافق هذه التقسيمات مع التقسيمات الإدارية الحالية، لكنها لا تزال مؤثّرة في تنظيم المجتمع المحلي. 


داوم المُكوّن السياسي على الحضور في ساحة الكرامة، وبات مع الوقت وجهها الأبرز والأكثر تمثيلاً والأعلى صوتاً. بينما تراجع حضورُ المكونِ الأهليِّ نسبياً ربما لعوزه مالياً مما ثبط استمراره في حضور الاحتجاجات. وظهر نوع من التوتر بين ممثلي هذين المكونين وقادتهم، بسبب ما يبدو أنه محاولة المكون السياسي فرض هيمنته على الرأي في الساحة، وعدّ نفسه وصياً أعرف وأدرى بالشؤون السياسية من المكون الأهلي الراغب في نقل الاحتجاجات من الحيز السياسي إلى الحيز المطلبي والمعيشي. إذ إنّ هموم الحياة اليومية دفعت الكتلة الأهلية للمشاركة في الاحتجاجات، إلا أنها لم تتمكن من التعبير الصريح عن مصالحها ومطالبها، ولا صياغتها ضمن برنامج عملي. ورفض المكون السياسي جملة وتفصيلاً دعمَ المطالب الخدمية والمعيشية الملحّة، أو أي تحرك من شأنه التعبير عنها في الشارع. لذا فشلت محاولات هذا المكون الأهلي في فرض الإضراب العام ودخول المؤسسات الحكومية مثل شركة النقل والمحروقات والكهرباء لفرض المحاسبة الشعبية عليها، والضغط عليها للعمل وخدمة الناس. ومن الحالات النادرة التي توافق فيها المكونان على عمل مشترك كانت إغلاق شعب حزب البعث وفرقه في عموم مناطق المحافظة.

ويبدو أن الفئة السياسية رأت في الحراك هدفاً في نفسه وغاية. وتُقدّس هذه النزعة الساحة أو الميدان أو الانتفاضة، وترفعها بوصفها صاحبة الشرعية الوحيدة التي يجب على الجميع عدم تجاوزها.  

تراجع حضورُ المكون الأهلي تدريجياً في ساحة الكرامة. لكنه انتقل إلى ساحةِ فعلٍ سياسيٍّ مختلفة تتمثل في إعادة تفعيل الخدمات المعطلة لمؤسسات الدولة، بمبادرات تنظيمية محلية. وتحقَّقت إنجازات كبرى في هذا الباب مثل إعادة تشغيل آبار الماء المعطلة اعتماداً على تبرعات المغتربين ومساعدات المنظمات غير الحكومية المانحة، وشراء قطع التبديل اللازمة للمضخات، أو تزويدها بمصادر طاقة كهربائية متجددة بدل الاعتماد على شبكة الكهرباء الحكومية التي تعاني من تقنين شديد. وأسّست هذه المجموعات علاقات تضامنية بينها، مثل إيجاد صناديق مالية مشتركة من أموال التبرعات لتأمين الإنارة الليلية للشوارع، ولحراسة بعض المواقع الزراعية والحراجية وإعادة تشجير المواقع التي طالها التحطيب الجائر. 

بينما لم يتمكن المكون الأهلي من إنجاز التشكّل السياسي ولا إيجاد هيئات وكتل سياسية قادرة على صياغة أهدافه ومصالحه والتعبير عنها، تعثّر المكوِّنُ السياسي أيضاً في إيجاد آلية لتنفيذ مطالبه السياسية العالية. هذا التباين بين طموحات الطرفين وقدرتهما على تحقيق مبتغاهما بات ثقيل الوطأة على الموجة الاحتجاجية برمّتها، وفرض نوعاً من الجمود السياسي. إذ إنَّ جذور الأزمة في السويداء كانت سياسية و معيشية. لكن الموجات الاحتجاجية السابقة في السويداء، منذ سنةِ 2011 أخفقت في إحداث أيّ تغيير عملي عميق على الأرض، لأنها أصرت دائماً على شطر واحد من هذه المعادلة؛ إما المطالبة بالتغيير السياسي، أو المطالبة بتحسين الأوضاع المعيشية. 


