كيف صاغت إستراتيجيةُ إيران الصاروخية قواعدَ الحروب الجديدة في الشرق الأوسط؟

استطاعت إيران عبر تطويرِ منظومة صاروخية قليلة التكلفة ونقلِها للحركات العربية الحليفة لها تغييرَ موازين القِوى في المنطقة

Share
كيف صاغت إستراتيجيةُ إيران الصاروخية قواعدَ الحروب الجديدة في الشرق الأوسط؟
الحرس الثوري الإيراني يختبر صاروخاً باليستياً وسط إيران عام 2021 (سيبانيوز / وكالة أنباء الأناضول / خدمة غيتي للصور)

(نُشِرَت هذه المقالةُ في مجلة نيو لاينز، شقيقةِ الفِراتْس، قبل بداية حرب غزة بعامين. ونُعيد نشرَها هنا لِما احتوته من تحليلاتٍ نجحت في تفسير سلوك إيران وحلفائها منذ بداية الحرب)

في الثاني عشر من نوفمبر سنة 2011، سُمع دويُّ انفجار في العاصمة الإيرانية طهران. خلال ساعات أعلنت الصحافة الإيرانية مقتل أربعة عشر عضواً من الحرس الثوري الإيراني بينهم حسن طهراني مُقدّم أو "أبو الصواريخ الإيرانية" كما هو معروف شعبياً، وذلك في حادثٍ بقاعدة "الشهيد مدرّس" على بعد خمسين كيلومتراً خارج المدينة.

حَضر الجنازةَ رجالُ دينٍ وبعضُ كبار المسؤولين المدنيين والعسكريين في الجمهورية الإيرانية. فقد أرجعَ جنرالٌ في الحرس الثوري الفضلَ إلى مُقدّم في ما وصلت إليه إيران من قوّة ردعٍ عسكرية. أما المرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي، فقد نَوَّه بجهود مُقدّم في "ملء أيدي الفلسطينيين بالصواريخ بدل الحجارة لضرب أولئك الإرهابيين المستكبرين". شكّك المعزّون بأن حادثة وفاة مُقدّم وضباط الحرس الثوري كانت صدفة، ورجّحوا قتلهم في هجوم إسرائيلي ضمن سلسلة الاغتيالات السياسية التي استهدفت قلب منظومة إيران الأمنية. 

أمَر مُقدّم الذي كان يرأس وحدة الصواريخ في الحرس الثوري قبل أيام من مقتله بنسخ نتائج اختبارات الصواريخ وحفظها في مواقع سرية، إثر تضاعف عدد الانفجارات في مواقع أمنية رئيسة. ومع أن طهران ما زالت تعاني لردع الاغتيالات وتخريب المنشآت التي تشنها عليها إسرائيل، إلا أن برنامجها الصاروخي الذي بناه مُقدّم من الصفر نجح في منع خطر الغارات الجوية المباشرة التي طالما توعّدَت بها إسرائيل. ومنعَ البرنامجُ الولايات المتحدة من شنّ هجماتٍ جويةٍ لا سيما فترة الحكم الأولى للرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش حين كانت القوات الأمريكية تحتل العراق.

انهمك مُقدّم في السنوات التي سبقت مقتله بتعزيز دفاعات إيران الصاروخية ونظامها المعادي للضربات، ودمجِ دفاعات حزب الله ضمن البرنامج الإيراني، وتدريبِ طاقم من المهندسين اللبنانيين. وكثيراً ما ردّد: "لا يمكن قصف المعرفة" مشيراً إلى سياسة إيران التي لا تقتصر على تزويد حلفائها بالصواريخ بل مشاركتهم الخبرات لدعم القدرة على الردع. واليوم يمكن القول إن موازين القوى تساوت بالعموم؛ إذ أصبح من المستبعد سياسياً أن تشن الولايات المتحدة أو إسرائيل حرباً على إيران أو لبنان.

