مَرَدُّ هذا الضعفِ البنيويِّ، مع مرورِ أربعةٍ وثلاثين عاماً على انتهاءِ الحرب الأهلية وصرفِ ملياراتِ الدولارات على مشاريعِ إعادةِ إعمارِ البلادِ، كان التناقضَ الجذريَ بين رؤيتَين للدولة اللبنانية لَم يَستطِع اللبنانيون التوفيقَ بينهما: نموذجُ هونغ كونغ ونموذجُ هانوي. الأوّلُ هدفُه النموُ السياسي والاقتصادي. بينما الثاني يتعلّقُ بالمقاومةِ الشعبية المسلّحة، بدءاً من تحرير جنوب لبنان وصولاً إلى تحرير فلسطين حيث تضعُ المقاومةُ ولا سيّما حزب الله ذلك ضمنَ شعاراتِها. عَرقَلَ هذا الصدعُ وجودَ إجماعٍ لبنانيٍ على عقيدةٍ دفاعيةٍ تجاهَ إسرائيل والتي جَرَّبَها لبنان مراراً من غزوِ مدينةِ بيروت وحصارِها وتدميرِها في سنة 1982 وصولاً لعدوانِ تموز 2006 وتكبّدِ البلادِ مليارات الدولارات خسائرَ في البنيةِ التحتية.
وهذا ما يُفسِّر امتناعَ الدولةِ والمجتمعِ عن اعتمادِ نموذجٍ اقتصاديٍ واجتماعيٍ يَعكسُ حقيقةَ وضعِ لبنان. فالنظامُ القائمُ الآنَ نظامُ دولةٍ إجرائيٌ ينظمُ سيرَ القانونِ والعلاقةَ بين المواطنين وأجهزةِ الحكومةِ ولكنّه يَفتقرُ جزئياً إلى المعنى والسلطة الفعلية ولا يملِكُ الأدواتِ الكافيةَ أو الخططَ لدرءِ خطرِ هجومٍ إسرائيليٍ شاملٍ قد يهدّدُ وجودَ لبنان. وبدلاً من ذلك يعيشُ البلدُ تناقضاً، فتَشتعلُ نيرانُ الاشتباكاتِ بين حزب الله والجيشِ الإسرائيليِ في جنوبِ لبنان فيما تتغنّى بقيةُ مناطقِه بموسمٍ سياحيٍ واعدٍ. وهو الأَمرُ الذي عَبّرَ عنه اللبنانيون بطُرفةٍ رائجةٍ على الإنترنت للإجابة عن سؤالِ ما إذا كان لبنان آمناً لزُوّارِه: "نعم، هو آمنٌ بحسبِ إنستغرام. كلّا هو غيرُ آمنٍ بحسبِ تويتر"، فالأولُ مقرونٌ بالسياحة والثاني بالبُعدِ السياسيِ وتداعياته.
لكنّ لبنانَ والعالَمَ تَغيَّرا جذرياً. ففي 2006 كان حزب الله لا يزالُ يتمتّعُ ببعضِ الرصيدِ الشعبيِ خارجَ بيئتِه المباشرةِ، كما أظهرَت نتائجُ استطلاعٍ أُجْرِيَ حينَها، ولَم يكُن قد خاطَرَ برصيدِه بعدُ بالقتالِ إلى جانبِ نظامِ بشار الأسد. لم يكُن النموذجُ الاقتصاديُ اللبنانيُ قد افتضحَ أَمرُه بعدُ كياناً احتيالياً تديرُه طبقةُ حكمٍ فاسدة. ولَم تكُن الدولةُ قد سقطَت في براثنِ واحدةٍ من أَسوأِ الأزماتِ الاقتصادية والمالية عالمياً. وكانت الحكومةُ اللبنانيةُ تتمتّعُ بالشرعيةِ التمثيليةِ والقدرةِ على التفاوضِ مع الجهات الخارجية من دولٍ ودبلوماسيّين وجهاتٍ مانحةٍ، ولديها بعضُ الثقةِ داخلَ لبنان وخارجَه لإدارةِ الحربِ ومرحلةِ إعادةِ الإعمار. لَم يكُن الربيعُ العربيُ قد بدأَ بعدُ، ولَم يكُن العالَمُ العربيُ منشغِلاً بالحروبِ الأهليةِ والأزماتِ كما هو اليومَ. وكذلك لَم تكُن بعضُ الدولِ العربيةِ قد سَلكَت طريقَ التطبيعِ مع إسرائيل علناً. والأهمُّ من ذلك كلِّه: لَم تكُن هناكَ جرائمُ حربٍ بهذا المستوى في فلسطين.