وباستعراض الطريق الوعرة الطويلة المؤدّيةِ إلى ساحة الكرامة، يمكن تقسيم الاحتجاجات وخلفياتها ومطالبها إلى مراحل مختلفة. فقد شهدت السويداء مظاهرات معارضة للنظام ومتضامنة مع بقية المناطق السورية بين عامي 2011 و2013. مرّت المظاهرات بمنعطفات متعددة لكنها حافظت على جوهرها السياسي المطالب بإسقاط النظام، وأيضاً على حاملها الاجتماعي المتمثل بالمعارضة السياسية التقليدية والطبقات المدينيّة الميسورة. ولكن بسبب الاعتقالات التي لاحقت بعض رموزها، وهجرة كتلة كبيرة من جمهورها خوفاً من تعسف النظام، تراجعت تلك الاحتجاجات تدريجياً قبل أن تتوقف سنةَ 2013. 

بعد مرحلة كمون طويلة، خرجت احتجاجات سلمية مطلبية واسعة النطاق على امتداد المحافظة، مثل حملة "بدنا نعيش" سنة 2020 رداً على انهيار قيمة صرف الليرة السورية وتدهور الأوضاع الاقتصادية، وحملة "خنقتونا" سنة 2021، وموجة احتجاجات شعبية أعقبت صدور قرار برفع الدعم عن المواد الأساسية مطلع سنة 2022. كان الحامل الاجتماعي الرئيس لتلك الحملات، التي دام كل منها بضعة أسابيع، هي شرائح اجتماعية متضررة مما آلت إليه الأوضاع الاقتصادية، وفئات شبابية من خريجي الثانويات والجامعات، ممن ضاقت أمامها خيارات العيش والبقاء في البلاد وانحصرت في البحث عن دروب الهجرة، أو الانتماء إلى الميليشيات الموالية للنظام، أو الخروج عن القانون والانخراط في عالم الجريمة المنظمة.

النظام الراغب بإبقاء صورته حامياً للأقليات، ضمن سرديته في مواجهة ثورة 2011 التي درج على وصفها بأنها "مؤامرة إرهابية" وحصرها بالمسلمين السنّة، واجه احتجاجات السويداء ما بين 2020 و2022 إما باستيلاء قوات النظام على الساحات العامة ومنع الناس من التجمع بالقوة، وإما بمنازعة المحتجين على أي موقع يتجمعون فيه، بحشد مضاد من أهل المنطقة نفسها الموالين للنظام، وغالباً من أعضاء حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم منذ العام 1963. إذن، حاول النظام دائماً تفريغ أي تجمع معارض له من محتواه السياسي، بتحويل النزاع إلى الحيز الأهلي بين أبناء الجماعة الدرزية، المعروفة بقوة علاقاتها العائلية.

بالتوازي مع تلك الاحتجاجات السلمية، وفي الفترة نفسها تقريباً، اندلعت هبّات أهلية احتجاجية عنفيّة، شاركت فيها فصائل أهلية مسلحة للحماية الذاتية، ضد عصابات أمنية تمتهن الخطف للفدية وتجارة وتهريب المخدرات والأسلحة، بعدما باتت مسالكها تهدد السلم الأهلي تهديداً لا مثيل له. بعض تلك العصابات كانت قد طورت بنية معقدة ومتراكبة من وسائل الجريمة المنظمة، بما فيها من طرق احتيال، وسائل اتصال وأسلحة، سجون ومراكز احتجاز ووسائل تعذيب، ومكابس صناعة حبوب كابتاغون المخدرة، وأيضاً حلقات عائلية من الوسطاء الاجتماعيين الذين يتدخلون لتغطية أعمالها.

