حفريات أثرية في شمال السعودية تغيّر التصورات عن العصر الحجري

تكشف المعالم الأثرية في منطقة العلا في المملكة العربية السعودية عن تقدم حضاري في العصر الحجري يفوق ما تصوره علماء الآثار سابقاً عن حياة الناس في تلك الحقبة

Share
حفريات أثرية في شمال السعودية تغيّر التصورات عن العصر الحجري
تضاريس صحراء العلا في المملكة العربية السعودية (مشروع التنقيب عن آثار فترة ما قبل التاريخ في العلا وخيبر)

استمع لهذه القصة

00:00:0000:00:00

تَشتهِر منطقةُ مدائنِ صالح قربَ مدينة العُلا شمالَ غربِ المملكة العربية السعودية بنُصبِ الأنباطِ المزيَّنة بنقوشٍ وزخارفَ متقَنةٍ محفورةٍ في الصخر الأحمر. لَم يهتمّ علماءُ الآثار بالمنطقة إلا مؤخراً، مع أنها تشبه في طرازها النبطيّ بلدةَ البتراء الأردنية. لكنّ نتائجَ اهتمام الباحثين بمدائن صالح كانت مذهلةً إذ بدأَت أعمالُ التنقيب داخل الأضرحةِ في تلك المنطقة سنة 2008 ووجد الباحثون أنها ما زالت تَضمّ رفاتَ الموتى، حتى إنّ قِطعَ الخزف والجواهر المدفونة فيها ما زالت متروكةً على حالها.

أصبحَت مدائنُ صالح أوّلَ المواقع الأثرية في السعودية التي تُدرَج على قائمةِ اليونسكو للتراث العالمي، وتصدّرَت عناوينَ الصحف حول العالم بعد معرضٍ بعنوان "العُلا: واحةُ العجائب في الجزيرة العربية". جابَ المعرضُ متاحفَ العالمِ الكبرى منذ 2019 وزُرْتُه في باريس سنة 2020، لتُذهلَني الصورُ الرائعةُ والتاريخُ القديمُ لتلك المنطقة.

استقبلَتني ملصقاتٌ في محطاتِ قطار الأنفاق عند عودتي إلى لندن بعنوان "روح العُلا"، مع صورِ المعرضِ الجميلةِ عينُها. كان هذا جزءاً من رؤية السعودية 2030 التي تستهدِف تنويعَ اقتصاد البلاد وجَعْلَ السياحةِ من أهمّ عناصر التنويع الاقتصادي. ولتسهيل نموّ هذا القطاع الواعد أصبحَ طلبُ التأشيرات السياحية لزيارة السعودية متاحاً على الإنترنت، ولَم تَعُد النساءُ بحاجةٍ لمرافقةِ محرمٍ أو ارتداءِ الحجاب لزيارة المملكة. أُقيمَت الفنادقُ والبنيةُ التحتيةُ المطلوبةُ، وتلقّى طاقمٌ من المرشدين السياحيين تدريباتٍ ملائمة. كلُّ ذلك حصلَ في ثلاثةِ أعوام.

قرّرتُ السفرَ إلى السعودية بعدما زُرتُ معرضَ العُلا في باريس، بَيْدَ أن الفرصةَ لم تسنحْ لي إلّا بعد جائحةِ كورونا ومرورِ أربعِ سنوات. انضممتُ إلى فريقِ تنقيبٍ أثريٍ لم يكن يعملُ على دراسةِ واستكشافِ آثارِ الأنباطِ، بل على ثقافةٍ نائيةٍ من العصرِ الحجريِّ الحديثِ كانت في أَوْجِ ذروتِها قبل أكثر من سبعةِ آلاف عام.


هبطَت الطائرةُ مع غروب الشمس في وقتٍ مثاليٍ لرؤيةِ المشهد الطبيعي الخلّاب. تزخرُ الصحراءُ بالأماكنِ المذهلةِ، لا سيّما ليلاً، حين يزولُ التلوّثُ الضوئيُ وتُكثِّفُ نداوةُ الجوِّ ضوءَ النجوم. هنا على ارتفاعٍ مماثلٍ لارتفاعِ الأُقصُر في مصر عن سطحِ البحر الأحمر وعلى بُعد 200 كيلومتراً تقريباً عن مدينة العُلا وأكثر من 600 كيلومتراً عن العاصمة الرياض، يُصبحُ الجمالُ فريداً. وذلك لِما تختصُّ به تضاريسُ الصحراء شمالي السعودية، حيث تُلقي حروفٌ منقوشةٌ بالصخرِ ظلالَها على حجارةِ النَشَفِ الحمراءِ، البازلْتيةِ كما تُعرَفُ، راسمةً آفاقاً ممتدّةً يتخلّلُها شيءٌ من النُتوءاتِ الحَجَريةِ المنسوجةِ بأشكالٍ مدهشةٍ تشوبُها الحُمرةُ، خصوصاً وقتَ الغروب.

بدأَ علماءُ الآثارِ مؤخّراً محاولةً لفهمِ المجتمعاتِ السكانيةِ التي سَبقَت وبآلافِ السنين حضارةَ الأنباط. كان الأنباطُ أصحابَ السلطةِ بالمنطقةِ في القرن الرابع قبل الميلاد قبل أن يقضيَ الرومانُ عليهم إبّانَ بِعثةِ المسيح عليه السلام. بقيَت تلك الثقافاتُ القديمةُ على هوامشِ وَعْيِنا التاريخيّ، فهيَ لَم تُخلِّفْ سجلّاتٍ مكتوبةً، وطالما نَظرَت المجتمعاتُ الحَضَريةُ بازدراءٍ لأنماطِ الحياةِ الرعويةِ منذُ القِدَمِ وحتى اليوم. بَيْدَ أن الناسَ في العصر الحجري الحديث في الجزيرة العربية تَركوا وراءَهم مبانيَ خالدةً تبجِّلُ آلهتَهم وموتاهم، وتَركوا معها أيضاً فنّاً نقشوه في الصخر. ويُظهِرُ امتدادُ فنِّهم وانتظامُه أنهم لم يعيشوا في مجتمعٍ معزولٍ، بل حَملوا ثقافةً مشتركةً امتدّت على مساحةٍ تتجاوز الثلاثمئة ألف كيلومترٍ مربّع. ولم يُسمَع بها بأيّ موقعٍ أثريٍّ آخَرَ من الفترة نفسها، وقبل بروزِ أيّ مجتمعاتٍ أُخرى من تلك التي اعتنقَت الأديانَ الإبراهيمية. ولذلك تُحوِّلُ الاكتشافاتُ المتعاقبةُ من الصحارى السعوديةِ تصوُّرَنا عن حياةِ أسلافِنا مِن عصورِ ما قبلَ التاريخ.