يشير المحلل مايكل نايتس من "معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى" إلى أن: "الإيرانيين وحزب الله اللبناني يملكون اليوم منظومةً خطيرةً جداً لتوجيه الضربات الصاروخية وتقصّيها". ويضيف: "يمكنهم الآن تحطيم البنية التحتية ونمط الحياة لأعدائهم القريبين". ورغم أن لأعدائها القدرة على إحداث مثل هذا الدمار، إلا أن استراتيجية إيران ليست انتحارية. فهي تسعى إلى إرساء "محور المقاومة والممانعة" وهو تحالفٌ مضادّ للترتيبات الأمنية الأمريكية بالشرق الأوسط مكونٌ من إيران ومعظم شيعة العراق والنظام السوري وحزب الله.

يرى "محورُ المقاومة" إسرائيلَ والسعودية والإمارات جزءاً من إمبراطورية أمريكية متضعضعة تحتاج قوة للوقوف ضدها. ولا تقتصر أهداف طهران على المحافظة على توازن القوى مع أعدائها أو حتى إنهاء نفوذهم في المنطقة بل تتجاوزها لتقديم نموذج بديل عن ما تعتبره نموذجاً متداعياً للحداثة الأمريكية. إن المنظومة العسكرية الصناعية الإيرانية ليست إلا قمة جبل الجليد لمشروع سياسي أوسع.

ضمّ تحالف طهران بيروت في العقد الماضي حماسَ في غزّة والحوثيين في اليمن إلى محور المقاومة؛ وذلك بتدريب مهندسيهم وتهريب بعض المعدّات لتركيب تصاميم صواريخ وأسلحة وَضَعَها مُقدّم. يدعم هذا التعاونُ العسكري الحلفاءَ ويعزّز قدرة طهران على ردع إسرائيل والسعودية بوضع صواريخ على جبهاتهم الجنوبية الأقل تحصيناً.

هذا النوع من الردع العسكري قليلُ التكلفة بينما يُنفق السعوديون والإسرائيليون المليارات أسبوعياً في حروبهم ضد الحوثيين وحماس. فصواريخ "الباتريوت" التي يكلف الواحد منها ثلاثة ملايين دولار تُستعمل لاعتراض صواريخَ تكلّف آلاف الدولارات بل مجرّد مئات في بعض الأحيان. أطلقت غزة عام 2021 صواريخَ قيمتها بضعة ملايين، بينما أنفقت إسرائيل المليارات خلال الفترة نفسها لاعتراض الصواريخ القادمة من غزة بمنظومتها الدفاعية "القبة الحديدية" التي يكلف أحد صواريخها ثمانين ألف دولار. 

في الحرب الإسرائيلية على غزة سنة 2014 أطلقت حماس ستين صاروخاً بمدى عشرة كيلومترات، وقودها السكّر. وأطلقت في حرب 2021 أكثر من ثلاثة آلاف صاروخ، منها صواريخ بمدى مئتين وخمسين كيلومتراً وصلت إلى تل أبيب. كذلك طوّرت إيران قدرات الحوثيين الصاروخية من الصفر حتى باتوا قادرين على ضرب المدن والبنية التحتية النفطية السعودية على بعد أكثر من ألف كيلومتر. 

تستعمل إيرانُ هاتين الساحتين النشطتين مختبراتٍ لتطوير صواريخ "محور الممانعة". وتنظّم طهران شبكات التهريب، وتدرب الفنيين الفلسطينيين واليمنيين، وتدمج التقنية الإيرانية في منظومات مسلحة مناسبة لحرب قصيرة المدى مع إسرائيل وأخرى طويلة المدى مع السعودية. والهدفُ من هذا كله بثُّ الرعب في تل أبيب والرياض وكبح قدرتهما على بسط النفوذ خارج حدودهما. 