أبرز الهبّات الأهلية كانت الانتفاضة ضد عصابة مدينة شهبا في يوليو 2021، وكذلك الانتفاضة ضد عصابة بلدة عتيل في يوليو 2022 التي شاركت فيها مجموعات محلية مسلحة من مختلف مناطق السويداء، ومنها بيارق من حركة رجال الكرامة، القوة الأهلية الأكثر تسليحاً وتنظيماً، وسقط على إثرها عشرات القتلى. في هذه الهبّات الأهلية العنيفة، حصل المنتفضون على دعم من الرئاسة الروحية للموحدين الدروز ممثلة بشيخ العقل الأول حكمت الهجري. آخر تلك الهبّات العنيفة، وخلافاً لما سبقها، توجهت للمرة الأولى ضد الدولة مباشرة، عبر حادثة اقتحام مبنى محافظة السويداء في الرابع من ديسمبر 2022، والذي شاركت فيه بعض الفصائل الأهلية المُسلحة الصغيرة، والمئات من الشباب غير المنظمين في أي قوى سياسية أو أهلية أو مسلّحة، وبلا دعم سياسي أو ديني أو أهلي. تسببت المواجهات مع القوى الأمنية، والتي استخدمت الرصاص الحي في قمع المحتجين، في اندلاع أعمال عنف وتخريب الممتلكات العامة. 

ومنذ سنة 2020 تشهد محافظة السويداء يومياً عشرات الاحتجاجات لمتضررين، بسبب تدهور الأوضاع المعيشية، وتردي خدمات مؤسسات الدولة. مثلاً، في السويداء وحدها دوناً عن أي منطقة سورية أخرى، خرجت احتجاجات ضد قانون البيوع العقارية رقم 15 لعام 2021، الذي رفع قيم الضرائب على جميع التصرفات العقارية وربطها بأسعار العقارات الرائجة، وخرجت احتجاجات ضد شرط إيداع نسبة من قيمة بيوع المركبات والسيارات في المصارف، وسط قيود كبيرة على سحبها. 

هذا التنوع في أسباب الاحتجاجات كان تصاعدياً يدفعه البحث عن الاستقرار في منطقة تغلي سياسياً وحتى مناخياً. إذ إن تعطل آبار ماء الشرب وغياب الكهرباء، صار يشكل خطراً حقيقاً بالعطش للناس والمواشي والزراعة. وبات معتاداً أن يعترض المتضررون شاحنات الوقود القليلة المارّة بمناطقهم، وإعادة توجيهها قسراً لتغذية مضخات الآبار، أو المولدات الكهربائية المرتبطة معها، أو لتشغيل مقاسم الهاتف والاتصالات في القرى النائية. إلا أن أبرز أنواع الاحتجاجات جاء بصورة نصب الفصائل المحلية المسلحة حواجزَ مؤقتة على الطرق الرئيسة، وتوقيف ضباط في قوات النظام، للمطالبة بمبادلتهم بمعتقليهم على خلفية سياسية معارضة لدى الأجهزة الأمنية، خاصة منهم المخطوفين الذين لا تعترف تلك الأجهزة بمصيرهم. 


تراكمت تلك الاحتجاجات حتى وصلت إلى ساحة الكرامة، واحتجاجاتها المستمرة منذ قرابة سنة كاملة، ليواجهها النظام بسياسة التجاهل الرسمي، مع محاولة احتواء الأوضاع وتخفيف حدة الاحتقان في الشارع، من غير تقديم أي تنازلات حقيقية. إذ لم يزر المحافظة أي مسؤول في الحكومة السورية لمناقشة ما يحدث فيها من حراك احتجاجي ضد السلطة السورية، ولم يصدر أي تصريح رسمي عن الأوضاع فيها. ولم تتكلف وسائل الإعلام الرسمية بتغطية أخبار الاحتجاجات في السويداء مع نزول الآلاف إلى الشوارع، وتحطيم تماثيل حافظ الأسد، وإزالة صور بشار الأسد من معظم المؤسسات الحكومية، وإغلاق مقرات حزب البعث في المحافظة.

