استمع لهذه القصة
”
قلتُ له: "ماذا تقصد؟" أجابني خالد، وهو اسم مستعار لشابٍ مغربيٍ يحمل شهادة الماجستير في البرمجة الحاسوبية وأحد المؤثّرين في إنستغرام، قائلاً: "نشأتُ في أُسرةٍ محافِظةٍ، غَرَستْ فيَّ قِيَماً عن الرَّجُل الطيّب الذي يخاف اللهَ ويَرفق بالنساءِ القوارير، كما قال الرسولُ الكريمُ. ظننتُ أنّ استقامتي وقيامي على نفسي سيُجَذِّبُني للجنسِ الآخَر. ثم ما لبثَتْ تتوالى الصدمات. تصرفتُ على سجيّتي وتعاملتُ معهن باحترامٍ ولُطفٍ، لكن انهار كلُّ شيء. لَم أَفهم أين الخطأ".
توقّفَ هُنيهةً ثم نظرَ إليَّ بابتسامةٍ يرتسم عليها شيءٌ من التململ، وقال:"صدِّقني، لستُ مثيراً للشفقة كما تظُنّ. كنتُ على وشكِ اكتشاف ما يزلزِل كياني".
طأطأَ رأسَه مضيفاً: "وجدتُ ضالّتي على الإنترنت. كان سؤالي الأَوّلُ لمحرّك البحث: ماذا تريد النساءُ؟" أكمَل حديثَه: "كأنّ مغارةَ علي بابا فُتِحَت أمامي. هناك في الفضاء الافتراضيّ كان أَوّلُ لقاءٍ لي مع فكرةِ الرِدْبِل (أي الحبّة الحمراء). التهمتُ ما وصلَتْ إليه أناملي من محتوى، ومع كلّ جرعةٍ جديدةٍ من الحقيقة زادَ حَنقي وتضاعفَت مرارتي من بنات حوّاء. أسوأُ من ذلك أنّي شعرتُ بالخجل والغضب من نفسي. كيف عشتُ ثمانيةً وعشرين عاماً مخدوعاً بأن الاستقامةَ واللطفَ هُما الطريقُ الأمثلُ للعلاقة السويّة مع النساء؟"
وبابتسامةٍ عريضةٍ تعلو مُحيّاه قال: "لقد تحرّرتُ من الوهم". ثم أردفَ: "مِن لحظتِها، قرّرتُ تثقيفَ الذكورِ عن الرِدْبِل، لِئلّا ينخدعوا بالأفكار الشائعة عن العلاقة بين الجنسين".
تجربةُ خالد في تجرّع الحبّة الحمراء مشابِهةٌ لتجاربِ أقرانٍ له طالَعتُ قَصَصَهم على وسائل التواصل الاجتماعيّ واليوتيوب نهايةَ العام الماضي. غالبُ الحالات كانت كلمةُ السرّ فيها تدور حول مفهوم "التحرّر من الوهم". فمثلاً قناة "العرب رِدْبِل" على تيليغرام تقول: "ابتلِع الحبّةَ الحمراءَ وانظُر إلى الواقع المؤلم". صفحة توعية الرجال رِدْبِل على الفيسبوك، وعددُ مشتركِيها تسعةٌ وخمسون ألفاً، تقول: "نحن الحبّةُ الحمراءُ الحقيقةُ والواقع، والباقي وَهْمٌ".
ما عَرَضَه خالد وجهٌ مِن تجربتِه مع حركةٍ اجتماعيةٍ تضمّ كثيراً من الرجال والفتيان العرب يمكن تسميتُها بالظاهرة "الرِدْبِليّة". تشكلَت هذه الظاهرةُ في ردهات المنصّات الاجتماعية الأمريكية من مجموعات رجالٍ وفتيانٍ، ردّةَ فعلٍ على الحركة النِسْوِيّة وما يعدّه هؤلاء تحيّزاً في الخطاب والمؤسسات على الرَّجُل. وعندما تمدّدَت ووصلَت للفضاءات العربية تلقَّفَها معتنِقوها العربُ وأدخَلوا عليها تعديلاتٍ وتغييراتٍ تناسِبُ التحدّيات والمظالمَ الخاصّةَ التي فرضَتها سياقاتُهم العربية. ومع أن المتحمّسين لها يرفضون وَصْفَها بالثقافة، ويؤكّدون أنها مجموعةُ استراتيجياتٍ لتقويةِ الرجولة، وترتكز على مجموعةٍ من الأفكار الرئيسةِ موجّهة ضد التيارات النسوية. مِن هذه الأفكار أن المرأة باتت لا يقنِعها إلا شريكٌ صعبةٌ مواصَفاتُه، وأنها سريعةُ التخلّي عن شريكِها والاقترانِ بمن هو أفضلُ منه. ومنها تقسيمُ الرجال إلى "أَلْفَا"، وهو القويّ الذكيّ الناجح الثريّ، ونقيضُه "بِيتّا". ومع حداثةِ هذه الظاهرة إلا أنّ لها نُقّاداً ركّزوا على توظيفها التحريفي للشريعة واستيرادها العاجز للفكر الغربي. إن التعمّق في هذه الظاهرة يكشف أنها ردّةُ فعلٍ على عوائق اجتماعية واقتصادية وسياسية حقيقية يعانيها الرجال في العالم العربي.
ظهرت الأفكار الرِدْبِليّة تقريباً عام 2012 على منصة "ريديت" في النطاق الافتراضي الناطق بالإنجليزية. وصارت مساحةً حرّةً يعبّر فيها المشاركون الرجال عن إحباطاتهم وآرائهم السلبية عن المرأة. ووفّرَت إطاراً معرفياً يساعدهم على بناء مظلوميتهم واستقاء طرقٍ تعينهم على تحسين ظروفهم الاجتماعية، لا سيّما في علاقتهم مع النساء. تَرسّخ المصطلحُ عام 2016 في فيلمٍ وثائقيٍ يحمل اسمَ "الحبّة الحمراء" أخرجَته الإعلاميةُ الأمريكية كايسي جي متحدّثةً فيه عن رحلة انشقاقها عن النِسْوية بعد تعرّفها على حركة حقوق الرَّجُل في الولايات المتحدة.
يُظنّ في الولايات المتحدة أن الرِدْبِليّة ظهرت ردّاً على التيار النِسوي المدعوم حكومياً ومؤسساتياً على ما يَرَوْنَه الدَوْرَ الرجوليَّ في المجتمع. كثيرٌ من أرباب الرِدْبِليّة المؤثِّرين، وأبرزُهم المؤلفُ والناشط الأمريكي بيتر رايت، يضعونها في سياق "التمركز حول الأنثى". يرى رايت أن هذا التمركز مَرَدُّه إلى تقديم المجتمعِ تلبيةَ الحاجات النفسية والاجتماعية والجنسية للأنثى على الذَكر. ثمّ يخلُص إلى أنّ هذه تُمثِّل عقيدةَ "الاستحقاق الأنثوي" التي تَرتكز عليها النِسويةُ المتطرّفة.