تستعمل طهران الهجمات الصاروخية لحماية وحدة أراضيها ولرسم خطوطها الحمراء التي يقف عندها خصومها الإقليميون. فمثلاً بعد أن اغتيل قاسم سليماني القائد في الحرس الثوري الإيراني عام 2020 في العراق أعلنت إيران عزمها شنّ هجوم ضد قاعدتين أمريكيتين في العراق، مما كبّد حوالي مئة جندي أمريكي إصابات دماغية بالرغم من تحصنّهم في ملاجئ تحت الأرض. وردّاً على فرض الولايات المتحدة عقوباتٍ تستهدف تصفير صادرات إيران النفطية هاجمت إيران عام 2019 منشأتين نفطيتين سعوديتين ما شلّ جزءاً من قدرتهما على الإنتاج عدّة شهور. وحذّرت طهران عبر القنوات الدبلوماسية: "إن لم نصدّر النفط، فلن يصدّره أحد".

يغير برنامجُ الردع الصاروخي الإيراني قواعدَ اللعبة للدول المتحالفة مع الولايات المتحدة فيما يتعلق ببسط هيمنتها على ما تَعدّه حدائقَها الخلفية. فقدرات حزب الله جعلت كلفةَ أيّ هجوم إسرائيلي على لبنان باهظاً، ولذلك يأمل الفلسطينيون والحوثيون أن يحصلوا على وضع دفاعي مكافئ لحزب الله على المدى الطويل.


بعد أيام من مقتل مُقدّم، زار خامنئي منزل عائلته وهو يبكي. ثم قال لابنة مُقدّم محاكياً عبارة شهيرة قالها الخميني بعد اغتيال الرجل الثاني في ثورة 1979 مرتضى مطهري: "إنني مصدوم؛ لقد فقدت شخصاً عزيزاً علي، فقد كانت لديه قدرة فائقة على استشراف المستقبل".

بدأ حسن طهراني مُقدّم حياته العسكرية مأمور نقليات آلية تابعة للحرس الثوري الإيراني في خضمّ الحرب الشاملة التي هيمنت على الجمهورية الإسلامية في سنتها الأولى إثر غزو الرئيس العراقي صدّام حسين عام 1980. وعُرف في وقت قصير بلطفه وطاقته العالية وقدرته على حل مشكلات هندسية في حرب مستعرة. وكان متديناً واضح التدين؛ فصُوَره تظهِر علامة سجود دائمة على جبينه كما هو معتاد بين الشيعة الذين يسجدون على حجر من كربلاء.

بعد هجوم عراقي مدمّر على إيران تلاه هجوم إيران المضاد والأشد تدميراً، حاول صدّام عام 1984 حسم المعركة بشن حملة شرسة على المناطق المأهولة بالسكان داخل إيران. ففي 12 فبراير من ذلك العام أُطلقت صواريخ سكود على بلدة ديزفول الحدودية مخلّفةً أربعين قتيلاً ومئتي مصاب. كان هذا الهجوم إعلاناً لسلسلة من الهجمات التصعيدية التي استهدفت المدن الإيرانية بما فيها طهران وقم وأصفهان. وفي وقت قصير استهدفت الصواريخُ الإيرانية بغدادَ ومدن العراق الكبرى. اعترفت إيران بمقتل أحد عشر ألف مدني تقريباً بتلك الهجمات، وهو ما يساوي عدد الذين قُتلوا بالهجمات النازية في قصف لندن المعروف بـ"البليتز" في الحرب العالمية الثانية (وهي هجمات مباغتة بكثافة هائلة تركز على محور محدد لاختراق دفاعات العدو وزعزعة صفوفه). عدّ الخميني هذه الهجمات وما ظهر من تقارير ميدانية عن سقوط أسلحة كيماوية في الخنادق دليلاً واضحاً أن بقاء صدّام في السلطة يمثّل خطراً أمنياً طويل الأمد. ولهذا أمر بسياسة "الرد بالمثل" مُسقِطاً ــ ضمنياً ــ السياسةَ السابقة بعدم استهداف المدنيين العراقيين. استشهد الخميني بالقرآن ليبرر هذا التغيير في قواعد الاشتباك: "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم، واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين".

استُدعيَ مُقدّم ذو الثلاثة والعشرين عاماً من الخنادق وكُلّف بتطوير قدرات صاروخية إيرانية عدّتها إيران ضرورية كي لا تُهزم في الحرب، فلا أقلّ من نجاةِ الثورة والانتصارِ بالحرب ونشرِ نظام سياسي أراده الله وأيده.