في المقابل استخدم النظام مجموعة من المؤثّرين الموالين له، لبث محتوى خاص بأخبار السويداء والتعليق عليها في مواقع التواصل الاجتماعي، ومنهم رفيق لطف. وليس معروفاً عن هؤلاء أية خلفية صحفية أو مهنية، وغالباً ما تستند معلوماتهم إلى تقارير أمنية. اعتاد رفيق لطف في بثوثه المباشرة في صفحته على فيسبوك تسميةَ الناشطين بأسمائهم وتهديدهم بعقابهم الوشيك من الدولة، ومن ذلك تعبيره "الضرب في الرأس" بمعنى القتل. انتقلَ التهديدُ إلى حيّز التنفيذ عندما قُتِلَ قائد "لواء الجبل" مرهج الجرماني، بعد حملة شنّها ضدّه رفيق لطف، استمرت أياماً. كان جزء كبير من المحتوى تحريضياً على الدروز، يتهمهم بالطائفية والخيانة والعمالة للخارج. ومن أكثر الظواهر التي ركز عليها أولئك المعلّقون كانت رفع المحتجين في السويداء راية "الحدود الخمسة" رمزاً جامع للطائفة الدرزية، إذ عدّوه تحدياً مباشراً لمركزية الدولة السورية وأفكارها عن الوحدة الوطنية. الأداة الأبرز التي استند إليها النظام كانت زيادة الاعتماد على شبكة رجال الدين والوجهاء والزعماء الاجتماعيين الموالين له بين الدروز في السويداء وأيضاً في ريف دمشق والقنيطرة ولبنان، في محاولة لاحتواء النفوذ المتصاعد لشيخ العقل حكمت الهجري الذي ظهر موجِّهاً للحراك الاحتجاجي وقائداً له. وفي لحظات متعددة بدا وكأن في هذا عودة لمحاولات النظام إثارة الصراع الأهلي في السويداء.

منذ منتصف أبريل 2024، تصاعدت الأحداث إثر رفض الأجهزة الأمنية إخلاء سبيل طالب من السويداء، اعتُقل في حرم جامعة تشرين باللاذقية في فبراير 2024، بتهمة "النَيل من هيبة الدولة". وبعد مماطلة الأجهزة الأمنية، استجابت مجموعات أهلية مسلحة لمناشدة ذوي المعتقل ونصبت حواجز طيارة (أي نقطة تفتيش مؤقتة) في مدينة السويداء، وأوقفت عناصر وضباط من الجيش والقوى الأمنية، لمبادلتهم بالشاب المعتقل. اضطر النظام للإفراج عن الطالب الموقوف، في الثلاثين من أبريل، لتترك المجموعات الأهلية مَن أوقفتهم من ضباط وعناصر. وأسلوب الخطف المضاد هذا متبع في السويداء منذ سنوات، للإفراج عمن تعتقلهم الأجهزة الأمنية من أبناء السويداء خارج المحافظة لأسباب سياسية، أو لمن يحاول منهم مغادرة سوريا بشكل غير رسمي إلى لبنان من ريف حمص، وغالبيتهم من المطلوبين للخدمة العسكرية. ويلجأ الأهالي إلى هذا الأسلوب لعدم وجود أي طريقة قانونية أخرى يمكن بها معرفة مكان وجود المعتقلين ولا متابعة أوضاعهم.

بعد هذه الحوادث، أرسل النظام تعزيزات أمنية وعسكرية إلى السويداء، بدعوى المحافظة على "هيبة الدولة"، على حد تعبير الكثير من الناشطين التابعين للنظام على مواقع التواصل الاجتماعي. منذ نهاية أبريل حتى الأسبوع الأول من مايو 2024 وصلت إلى السويداء دبابات وعربات عسكرية، بعضها مزود برشاشات، وحافلات مبيت لأفراد الأجهزة الأمنية، توزعت على مواقع عسكرية وفروع الأجهزة الأمنية في المحافظة. مسؤولو النظام استندوا إلى وجود طلب رسمي وتفويض أهلي من وجهاء مدينة السويداء بإقامة الحاجز. وبعد أيام من الاشتباكات المسلحة بين القوات في الحاجز، وبين فصائل محلية، تم التوصل لحل وسيط، عبر شيخ العقل يوسف جربوع، المقرب من النظام، يقوم على تحويل الحاجز إلى نقطة عسكرية، وليس نقطة أمنية لتفتيش المارة، مع تعهد الفصائل بوقف التصعيد.