تَمَرْكُزُ العالَم حول الأنثى عند الرَدابِلَةِ مسألةٌ خفيّةٌ وغامضة. يرى رايت أن هذا التمركزَ صعبُ التمييز لأنه عقيدةٌ تختلط مع كثيرٍ من مكونّات التفاعل الاجتماعي. وهو يَطرح أمثلةً على ما يسمّيه "الفجوات"، لا يتسع المجال لعرضها كلّها، لكنْ أذكرُ بعضَها من باب الاكتفاء من القلادة بما أحاطَ بالعُنق. أُولى هذه الفجوات هي فجوة التعاطف. فمن أجْل النساء تُشَيَّدُ أقسامٌ في الشركات والجامعات والمدارس، وتُغدَق عليها أموالٌ طائلةٌ، كالمِنح الدراسية، لكن تَقِلُّ المبادرات المشابهة للرجال المتعثرين دراسياً. الفجوة ذاتُها تظهر في منظومة الصحة النفسية، فيزعم رايت أن هذه المنظومة مُصَمَّمةٌ لتعميق شعور المرأة أنها الضحية وأن الرَّجُلَ مَصدرُ كلِّ مشكِلة. هذه الفجوة تعطي النساء والأطفال مكانةً خاصةً وحصةً أكبرَ من مستودَع التعاطف في الإعلام والمساعَدات العينية، بل في القانون الدولي الإنساني نفسِه، لا سيّما في أوقات الأزمات والحروب، بينما يُتجاهَل الضحايا من الرجال. في معظم الثقافات، يُتَوقّع من الرجال أن يكونوا مبادِرين وجَسورين على المخاطرة، جنوداً أو رجالَ شرطة أو إطفاء مثلاً، لذا تُفسَّر خسارةُ حياتهم أو تعرُّضُهم للأذى أنها تضحيةٌ يُمدَح صاحبُها بالبطولة والصلابة. وتلك السماتُ مقرونةٌ عادةً بالذكورة، ويُحدَّد معها دَوْرُ الرَّجُل وقيمتُه في المجتمع، حتى في أهليّته لجذب شريكِه من الإناث.
أمّا الثانيةُ فهي فجوةُ المسؤولية، ومِن تجلّياتها أن أخطاءَ الرجالِ أفدحُ قانونياً. فالرَّجُلُ قد يعاقَب بالسَجن مدّةً أطولَ من المرأة على الجريمة نفسِها، ويُدعى ذلك "التفاضل في الأحكام الجنائية". في دراسةٍ تعود لعام 2020 عن مجموع الأحكام بين عامي 2000 و 2003 في النظام العدلي الفرنسي، تبيّن أن النساء يُحبَسْنَ أقلّ من الرجال بخمسة عشر يوماً على الجُرمِ ذاتِه. سَبَقَ هذه الدراسةَ في العقود الماضية كثيرٌ من البحوث التجريبية والنظرية وَصَلَت لنتائجَ مشابهة. دراسةُ جامعة جورجيا الأمريكية عام 2001 وَجَدَت أن نظام الأحكام في المحاكم الفيدرالية أقلُّ صرامةً عموماً مع الإناث. ولا يختلف الأمرُ في بريطانيا، ففي دراسةٍ أُجرِيَت عام 2019 لباحثين من جامعة ليدز عن التحيّزات في القانون الجنائي البريطاني، كانت النتيجة أن الرَّجُل يفوق المرأةَ في أحكام السّجن ثلاثَ مرّاتٍ في جنايات العنف الجسديّ، ومرّتين في جرائم السرقة.
والفجوةُ الثالثة التي تحدّث عنها رايت هي فجوة الاستحقاق الوظيفي، أي ما يُعرف بنظام "الكوتا" الكافلِ لفئةٍ معيّنةٍ في المجتمع تمثيلًا عادلًا. ومن ذلك تخصيصُ حدٍّ أدنى من المقاعد البرلمانية للنساء الذي تَدفع بِه كثيرٌ من الحكومات ومؤسسات المجتمع المدني لخلق مساحةٍ مساويةٍ للنساء في أماكن العمل. ولئن كان المبدأُ نبيلاً، إلا أن رايت يَراهُ مطلَقاً لا استثناءات فيه، وأنه لا يهتمّ للفروقات الجسدية والنفسية بين الرَّجُل والمرأة. ففي مجالاتٍ يسيطِر عليها الرّجالُ كالهندسة والفيزياء والميكانيكا وعلوم الحاسوب، يُخصَّصَ 50 بالمئة من الشواغر الوظيفية لشريحةٍ نسائيةٍ هي أقلُّ بكثيرٍ من نصف مجموع المؤهَّلين في هذه المجالات، ما يؤثِّر في الكفاءة، ويخلق تمييزاً سلبياً يحيِّد كثيراً من الكفاءات. وهذه من النقاط التي استَرسل فيها عالِمُ النفس الكنديُّ جوردان بيترسون، المحسوبُ في فِرَق المتحمّسين للرِدْبِليّة. يرى بيترسون أن افتراض التمثيل المتساوي بين الذكور والإناث في شتّى قطاعات الأعمال مُنطَلَقُهُ "اللياقة السياسية"؛ أي الميْل إلى استعمال مصطلحاتٍ وتعبيراتٍ ومفاهيمَ غيرِ مسيئة، وليس الواقع. وهذا الافتراض يحمل معضِلاتٍ بنيويةٍ جوهريةٍ للفروقات بين الجنسين في الميول والاهتمامات والبنية المزاجية والنفسية والجسدية. ثم يقول بيترسون مستنكِراً: "99 بالمئة من عمّال البناء من الرجال. فهل مِن التمثيل الوظيفي العادل زجُّ النساء في هذا المجال غيرِ المناسِب بنْيَتَهنّ الجسديةَ".
فعلى سبيل المثال، عبّر كثيرٌ من روّادِ وسائل التواصل الاجتماعي المغربيين في سبتمبر 2023 عن امتعاضهم عَقِبَ أنباء عن تعديلاتٍ في مدوّنة الأُسرة في المغرب بعد أمرِ الملك محمد السادس رئيسَ الحكومة عزيز أخنوش إعادةَ النظرِ فيها. أثارت التعديلاتُ حفيظةَ الأوساط المحافِظة – والوصفُ هنا لصحيفة "هسبريس" المغربية – لأن التعديلات تهدِّد المكانةَ الاعتباريةَ للرَّجُل في الثقافة الشعبية المغربية. لذا هدَّد مئاتُ رجالٍ مغربيين بالعزوف عن الزواج لأنه صفقةٌ خاسرة. وعلّق أحدُهم كما نقلَت هسبريس: "إذا كان الرَّجُلُ أداةً لتخصيب البويضةِ ودفعِ النفقةِ وستُدفَن قوامَته، فسوف نقاطِع الزواجَ". أيّاً كانت حقيقةُ التعديلات المقترَحة فالحَنق على قوانين الأحوال الشخصية في المغرب من عناصر "التظلّمات الرُجولية" في مجتمعات الرِدْبِليّة الإلكترونية في هذا البلد. فمجموعةُ رِدْبِل المغرب، البالغ أعضاؤها أربعين ألفاً، تدعو الرجالَ مراراً للإفاقة والتصدي لما نَعَتُوه بـ"الطغيان النسوي"، لا سيّما داخل قوانين الأحوال الشخصية، محذِّرين من الفراغ القانوني الذي قد يَحرمُ الرَّجُلَ حقَ حضانة أطفاله أو رؤيتهم بعد الطلاق، مع تساهُلِه بفرض النفقة عليه.
وفي مصر حنقٌ على محكمةِ الأسرةِ التي تتبع قانونَ الأحوال الشخصية المَسْنونَ سنة 1920 ثم أُدخِلَت عليه تعديلاتٌ بعد ذلك. هذا القانون باتَ عُرضةً للانتقادات بدعوى تقديمِه حقوقَ المرأة المطلَّقة على حقوق الطِّفل والرَّجُل. دفع هذا الأمرُ بعضَ المحامين المصريين إلى تأسيس "الجمعية المصرية للدفاع عن حقوق الرَّجُل والأطفال في قانون الأسرة المصري" لمجابَهة ما يَرَوْنَه صلاحياتٍ واسعةً يعطيها القانونُ للحركات والمنظّمات النِسْوية. فهُم يَرَوْن القانونَ يَمنحُ المطلَّقةَ حقوقاً على حساب الرَّجُل من غير أن يرتِّب عليها واجبات. وقال رئيس مجلس إدارة الجمعية المحامي أحمد رزق لقناة الجزيرة إن الهدفَ توفيرُ مساحةٍ قانونيةٍ تُمَكِّنُ الرَّجُلَ من مقاوَمة أحكام الحبس والتَنكيل، خاصّةً إذا كان الطلاقُ بطلبِ الزوجة.