سألَني مضيفي عالمُ الآثار هاغ توماس من جامعة سيدني الأسترالية، وهو يقودني في قلبِ الصحراء البديعة شرقي العُلا "أَترَيْن تلك الخطوطَ المظلِمةَ على المنحدر؟" جاوبتُه "نعم" فالخطوطُ تَقطعُ منحدراتِ الحجارة الرملية على جانب نتوءٍ صخريّ. كان ذلك المبنى المستطيلُ أوّلُ ما رأيتُه من تلك النُصبِ القائمةِ، التي تُسمّى المستطيلات، من نهايةِ الألفيةِ السادسةِ قبل الميلاد، والمنتشرةِ على امتدادِ الأُفق. كانت المباني الأثريةُ واضحةً من المروحيةِ، على انخفاضِ ارتفاعِ جدرانِها. بُنيَت هذه المباني الواسعةُ التي بلغَ طولُ أكبرِها ستمئة مترٍ تقريباً باستخدام آلياتِ إقامةِ الجدرانِ بالحجرِ الجافّ. صَمَدَت الجدرانُ المنخفضةُ سبعةَ آلاف عامٍ ووَقَفَت مكانَها تُجابِه رياحَ الصحراءِ وتعدّياتِ الناس.

استُخدِمَت المستطيلاتُ جيلاً بعد جيلٍ لتقديمِ قرابينَ مِن حيواناتِ المواشي طيلةَ ألفِ عامٍ من العصر الحجري الحديث، وهو العصرُ الممتدُّ بين تسعةٍ وأربعةِ آلاف سنة قبل الميلاد. لم تُعرَف هذه المعلوماتُ إلا سنة 2019، لكنها ساهمَت برسمِ الصورةِ عن هذا المجتمعِ العتيق.

أجرى هاغ وعالمةُ الآثار في جامعة سيدني ميليسا كينيدي مسحاً جوياً عام 2018 لمدينةِ العُلا البالغةِ مساحتُها عشرين ألف كيلومترٍ مربعاً تقريباً، إذ التقَطوا صوراً من مروحيةٍ لكلِّ مواضعِ البحثِ المحتمَلة. حدّدَ الباحثان أماكنَ مئاتِ المستطيلات التي تتكوّن كلُّها من فناء ٍكبيرٍ ذي رأسٍ وقُمرةِ دخولٍ بالأسفلِ. وقد كشفَت الحفرياتُ عن أدلّةٍ على تقديمِ قرابينَ حيواناتٍ، وعلى وجودِ حجارةٍ قائمةٍ في بعض المستطيلات يُعتقَد أنها حجارةٌ مقدسةٌ تمثّلُ إلٰهاً ما. كان لبعضِ المستطيلات ملامحُ أُخرى مثلَ وجودِ خلايا خارجيةٍ صغيرةٍ، لكنّ البنيةَ المستطيلةَ الأساسيةَ موجودةٌ على مساحةٍ جغرافيةٍ واسعة.

كُشِفَ عُمرُ هذه الآثار صدفةً في أثناء استراحةٍ قصيرةٍ لفريق البحث. قال هاغ وهو يشيرُ إلى تلّةٍ قريبةٍ: "ذهبَت ميليسا لقضاءِ حاجتِها هناك حينَ توقّفَت المروحيةُ قليلاً، وعادَت وهي تُلوّحُ بسوارٍ حجريّ". بدا أن أُولى الموجودات، والتي سمَّاها الفريقُ "إسوارة التبوّل"، تَرجع إلى نحوِ سبعةِ آلاف عام. كان على هاغ ورفاقِه مغادرةُ الموقعِ الأثريِّ المحيِّر إلى حين. تلك هي طبيعةُ عِلمِ الآثارِ إذ يُمكِنُ العثورُ على قِطَعٍ أثريةٍ ذاتِ أهمّيةٍ عاليةٍ من نظرةٍ عابرةٍ، وربما يَقضي الباحثون أَيّاماً بالتنقيب المتأنّي فلا يَجِدون شيئاً.

صَعَدْنا التلَّ جائِزين قُمرةَ المستطيلِ وعلى قمّةِ النتوءِ الصخريِ وَجَدْنا مثالاً آخَرَ أَوضَح. المدخلُ الصغيرُ غيرُ ظاهرٍ إذ تَحجبُه الصخور. هذا ليس تجمّعاً طبيعياً من الحجارة. يرى هاغ أن الصخورَ موجودةٌ هناك لغرضٍ مرتبطٍ بطقسٍ ديني. جدرانُ الباحةِ منخفضةٌ إلى حدٍّ يَسمحُ لأيِّ بشرٍ أو حيوانٍ بالدخول وهو ما يعني استبعادَ استخدامِ المستطيلات للرعي، ولذا يُعتقَد أن المدخلَ المغلَقَ ذو بُعدٍ رمزيٍ أكثرَ من كونِه عملياً. يزيلُ هاغ الصخورَ بقدمِه ليَقتحمَ الممرَّ الضيّقَ في الباحة الكبيرة، وأنا أَتبَعُه، متعقّبين آثارَ بشرٍ مَشوا هنا قبل نحو سبعة آلاف عام، لم يستطيعوا الدخولَ إلا واحداً واحداً كما نفعلُ الآن.