لكن كان على إيران حينها أن تواجه مشكلة ملحّة، فالشاه كان حاكماً تابعاً يعتمد في الدفاع عن حكمه على قوة جوية ترعاها الولايات المتحدة وبرنامج تطوير صواريخ بإدارة إسرائيلية إيرانية مشتركة قضت عليه الثورة. ولذا لم يعد لإيران التي قررت عدم الانحياز لأي من أقطاب الحرب الباردة صواريخُ ولا قدرةٌ على بنائها ولا وقتٌ لحل هاتين المشكلتين. وفي 12 يونيو 1984 أنهت اتفاقيةٌ للأمم المتحدة الجولةَ الأولى ذات الطرف الواحد من حرب المدن، لكن إيران كانت مقتنعة أن صدّام لن يلتزمها.

قاد مُقدّم فريقاً استطاع بناء قدرة صاروخية في تسعة أشهر. ففي عام 1984 غادر البلاد أوّلَ مرّة بطائرة من طراز "بوينغ 747" مُحاطة بمقاتلتَيْ "فانتوم" أمريكيّتَين مِن عهد الشاه متجهاً إلى سوريا، الحليف العربي لإيران في الحرب. وافق الرئيس السوري حافظ الأسد حينئذٍ على ابتعاث ضباط سوريين لتدريب مُقدّم وفريقه المنتقى بعناية على طريقة استخدام صواريخ "سكود" السوفييتية في الترسانة السورية. ضمّ الفريق المكوّن من ثلاثة عشر فرداً ماجد نواب، ضابط الحرس الثوري الشاب الذي يعمل اليوم مع حزب الله ويدير مشروعه الصاروخي في لبنان. تعلّم فريق مُقدّم في ثلاثة أشهر كيف ينقل صواريخ "سكود ب" ويزوّدها بالوقود ويوجهها ويطلقها، لكنه مُنع من نقل أيٍ منها من سوريا إلى إيران. كان الاتحاد السوفييتي الذي يزوّد صدّام بصواريخ "سكود" متحكماً بالترسانة السورية، وكان جنوده يراقبون بحذرٍ هؤلاء الزوّار الإيرانيين.

حصلت إيران على ثلاثين صاروخ "سكود" من العقيد معمر القذافي في ليبيا شريطةَ أن ينسّق الضربات فريقٌ ليبيٌّ يُرسَل إلى إيران. سيكون هذا الفريق وصيّاً على الترسانة الصاروخية وسيرتب بنفسه أمر إطلاقها. أخبر مُقدّم فريقَه في دمشق حينها: "إنني أشعر بالخزي، بعد كل هذه المعاناة! ما زلنا معتمِدِين على الدعم الأجنبي".

سافر مُقدّم إلى كوريا الشمالية والتقى زعيمَها كيم إل سونغ الذي وافق على تقديم مئة صاروخ من النُسخ الكورية لصاروخ "سكود ب" المعروفة باسم "هواسونغ-5"، وبناءِ مصنعٍ مشترَكٍ في إيران لإنتاج المزيد. وأصبحت بيونغ يانغ قناةَ تسليحٍ من الصين التي كانت تموِّل كِلا طَرَفَي النزاع الإيراني العراقي. وسببُ السياسة الصينية هو زيادة حرارة الحرب الباردة لتتفق مع مصالحها وتُمكِّنها من الوصول إلى الأسلحة الأمريكية والسوفيتية المستولى عليها لتستعملها في تطوير صناعاتها الدفاعية.

عندما وَصلَت شحنةُ كوريا الشمالية كانت إيران لا تزال معتمِدةً على علاقتها المتوتّرة مع فريق القذافي. لم يسمح الليبيون لفريق مُقدّم بالتعرّف على الجوانب التقنية، بل حصروا عملهم بالمهمات الخطيرة كالتزويد بالوقود وخلط غالونات الكيروسين وحمض النتريك أو المرافقة لمواقع الإطلاق في الجبال.