أمّا اتفاقية سيداو، فقد أُثيرت شكوكٌ فيها وكأنّها صيغت لتستهدف الرجولة. يرى الرَدابِلَة أن الاتفاقية تروّج لقِيَمٍ تُربِك الأدوارَ الفِطرية عند الجنسين، ناهيك مِنْ غرسها أفكاراً مشوّهةً تحجّمُ دورَ الأُسرة لتعزيز مركزيّة الأنثى، وهو المبدأ الذي تَقِف عليه الحركاتُ النِسويةُ. أخبرَني الأردنيُّ "كوتش كريم" – مِن أبرزِ منظِّري الرِدْبِليّة وصاحبُ قناةِ رِدْبِل أرابيك على اليوتيوب ذاتِ 95 ألف مشترِك من 161 دولة – أن بعضَ المتحمّسين لأفكار الرِدْبِليّة يرون في الاتفاقية أكبرَ مِن تَغَوُّلٍ نِسْويّ، وأنّها استراتيجيةٌ تحمل في جوهرها هجوماً على الأديان، خاصةً الإسلام. لا يتّفق كريم مع هذا الطّرح، ويضعُه في خانةِ نظريّةِ المؤامرة، إلّا أنه لا يقلّل من آثار الاتّفاقية السلبية على ضوابط المنظومة القيمية في المجتمعات العربية. هو يراها مطلَقةَ القيمةِ غربيةَ التمركز، لا تعبأُ بالخصوصيات الثقافية والاجتماعية والدينية للمجتمعات العربية الموقِّعةُ غالِبُ حكوماتِها عليها، ومنها الأردن. وأضاف أن الرأسمالية مِن بواعث الاتّفاقية، وإن أوهموا أن الاتفاقية طوقُ نجاةٍ "للمرأة المضطهَدة"، فَبِزَجِّ مزيدٍ من النساء في سوق العمل، يزدادُ دافعو الضرائب وتنخفض الأجور، ممّا يخدم أربابَ المالِ والثروة.
ركَّز الاثنان على أنّ ما يقومان به ليس حرباً على الأنثى، وإنما تعليم استراتيجياتٍ تُرقِّي معاييرَ الرجولة. عندما سألتُ كوتش كريم عن نَعْتِ خالد لهذه الاستراتيجيات بـ"استراتيجيات المواجهة" أجاب:"هذا قريبٌ مما تحدثت به. هي أدواتٌ، فَلَسْنا مِن الكارهين للنساء كما نُتَّهم أحياناً، وليس الأمر كما يظن بعضُهم تأثراً بتجارب سيئةٍ مع الجنس الآخَر أو تنفيساً عن إحباطٍ عاطفيٍ وجنسي. غالبيّتُنا متزوّجون وأربابُ أُسَر". والرسالة المتكرّرة التي رأيتها على منصّات الرِدْبِليّة تنْصَبُّ على بناء الشخصية والعناية بالتعلّم والعمل والأنشطة البدنية. فمثلاً صفحة "توعية الرَّجُل رِدْبِل" على الفيسبوك تقول: إنّ فكر الرِدْبِلية "يحاكي الفطرة الطبيعية للرَّجُل الغيرة الصلابة الكياسة الفطنة الحكمة الإقدام والوعي هذا هو الرجلُ الحقّ". نقلتُ هنا العبارة كما هي بأخطائها اللغوية.
شعرتُ أن مُحاوِرَيَّ يُلَطِّفان ممّا يقومان به ويُخفِيان التطرّفَ الثاويَ في أفكارهما، فحاولتُ أن أَدُقَّ إسفيناً في السردية التي يروِّجانها. قلتُ لكوتش كريم: "إن كانت النسويةُ تمركزاً حول الأنثى، فالرِدْبِليةُ تمركزٌ حول الذَكر، كأننا نُجابِه تطرُّفاً بتطرُّف. ما رأيك؟" ردَّ بأن التمركز حَوْلَ الذَكر في الردبلية يأتي مع حزمةٍ من الالتزامات الصّارمة تُفرَض على الذكور، لا يُعفَون فيها من مسؤولياتهم وواجباتهم. يُدرَج في هذا مبدأُ القوامة وهي المسؤولية والالتزام والحماية من الرَّجُل تجاه شريكته الأنثى أو الإناث في محيطه الاجتماعي، ما يمثِّل ديدنَ الذكورة التقليدية التي يرومُ الرَدابِلَةُ تثبيتَها وإنعاشَ ما خَمَدَ منها. في حينِ أنّ التمركز حَوْلَ الأنثى – والكلامُ لكوتش كريم – طريقٌ في اتجاهٍ واحدٍ يهدف لتحقيق مصلحة الأنثى بلا التزاماتٍ أو واجبات. وعند هذه النقطة، عاد الحوارُ لنقاشِ قوانين الأحوال الشخصية ومحاكم الأسرة ومتطلبات الزواج غير المتوازنة من مهرٍ ومؤخَّرٍ ونفقةٍ، وما يسمى بـ"القائمة" (القايمة باللفظ الدارج) في العُرف الاجتماعيّ المصريّ، وهي وثيقةٌ يُقِرُّ فيها الزوجُ عند عقد القِران بملكية الزوجةِ متاعَ بيت الزوجية ومستلزماته، بعضَه أو كلَّه، يعودُ إليها حالَ الطلاق.
مِن بين أكبرِ الحبّات الحمراء في أدبيات الردبلية، المُردَّدة تقريباً في منصّاتها كلّها، فكرة التزاوج الفوقي (أو الارتباط الفوقي/الطبقي). يعني المصطلحُ البحثَ عن شريك حياةٍ يتمتع بسِماتٍ في نفسه ومع مجتمعه أفضلَ من غيره. فالأنثى تبحث عن الأمان الماديّ والاجتماعيّ الذي يوفّره رجُلٌ مستقرٌ مادياً وذو صيتٍ في مجتمعه (خاصةً زمن وَهنِها في الحمل والولادة وتربية الأطفال) ويحملُ سِماتٍ جينيةٍ مميزةٍ يضمن لها الذريةَ السليمةَ القادرةَ على البقاء، والحماية والرعاية لها في الشيخوخة. ما لمستُه في حديثي مع الردابلة ومِن مطالعتي محتواهم أنه لا مشكلة جوهرية في المبدأ ذاته، بل مشكلتهم في عَدّهِ حقاً أنثوياً لا نقاش فيه، بلا نظرٍ إلى تداعياته السلبية على البنية الاجتماعيّة والقِيَميّة. فمثلاً يقول صاحبُ حساب "رِدْبِل منطقي" على "إكس" (تويتر سابقاً) ومتابعوه قرابة خمسةٍ وثلاثين ألفاً إن التزاوج الفوقي شاع لانتشار الفكر النِسْوي، وارتفاع معدّلات التّعليم والدخل للإناث، الأمر الذي عزّز تمركزَ الأنثى حول نفسها فرفع سقف توقعاتِها ومطالِبِها لمستوياتٍ غير واقعية. وقد أدّى هذا إلى ضعفِ الخصوبة عند المرأة لتأخّرها في الزواج ترقّباً للرَّجُل المثاليّ (الأَلْفا)، وتصاعدِ معدّلات الطلاق، والاستغلالِ الجنسي في زمن بحثِها عن هذا "الرَّجُل المثاليّ"، خاصةً عند تدنّي قيمتِها الجنسية في سوق التزاوج مع تقدّمها في العمر. يصوغ موقع رِدْبِل المغرب هذا المفهومَ بأنه كلّما زادَ عمرُ المرأةِ قَلّتْ قيمتُها، لذا ينقصُ طالِبوها، وتنخفض آمالُها، ويقول: "لا تَلْتَقِط الفُتاتَ".