قال لي هاغ ونحن نَعبُرُ الباحةَ نحوَ رأسِ القمّةِ، حيث تُترَكُ القرابينُ: "نَعتقد أن هذه المساحةَ للطواف". أَكّدَ أوّلُ أبحاثِ الفريقِ المنشورُ عام 2021 أن هذا قد يكون دليلاً على أوّلِ "عبادة قطيع" معروفةٍ بالمنطقة، لكنهم تراجعوا عن ذلك. وهذا مِن مخاطرِ عِلمِ الآثار، حيث يمكن لاستراحةِ مرحاضٍ واحدةٍ أن تعيدَ تفسيرَ مشهدٍ أثريٍ بأكملِه. أوضحَ لي هاغ:"في أُولى المستطيلات التي نقّبنا فيها، كنّا غالباً ما نجدُ القطيع"، إلى أن حصلَ اكتشافٌ جديدٌ: فوقَ سهامٍ موضوعةٍ بعنايةٍ في رأسِ أحدِ المستطيلات، مشيرةً لصلةٍ بين الصيدِ وطقوسِه والحيواناتِ المدجَّنةِ المقدَّمةِ قرابينَ.

نحن الآنَ في الرأسِ، ونَفرُكُ الأرضَ بحثاً عن أيّ كسرةٍ عضويةٍ يمكن أن نحدّدَ تاريخَها لا سيّما بعضَ قطعِ الأسنانِ الصلبةِ، لكنّنا لَم نَجِدْ شيئاً.

هَبطْنا التلَّ ووَجدْنا مستطيلاً آخَرَ على المنحدر، رأسُه تماماً تحت إطلالةِ صخرةٍ كمستطيلاتٍ أُخرى وُضِعَت بهذه الطريقة، إذْ تَأخُذ المستطيلاتُ كلَّ التوجّهاتِ الممكنةِ وتحتلُّ أجزاءً مختلفةً من المنطقة. يَصرخُ هاغ فرحاً لإيجاده قطعةً من مِينا أسنانِ الماشيةِ، إذ كانت كبيرةً يمكن تحديدُ عمرِها باستخدام الكربون. بينما يأخذُ هاغ ومساعدتُه الباحثةُ إيميلي كولير الصورَ والملاحظاتِ، أحاولُ تخيُّلَ استخدامِ المكانِ حَولي. هذا المنحدرُ يُشبه الأولّ الذي تسلّقناه، فهو شديدٌ والحَصى هناك تُصعِّبُ المَشيَ. قد يكون مساراً صعباً للخوضِ، ناهيك عن حملِ حيوانٍ كقُربانٍ، لكن قد يكون هذا أحدَ الأهداف لضرورةِ التضحية بالجهدِ واللحم. ولكن إن كان هذا هو القصدَ فلماذا توجد العديدُ من المستطيلات على أجزاءٍ مستويةٍ من التلال لا على المنحدرات. 

سألتُ هاغ عن نمطٍ لتَموضُعِ المستطيلات وتوجيهِها، فأجابَني كالعادةِ بأن هناك شكلاً بلا تعريفٍ، في ميزة لعلم الآثار بهذه الفترة. بدأَ إجابتَه بالقول إن "الرأسَ عموماً يشيرُ نحو مَوارد المياه، ولكن ليس دائماً". يتوافق هذا مع نظريةِ عبادةِ القطيعِ لأنه مَصدرُ لحمٍ كثيرُ الاستهلاكِ للمياهِ. لكن هاغ يقول إن هناك صعوباتٍ تواجِهُ هذا التفسيرَ "بعضُها ظاهرٌ في المشهد وبعضُها مُخبّأٌ ونحن لا نعرف لأن هناك أدلةً على استخدامِ المستطيلات مئات السنين، وإن كان هناك تغيّرٌ بسبب وضعِها ببعض الأماكن دون غيرها. كل ما نَعرفُه أنها قد تكون بدأَت في الخفاء ثم أصبحَت ظاهرةً أكثرَ، نحن لا نَعرفُ وحسب".

لاحَظَ السكانُ المحليون هذه المباني، فالبدوُ بالأردن يسمّونها "آثار القدماء" جامعين مباني العصر الحجري الحديث مع النُصبِ الأثريةِ اللاحقة. كذلك لاحَظَها الأجانبُ، فقد وَصَفَ الرحالةُ تشارلز داوتي في القرن التاسع عشر جدراناً تَسطعُ من مبانٍ دائريةٍ وأماكنَ مغلقةٍ مثيرةٍ ذاتِ جدرانٍ مزدوجةٍ في كتابه الصادر عام 1888 بعنوان "ترحالٌ في صحراءِ الجزيرة العربية". بعد أربعين عاماً من ذلك، لاحَظَ الملازمُ الطيارُ بيرسي مايتلاند الذي كان يسافر بانتظامٍ بين الأردن والعراق المبانيَ نفسَها وهو يعبر شرقي الأردن. في مقالةٍ نُشرَت عام 1927 أشار مايتلاند إلى أنها كانت مبانيَ دفاعيةً عتيقة. ومع هذه الأوصاف المنشورة فلَم تَجذِب "آثار القدماء" هذه انتباهاً كبيراً إلى أن حَفّزَت رؤيةُ السعودية 2030 عملياتِ الاستقصاءِ الأثري.

مع انتشار الأخبار حول المستطيلات بدأ الناس في السعودية يرسلون للفريق صورة لأمثلة أبعد ليصل مجموع ما تم تحديده منها الآن إلى 1600 مستطيلاً. يقول هاغ: "لدينا أمثلةٌ على امتدادِ الطريقِ وصولاً إلى مكة والرياض، وهذا دُونَ المسحِ المكثّفِ الذي قُمنا به في العُلا. مَن يَعرف ما الذي سيُكشَفُ عنه أيضاً، فما يجري عملياً هو قاعدةُ بياناتٍ أثريةٍ لا نظيرَ لها في العالم بأَسرِه".