سَرق مُقدّم بموافقةٍ من محسن رفيق دوست وزيرِ الحرس الثوري الإيراني صاروخَ "سكود" من الليبيين وحاوَل هندستَه عكسياً. مع تدهور العلاقات، أشرَفَ المهندسون الليبيون في مارس 1985 على إطلاق صواريخ "سكود" تجاه محطة تصفية في كركوك شمال العراق ووسط مدينة بغداد. أَمَر مُقدّم بكتابة آيةٍ من القرآن على صواريخ السكود "فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ". وبينما نسّق الليبيون الإطلاقَ كان قرارُ إطلاق الصاروخ متروكاً لضابط الحرس الثوري علي حسيني طاش الذي سيُدير فيما بعدُ برنامجَ إيران النووي.

في الشهر الذي أَطلقَت فيه إيرانُ أوّلَ صاروخ "سكود"، وَصَلَ ميخائيل غورباتشوف لرئاسة الاتحاد السوفييتي. كان أوّلُ قراراته رفضَ طلبِ إيران صواريخَ "سكود" والموافقةَ على دعم ترسانة صدّام. رَدّت إيرانُ باختطاف أربعة دبلوماسيين روسٍ في بيروت وقتلِ أحدِهم. انتقمَت المخابرات السوفييتية فوراً بقتل مسؤولَيْن في حزب الله، ويُروَى أن الروس أَرسلوا رأس أحدهم إلى السفارة الإيرانية في لبنان.

كان القذافي يضغط على طهران للسماح لتقنيِّي الصواريخ بترتيب هجوم صاروخي ضد السعودية، لكن إيران رفضت. كانت السعوديةُ تدعم العراقَ بمليارات الدولارات، لكن إيران لم تكن مستعدة لفتح جبهة جديدة بالهجوم على السعودية.

خادع الإيرانيون الفريقَ الليبي؛ إذ أرسلوهم إلى جنوب إيران حيث بُنيَ موقع صواريخٍ مزيَّف بينما أَطلق مُقدّم وفريقُه صواريخَ بيونغ يانغ من شمال البلاد. شعر الليبيون بالخدعة؛ فأتلَفوا ما تبقى بين أيديهم من صواريخ "سكود" ورجعوا فوراً إلى ليبيا.

قيل لاحقاً إن مُقدّم أقنعَ رئيسَ البرلمان الإيراني آنذاك، هاشمي رفسنجاني، بالسماح له بإصلاح ما أتلفه الليبيون. فقد قضى وقتاً كافياً لدراسة الصاروخ المسروق واستطاع تصنيعَ نُسخٍ شبيهةٍ من مكوّناته بما في ذلك صناديق التُرُوس لجعل صواريخ السكود تعمل. كان مفتاح الصَهر هو الجزء الوحيد المفقود لأن الليبيين قد أخذوه معهم، لكن مُقدّم اعتمد على صِلاته مع الكوريِّين لتوفير بدائل. ثم استطاع الكوريّون بصعوبةٍ إجراءَ هندسةٍ عكسيةٍ لصاروخ سكود سوفييتي قدّمه لهم المصريّون.

تمكّن مُقدّم من بناء قدراتٍ محلّيةٍ خالصة لتصنيع صواريخ إيران ومقذوفاتها. أوّلُ سلسلةٍ طوّرها هي "النازعات" وهي صواريخ غيرُ موجَّهةٍ ذاتُ مدى مئة إلى مئة وثلاثين كيلومتراً. ثم ساعدَت التقنيةُ الكوريةُ الشمالية والهندسةُ العكسية لمنظومة صواريخ "سكود ب" السوفييتية على اختراع صاروخ "شهاب-1". بدأ إنتاجُ هذا الصاروخ في السنة الأخيرة للحرب الإيرانية العراقية، ولكنه أصبح فيما بعدُ أساسَ البرنامج الصاروخي لإيران الذي سيمكِّنها من إنتاج أسلحة قادرة على ضرب إسرائيل بحلول القرن الحادي والعشرين.