أما الحبّة الثانية المهمّة في أدبيات الرِدْبِلية فهي تقسيمُ الرجال لأَلْفا وبِيتّا. فالأَلْفا ذو شخصيةٍ صلبةٍ ومسيطرٌ وذكيٌّ وجذابٌ وطموحٌ، وغالباً يمتلك مقوّماتٍ ماديةً ومكانةً اجتماعية. أي أنه يحمل صفاتٍ تجعله الرَّجُلَ الكاملَ الذي تسعى خلفَه الإناثُ. يقول كوتش كريم: إن هذا الذَّكر لغلاءِ قيمته في سوق التزاوج لا يُغدِق المالَ على النساء. هذا الصنف تجده غالباً في مراكز التأثير، كعالَم المال والأعمال، والفنون، والرياضة. لذا يجادِل بعضُ الردابلة أن التناسبية والمعايير في سوق التزاوج مختلّةٌ للغاية، فغالبية النساء، مهما كانت قيمتُهن في هذا السوق، يطلُبْن هذه الأقليّةَ من الرجال. إحصائياتُ مَواقع المُواعدة على الإنترنت دليلٌ على هذا الاختلال في التناسب مع أن غالبيتَها من السياق الغربي، فيجدر أن تُؤخَذ نتائجُها تمثيلاً للفضاء المجتمعي المُسْتَطلَع. ففي إحصائيةٍ عن منصّة "تِنْدَر" للمواعدة عام 2021 تبيّنَ أن غالبية النساء يفضِّلن 5 بالمئة من الرجال على الموقع، في حين أن هؤلاء الرجال يفضِّلون تقريباً نصفَ الإناث.
أما الرَّجُل البِيتّا، فيصنَّف بالضعيف "المُزَوِّد" أو المتملِّق للنساء (السيمب عند الردابلة، وهو مصطلحٌ تحقيريّ). وبما أن قيمتَه في سوق التزاوج متدنّيةٌ (بسبب تدنّي جاذبيّته المظهرية أو المجتمعية) فسبيله للتعويض أن يكون الباذلَ للمال والحبّ في العلاقة. وهنا نفهم ترويجَ الردابلة لأساليب تطوير الذات على أنها محاولةٌ لرفع وتطوير مؤهِّلات الذكورة، ربما من بِيتّا لأَلْفا. وتبدو هذه استراتيجيةً دفاعيةً على ما يعدُّونه مبالغةً أنثويةً في التزاوج الفوقيّ. وترى صفحة رِدْبِل أرابيك على الفيسبوك ذاتُ الأربعة وثمانين ألف متابع، أن الرَّجُل أضحى فريسةً لـ"وجهة نظر النساء المركزية السائدة اليوم التي تعلّم الرجالَ الرضوخَ، وتلغي أنهم قادةُ أُسَرِهم ومجتمعاتِهم". لذا أن تكونَ الذَكرَ الأَلْفا عاملٌ أساسيٌ لضمان ولاء الأنثى، فهي مبرمَجةٌ جينياً، كما يَدّعون، للبحث عن الذَكر الأفضل وإنْ كانت مرتبطةً (غالباً مع ذَكر بيتّا، وهُمُ الغالبية، كما يُدّعَى).
لعَقْلَنَة هذا المنظور، يتوسّل الردابلةُ حبّةً ثالثةً تُدعى "قفز القردة". تخيّل معي قردَ شمبانزي ينتقل من شجرةٍ لأُخرى، فهو لا يترك الغصنَ الأوّل حتى يمسكَ الثاني، وإلا سقط أرضاً. ومثله الأنثى، فهي في المنظور الرِدْبِلي تبحث دائماً عن قرينٍ أفضل، ولكنها ستُبقي على رجُلها أو زوجها الحاليّ تحسّباً حتى تجدَ أفضل منه. أي أن ولاءَها مرهونٌ بالخيارات المتاحة. يقول كوتش كريم في أحد فيديوهاته على اليوتيوب إن القفز يحدث عند اختلاط المرأة برجالٍ ذوي قيمةٍ عاليةٍ (مثلاً في العمل)، وهنا تصبح الاحتمالية عاليةً أن تترك هذه المرأةُ شريكَها ذا القيمة المتدنية في الهرم الاجتماعي لأجل واحدٍ من هؤلاء، ويجزم: "هي طبيعة النساء". المغربي "رضا بيل" مِن أبرزِ مروِّجي الردبلية على اليوتيوب، يعرضُ قولاً مشابهاً: "الحبّ عند الأنثى هو المصلَحة، والمرأة (خصوصاً العاملة) قد تحاول لفتَ نظر مديرها في العمل، ذي المكانة المجتمعية الأعلى من زوجها، وتُبقي زوجَها تحسّباً، فإن وجدَت طريقاً لهذا المدير، تَركَت الزوجَ".
أثار فضولي مبدأُ القفز هذا، فعُدتُ وفتّشتُ بعضَ منصّات الردبلية لأستخبر الحسَّ العامَّ لمتابعيها عنه. تطلّب هذا جهداً ووقتاً. والشعور العام أن غالبية المنشورات (والمشاركات) في هذا الموضوع كأنها ترجمةٌ مباشرةٌ من أدبيّات الردبلية الغربية، لكن لَفَتَ انتباهي النّكهةُ العربيةُ – الساخرةُ أحياناً – لوصف هذا المبدأ في الواقع العربي. فهنا يشارِك أحدُهم صورةَ مشهورةِ وسائل التواصل الاجتماعي الكويتية روان بن حسين مع المليونير المصري نجيب ساويرس ويعلّق بأنها تطلّقت من زوجها رجل الأعمال الليبي يوسف المقريف للقفز إلى رجلٍ أثرى. آخَرون، منهم الرِدْبِلِيّ الأخ نجيب، أشادوا بحنكة لاعب كرة القدم المغربيّ أشرف حكيمي الذي وضع ثروتَه بِاسم والدتِه، قاطعاً الطريقَ أمام طليقتِه هبة عبوك الطامعة في الحصول على جزءٍ منها. آخَرُ يتحدّث عن نساءٍ عربياتٍ جلبَهُنّ أزواجُهُنّ للبلدان الأوروبية ثم سرعان ما تطلّقن بعد حصولهن على الإقامة واختَرْن غيرَهم. من المقاطع المثيرة على بعض الحسابات الردبلية على موقع إكس، جزءٌ من مسلسلٍ سوريٍ يشكو فيه الأبُ الغاضبُ (أيمن زيدان) لابنِه بأن زوجتَه (الأم) تركَته بعد أن استوفت حاجاتِها منه، وانتقلت بعدَه لمن يلبّي حاجاتٍ أُخرى ليست عنده. فيقول البطل: "المرا يا بابا بتشوفك قلعة … إذا صَمَدْت، رح تعتبرك قلعة لازم تحتلها. وإذا ضعفْت رح تدوّر على قلعة تانية تغزيها، ورح تتركك وأنت مدمر وما راح تسأل عنك". يرد الابن متجهما: "بس مو الكل هيك…"، وهي الكلمة التي لم يكترث لها الأبُ الغاضب.