يُمثّلُ الانتشارُ الجغرافيُ أحدَ النتائجِ الأساسيةِ التي تستلزمُ إعادةَ تقييمِ ثقافاتِ العصر الحجريّ حول العالم. يقول هاغ: "لا نستطيع أن نَفترضَ بعد اليوم أن المواقعَ على بُعدِ ألف كيلومترٍ ليست مرتبطة، إذ تظهر هنا ثقافةٌ من الألفية الخامسة قبل الميلاد على تلك المساحة المشتركة، وربما هناك المزيد". علينا التخلّي كذلك عن فكرةِ أنّ مجتمعاتِ العصور الحجرية كانت بدائية. يقول هاغ: "أَظهرَت المستطيلاتُ كم يمكن لتلك الشعوب أن تكون متقدمةً ثقافياً". هذا واضحٌ مِن حجمِها، فكلُّ جدارٍ حجريٍ جافٍّ يتطلّبُ عملَ بضعةِ أشخاصٍ، وكذلك الامتدادِ الذي وُجدَت به. هناك أيضاً ما يوحّد الذين بنوا المستطيلات في تلك المساحة الواسعة مع بنىً اجتماعيةٍ تحفظ اتّساقَ إقامة الطقس والأدوات التقنية المطلوبة. يمكن القولُ إذن إنّ اكتشافاً أثرياً حديثاً في صحاري المملكة العربية السعودية النائية يُعيدُ كتابةَ تاريخ مجتمعات العصر الحجري حول العالم بأَسرِه.


لَم تكُن مستطيلاتُ المباني الأقدمَ ولا الأكثرَ غموضاً التي اكتشفَها علماءُ الآثار. فقد أَظهرَ المسحُ الجويُ أيضاً أمثلةً مكرّرةً لحلقاتٍ مزدوجةٍ ذاتِ حجارةٍ قائمةٍ، ذكرَها داوتي في كتابه عام 1888 بعنوان "علامات غامضة لبعض المستوطنات العتيقة" المعلَّمة "ببعض الدوائر القديمة من الحجارة اللوحية المطروحة جانباً على امتدادِ سبعةِ أو ثمانيةِ أمتار". وَجَدَ الفريقُ هذه الدوائرَ دوماً ضمن المخيماتِ الأكبرِ مع أماكنَ مغلقةٍ بأحجامٍ مختلفةٍ بعضُها للبشر وبعضُها للحيوانات. لكن هذه "الدوائرَ الحجريةَ القائمة" أَرَزَت شيئاً أصيلاً في هذه المساحات الشاسعة. قالت مساعدةُ مديرِ الفريقِ جين ماكماهون إن "هناك أشكالاً شبيهةً في شرقي وجنوب شرقي الأردن". ومع أن بعضَ هذه التشابهات مذهلٌ إلا أن الأكثر إقناعاً من الناحية البحثية هو أن "توافقَ الدوائرِ الحجريةِ القائمةِ على امتدادِ العُلا فريدٌ من نوعه".

أشارت جين بالأصل، بل وتقدّمَت بأطروحةِ دكتوراه عن هذا الموضوع، إلى أنّ الدوائر الحجرية القائمة دليلٌ إضافيٌ على ممارسةٍ طقوسيةٍ، بشكلٍ أكثرَ محليةً من المستطيلات. فكرتُها هي أن المستطيلات تَستخدِمُ الحجارةَ القائمةَ المعروفةَ بالحجارة الانتصابية لتُمثّلَ إلٰهاً ما، بينما كانت تُستخدَمُ هنا ضمن دوائرَ مزدوجةٍ مبنيةٍ بعناية. بعد ذلك، بدأَت جين بالتنقيب وأشارت كلُّ الأدواتِ إلى حياةٍ يوميةٍ محلية: أدوات صيدٍ وإعدادِ طعامٍ وجواهر كالأساور والخرز.

ولكن لماذا تقامُ هذه الدوائرُ المزدوجةُ المثيرةُ الفضولَ. تقول جين إن "النظرية القائمة هي أنها تقوم بدَور خنادقِ الأساس". تُظهِرُ هذه المخيماتُ دليلاً على الحياة الموسمية، ولذا كان الناسُ يغادرون ويعيدون السكنَ بأماكنَ مختلفةٍ، ولذا بدلاً من أن يكون عليهم العودةُ والحفرُ مجدداً لخيامهم في كل مرّةٍ، يمكنهم فقط أن يَرجعوا ويَغرسوا أوتادَهم قبل تغطيتِها، وبذلك يكون لديهم مكانٌ للعيش فوراً. كذلك أشار داوتي قبل أكثر من قرنٍ إلى أن هذه الدوائر "قد تكون سياجاً لخِيَمِ الشتاء للعربِ القدماء"، معتمداً على مصادره الأدبية بدلاً من التنقيب الدقيق: "في المعلَّقات هناك ذِكرٌ للخِيَم الدائرية لكنّ كلَّ مقصوراتِ العربِ الرُحَّلِ اليومَ مربّعةٌ فقط".

قد لا تكون مواقفُ الخِيَمِ مثيرةً كالدليل الطقوسي، لكن هذا تحديداً هو ما دفعَ جين للموضوع إذْ تصفُ الأمرَ بقولِها "أنا أحبُّ المستضعَفين". ما تجدُه بهذه الأماكن المحلية هو إعادةُ كتابةِ التاريخ بقدرِ ما هي النتائجُ المدهشةُ للمستطيلات، لأن هذه الأماكنَ تقدّمُ دليلاً على تقنيةٍ وثقافةٍ مشتركةٍ ومنتشرة. الأدواتُ التي وجدَتها جين وفريقُها تُظهِرُ صلاتٍ بالثقافات الفاعلة بالمشرق، بَيدَ أن الاكتشافاتِ تُظهِرُ أيضاً أنها لم تكُن الثقافةَ نفسها.