وفي هذا الصددِ قال جاد شعبان، وهو خبيرٌ اقتصاديٌ لبنانيٌ وأستاذٌ مشاركٌ في الاقتصادِ في الجامعةِ الأمريكيةِ في بيروت، إنّ "الدولَ المانحةَ الأساسيةَ التي هي دولُ الخليجِ العربيِ لن تَمنحَ مساعداتٍ إلى لبنان مثلما فَعلَت قبلاً في 2006 ... قد يقدِّمون بعض المساعَداتِ لمنعِ الانهيارِ الشاملِ، لكن بالنظرِ لاحتمالِ انقسامِ لبنان إلى مناطقَ تحكمُها أطرافٌ مختلفةٌ، قد يكونُ السؤالُ هل يقدِّمون المساعَداتِ لمَن في لبنان بعدَ الحرب؟"
أضافَ أن "أيَّ سيناريو حربٍ يوازي أو يذهبُ أبعدَ من حربِ 2006 سوف يؤدّي إلى الشللِ التامِّ في البلدِ. لبنانُ اليومَ، وعلى عكسِ 2006، لا يوجَدُ به تبادلٌ اقتصاديٌ داخليٌّ، بل يَعتمِدُ اقتصادُه أساساً على بعضِ التصديرِ للموادِّ الزراعيةِ والصناعاتِ الخفيفةِ لجذبِ الدولارِ النقديِ، وعلى تحويلاتِ المغترِبين النقديةِ التي تأتي أساساً من خلالِ حركةِ الأشخاصِ وليس التحويلاتِ المصرفية. هذا يعني أنه في حالِ ضَربَت إسرائيلُ المطارَ والمرفأَ والمعابرَ البريّةَ الحدوديةَ سوف يكون الأثرُ الاقتصاديُ والاجتماعيُ مُضِرّاً جدّاً بلبنان". تجدرُ الإشارةُ إلى أن ما يصلُ لبنانَ من أموالِ المغترِبين قيمتُه سبعةٌ إلى ثمانيةِ ملياراتِ دولارٍ في العامِ وفقاً للأرقامِ الرسمية.
يَتدارَكُ شعبانُ قائلاً: "ومعَ ذلك، فأحدُ التحوّلاتِ الإيجابيةِ بسببِ الأزمةِ الاقتصاديةِ الممتدّةِ هو خروجُ العديدِ من الناسِ من مراكزِ المدنِ إلى الأطرافِ، حيث بَدَؤوا بالاعتمادِ على أنفسِهم عِوضاً عن الدولة. مثلاً بإنتاجِ الطاقةِ بمعزِلٍ باستعمالِ الطاقةِ الشمسيةِ وتخزينِ الموادِّ الأساسية. وهو ما قد يساعدُهم على التحمّلِ والصمودِ في حالةِ الحرب". يُقِرُّ شعبانُ أن اللبنانيّين، حتى القِلّةَ الميسورين منهم، لن يَقدِروا على الصمودِ أكثرَ من شهرَيْن أو ثلاثةٍ يَنشأُ بعدها نقصٌ في الإمداداتِ الغذائيةِ وتضخُّمٌ مُفرِطٌ في أسعارِها إن توفّرَت. وهو الأمرُ الذي نراهُ في غزّةَ اليوم.