ارتأيتُ أن أجعل الكلمة الأخيرة عباءةَ "محامي الشيطان" كما هو التعبير الإنجليزي، وارتديتُها وعرضتُ الفيديو على خالد وسألتُه:"كأن في قفز القردة إجحافاً، فأنت تضع النساءَ كلّهن في خانة الخيانة أو قابلية الخيانة؟" أجاب بأن "الاستثناءات موجودةٌ؛ الدِين والعُرف المجتمعي مِن روادع القفز. ولكنّه سمةٌ أنثوية. (المرأة) محكومة بمحفّزاتٍ عضوية ونفسية عميقة قد لا تكون واعيةً بها، فهي ضعيفةٌ خِلْقَةً، والقفز للرَّجُل الألفا بوليصةُ تأمينِها؛ تأمين ضَعْفِها أقصِد، وهذا يشرح منطقيةَ مبدأِ القَوامة". يرى خالد أن مبدأ قوامة الرَّجُل على المرأة ليس حمايةً من محيطها، بل من نفسها. فنَزْعَتُها الفِطريةُ تُسيِّرها وتُؤطِّرُها على الانتهازية تعزيزاً لقيمتها المجتمعية وصورتها الذاتية، وهذا برأيه له توابع سلبية تؤثر في استقرار البنية الأسرية.
كان هناك سببٌ آخَرُ لسؤالي خالداً غير الإشارة إلى التعميم، وهو أن الدراسات متضاربةٌ في هذا ونتائجُها تفسرُها أحياناً تحيّزاتُ المتلقي ومنفعتُه من ردابلةٍ عرب وغربيين. فهناك دراساتٌ وَجَدَت أن 70 بالمئة من مجمَل حالات الطلاق في الولايات المتحدة تكون فيها النساءُ هنّ المبادِرات للطلاق. قد يرى الردابلةُ في هذه النتيجة دليلاً دامغاً على فكرة قفز القردة. فهنا الأنثى دائماً تبحث عن أفضل المُتاح لإشباع ذاتيتها، لذا هي من تُنهِي العلاقةَ مع رجُلها وليس العكس. لكن الاتجاه الأكاديمي يقدّم تفسيراتٍ أخرى لهذه النتيجة، مثل تحمّل المرأة عموما العبءَ العاطفي الأكبر في تربية الأطفال، والتنافر بين توقعاتها العاطفية والواقع في العلاقة، واستقلالها المالي. إحصائيا، غالباً يتزوج (أو يرتبط) الرَّجُل مرّةً ثانيةً بعد الانفصال قبل طليقته. تشير دراسة لمجلة "صحة الرَّجُل" الأمريكية أن هذا الانتقال السريع لشريكة جديدة غايتُه التأقلمُ مع صدمة الانفصال، خاصةً أن الذكور عادةً يُحجِمون عن طلب العون لتخطي أزماتهم العاطفية، لأن بعضهم يراه ضعفاً يناقض قيم الذكورة. المرأة قد تقضي زمنا أطول بلا ارتباطٍ بعد الانفصال، وتزداد هذه المدّة مع تقدم سنّها أو وجود أطفال في رعايتها. إلا أن النساء عموماً أسرع من الرجال في التعايش مع وضعهن الجديد لوجود "دائرة تفريغٍ اجتماعي" يشاركن فيها العبءَ العاطفي.
في السياق العربي تلعب النظرة السلبية للمطلَّقة دوراً في إطالة عزوبتها وتقليص فرصِ زواجها. في هذه الجزئية خاض الردابلةُ العربُ ما خاضوا، إذ صَنّفَ بعضُهم الطلاقَ على أنه محاولة قفزٍ أنثويةٍ فاشلةٍ لقراراتٍ غير رشيدة. فيكتب أحدُهم مقالةً على صفحة "ردبل بالعربية" على منصّة كورا مقتبساً من منتدياتٍ عربيةٍ تُعنى بالمشكلات النسوية، فيقول: "… فمهما ارتفعت مكانتك الاجتماعية وسيطرْتَ على الموارد أو كنت من الوسيمين أو المشاهير (أحد محفّزات التزاوج الفوقي)، فكل هذا لا يعطيك ضماناً يحمي الأسرة من حماقة المرأة ونشوزها ثم طلبها للطلاق". وتعرض صفحةُ ردبل أرابيك فرضيةً مشابهة: "ستحتفظ المرأةُ باعتقاداتٍ غيرِ صحيحةٍ وغير عقلانيةٍ … لن تقوم المرأةُ حتى بمحاولةِ فهم شيءٍ ما إذا كانت تعتقد أن الصدق المتعلق به سيزعجها عاطفياً".
قد لا تكون اللهجة الحادة أعلاه مجمَعاً عليها عند الردابلة الذين حادثتُهم، إلا أن معظمَهم متفقون على رفض الزواج بالمطلّقة. هنا يتساءل كوتش كريم في إحدى تغريداته: هل يقبل رجُلٌ عاقلٌ مكتملُ الرجولة عالي القيمة بهذا الخيار ولديه عشراتُ الآلاف من الخيارات خيرٌ منها، بلا مرجعيةٍ جنسيةٍ، بعمرٍ أصغر، توافقيةٍ أعلى، بلا صدماتٍ نفسيةٍ، واضطراباتٍ شخصيةٍ، وعقدةِ كُرهِ الرجال؟ أما صفحة حركة الردبل المغربية على الفيسبوك فتعدّ المطلقةَ من النساء اللاتي لا يَصلحْن للزواج، لأنها جالبةٌ للهموم محمّلةٌ بالعقد النفسية قليلةُ البركة. يقول مدوّنٌ مرئي ردبلي صاحب قناة على اليوتيوب، واسمه السامري: المطلَّقة لا ترى العلاقة بينك وبينها بلا طرفٍ ثالث وهو الأطفال … وأنت هنا تصبح مسؤولاً عن ذُرّيةِ رجُلٍ آخَر. وتقفز صفحةُ ردبل إسلامي (النخبة)، يتابعها خمسةٌ وأربعون ألفاً، خطوة حادةً للأمام فتصف المطلَّقة بأنها "مثل الكوب المتسخ بغضّ النظر عن نظافة الماء الذي يدخل فيه، يصبح الماء غير آمن للشرب".
أما ثاني جوانب نقد ليلى للردبلية فهو نظرتُها المستريبة من تصنيف الرجال بين ألفا وبيتا. فهي ترى أن هذا التصنيف يتبنّى معياريةً غربيةً أُسقِطَت على ثقافةٍ عربيةٍ إسلاميةٍ مغايرة. والأهمّ أنها تشكِّك في فرضية أن هناك أنماطاً ثابتة للشخصية كما ينص اختبار أنماط الشخصية الجدلي المسمى بـ"مؤشر مايرز بريغز"، وهو الذي طُوّر في أربعينيات القرن المنصرم ويقولب الشخصيات الإنسانية في نمطية معينة، ولا تزال بعض الشركات تستعمله في عملية التوظيف. تجادِل حمدان أن تصنيفات الشخصية فيها إطلاقٌ وتعميم، بل تعسّفٌ خالٍ من المنهجية. والأمر ينطبق على أنماط الشخصية التي وضعها الردابلة مقياساً للرجولة. فتصنيفات ألفا وبيتا تكمن قوّتُها في جاذبيتها النرجسية (من يرفض أن يصنف بأنه ألفا مقتدر عالي الجودة؟) وتضيف بأن التصنيف الثنائي يُغفِل أن الشخصيات الإنسانية متداخلةٌ جداً في سِماتها، وأن قولبة الناس في نمطيةٍ ثابتةٍ شبيهٌ صنيعَ مروّجي التنجيم والكهانة والأبراج الفلكية. تقول: "مشكلة الردبل أنها تأخذ نظريات غير ملزِمةٍ وتُقعّدها وتبني عليها. العلاقات متغيرةٌ غير ثابتة، والإنسان تتغير حالته النفسية كل يوم متأثراً بالمؤثرات الداخلية والخارجية، وهذا لا يمكن ضبطه رياضياً. فالإنسان بالمنظور الردبلي يُنزَع من هذه المؤثّرات ويصنَّف بحُكم جنسِه فقط".