والغريب أن اللحظة التي أضرّت بعلاقة إيران مع إسرائيل لم تكن ثورة 1979 بل نهاية الحرب الباردة. فمع تحول أمريكا لمواجهة الإسلام السياسي، عدّت إسرائيلُ إيرانَ تهديداً جديداً لها، ولذلك قدّمت بعض التنازلات للفلسطينيين الذين أصبحت حركاتهم المسلحة في المنفى تهديداً ثانوياً. أصبحت الدولتان "على طَرَفَي نقيضٍ في المعادلة الإقليمية الجديدة" كما يَذكر تريتا بارسي في كتابه "التحالف الغادر". لَم تَعتمد إيرانُ في مواجهة إسرائيل على ترسانتها الصاروخية، بل اعتمدت على الحركات الشيعية المناهضة لاحتلال تل أبيب جنوبَ لبنان والتي كان أهمُّها تلك التي أسّستها إيران بنفسها؛ حزب الله.


عقب انتصار حزب الله على إسرائيل عام 2006 استعرض قاسم سليماني قائدُ العمليات الخارجية داخل الحرس الثوري الأساليبَ التي أدت إلى الانتصار. يقول: "تبدأ الحروبُ هناك سريعةً جداً لإظهار حدود القدرات في اللحظات الأولى، لكن حزب الله سار خطوةً بخطوةٍ في هذه الحرب، وفي كلّ حركة كان هناك أداةٌ وفعلٌ جديدان يكبّدان العدوَّ صدمةً ... لقد حيّروا الصهاينة أين ومتى سيتلقون الضربات".

كانت الصواريخُ حجرَ الزاوية في أسلوب "الخطوة بالخطوة" هذا. يوضح الخبيرُ ببرنامج المقذوفات الإيراني فابيان هينز أن "حزب الله يسعى إلى الحفاظ على قدرته على التصعيد والمفاجأة، وقد رأينا هذا جليّاً عام 2006. إنهم يعوِّضون ما يَعُوزونَ تقنياً بالتفكير إستراتيجياً. فعلى سبيل المثال يحذِّر حزبُ الله إسرائيلَ: 'إذا استَهدَفتم المدنيين في لبنان فسنَستهدِف المدنيين في إسرائيل، وإذا غزوتم فسنَستخدِم تقنيةً جديدة'".

كانت طهران تستعد لحرب 2006 منذ عقود. أرسل قادةُ طهران بعد الثورة أفراداً مثل مُقدّم ليساعدوا بتأسيس حزب الله أثناء الحرب الأهلية اللبنانية. ثم دعموا الحزب بالعتاد والتدريب المطلوبَيْن لخوض حرب عصاباتٍ ضد قوات الاحتلال الإسرائيلية حتى خروجها من لبنان عام 2000. بعد ذلك قاد القائد العسكري لحزب الله، عماد مغنية الذي اغتيل عام 2008، عمليةَ تمتينِ دفاعات حزب الله بحفر الأنفاق وشحن الأسلحة ومشاركة خبرات مُقدّم في مجال الصواريخ مع مجموعة صاعدة من المهندسين اللبنانيين. شبّه أمير حجي زاده قائد القوات الجوية والفضائية في الحرس الثوري هذه الاستراتيجية "بتعليم المرءِ الصيدَ بدلاً من إطعامه السَمَكَ".

طوَّر مُقدّم في العقدين التاليين للحرب مع العراق ترسانةً من الصواريخ المحلية، أهمُّها "شهاب-3" الذي يمكنه ضرب إسرائيل وإنْ بدِقّةٍ سيئة. وأُنتج في "مصنع شهيد باقري" ورُخّص بإنتاجه في معامل السفيرة على تخوم مدينة حلب السورية. عملَت إيران على توسيع عمقها الإستراتيجي وصولاً إلى الحدود الشمالية لإسرائيل.