تُظهِرُ تقنيةُ الدوائر الحجرية القائمة درجةً من التركيب لا توجد بشكلٍ عاديٍّ في أنماطِ الحياة الرعوية. هذه الافتراضاتُ عن المجتمعات البدوية موضوعٌ ثابتٌ لدى الفريق. جين وهاغ أخبَراني، كلٌّ على حدةٍ، كيف أن قدومَهما من أستراليا بمجتمعاتها القديمة المعقدة التي لا تملك سجلّاً مكتوباً كذلك ساعدَهما على إبقاء ذهنهِما منفتحاً عند التفكير بمجتمعاتٍ أُخرى، مثل ثقافةِ شمالِ الجزيرة العربية في العصر الحجري الحديث التي يحاول كلاهُما بصعوبةٍ فهمَها بالاعتماد على أدلّةٍ متفرّقة. تجنُّبُ الافتراضاتِ يعني مراجعةَ اصطلاحاتٍ نستخدمُها في حياتنا اليومية. تتحدّثُ جين عن صعوبةِ استخدامِ كلمة بيت: "لَم يَستخدموا البيتَ حقّاً بالطريقة التي تتضمَّنُها كلمةُ بيت ... أوّلاً، من الواضح أنهم كانوا يشذِّبون الحجارةَ بالداخل، وليس لدينا أيُّ دليلٍ على كيفية النوم، فربما كانوا ينامون بالخارج".

لا يعني هذا أنه لا يوجد شيءٌ لنتعلّمه من السكان الحديثين للمنطقة وهُم البدو. وصفَ هاغ يوماً اعتيادياً هنا، بينما تُوثِّقُ مساعدتُه إيميلي عدّةَ مبانٍ منوّعةٍ منتشرةً على امتداد الوادي الضخم. "ما رأيناه على مدى الساعات القليلة الماضية كان عبارةً عن عائلاتٍ كثيرةٍ تسير على هذا التلّ وتَستخدم الواديَ مع ماشيتِها، وكانت هناك قطعانُ ماشيةٍ كبيرةٌ، قد تصلُ إلى مئتَي جملٍ، أو بالحجم نفسه من الماعز". كان الوادي على الأرجح أخضرَ وأعشبَ عندما بُنِيَت المستطيلاتُ، ومع ذلك، فكلُّ الأدلّةِ تُشيرُ إلى نمطِ حياةٍ يشابه نمطَ الحياة اليومَ "وهذا ربما سببُ وجود المستطيل هنا، لتنظرَ إلى هذا المشهد الخلّاب وهذا مجالٌ مهمٌّ بنمط الحياة". رؤية الناس اليومَ تستخدم المشهدَ بالطريقة التي كان القدماءُ يستخدمونه أعطى لهاغ فهماً مختلفاً للغاية لكلٍّ من الأرض والمباني التي قامت عليها آلافَ السنين.

حتى اللحظة، كانت جين تركّزُ على المخيمات والدوائر الحجرية القائمة في الحقل البركاني المعروفِ بِاسم حرّة عويرض، بسبب كثافةِ المستوطَنات بهذه المنطقة. توجد مجموعةٌ صغيرةٌ تقارب خمسةً وعشرين مكاناً على بُعدِ أربعةِ كيلومتراتٍ تقريباً من مجموعةٍ أُخرى تشابهُها. لقد كانوا جيراناً قادرين على رؤيةِ بعضِهم بسهولةٍ وسماعِ وزيارةِ بعضِهم بعضاً. تقول جين: "لدينا فكرةٌ جيدةٌ عما كان يجري هنا في الحرّة" في الألفية الخامسة والسادسة قبل الميلاد بعد بضعة أعوامٍ من التنقيب، إلّا أنها الآنَ تتعمّقُ لتلاحظَ الفروقَ عن البيئات الأُخرى لترى إن كانت تستطيع تقديمَ لمحاتٍ حول أنماط الحياة في العصر الحجري الحديث. لاحقاً في هذه الجولة، سافرَت جين إلى مواقعَ في الأردن حازت اهتماماً من الباحثين أكثرَ بكثيرٍ لترى إن كان هذا يسلّطُ الضوءَ على الرعاةِ الذين عاشوا في العصر الحجري على أراضي السعودية.

يتوجّه الفريقُ إلى صحراء الحمراء حيث يُظهِر المسحُ الجويُّ دليلاً على مخيّمٍ كبيرٍ مناسبٍ للمقارنة مع المستوطنات محلَّ الدراسةِ في الحَرّةِ لاستخلاص صورة الحياة اليومية هناك. شققتُ طريقي بين حجارة الجدران العتيقة حيث كانت جين تقف على حلقتين من الحجارة شكّلتا الموقد. ترسمُ جين حجراً لتشطرَ إحداهما وتعطيَني نصفاً لأحفرَ به. ما أبحث عنه كان أيّةَ قطعةِ عظمٍ أو فحمٍ يمكن اكتشافُ تاريخها.

قبلَ أن أبدأ، سمعنا صرخةً من مختصّ الحجارةِ بالفريق، رومان هوبزباوم بامبينج، الذي وَجَدَ فُوقَةَ سهم. ومع أن جين كانت قد مسحَت وقسمَت هذا المكان، إلا أن هذه أولُ أداةٍ حقيقيةٍ وجدَها أعضاءُ الفريق. تتذمّر جين: "ألم تستطِع ربما أن تجدَ المادةَ عندما قمنا بالمسح"، لكنها أيضاً تشعر بالغبطة. فُوقَةُ السهمِ جميلةٌ بشكل متفرّدٍ، معجزةٌ نصفُ مدفونةٍ بالرمل يحرسُها حجرٌ آخَر. النحتُ جيدٌ للغاية والأداءُ بكلّيته متقنٌ بطريقةٍ أصابتني بالذهول وأنا أتلمّس حافةَ السلاح الصغير.