مع هذا النقد، إلا أن ليلى أشارت في إحدى مقالاتها أن الردبلية نشاطٌ منطقيٌ ومطلب فطري يجابِه سُعارَ النسوية لإعادة قيم الرجولة. دفعني هذا الأمر لأقلّب في أوراقي قليلاً، محاولاً فهم أوجه التوازن بين ما تطرحه من نقد الردبلية وتفهمها لدوافع هذه الظاهرة. لذا طرحتُ عليها السؤالَ ذاتَه الذي وجّهتُه لكوتش كريم من أن الردبلية "استراتيجية دفاعية". أجابت: "الردبل استجابةٌ لواقعٍ غير متّزنٍ فيه ظلمٌ وانحرافات. فالفكر ينتشر بين شريحةٍ محبَطةٍ لم تستطع تغيير واقعها ولذلك لجأت إلى أفكارٍ تعوِّض النقصَ، وغالبيةُ هذه الشريحة متدنّيةُ الأخلاق، جاهلةٌ دينياً، فترى أن سفاهتهم في مجابَهة النِسويات مشابهةٌ لسفاهتهن".
وقالت رداً على مسألة القوامة التي عرضها خالد وأثارت فضولي: "إنه يلغي أن للمرأة حقَ الخلع في الشريعة، ولا أدري كيف يتعاملون مع هذه النصوص الشرعية. ما يحملونه من أفكارٍ يهدم العلاقة الزوجية، لأنها لا تركن للتكامل الذي جعله اللهُ فطرةً، بل تتوكّأُ على قاعدة الاستعلاء (على المرأة)، فالرَّجُل الرِدْبِلِيُّ يرى نفسَه أكثر رجولةً من كل رجُلٍ يَلِينُ للمرأة." وأضافت: "يعملون على شَيْطَنة المرأة وأن الأصلَ فيها الشرُّ، مما يُنبِئ عن الهوى وحُظوظ النفس، بل أقول لعلّ أكثر الرِدْبِلِيِّين تعرّضوا لخيباتٍ عاطفيةٍ وإخفاقٍ في العلاقات".
قد يُرى كلامُ الدكتورة متوقَّعاً لأنها أنثى ترى نفسَها مهاجَمةً، فتَشُنّ هجوماً مضاداً. هذا ما حذَّرَني منه خالد وكوتش كريم ذَوا المساجلات النقدية مع ليلى، وإن لم تكن مباشرةً أو وجهاً لوجه. تقول ليلى إن النقد العربي ضد الردبلية ليس أنثوياً، فهناك وعيٌ مبشِّرٌ من الرجال. لَم يتعبني العثورُ على بعضهم، وإن كانوا قلّةً أمام المنظِّرين والمتأثرين على مواقع الردبلية العربية. قد يكون هذا متوقَّعاً لحداثة هذا الوعي، بخلاف أفكار الردبلية المتجذِّرة. أي أن الوعي بالظاهرة غير مساوٍ لانتشارها – أقلّه لحظة كتابة هذه المقالة.
وجدتُ ببعض التقصّي أن الناقدين منقسمون: الرافضون لأفكار الردبلية، ومن يمكن تسميتهم بالموائمين، يَقبَلون بعضاً ويرفضون أُخَر. مثال الأَوّلِين المغربي عبدالحق صانع المحتوى في اليوتيوب وصاحب القناة المعنونة بالفرنسية "عبدالحق لوبتوميست" (وتعني عبدالحق المتفائل)، الذي ينقد الأخَ نجيب ورضا بيل، وهما من أهم منظّري الردبل على منصة اليوتيوب، ناعتاً ما يأتون به بالخرافات. ويعيبُ أدبياتِ الردبلية وتصنيفاتِها وقوانينَ الجذب للأنثى واصفاً إياها بغير العلمية وأنها إنما تُعنى بقشور العلاقات بين الجنسين.
أما الموائمون فمنهم الداعية دانيال حقيقت جو. فهو يتفق مع الردابلة في معارَضة النِسوية وما يسمّيه إعادة اكتشاف مبدأ سيادة الرَّجُل وفقاً للقاعدة الإسلامية، لكنه يعارِض أفكارَهم التي يراها تزدري المرأةَ وتزجُّ بها في قالَبٍ ثابت، مثل وصفِها بالانتهازية والتسلّق، ويعدّها أفكاراً معاديةً للمنظومة القيمية الإسلامية. يقول: "خُذْ ما صفا من الحبة الحمراء ودَعْ ما كَدَر". لكنه يَتدارك فيقول: "بما أنه اختلط في الرِدْبِل الحسنُ والقبيحُ، فهو مقرونٌ بقدرة الشخص على التمييز، والأفضل "ترك الموضوع كاملاً، بل واستنكاره". أي من باب درء المفاسد.
يتفق كلا الرَّجُلين مع ليلى في دعوتها إلى تأصيل الأفكار الرجولية من العقيدة الصحيحة ويكون التركيز على مبدأ الرجولة مقابل الذكورة لأن الأوّل يحمل القيمة والثاني يشير إلى نوع الجنس لا أكثر. إلا أن الموجة العربية المضادة للردبلية تبدو حالياً محصورةً في جهودٍ شخصيةٍ أو قصصٍ صحفيةٍ تتفاوت في عرضها أو نقدها أو فهمها للظاهرة، وإن غلب على معظمها التسطيح والاختزال. أمّا في الغرب فباتت الظاهرة تستقطب انتباه كثير من الأكاديميين. وقد استعنتُ ببعض دراساتهم الجادّة في كتابة هذا التحقيق. مثلُ هذه الدراسات تغيبُ عن الساحة العربية، ولعل هذه الحقيقة تمثل أحد الفروق بين الظاهرة في الفضاء العربي ونظيرتها في الفضاء الغربي.
تسهم النظرة إلى النسوية في السياق العربي على أنها مستوردةٌ من الغرب في وضعها داخل مواجهةٍ مع مجتمعاتٍ ذات غالبيةٍ متدينةٍ ومحافظةٍ وتَحكُم العاداتُ والتقاليدُ كثيراً منها. ومن هنا يرى كثيرٌ من الردابلة العرب أن النسوية بأطيافها كلّها أتت بالوبال على المجتمعات العربية. ويرونها دعوةً إلى قلب الأدوار والانحلال الخُلُقي. وهكذا يسهل عليهم التشنيع على معتنقات الفكر النسوي والسخرية والتحقير منهن كوصفهن بـ"المُسْتَرْجِلات" أو "البايرات" (أي العوانس) وغيرها من الكلمات التي ترادف معنى العاهرات في الثقافة الشعبية كـ"كلبات الفلوس / المصاري" و"القهوجيات".
من هنا نشأتْ دعوات رِدْبِلِيّة لدرء الضرر النسوي والابتعاد عن فئات نسائية بعينها مثل النسوية المطلّقة والأرملة والمخطوبة قبلُ والمرأة ذات العلاقات قبل الزواج والموظفة وذات التعليم العالي. ففي كل هذه الحالات، إما أن تكون المرأة "بضاعة مستخدمة" وإما "مغسولة الدماغ"، الأولى قد تكون مضطربة عاطفياً ومتسلقة والثانية لن تجد منها إلا النشوز.
يثقِّف الردابلةُ أتباعَهم وغيرَهم في موضوعاتٍ مثل المواعدة والحياة الزوجية رداً على التيار النسوي، منطلقِين مما يعدونه قيماً ومبادئ تقليدية. ولعل أهم هذه المبادئ التراتبية الاجتماعية الضامنة طاعة الزوجة وإعطاء الأولوية للذكر في سوق التزاوج والاقتصاد، ويرون ذلك ترميماً للفطرة السليمة. يمنح التفسير الشائع للدين هذه الأفكار شرعيةً، كالقول بتحريم عمل المرأة المختلط.