يتّفقُ أستاذُ العلاقاتِ الدوليةِ في جامعةِ القدّيسِ يوسفَ في بيروتَ، كريم إميل بيطار، مع شعبانَ على الآثارِ الاقتصاديةِ المدمِّرةِ لحربٍ موسَّعةٍ مع إسرائيل. ويقولُ إنّ تحويلاتِ المغترِبين واستجابةَ المنظَّماتِ غيرِ الحكوميةِ لن تكون كافيةً دون دَورٍ قويٍّ لمؤسّساتِ الدولةِ المركزيةِ الغائبةِ الآنَ. انتقدَ البيطارُ اعتمادَ الحكوماتِ اللبنانيةِ المتعاقبةِ "المفرِطَ" على تلك المنظّماتِ، وضعفَ خُطّةِ الحكومةِ تحت إشرافِ وزيرِ تصريفِ الأعمالِ ناصر ياسين ومحدوديةَ قُدراتِها. وحسبَ تقديرِ البيطار، فحتّى تحضيرُ حزب الله لتبِعاتِ الحربِ ضعيفٌ كذلك. وكان حزب الله وهو الفَصيلُ المهيمِنُ على لبنانَ قد اتّخذَ إجراءاتٍ للتعاملِ مع الأزمةِ الماليةِ في البلادِ كشراءِ الصيدلياتِ المتعثِّرةِ في الجنوبِ وإغراقِها بالأدويةِ السوريةِ والإيرانيةِ الأقلِّ كلفةً، وفتحِ محلاتِ بقالةٍ بأسعارٍ مخفَّضةٍ، وكذلك توفيرِ بديلٍ مصرفيٍ مثلَ مؤسّسةِ "القرض الحسن". إلا أن سِهامَ النقدِ وُجِّهَتْ للحِزبِ لأنّ هدفَ هذه المشاريعِ بالأساسِ بقاءُ الحزب.
يُردِفُ بيطارُ قائلاً: "قد يكونُ حزب الله يخزِّن ُالسلاحَ والموادَّ الأساسيةَ، لكنّه فَشِلَ في المساهَمةِ في إِنشاءِ نموذجٍ اجتماعيٍ اقتصاديٍ مستدامٍ قادرٍ على ضمانِ الاستمرارِ للدولةِ اللبنانيةِ والتصدِّي للتهديداتِ الداخليةِ والخارجيةِ مثلَ التهديدِ الإسرائيليّ". ثمّ يُحَذِّرُ أن الانهيارَ الاقتصاديَ في لبنان وضعفَ الدولةِ المركزيةِ يَضَعان البلادَ في خطرٍ وجوديٍ إذا اشتَعلَت حربٌ موسَّعةٌ ضدَّ إسرائيل. "قد ينتهي وجودُه كياناً سياسياً موحَّداً وتتفكّكُ سيادتُه وسلامةُ أراضيه. وقد تؤدّي النتائجُ الاقتصاديةُ وتبعاتُ حربٍ مع إسرائيل من تدميرٍ وقتلٍ إلى تعزيزِ أصواتِ الداعين إلى تقسيمِ لبنانَ إلى دُوَيْلاتٍ طائفيةٍ تَحكمُها ميليشياتٌ محليّةٌ متحارِبة".
كان رهانُ رئيسِ الوزراءِ رفيق الحريري وفريقِه منذ استلامِه الحكمَ بعد تلك الفترةِ حتى نهايةِ التسعينيات هو نجاحَ قطارِ السلامِ مع إسرائيلَ لخلقِ شرقٍ أوسطَ جديدٍ يَلعبُ فيه لبنانُ دَوْرَ "هونغ كونغ". فيصيرُ لبنانُ مَقَرّاً للشركاتِ الدوليةِ ومحطةَ نقلٍ وترفيهٍ لبقيةِ الشرقِ الأوسطِ، بما يَشملُ إسرائيلَ والدولةَ الفلسطينيةَ وسوريا والعراقَ والأردنَ والخليجَ العربي.