فجأةً ارتفعت الرهاناتُ على الموقع بأكمله، وباتَ لموقدي أهميةٌ مختلفةٌ بكلِّ المحتويات التي يمكن استخراجُها وطارت خلال آلاف السنين. هناك جانبٌ من الحظّ لأنني فوَّتُّ قطعةَ عظمٍ استخرجَها رومان من دلوِ الرملِ الذي أعطيتُه إياه وصارت دليلاً هاماً وإن لم يكن ممكناً معرفةُ ما إن كانت قبل مئةٍ أو ألفٍ أو سبعةِ آلاف سنة قبل تحليلها بالمختبر. الحقيقة أنها قريبةٌ من السطح وأعلى بطبقةٍ واحدةٍ من حجارة الموقد التي يرجَّح أنها كانت تُستخدم لتزيد الاشتعال، مايعني أنها قد تكون من عصرٍ لاحق. ربما كان هناك شخصٌ يمضغ آخِرَ عظمةٍ من العشاء بينما كان الآخرون يستعدون للنوم، ورماها باللحظة الأخيرة فوق حجارة الموقد.

أنظّف حوافَّ الموقدِ المتقَنةَ المخططةَ وتلك الحجارةَ المبعثرةَ المرميةَ داخلَه مزيلةً رمالَ الصحراء السميكةَ الذهبيةَ لأصل بسرعةٍ إلى طميٍ رمليٍّ داكن. عندما بدأتُ رفعَ الحجارة التي تملأ الموقدَ وصلتُ للذهب بتعريف علماء الآثار: شظايا الفحم. كانت هذه الشظايا قيّمةً لأنها تتيحُ تحديدَ تاريخ الموقع، أو على الأقل لهذا الاستخدام للموقع. تُحزَم الشظايا في مجرفةٍ داخل كيسٍ لتُرسَلَ مؤرَّخةً باستخدام الكربون مع كلِّ الآثار العضوية الأُخرى التي أُخذت من هذه الجولة. سيَستغرق الأمرُ بضعةَ شهورٍ أُخرى قبل ظهورِ النتائج وإضافتِها للصورة التاريخية للمنطقة. 


بينما كانت جين تجمعُ قطعَ الحياة اليومية للناس في الألفيتين السادسة والخامسة قبل الميلاد، وهاغ وميليسا يستكشفان طقوسَ المستطيلات، التي كانت تُستخدم في المكان نفسِه في الفترة نفسها، لم يكن سهلاً إيجادُ الصلاتِ بين الاثنتين. لم تكن المستوطناتُ قريبةً من المستطيلات، فلم يكن الناسُ يتركون مخيّمَهم ليقوموا بالتضحية ثم يرجعون لتناول الغداء. حدثتني جين، عالمةُ الآثار الأكثرُ فضولاً، عن الأدلة المتاحة بين أيديهم.

"نَعلم أن الناسَ الذين يبنون المستوطنات والناسَ الذين يعيشون في المخيمات يُربّون ماعزاً وأغناماً وأبقاراً". هذا واضحٌ حتى الآن، فالدليل هو العظام التي وُجدَت بِكِلا المكانين. "لكنهم يقتلونها بكمياتٍ مختلفةٍ، فالماشيةُ أكثرُ من الماعز في المستطيلات، ولكن الماعز أكثرُ من الماشية حيث يعيشون". يضيف هاغ سياقاً لذلك: "الماشية أكثر كثافةً من كل النواحي، من حيث الماء والعناية والعلف، ولذا فوضعُها أعلى". يعني الوضع الأعلى أنك تقدّمُها قرابين أكثرَ ممّا تأكلُها، إذ يقدّم هذا الاختلاف البادي دليلاً آخَرَ أن الناس الذين يبنون المستطيلات هُم عينُهم الذين يدجِّنون الحيوانات بالخيام.

تتابع جين: "نعلم كذلك أن لهم أدواتٍ مشابهة. الحجارةُ الرقيقة الموجودة بالمستطيلات هي نفسُها تماماً الموجودةُ بالأماكن السكنية". تؤكّد رؤوسُ الأسهُم الموجودة في المستطيلات هذه النقطةَ، فهي من النوع نفسِه الذي وجده رومان في صحراء الحمراء، وكتلك الموجودةِ على امتداد الحَرّة، من النوع المسمى "ها-بارسا". تسمّى أنواعُ رؤوس السهام بحسب مكان إيجادها الأول، وها-بارسا موضعٌ موجودٌ في إسرائيل اليوم، ما يدلُّ على وجود صلةٍ بين ثقافة العُلا والأشخاص الذين كانوا يعيشون في المشرق.

هذه مساهمةٌ كبيرةٌ لفهم الصلة بين المجتمعات ما قبل التاريخية المختلفة بالشرق الأوسط: "لقد كانت هناك حجّةٌ كبيرةٌ في الأعمال البحثية في الأعوام العشرة أو الخمسة عشرة الأخيرة حول ما إن كانت ثقافة العصر الحجري الحديث مستوردةً أم محليةً أم خليطاً من كليهما". بعبارةٍ أُخرى، هل تنتمي ثقافة المستطيلات والدوائر الحجرية القائمة لأسلاف البشر الذين وصلوا إلى المنطقة من أفريقيا قبل عشرات آلاف الأعوام بآخِر هجرةٍ من هذا النوع، أو لمهاجرين قادمين من المشرق، ما الذي يمكن أن يفسرَ تشابُهَ رؤوسِ السهام بشكلٍ أفضل. هل كان انتقالاً للبشر أم انتقالاً للتقنية؟ 