ولكن السؤال الذي طرحتُه في بداية رحلتي لاستكشاف الرِدْبِل هو: هل هذا التظلم الذكوري ردٌ على النسويةِ وحدَها أو شيءٍ آخَر؟ مع تتبّع تعليقات روّاد المنصات الردبلية، شعرتُ أن الغالبية ترى في النسوية شراً مطلَقاً أياً كانت طبيعتها والفروقات بين تياراتها. وهنا جاء السؤال عن الدافع وراء بعض التعليقات التي تبدو حانقةً وفيها كثير من الشخصنة. رأت حمدان أن غالب الردابلة تعرضوا لخيباتٍ عاطفيةٍ، لذا فإن البعد الفكري للحركة قد يكون لاحقاً وليس سابقاً لهذه الخيبات. أي أنه أداةٌ تسعى لعقلنة هذه الخيبات بأثرٍ رجعيٍ والعملِ على التغلب على تبعاتها النفسية والعاطفية. وترى فاطمة عبد الرؤوف أن جزءاً من الردابلة عانوا تجاربَ شخصيةً مؤلمةً أسقَطوها وعمَّموها على النساء جميعِهن. أما الآخَرون فاعتنقوا الردبلية بحثاً عن قضيةٍ أو معنى. فهم أشخاصٌ محبَطون من الفضاء العام ومن إمكانية التغيير فيه فوجدوا في تحدي النسوية بديلاً وهدفا أسهل. تفسير خيبات الأمل العاطفية قد ينطبق على خالد، فبعد رحلةٍ من العلاقات الفاشلة مع النساء وجد ضالّتَه في الردبلية التي حرّرته من منظوره المثالي للعالم وللنساء خصوصاً. سألتُ كوتش كريم إن كانت العلاقة العاطفية الفاشلة دافعاً وراء تبني بعض الشباب للردبلية، وهل كانت تجربته كذلك؟ أجاب بالنفي، قائلاً إن تجربته بدأت بالفضول وتطوّرت لاحقاً لشغفِ بحثٍ وَلَّدَ فضولاً آخَر، وهذا أدى إلى مزيدِ بحثٍ وتعمُّق.
ليست هناك دراسةٌ وافية في الفضاء العربي، على حدّ علمي، تصنِّف إحصائياً دوافعَ معتنقي الردبلية بين الحنق من النسوية أو نتيجة صدمة عاطفية أو لأن فكر الردبلية يعطي متنفّساً فكرياً وغايةً في الحياة ومعنى. بدا لي بالملاحظة المتأنية لمواقع الردبلية العربية أن الدوافع قد تكون مزيجاً من هذا كلّه، وقد يطغى عاملٌ على آخَر. لكن الثابت أنها كلّها ردّة فعلٍ على واقعٍ سلبيٍ؛ اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي، وأن اعتناق الأفكار الردبلية قد تكون محاولةً لعقلنة هذا الواقع وإحباطاته وإيجاد وسيلةٍ للتأقلم معه أو تحدّيه ثم تغييره إن أمكن.
لو أَخذنا بالسياق أعلاه، فالاستراتيجيات الدفاعية تبدو منطقية، ولكن الإشكاليات تظهر عند فحص بعض الأساليب والتعبيرات عن هذه الاستراتيجيات. فعلى المنصّات الردبلية العربية كثيرٌ من القصّ واللصق لأدبيات الردبل الغربية من غير تمحيصٍ أو نظرٍ إلى السياق المنقول إليه. هذا أمرٌ حَذَّرَ منه بعضُ كبارِ الردابلة. منهم صانع المحتوى على اليوتيوب والموسيقار المصري المقيم في روسيا سام صاحب قناة "رجالي" الذي نسب هذا الخلل لضعف المتلقي لأفكار الردبلية. يقول "الحبة الحمراء لا تؤخذ على معدة فارغة"، أي بلا ثقافة ولا خبرة ولا فهم للسياق. ابتلاعُها على معدةٍ فارغةٍ ينمي لدى المرء كراهيةً متطرفةً للمرأة. يضيف سام بأن هذه الكراهية "متناسبةٌ طردياً مع حجم الحبة الزرقاء (حبة الوهم كما ذكرنا آنفاً)، وليست نتاجاً للحبة الحمراء". بمعنىً آخر، الغضب والحنق يساويان حجم صدمة تحطّم "الصورة الملائكية للمرأة" أي كلّما كان "التحرر من الوهم" أكثر إيلاماً زاد الغضبُ على النساء. هذا الحنق صاغ العلاقة بين الرَّجُل والمرأة في بعض فضاءات الردبل على أنها علاقة نِدّية، كقولهم إن لم تفعل كذا أيها الرَّجُل سيحصل لك كذا. تقول صفحة "فلسفة الحياة" الردبلية على الفيسبوك: المرأة اليوم تميل إلى التَّرَجُّل ومزاحَمةِ الرجال في العمل، وتجرّدَت من كافة المبادئ التي ورثَتها عن جيل الأمهات وتَعُدُّها عبوديةً. لذلك يا عزيزي، صحِّحْ مفاهيمَك وطوِّر نفسَك لتستطيع العيش في جيل المُسْتَرْجِلات.
لاحِظ الفصلَ بين الأنثى الشريكة المصنَّفة في خانة النِّدِّيّة والأنثى الأمّ أو الجدّة المكرَّمة في خانة العفّة والطاعة. فليست نساءُ اليوم كأمهاتنا أو جداتنا. وهذه العبارة رأيتُها تتكرر في أحاديث الردابلة مقرونةً بالحديث عن الولاء الشَّرْطي للأنثى، أي مسألة الارتباط الفوقي والقفز للذكر الألفا، وتروج هذه الأفكار بشيءٍ من السطحية أحياناً. مثلاً ينشر "ردبل المغرب" صورةً لجاكلين كنيدي المرتعدة وهي تحاول القفز من السيارة الرئاسية بعدما اغتال مسلحٌ زوجَها الرئيسَ الأمريكي جون كينيدي عام 1963 فتفتتَ رأسُه قربَها وتناثرت دماؤه على ثيابها، ثم ينسب خوفَ جاكي وهروبَها لـ"غريزة البقاء عند الأنثى" وكأنها محصورةٌ بها وليست غريزةً عامة. ترى الصفحة أن جاكي لم تَفْدِ زوجها وتركته في أحلك ظروفه، فهي تكرار لقصص الحب الكلاسيكية، يموت قيس لأجل ليلى، وروميو لأجل جولييت. وكأن هذه المقارنات الركيكة غير كافية، فيضيف إليها تضحية جاك من أجل روز وهما الشخصيتان الخياليتان من فيلم "تايتنك" الأمريكي. لو نحّينا السطحيةَ جانباً، تبقى لدينا المعادلةُ الصفرية القائمة على الربح المطلق أو الخسارة المطلقة. أنتَ أو هي! وكأن المسألة تصفية حسابات. هذا يعيد السؤال عن دور الصدمة والتجربة الشخصية، "شخصنة القضية"، فتصبح أفكار النهوض بالرجولة أداةً للتشفي أكثر منها معالجةً لخيبات الأمل. هذا التشفي ليس السائد في الردبلية، وليس خاصاً بهم.