في مأدبةِ عشاءٍ في بيروتَ في أغسطس سنةَ 1997، كان الحريريُ لا يزالُ يأملُ في تحقيقِ السلامِ مع إسرائيلَ دون اعتبارٍ لما يَجري في فلسطين. صَرّحَ يومَها: "لقد قَطَعَ لبنانُ شوطاً كبيراً في استعادةِ مكانةِ الثقةِ التي كان يحتلُّها في العالَمِ، بتَفَهُّمٍ وتعاونٍ من أشقائِه العربِ وأصدقائِه". ثم أضافَ: "إنّ ما يَنتظرُه لبنانُ من أصدقائِه الأوروبيين هو حملُ إسرائيلَ على الانسحابِ من أرضِنا المحتلّةِ … أَعْلَنّا أكثرَ مِن مَرّةٍ أنّنا في لبنانَ وسوريا مستعِدّون للسَيْرِ في اتّفاقِ سلامٍ شاملٍ في غضونِ ثلاثةِ أشهُرٍ، إذا أَبْدَتْ إسرائيلُ استعدادَها للانسحابِ من الجنوبِ والبقاعِ الغربيِّ والجولانِ".
لكنّ قطارَ السلامِ مع إسرائيلَ لَم يَصِلْ إلى وِجهَتِه النهائيةِ. ففشِلَت مفاوضاتُ السلامِ بين إسرائيلَ وسوريا سنةَ 2000، والتي ارتبطَ مسارُ لبنانَ بها. وفَشِلَ قطارُ أوسلو الفلسطينيُ على السِكّةِ الموازيةِ بعد مباحَثاتِ كامب ديفيد في الولايات المتحدة بين ياسر عرفات ورئيسِ الوزراءِ الإسرائيليِ إيهود باراك. وعليه فَشِلَتْ رؤيةُ رفيق الحريري الاقتصاديةُ لِلُبْنانَ. اندلَعَت الانتفاضةُ الثانيةُ في نهايةِ السنةِ ذاتِها وقَوِيَتْ شوكةُ فصائلِ الجبهةِ الرافضةِ معاهدةَ سلامٍ مع إسرائيلَ، فيما صَعَدَ اليمينُ الإسرائيليُ المناهِضُ لحَلِّ الدولتَيْن ليَصِلَ إلى الهيمنةِ على مفاصلِ الحكمِ في إسرائيل.
انطلَقَ حزب الله في لبنانَ بالتوازي مع هذه التطوراتِ، أو نموذجِ هانوي كما وَصَفَهُ في حينِه وليد جنبلاط، متحوِّلاً من فصيلٍ صغيرٍ إلى الممثِّلِ الأَوّلِ لِأكثرَ من ثُلُثِ اللبنانيين، ومن ميليشيا على هامشِ القِوى اللبنانيةِ الأساسيةِ إلى جيشٍ شبهِ نظاميٍّ يُهيمِنُ على مفاصلِ الدولةِ اللبنانيةِ ويُحسَبُ لترسانتِه العسكريةِ حسابٌ في المنطقةِ، ويَضَعُ ضِمنَ أهدافِه المقاومةَ المسلحةَ وتحريرَ جنوبِ لبنانَ وصولاً إلى تحريرِ فلسطين.
اصطدَمَ مَسارا لبنانَ سنةَ 2000 عند خروجِ إسرائيلَ من معظمِ الجنوبِ اللبنانيِ باستثناءِ مَزارعَ شبْعا. فقد قَرّرَ حزب الله وجزءٌ من اللبنانيين بدعمِ دمشقَ وطهرانَ متابعةَ مسارِ المقاومةِ المسلَّحةِ ورَبطَها بمصيرِ الجولانِ المُحتَلِّ وفلسطين. فيما طالَبَ الجُزءُ الآخَرُ من اللبنانيين حزبَ الله بـاتّباعِ سياسةِ "التَلَبْنُنِ" وتركيزِ جُلِّ جهدِه على الداخلِ اللبنانيِ ومتطلباتِه بعد تحريرِ معظمِ الجنوبِ واعتمادِ "الحيادِ الإيجابيّ" فيما يَخُصُّ فلسطين. وهذا الحيادُ، أيْ دعمُ فلسطينَ من دونِ الاشتباكِ المباشرِ مع إسرائيلَ، طالَبَ به فِيمَن طالَبَ البطريركُ المارونيُ بشارة بطرس الراعي لأنه صيغةٌ لإنقاذِ لبنانَ ولأنه مُتَماهٍ مع مواقفِ الجامعةِ العربية.