أصدر بشار الأسد في منتصف مايو 2024 مرسوماً عيّن فيه اللواء المتقاعد من جهاز أمن الدولة أكرم علي محمد، محافظاً جديداً للسويداء، خلفاً للمحافظ السابق ممدوح بارسيك. وتبع ذلك حالة من الانفلات الأمني غير المفهومة، بدأت فيها سلسلة عمليات خطف وقتل قامت بها عصابات، وطالت أشخاصاً من شرائح مختلفة، بينهم أطفال. وأمام هذا الجو المتوتر، قال الشيخ حكمت الهجري، في الخامس والعشرين من مايو إن على الإدارة أن تفهم أنها غير شرعية على الأراضي السورية، وأضاف أننا "خسرنا بلاداً وسيادةً ولم يعد لنا قرارٌ كدولةٍ على مستوى المنطقة والإقليم"، وأن "علينا الحفاظ على بعضنا ريثما يتم بناء دولةٍ صحيحة". أكّد الشيخ الهجري دعمه ساحة الكرامة ومحتجيها، وسلمية الحراك، وتطبيق القرارات الدولية المتمثلة بالانتقال السلمي للسلطة. بعدها، في مطلع يونيو 2024، اكتشفت لجنة تنظيم التظاهرات قنبلتين معدتين للتفجير عن بعد في ساحة الكرامة قبل مظاهرة الجمعة الأسبوعية. ثم بدأت تحضيرات جدية للتعزيزات الأمنية الجديدة بنصب حواجز عسكرية وأمنية حول مدينة السويداء، ما قد يكون مقدمة لعزلها عن بقية المناطق، ومنع المتظاهرين من التجمع فيها، أو القيام باعتقالات على الحواجز.

وإزاء هذه التطورات العنيفة في السويداء لإنهاء حالة الحراك الاحتجاجي، جاءت انتخابات مجلس الشعب التي عقدها النظام في الخامس عشر من يوليو، لتعطي الحراك قابلية المبادرة، بإيجاد تفاهم على أرضية مشتركة بين مكونيه الأهلي والسياسي. إذ بدا أن الجفاء بين الطرفين، بات قابلاً للتجسير بالاتفاق على برنامج من نقطتين: منع إجراء الانتخابات في عموم المحافظة، والاتفاق على آلية لانتخاب هيئة عامة للحراك السلمي في السويداء. وفي هذا، يكون كل من المكونين قد تقدم خطوة للقاء الآخر، وتنازلاً عما كان يعتبره شرطاً رئيسياً لا حياد عنه. رأت الفئتان أنه يمكن بمنع إجراء انتخابات مجلس الشعب إفقاد النظام شرعيته، وفي الوقت ذاته تشكيل هيئة خاصة بالسويداء تسعى لحل وطني عام، وأيضاً لإيجاد حلول لمشاكل الحراك والأزمات اليومية بالسويداء.

منع الناشطون في قرى وبلدات المحافظة كلها توزيع صناديق الاقتراع، وأغلقوا المراكز الانتخابية، وسط حملات أهلية لتنفيذ عصيان مدني، ومهاجمة المرشحين لمجلس الشعب بالكشف عن ارتباطهم الوثيق بالنظام وافتقادهم لأي رؤى أو أفكار لخدمة الناس. 