سافر سليماني في حرب 2006 مباشرةً إلى بيروت مندهشاً من قدرة سلاح الطيران الإسرائيلي الذي ضرب بعض أهداف حزب الله ومعظم البنية التحتية للمدينة. توقّع سليماني آنذاك، بالرغم من كلّ الإعداد، هزيمةَ الحزب في الحرب. وصف سليماني في مقابلة عام 2019 كيف لاحقَته هو ومغنية وحسن نصر الله طائرة مراقبة مسيَّرة في حارات بيروت غدوةً أثناء القصف. عَرَّضَ سليماني بالحادثة مستحضِراً قصة مسلم بن عقيل، ابن عم الحسين بن علي، والذي قُتل لسعيه في تنظيم ثورة ضد الأمويين. ووصف كيف كان الثلاثة يتنقلون من مبنى إلى مبنى ليتجنبوا القذائف الإسرائيلية القريبة المتساقطة حولهم. قال سليماني: "كانت المباني تُقصف يُمنةً ويُسرةً. كان نصر الله هدفاً إسرائيلياً بأيّ ثَمن". أَلْفَت المجموعةُ نفسَها في مساحةٍ مفتوحةٍ عُرضةً لهجومٍ مباشرٍ من الجوّ. "أخبرنا مغنية أن نختبئ تحت شجرة بينما يأتي بالسيارة … كنا نعلم أن الإسرائيليين لديهم كاميرات تصويرٍ حراريٍّ فوق الشجرة … كنا قريبين من الموت في سبيل الله".

رجع سليماني إلى طهران ليبُثَّ قائدَه خامنئي الأخبارَ السيّئةَ. أوضحَ مخبِراً المرشدَ الأعلَى عن ضربات إسرائيل ضد أهداف الحزب: "لم تكن هذه حرباً كلاسيكية، بل تقنيةً وعلميةً". ويروي سليماني أن خامنئي كان متأكداً أن إسرائيل أساءت الحسابات وستُهزَم، وأمَرَه بالرجوع إلى لبنان حاملاً الأسلحة ورسالةً إلى مقاتلي حزب الله بأن يقرؤوا "الجوشن الصغير" وهو دعاء طويل لتثبيت القلوب وقت الحرب.

في الثلاثة والثلاثين يوماً التالية أوقع حزبُ الله خسائرَ ذات كلفة سياسية باهظة على إسرائيل. أطلق الحزب ما بين أربعة آلاف إلى ثمانية آلاف صاروخ إيراني وسوري على شمال إسرائيل. ثم حيّد حزبُ الله دباباتِ الميركافا الإسرائيلية مستعملاً صواريخ "كورنيت" الروسية المضادة للدروع والمقدَّمة من سوريا. وضربَ صاروخٌ ممنوحٌ من إيران من طراز "سيلكوورم" أو دودة القزّ بارجةً عسكرية حربية إسرائيلية من طراز "آي إن إس خانيت" بالتزامن مع نهاية خطاب مُتَلْفَزٍ لحسن نصر الله. نظرَ الأمين العام مباشرةً إلى الكاميرا وقال بينما يجري الهجوم: "انظروا إليها تحترق". 

قال نصر الله بعد نهاية الحرب: "إن أي شخص يتنقل بسهولة من شمال لبنان أو جنوبه ذهاباً وإياباً مدينٌ بهذا الأمن للحاج حسن السيد طهراني مُقدّم". يملك لبنان الآن ما بين مئة وعشرين إلى مئة وخمسين ألف صاروخ باليستي موجهة إلى إسرائيل. ومع أن غالبية هذه الصواريخ ما زالت غير موجهة ولا دقيقة الهدف، أسس الحزب مشروعاً لتحسين دقّة الصواريخ. يتضمن المشروع تجديد الصواريخ القديمة بزعانف توازن ومعدات توجيه من إيران، وإنتاج صواريخ بالجملة، وهو كائنٌ بحسب ادعاءات إسرائيل في وادي البقاع. شنّت إسرائيل غارتين معروفتين ضد مشروع تحسين الدقّة هذا، لكن أنظمة الصواريخ نفسها تجعل استهداف بنيتها التحتية خطيراً للغاية، مما يُجبر إسرائيل على حساب دقّة الاستهداف من غير أن تشعل حرباً قد تدمّرها وربما تدمّر معها كل دول الشرق الأوسط.