استمَرَّ الاحتكاكُ بين حُلْمِ هونغ كونغ ومَسيرةِ هانوي حتى اغتيالِ رفيق الحريري في بيروتَ سنةَ 2005. اتُّهِمَ حِزبُ الله بالاغتيالِ مدفوعاً كما يُقالُ بانضواءِ الحريريِ في مشروعِ الشرقِ الأوسطِ الجديدِ المُناوئِ لمحورِ الممانَعةِ الذي يَضُمُّ حزبَ الله وإيرانَ وسوريا وفصائلَ فلسطينيةً، لا سيّما حركتَيْ حماس والجهاد الإسلامي، ويُناوِئُ الغربَ. تَبِعَ الاغتيالَ حربٌ إسرائيليةٌ فَشِلَتْ في هدفِ اجتثاثِ حزبِ الله سنةَ 2006 ثم تَلا ذلك ما يَقْرُبُ من عَقدَيْن مَلِيئَيْن بالاشتباكاتِ والاحتكاكاتِ والأزماتِ السياسيةِ مروراً بأزمةِ لبنانَ الاقتصاديةِ عامَ 2019 والتي فَضَحَتْ هشاشةَ نموذجِ هونغ كونغ وصعوبةَ تطبيقِه، بينما يُهيمِنُ نموذجُ هانوي اليومَ على مصيرِ لبنانَ بِلا إجماعٍ وطنيٍ عليه. ما يُثيرُ أسئلةً عن اعتبارِ الدولةِ اللبنانيةِ دولةً غيرَ فاعلةٍ يَنهشُها الفراغُ السياسيُ والدستوريُ وتَقتصِرُ جُلَُ مَهامِّها على الأُمورِ الإجرائية.
جزءٌ كبيرٌ من هذه الممارَساتِ الإجرائيةِ يَشوبُها الشَكُّ ويَحيقُ بها فشلٌ إداريٌ قديمٌ جديد. على سبيلِ المثالِ، أَغلَقَت الدولةُ اللبنانيةُ المَرافقَ المختصّةَ بفحصِ سلامةِ السياراتِ بعد خلافٍ مع الشركةِ المُشَغِّلةِ فبَاتَتْ آلافُ السياراتِ غيرَ آمنةٍ لركابِها. تَكرّرَ سوءُ الإدارةِ بشكلٍ صارخٍ في أزمةِ النفاياتِ وعجزِ الدولةِ اللبنانيةِ عن توفيرِ طُرقٍ صحيةٍ وعمليةٍ لإيجادِ حلولٍ لها؛ فلبنانُ اليومَ البلدُ العربيُ الوحيدُ بينَ الدُوَلِ العَشْرِ الأُولى عالمياً في مستوى التلوثِ بسببِ سوءِ إدارةِ النفاياتِ، وإِحدَى إرهاصاتُها أكثرُ من تسعمئةِ مَكَبٍّ عشوائيٍ في أرجاءِ البلدِ. إصدارُ الوثائقِ الرسميةِ والمعاملاتِ الإداريةِ ليسَ أقلَّ تدهوراً، فمعظمُ الدوائرِ الحكوميةِ والمحاكمِ في لبنانَ تَعملُ اليومَ بدوامٍ جُزئيٍ لِتَدَنّي الرواتبِ منذ اندلاعِ الأزمةِ الاقتصاديةِ المستمرّةِ سنةَ 2019. ما يعني أن معاملاتِ الناسِ من الأحوالِ الشخصيةِ إلى البَيعِ والشراءِ إلى التقاضي تَستغرقُ سنواتٍ بدلَ أشهرٍ وأسابيع. يُضافُ إلى كلِّ ذلك أزمةُ الفراغِ الإداريِ الكبيرِ في المناصبِ العُليا من قائدٍ للجيشِ، للمخابراتِ العسكريةِ، والأمنِ الداخليِّ والعامِّ، إلى حاكميةِ مصرفِ لبنانَ، والمدّعي العامِّ التمييزيّ. والأهمُّ شغورُ منصبِ رئيسِ الجمهوريةِ الذي عَجَزَ البرلمانُ عن انتخابِه منذ ما يقارِبُ العامَيْن مع المساعي الدوليةِ لحَلِّ هذه الأزمة. يَشغَلُ هذه المناصبَ الحسّاسةَ قائمون بالأعمالِ ومديرون تَنقُصُهم الصلاحياتُ والشرعيةُ الدستوريةُ التمثيلية.