بالتوازي مع العصيان المدني في وجه انتخابات مجلس الشعب، خطا الحراك أهم خطواته السياسية الفعلية بالإعلان في منتصف يوليو عن تشكيل هيئة عامة للحراك السلمي في محافظة السويداء وضمت ممثلين عن نقاط الحراك جميعها في السويداء، بدعم كامل من الشيخ حكمت الهجري. ودعت الهيئة لانتخاب لجنة سياسية، وفتحت باب الترشح لمن يرى في نفسه الكفاءة والقدرة لهذه المهمة. قالت الهيئة إن تشكيل لجنة سياسية يأتي تماشياً مع "المطالب المحقة للسوريين وبناء دولة العدل والمساواة، وانطلاقاً من حق الشعب السوري في تقرير مصيره ببناء دولته الديمقراطية الدستورية العادلة"، وحددت ثلاثة ثوابت رئيسة: "وحدة سوريا شعباً وأرضاً، الحفاظ على الحراك الشعبي سلمياً ومدنياً، والعمل تحت مظلة الأمم المتحدة والالتزام بالقرارات الدولية ذات الصلة وتفعيلها". 

تسبب ذلك العصيان وما تلاه بغضب شديد لدى النظام، الذي ردّ بحشد الموالين خاصة من رجال الدين، وأجهزته الإعلامية، من دون جدوى كبيرة على الأرض. في يوم الانتخابات ومن دون سابق إنذار أطلقت قوات النظام المتمركزة في مبنى المحافظة وقيادة الشرطة النار بكثافة في الهواء وبين الأقدام، على المحتجين في ساحة الكرامة، مما تسبب بوقوع إصابات خطيرة. وفي انتقامٍ سريعٍ اغتيل قائد لواء الجبل مرهج الجرماني برصاصة من مسدس مزود بكاتم للصوت، وهو نائم على سريره في منزله بمدينة السويداء. ولواء الجبل واحد من الفصائل المسلحة في جبل الدروز والذي أسس للدفاع عن المنطقة وكان من أبرز الفصائل التي شاركت في الهبّات الأهلية المسلحة ضد العصابات سنةَ 2022، وشكل القوّة التي حمت المتظاهرين طوالَ السنة الماضية.


وأمام الصدمة الكبيرة، عاد الزخم مجدداً إلى ساحة الكرامة، التي شهدت واحدة من أكبر مظاهراتها. وعقدت الهيئة العامة للحراك السلمي أول انتخابات حرة خارج سيطرة حزب البعث وأجهزة السلطة السورية في بلدة قنوات لأحد عشر عضواً في اللجنة السياسية، والذين تتركز مهامهم على "تنظيم خطوات الحراك السلمي، والابتعاد عن الأحزاب والتيارات السياسية، لتحقيق تطلعات ومطالب الشارع بالحرية والسلام".

في سنته الأولى مضى الحراك قدماً برفض النظام وعباءة حزب البعث ووصايته على السويداء، وببناء علاقات مع المعارضة السورية بتنوّعها ومد اليد لبقية السوريين وإخراج السويداء من عزلتها. تمكن الحراك من إعادة المبادرة للناس، وإعطائهم الفرصة للكلام والانخراط بالعمل السياسي والتعبير عن آرائهم المتباينة. سنة كاملة لم يغب المحتجون عن ساحة الكرامة يوماً واحداً، ونظموا احتجاجات في كثير من الساحات الأخرى على امتداد المحافظة. سنة حاول الناس فيها مع الاحتجاج في ساحة الكرامة البحثَ عن حلول لمشاكلهم اليومية المعاشية. تبدت في هذه السنة مواقفُ مختلفة لمشيخة عقل الدروز بين موقف داعم للحراك، وآخر أكثر ميلاً للنظام. تجاهل النظام السويداء برمتها، وكأنها تنتمي إلى دولة أخرى، بينما حرّضَ النظامُ بآلته الإعلامية والأمنية على العنف الأهلي، وبثِّ التفرقة ونشر الإشاعات بين الناس. ما زالت ساحة الكرامة متعثرة في تحقيق أهدافها ذات البعد الوطني والحل السوري الكامل، في الوقت الذي تتعاظم فيه التحديات المعيشية المحلية التي ينسحق الناس تحت وطأتها. 

اشترك في نشرتنا البريدية