يبدو أن هناك إجابةً على هذا السؤال للمرّة الأولى. تخبرُني جين: "فُوَقُ السهامِ نفسُها، هذا صحيح، ولكن بالفترة نفسِها بالأردن كان هناك أدواتٌ مميّزةٌ أُخرى لا نملكها"، أي أن التفسيرَ الأفضلَ لهذا التشابه في رؤوس السهام هو أن هناك تأثيراً وتبادلاً ثقافياً وتقنياً، لكن الصانعين لم يكونوا نفسَهم، وإلا فستكون مجموعةُ أدواتهم برُمّتِها ذاتَها. هذه علامةٌ أُخرى على الانتقال والتقدّم الثقافي لتلك المجتمعات التي كانت تُنتقص بكونِها بدائية. يضافُ اتّساقُ الأدوات التي عُثِرَ عليها إلى الأدلة الموجودة، مُظهِراً وحدةً ثقافيةً وربما هويةً مشتركة. تلخص جين: "نحن نستخدم الآن المستطيلات والدوائر الحجرية القائمة مؤشراً لحدود الأراضي التي قَطَنَها هؤلاء الناس، مع الأدوات ورؤوس الأسهم وما يشابهها من أدلةٍ على التكيفات التي وُطّنَت من الأنماط والتقنيات التي وصلت بالتبادل الثقافي".


خَلّفَت ثقافةُ العصر الحجري الحديث في شمالي شبه الجزيرة العربية وراءَها آلافَ النُصبِ المدهشة، بكلٍّ من مبانيها المحلية الدائرية الحجرية القائمة والمستطيلات الطقوسية، على مساحةٍ شاسعة. لقد كانت نشطةً لأكثرَ من ألف سنةٍ تقريباً، إذ يرجع أوّلُ دليلٍ محدّدِ التاريخِ في المخيمات المحلية إلى السنوات بين 5800 و 5900 قبل الميلاد. ولكن بحلول عام 4000 قبل الميلاد تقريباً يصمت عِلم الآثارِ فجأةً وتختفي علاماتُ النشاطات البشرية ببساطة. ففي مثالٍ بسيطٍ، وبعد بضعِ مئاتٍ من السنين منذ آخِرِ استخدامٍ معروفٍ للمستطيلات، كانت هناك علاماتٌ على إعادةِ استخدامها مدافنَ للبشر، وهو استخدامٌ غيرُ مشهودٍ في العصر الحجري الحديث، لكن هذا النشاط يختفي بالسجلات.

وبعد ذلك تحصل طفرةٌ بالبناء في المنطقة. في العصر البرونزي، بالألفية الثالثة قبل الميلاد، يقع هيجانٌ بنُصبِ الدفن. يتحدث هاغ عمّا تبقّى من ذلك المجتمع: "نحن نتحدّث عن عشرات الآلاف من المباني". 

حالما يُشار لأمثلةِ هذه المقابر، يصبح انتشارُها الكثيفُ بالمنطقة جليّاً. إنها منتشرةٌ على كل أُفقِ الصحراء شرقَ العُلا، ومع أنها جميعاً مدافنُ منزليةٌ، إلا أنها تتغيّر بأشكالها وأحجامها. نسير بجانب أمثلةٍ على كلٍّ من أبراجِ مقابرَ محفوظةٍ أو منهوبةٍ، مبنيةٍ بجدرانٍ مستقيمةٍ، ومقابرَ من الرُجوم، سُمّيَت كذلك لأنها أقربُ لكومٍ من كونها برجاً متقناً. بعضها تحيطه جدرانٌ حجريةٌ منخفضة، وبعض الحلقات مملوء. هناك مثالٌ نادرٌ على برجٍ ذي جدرانٍ منبثقةٌ عنه، يسمى برجَ الشعاع. ما تزال معتقدات الناس التي أَلهمَت هذا النمطَ من البناء غائبةً عنا، لكن ما زال أمامَنا الكثيرُ من الأدلة لاكتشافها بتلك المنطقة التي لم يستكشفها عالمُ آثارٍ بعد.

نصلُ إلى مثالٍ مدهشٍ تمثّلَ في "قبرٍ متدلٍ ذي ذيلٍ وتديٍّ مجزّأ". نصلُ إلى المكان المغلَق على شكل وتد، منتقّلين من النهاية الأعرضِ إلى الأضيق. وراءها تقف سلسلةٌ من الأبراج الغامضة، تنحدر قمّةُ جدرانِها على زاويةٍ من الوتد نحو الدلاية، التي تمثّل حلقةً ضخمةً قائمةً بنهاية السلسلة، وتحيط ببرجٍ آخَرَ غرفةُ دفنِه الداخليةُ وهي ذاتُ قطرٍ قدرُه ثلاثةُ أمتارٍ تقريباً. هناك كميةٌ كبيرةٌ من العظام في هذه القُمرة، مشوّهةً ومحطمةً بسبب النهب على مدى آلاف السنين، والبناءُ تمّ تحديدُه لإجراء عملية تنقيب كاملةٍ له.

أحد الأسئلة الكبرى هو ما الذي كان يجري خلال الألف عامٍ تقريباً بين نهاية نشاط المستطيلات وبداية بناء المقابر. لم تصل أبحاثُ الآثار حتى الآن لإجابة. هل كان هناك تحولٌ بيئيٌ جعل المنطقةَ أصعبَ للعيش أو جعلَ منطقةً مجاورةً ربما أكثرَ جاذبيةً؟ 

يستكشف الفريقُ هذه الفرضيةَ البحثيةَ مستخدماً مجموعةَ الأدوات المتاحة، التي كان بعضُها مفاجئاً مثل بقايا البول من قوارض الصحراء. نادراً ما تحتاج حيواناتُ الوبار للشُرب، فهي تحصل على كلِّ سوائلها من النباتات، ولذلك تكون إفرازاتُها البوليةُ عاليةَ التركيز. مجموعاتُ هذه الحيوانات تتبوّلُ آلافَ السنوات في نقطةٍ محدّدةٍ، صانعةً نوعاً من الصواعد، نظراً للمحتوى المعدني للبول. هذه البقايا صارت صلبةً للغاية بحيث يمكن قطعُها فقط باستخدام منشارِ إسمنت، وهو ما فعلَه الباحثُ بريان تشيس من المركز الوطني للأبحاث العلمية في فرنسا. توفّر الطبقاتُ معلوماتٍ قيّمةً حول المناخ المتغيّر الذي عاشت به تلك الحيواناتُ عشراتِ آلاف السنين. 