مع استمرارِ الحربِ جنوباً وتصاعدِ التهديداتِ الإسرائيليةِ على لسانِ وزيرِ الدفاعِ الإسرائيليِ يوآف غالانت بإعادةِ لبنانَ إلى العصرِ الحجريِّ، إلّا أنّ الحكومةَ اللبنانيةَ لَمْ تَقُمْ سِوى بوضعِ خطّةِ طوارئَ متواضعةٍ. أُوكِلَت المهمّةُ إلى لَجنةٍ وطنيةٍ تحت إشرافِ وزيرِ البيئة. تتضمّنُ الخطّةُ إجراءاتٍ تَستمرُّ خمسةً وأربعينَ يوماً فقط من الحربِ، تَعترفُ الحكومةُ بعدَها بعجزِها عن فعلِ المزيد. تَستنِدُ الخطّةُ إلى مجموعةٍ من الافتراضاتِ المبنيّةِ على المقارَنةِ مع حربِ يوليو 2006، وتَشملُ هذه الافتراضاتُ تهجيراً قسرياً لمليون لبنانيٍّ لمدّةٍ تصلُ إلى خمسةٍ وأربعين يوماً. تشملُ الخطّةُ إنشاءَ مراكزِ إيواءٍ جماعيةٍ تَستوعِبُ حوالَي عشرين بالمئةِ من هؤلاءِ النازحين. وتتضمّنُ توقّعاتٍ بضغطٍ كبيرٍ على القطاعِ الصحِّيِ وتوفيرِ المستلزَماتِ الإنسانيةِ للنازحينَ في مراكزِ الإِيواءِ، بالإضافةِ إلى فرضِ إسرائيلَ حصاراً بحرياً وجوّياً على لبنان.
لكن حتى هذه الخطّةُ والتي تبدو متواضعةً وغيرَ كافيةٍ تتطلّبُ تمويلاً يناهزُ مئةً وخمسين مليونَ دولارٍ تحتاجُها الدولةُ اللبنانيةُ من الدولِ المانحةِ، عِلماً أن لبنانَ مِن أكثرِ دولِ العالَمِ تلقّياً للمساعَداتِ الإنسانيةِ الدوليةِ. قالَ وزيرُ البيئةِ ناصر ياسين في مايو 2024 لصحيفةِ "الأخبارِ" المحليّةِ: "خطّةُ الطوارئِ تُحاكي سيناريو وقوعِ حربٍ واسعةٍ بالاستنادِ إلى ما حصلَ في حربِ تموز 2006. لذا، أُعِدَّت الخطّةُ بنسختِها الأُولى بناءً على تصوّرِ أنّ عددَ النازحين سيَصِلُ إلى مليونِ شخصٍ على مَدى خمسةٍ وأربعين يوماً من المعاركِ والحصارِ الذي يَتضمّنُ إغلاقاً كُلِّياً للمرافئِ والمطاراتِ. وتَبيَّنَ لنا وجوبُ التنسيق مع الوزاراتِ والمجتمعِ المدنيِ وكلِّ القطاعاتِ القادرةِ على المؤازَرةِ. هكذا باشَرَت الدوائرُ المَعنِيّةُ في كُلِّ وزارةٍ، بتحديدِ ما لديها مِن مُؤَنٍ على شاكلةِ الغذاءِ والوقودِ وأدواتِ التعقيمِ وغيرِها. ولكن حتى الآنَ، لا مواردَ متاحة لدى الحكومةِ لتنفيذِها". ثمّ أضافَ الوزيرُ: "في حالةِ الطوارئِ المتعدّدةِ الجوانبِ، لا يمكن للإدارةِ الرسميةِ العملُ وحدَها. فقُدرةُ الدولةِ على الاستجابةِ وحدَها لا تتخطّى ستّةَ أسابيعٍ".