تزخر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي بمعسكراتٍ نسويةٍ موازية ديدنُها عقدةُ الضحية، وأدواتُها انتقادات وتظلمات وشكاوى وتنمطيات لجنس الذكور تتشابه في حيثياتها مع سرديات الردبل. لنأخذ رضوى الشربيني المذيعة المصرية مقدمة برنامج "هي وبس" مثالاً. تنصح رضوى النساءَ – بحدّيّة كحدّيّة الردابلة – أن يكنّ قويّاتٍ في ذاتهن وعلاقتهن مع الجنس الآخر. يرى بعضُهم أنها "خرّابة بيوت" وقد وُجّهَت لها الاتهامات بأنها معقَّدةٌ نفسياً وبأن نصحَها للنساء يغلب عليه التعميمُ وإسقاطُ تجربتها الشخصية السلبية، وقد طُلِّقَت مراراً. تقول رضوى إنها "ليست عدوة للرجال، بل عدوة أشباه الرجال". هنا نجد صورة العلاقة الندية ذاتها المنتشرة على منتديات الردبلية، ومسألة الاستحقاق ذاتها التي تعطي الشخص حقاً بتصنيف البشر بمنظورهم وتفضيلاتهم الذاتية. فهل "الرَّجُل الحقيقي" بمفهوم رضوى هو نفسه في عيون ليلى أو سمر أو غيرهن؟ وهل المرأة الحقيقية في عيون خالد هي ذاتها بمنظور أحمد أو سعيد؟ النسبية في الأذواق وفي العلاقات الاجتماعية حتماً تنفي التماثل.
خَلَقَ هذا الفضاءُ التعاضدي المدعوم بمنصات التعبير في الفضاء الافتراضي بيئةً من الجرأة والعلنية في تبادل الألفاظ والتلميحات الجنسية الصريحة التي لم تكن تُذكَر سابقاً إلا في الدوائر الخاصة أو في جلسات السمر على سبيل النكتة أو من باب التذمر والشكوى. فمثلاً صفحة "عاصمة الردبل" على الفيسبوك تضع صورة كهفٍ عميق في إشارة إلى الأنثى التي عرفت رجالاً من قبل. ويشير الكهف لتوسع المهبل إثر الممارسات الجنسية المتعددة غير الشرعية بتصوّرهم. مع أن البذاءة في التعبير ليست حصراً على الردابلة. فهُم كباقي المجموعات في هذا المستوى استفادوا من النمط غير المقيّد في الفضاء الافتراضي الذي يمنح المستخدِمين القدرةَ على إخفاء هويّاتهم الشخصية. وهكذا يمكّنون من التعبير عن توجهاتهم وحنقهم بلغةٍ صاخبةٍ ما كانت لتكون مقبولة أو دارجة خارج عالم الإنترنت دون خوفٍ من المحاسَبة أو التشهير المجتمعي.
نجد منحىً آخَر لصبغ الردبلية بطابعٍ ديني مع هذا التحرر في استخدام اللغة والتلميحات البذيئة. ويظهِر هذا التناقضَ القيمي في أجلى صورة. فالتديين هدفُه وضعُ الأفكار في إطارٍ شرعيٍ لإكسابها مصداقيةً مقرونةً بسلطةٍ أخلاقيةٍ عُليا لا تحتمل النقاش أو الجدل. وهذا المنحى ليس مستغرَباً في سياقاتٍ فيها يصبغ التديينُ العملَ السياسي والحزبي والاجتماعي وأنماط السلوك. والتديين في الردبلية له أمثلة كثيرة، مثل أن تُربط العذرية بمفهومها الشرعي فالمرأة صاحبة التجربة السابقة غير صالحة للارتباط. كذلك زجر المرأة العاملة ونزْع سمة العفة ثم الهوية الدينية "السليمة" منها لاختلاطها بالرجال في مكان العمل. وهناك أيضا من يستخدم الأحاديث الشريفة ويفسرها بمنظوره لتعليل القولبة الأنثوية التي تحدثتُ بها آنفاً مثل أن النساء عبيدٌ لنفسيةٍ واحدةٍ وكلهن يتصرفن ويفكرن بالأسلوب نفسه، فيتشارك بعضهم (بلا سياق) القولَ النبويَّ التالي ليدلّل على ذلك: "خُلِقَت المرأةُ مِن ضلعٍ أعوج…"، إلى آخر الحديث الشريف.
أبرزَ تعاملُ بعضِ الردابلة مع أدبيات الحركة الدارجة معضِلتَي الإسقاط والتعويض. وهُما حيلتان نفسيتان دفاعيتان: بالإسقاط يلْصِقُ الشخصُ عيوبَه ونواقصَه بالآخَرين، والتعويضُ طريقتُه للتغلب على هذه النواقص الشخصية. خُذْ مثلاً مسألة الانتقال من الذَكر البيتّا للألْفا لتحسين الذات وتحسين فرص الشخص في سوق التزاوج الجنسي أو لكسر ما يرونه بالتمركز المجتمعي حول الأنثى وحسّ الاستحقاق النِسوي الذي يصاحبه. ففي السياق الغربي يُسْرٌ في الانتقال الاجتماعي أو الاقتصادي (الطبقي)، في حين أنه في الفضاء العربي أقلُّ شيوعاً. فقد بيّن تقريرُ لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا) عام 2022 أن 10بالمئة من أثرياء العرب يتحكمون بـ 58 بالمئة من الثروة في بلدانهم وذلك مقابل 36 بالمئة في البلدان الأوروبية. ووجد أن 8 بالمئة من الثروة العربية توزع على 50 بالمئة من السكان. هذه الحقائق تجعل مسألةَ الانتقال إلى الطبقة العليا أصعبَ مِن أماكنَ أُخرى في العالَم، لا سيّما في الغرب. ويَذكر التقريرُ أنه إذا دَخَلَت أسرةٌ ما مرحلةَ الفقر الاقتصادي فالراجحُ أن تُورَّث هذه الحالةُ لأجيال. هذا كلُّه يعني – بالمفهوم الردبلي – أن الانتقال إلى مرحلة الألْفا (ومن أهمّ عناصرها التطور والارتقاء الاقتصادي الاجتماعي) من أصعب الأمور في المجتمع العربي.
تعوِّض المغالاةُ الأيديولوجيةُ الفشلَ في الانتقال الاجتماعي لتعزيز قيمة الذات. يصبح اللجوءُ إلى الحلول النفسية عن طريق الأفكار أو تطوير قناعاتٍ ما أو لوم الآخَرين تعويضاً عن هذا الفشل. فليس مستغرَباً أن نرى كثيرين في منتديات الردبلية وخارجَها يلقون باللائمة على عمل المرأة أو التحيّز بتوظيف النساء أنه من موانع الثراء أو الحصول على وظيفةٍ مُجدية. هنا شعورٌ بفقدان السيطرة والتحكم في الواقع، مما يمثّل تهديداً لقيم الرجولة والذكورة من القوامة والحماية ورعاية الأسرة، ويعزّز حالةَ الإحباط المجتمعي بين كثيرٍ من الرجال قد تصل للشعور "بالإخصاء الاجتماعي" المتنامي معه الشعورُ بالحنق والغبن.
يزداد هذا الإحباطُ سوءاً بوجود الكَبْت الجنسي. فكثيرٌ من الشباب العرب تُرْهِقُهُم تكاليفُ الزواج المرتفعةُ التي تُلقَى تقليدياً على كاهل الرَّجُل ولا يُشبعون غريزتَهم خارجَه للقيود الدينية والاجتماعية السائدة في بلدانهم. في خضمّ كل هذه الإحباطات والتحديات الاجتماعية التي لا يعانيها كثير من الردابلة الغربيين – ليسر الانتقال الاجتماعي والطبقي والحرية الجنسية – نجد أن الخطاب الردبلي العربي أشدّ تطرّفاً، لأنه حالة تعويضية أكثر شراسة ومواجهة لواقع اجتماعي أقل عدلا.
الرِدْبِلِيّةُ إذن رَدّةُ فعلٍ على مظلمات اجتماعية، وفي رَدّات الفعل كثيرٌ من الحقيقة. لكن بين المظالم ومجابهتِها عالَمٌ من الدوافعِ وأشباهِ الحقائق وكثيرٌ من الإسقاطات وشيءٌ من التجاوُزاتِ والتنميطِ غيرِ العادل.