بعد يومٍ طويلٍ استكشفْنا به مجموعةً من المقابر، سِرْنا بهدوءٍ نحو السيارة، حاملين الكثيرَ لفحصِه وتقديرِه. لكننا لا نستطيعُ مقاومةَ استكشافٍ أخيرٍ، نعبرُ أرضيةَ الوادي نحو نتوءٍ كبيرٍ وبارزٍ من أعلى الجرف كمكانٍ محتملٍ لفنٍّ صخري. لَم يَخِبْ ظنُّنا، إذ استطعتُ رؤيةَ نعامةٍ ووعلٍ من السيارة، وبينما اقتربتُ لم أستطِع كتمَ صرختي أمامَ فهدٍ مرقّطٍ بديع. استولى هذا على اهتمامِ هاغ فهو لَم يَرَ فهداً بهذه المنطقة من قبل، والآن نقفُ أمام عيّنتَين حَسَنَتَين منهما. قربَ نهايةِ المنحدر الصخري نفسه هناك صورٌ أقدمُ لقطعانٍ بمستطيلاتٍ ذاتِ أرجلٍ عصويةٍ ورؤوسٍ مربّعةٍ تبدو خشنةً عند مقارنتها بفهود العصر البرونزي وغزلانه، لكنها قديمةٌ إلى حدٍّ مدهش. يقف أمامنا أسدٌ مبرزاً شخصيتَه بفمٍ مشرَّعٍ وقربَهُ صورةٌ أكثرُ جِدّةً، بما يتوافق مع تصوير الأمور الأهمّ بالحياة: العربة. التقاليد حيّةٌ للغاية في هذا الجزء من العالم، فبتغيّرها مع الوقت ما تزال تحافظ على الوظيفة الأساسية للتعبير عن الحياة والآمال اليومية. قد يبدو الماضي السحيق غامضاً حين يكون أمامنا شذراتٌ فقط، لكن التقاليد تذكّرُنا بأن كثيراً من الوجود الإنساني بقيَ على حاله مع الوقت.


هذه مجرّدُ بدايةِ الجهدِ الذي يجب العملُ عليه بمنطقة العُلا، وقد هزَّ كثيراً من أفكارنا حول الحياة بالعصر الحجري. يقول هاغ: "سيكون هناك تدفّقٌ ضخمٌ للبيانات، لأنّ هذا كان يستعدّ للبداية فقط في خمسة أو ستة أعوامٍ سابقةٍ وحسب، والآن هناك أربعُ بعثاتٍ بحثيةٍ عاملةٌ في العُلا وخيبر [المجاورة]". النشر الأكاديمي بطيءٌ وهناك انهيارٌ ثلجيٌّ على وشك البدءِ سيسمح للباحثين حول العالم بفهمِ ما عُثرَ عليه في المملكة العربية السعودية.

سيتطلب الأمرُ بضعةَ أعوامٍ أُخرى على الأقل قبلَ إنجازِ سرديّات قطاع السياحة الناشئ بالعُلا. أما اليومَ فليس هناك ما يكفي من المعرفة لتأسيس متاحف وجولاتٍ للعديد من هذه الأماكن. بيدَ أن هناك الكثيرَ من المخططات مع المعلومات المتاحة: سمعتُ إشاعاتٍ عن متحفٍ للحَرّة، وآخَرَ عن طُرق تجارة البخور، ومزيداً من التطوير للبلدة القديمة، والعديد من النشاطات الأُخرى، مثل القطار الذي يربط العُلا بجنوب البلاد، والمزيد من معارض الفن والمسارات الطبيعية.

تسعى السعوديةُ لإعادة رسمِ صورتِها لسكانها وللأجانب، لكن عِلم الآثارِ الذي تموّله يعيدُ تشكيلَ فهمِناً للتاريخ البشري عموماً. إذ أن ثقافةَ الناس الذين بنوا المستطيلاتِ المنتشرةَ على مساحةٍ أوسعَ بكثيرٍ ممّا كنا نتوقّع من مجتمعٍ بالعصر الحجري والدوائر الحجرية القائمة التي تُظهِرُ تقدّماً بالحياة التي لا يُنظَرُ لها كذلك في المجتمعات الرعوية، والأدلّة الموجودة قربَهما، تُظهِرُ علاقةً مع المجتمعات بالمشرق أثناء العصر الحجري الحديث. 

وأنا أودِّعُ كلًّا من علماء الآثار والعُلا، في طريقي عائدةً إلى المطار الصغير قياساً بأعداد الزوار، لَم أَشعرْ فقط بقدرِ العملِ المطلوبِ فعلُه بالمنطقة، بل بإثارة وجود صحيفةٍ بيضاءَ يمكن العملُ عليها. يقفُ قطاعا الآثار والسياحة بالمنطقة على حافّةِ تغيّرٍ كبير. وُجودكَ هناكَ بالبداية يحملُ تحدّياته ومنها الأدلّةُ المتفرقةُ لعلماء الآثار، والعوائقُ اللوجستية لاستكشاف هذه الأماكن للسياح، بَيدَ أن هناك شعوراً بالطاقة العارمة الموجّهة لهما. قد يواجِه الزوارُ صعوبةَ إيجادِ فندقٍ أو سيارةِ أجرةٍ، لكنهم أمامَ فرصةِ رؤيةِ الأماكن المذهلةِ للحِجْرِ ودادانَ القريبةِ دونَ زحامِ البتراءِ أو روما أو إسطنبول. وأمامَ علماءِ الآثارِ فرصةٌ نادرةٌ للبدءِ من الصفر، في عملٍ مهيبٍ بدأَ بتغييرِ فهمِنا للماضي.

اشترك في نشرتنا البريدية