أمّا تعليماتُ الحكومةِ للقطاعِ الخاصِّ بالتأكّدِ من توافرِ الموادِّ الغذائيةِ والمحروقاتِ في حالةِ الحربِ فهي "حبرٌ على ورقٍ" حسبَ اعترافِ ممثّلِ موزِّعِي المحروقاتِ في لبنانَ فادي أبو شقرا لقناةِ الحُرَّةِ مؤخَّراً.
الخططُ الموضوعةُ لا توازي مستوى الخطرِ في وقتٍ تقومُ فيه إسرائيلُ بوضعِ خططٍ إغاثيةٍ وتحضيرِ الملاجئِ وشراءِ مولِّداتِ الكهرباءِ وتخزينِ الغذاءِ والأدويةِ تهيئةً لحربٍ قد تُماثِلُ ما يجري في قطاعِ غزّةَ. غيابُ المواردِ وضعفُ الاقتصادِ اللبنانيِ هو السببُ الرئيسُ وراءَ انعدامِ التخطيطِ إضافةً إلى تبنّي لبنانَ نموذجاً اقتصادياً لا يَتناسبُ مع كونِه إحدى دولِ الطوقِ التي لَم تُوقِّعْ معاهدةَ سلامٍ مع إسرائيل. استمرارُ هذا النموذجِ يضعُ لبنانَ في خطرِ الانهيارِ الشاملِ في حالةِ الحربِ الموسَّعةِ، ولهذا ظَهرَت دعواتٌ عديدةٌ عبرَ السِنينَ في لبنانَ لاعتمادِ ما يُسمَّى اقتصادَ الحربِ. كَتَبَت الأستاذةُ في جامعةِ القدّيسِ يوسفَ ببيروتَ، ندى الملّاح البستانيّ، المتخصّصةُ في الاستدامةِ والتنميةِ الاقتصاديةِ، في مقالةٍ بموقعِ "الجمهورية" اللبنانيِ أن خصائصَ هذا الاقتصادِ الأساسيةَ تعني السيطرةَ الشاملةَ على السياسةِ النقديّةِ لتجنّبِ التضخّمِ المفرِطِ وتفضيلَ الاكتفاءِ الذاتيِّ في المنتَجاتِ الأساسيّةِ والمعدّاتِ العسكريّةِ. يشملُ ذلك التدابيرَ الوقائيّةَ والاستباقيّةَ للحدِّ من استهلاكِ الطاقةِ وتغييرِ السياسةِ الزراعيّةِ بتوجيهِ المحاصيلِ والصناعةِ التحويليّةِ نحو إنتاجِ الحبوبِ. يَشملُ اقتصادُ الحربِ أيضاً زيادةَ إنتاجِ الصناعاتِ الثقيلةِ والعسكريّةِ وتنفيذَ تدابيرَ للحدِّ من الاستهلاكِ الخاصِّ، التي قدْ تشملُ التقنينَ للصناعةِ والاستهلاكِ بين الأُسَرِ. تُردِفُ البستانيُّ قائلةً: "يُعَدُّ اقتصادُ الحربِ فرصةً للنُموِّ والتنميةِ، حيث يمكنُ تلك الدولَ زيادةُ صادراتِها … وتقديمُ المساعَدةِ للّاجئين، والرعايةِ الطبيّةِ للجَرحى، وضمانُ استمراريّةِ سلاسلِ توزيعِ الغذاءِ الأساسيّةِ بشكلٍ عامٍّ".
يَعزو جاد شعبان الفشلَ في اعتمادِ نموذجِ اقتصادِ الحربِ إلى "الانقسامِ العموديّ" أي انقطاعِ الصِلَةِ والتفاعلِ المباشرِ بين اللبنانيين وممثّليهم من النخبةِ السياسيةِ إزاءَ مسألةِ الصراعِ مع إسرائيل. وهذا برأيِه أَدَّى إلى نوعٍ من التعايشِ بين منطقَيْن متناقضَيْن، والاتفاقِ غيرِ المعلَنِ على تقسيمِ لبنانَ إلى منطقةِ حربٍ مع إسرائيلَ ومنطقةِ حيادٍ معها. يضيفُ أن هذا التقسيمَ الذي حَمَى بعضَ مناطقِ لبنانَ تاريخياً من عدوانِ إسرائيلَ قد لا يحمي "منطقة الحياد" في لبنان في السيناريو الكارثيِّ الذي تهدِّدُ به إسرائيلُ اليومَ. ويَنتَقِدُ شعبانُ حزبَ الله لفَشَلِه في محاسَبةِ النظامِ السياسيِ والاقتصاديِ على سياساتِه التي أَوصَلَتْنا إلى هذا المَنحى، بل وعلى قيامِه بحمايةِ أركانِ هذا النظامِ خلالَ انتفاضةِ سنةِ 2019. وهذه الانتفاضةُ، أو ما سُمِّيَ بثورةِ السابع عشر من تشرين، امتدَّتْ لغايةِ سنةِ 2021 وكانت سلسلةً من الاحتجاجات المدنيةِ بَدأَتْ بسببِ الضرائبِ المُزْمَعَة على الوَقودِ، سَرعانَ ما تَطوّرَتْ إلى إدانةٍ عامّةٍ للدولةِ وسياساتِها الاقتصاديةِ والحُكمِ الطائفيِّ. فضلاً عن ذلك، عَمَّقَتْ كارثةُ مرفأِ بيروتَ في 2020 والتي راح ضحيّتَها المئاتُ فقدانَ الثقةِ بالدولةِ وزادَت مستوى الحنقِ في الاحتجاجاتِ ضدَّ النخبةِ السياسيةِ.
يَبقى اقتصادُ الحربِ مَطلَباً صعبَ التحقيقِ دونَ وجودِ إجماعٍ سياسيٍّ ودولةٍ مركزيةٍ قويةٍ خصوصاً مع غيابِ المشاريعِ المنتِجة أو تلك التي تُعزِّزُ قدرةَ لبنان على الاكتفاءِ الذاتيِ في الغذاءِ والدواءِ والطاقةِ، وهو مطلبٌ مُجْدٍ في وقتِ السِلْمِ ناهيكَ عن وقتِ الحربِ. بينما عادَ لبنانُ إلى وتيرةِ الاستيرادِ نفسِها التي سادَتْ قبلَ أزمةِ 2019، بما يشملُ القليلَ من الأساسياتِ والكثيرَ من الكمالياتِ والسلعِ الفاخرةِ. تعودُ جذورُ الأزمةِ الراهنةِ إلى الاقتصادِ السياسيِ في البلادِ وإلى طريقةِ تطوّرِه منذ نهايةِ الحربِ الأهلية. ومِن هنا يقولُ جوزف ضاهر، الأكاديميُ ومؤلِّفُ كتابِ "حزب الله: الاقتصاد السياسي لحزب الله في لبنان"، بأنه "رُكِّزَ باستمرارٍ على الاندماجِ بشكلٍ أعمقَ في الاقتصادِ العالميِ، وأيضاً على نموِّ القطاعِ الخاصِّ … ورَسَّخَتْ هذه السياساتُ الاندماجيةُ بعضَ السِماتِ التاريخيةِ للاقتصادِ اللبنانيِ، فظهرَ نموذجٌ تنمويٌ يركزُ على الأصولِ الماليةِ والعقاراتِ والخدماتِ وتشتدُّ فيه مظاهرُ اللامساواةِ الاجتماعيةِ والتَفاوُتات بين المناطقِ وتهميش قطاعاتٍ هامّةٍ مثلَ الزراعةِ والصناعةِ".