إذا كانت إيرانُ أَبَ "محور الممانعة" وحزب الله ابنه، فإن حماس هي قريبتهما البعيدة والمستقلة التي انضمت إلى الأسرة بحكم الضرورة القاسية. ففي مطلع مايو عام 2021 صدرَ بيانٌ لقائد الجناح العسكري لحماس، محمد الضيف، الذي يعدّه الحرسُ الثوريُ "الشهيدَ الحيَّ" بسبب فقدِه عائلتَه ورِجْلَه وعَيْنَه في هجمات إسرائيل. كَسَرَ الضيف صَمْتَه الذي استمر سبعةَ أعوام مصدِراً البيان على الإذاعة في غزة. حذّر الضيفُ في هذا البيان إسرائيلَ من أنها ستدفع "ثمناً باهظاً" إذا طردَت الفلسطينيين من القدس الشرقية.

واصلت إسرائيلُ عملياتِ الطرد وجلبت مستوطنين من الولايات المتحدة وهاجمت الفلسطينيين الذين كانوا يحتشدون احتجاجاً في المسجد الأقصى. حينها أطلقت كلٌّ من حماس والجهاد الإسلامي، وهي فصيل صغير أكثر انحيازاً لإيران، أكثرَ من ثلاثة آلاف صاروخ على إسرائيل في أسبوعين. استهدفت الصواريخ وسطَ تل أبيب على بعد مئة كيلومتر وسببت إجلاء السكان من بلدات وقرى عدة على امتداد جنوب إسرائيل. كان نظام دفاع القبة الحديدية الإسرائيلي ضد الصواريخ قصيرة المدى يُغمر أحياناً بوابل الصواريخ، مما يتسبب بالفزع في مدن وسط إسرائيل وجنوبها. 

يبدو أن صواريخ غزة غيّرَت حسابات الضباط في تل أبيب رغم عدد الضحايا المحدود. ففي تصريح مثير كشف أحدُ طياري المقاتلات الإسرائيلية أن قصف برج الجلاء التجاري في مدينة غزة الذي ضمّ مكاتب الوكالات الإعلامية العالمية "كان طريقة لتنفيس إحباط الجيش بعد فشله في إيقاف الصواريخ القادمة من غزة".

كانت آخر مرّة واجهت فيها فصائلُ غزة المسلحة إسرائيلَ في عام 2014، وكادت النتيجة أن تكون مذبحة. قاتل الفلسطينيون مستخدمين صواريخ "قسام" وقودها السكّر، أو قذائف مدفعية مصنّعة من أنابيب المياه أو الذخيرة المعاد استخدامها. دخل ستون صاروخاً منها إلى إسرائيل وقتلت ستةَ مدنيين، بينما قتل الإسرائيليون ألفي شخص وأصابوا عشرة آلاف آخرين تقريباً معظمهم مدنيون من فلاحين وصيادين كانوا قريبين من الحدود. في حرب 2021 كان عدد الضحايا الفلسطينيين عُشر هذا العدد وهو ما تعزوه حماس لردعها الصاروخي الذي استفز إسرائيل لارتكاب التجاوزات مما أدى لإدانات دولية واسعة أجبرتها على قبول وقف إطلاق النار.

كانت إيران تقدّم الأسلحة لغزة على مدى عقود، لكن الوضع الإقليمي تغير تماماً بعد عام 2014 بما لا يخدم منظومة الدفاع الصاروخية في غزة. فقد وُئدَ حُكمُ الإخوان المسلمين في مصر، وبذلك خسرَت حماسُ حليفاً استراتيجياً ودينياً في بلدٍ كبيرٍ مجاور. وتخلّت السعودية والإمارات في هذه الفترة عن الفلسطينيين، بل عقدوا اتفاقاتٍ أمنيّةً مع إسرائيل وتعاونوا مع الحكومة العسكرية الجديدة في مصر لتأمين الحدود الجنوبية لغزة. يقول أحد البرلمانيين الإيرانيين: "كنا دائماً أقرب لحركة الجهاد الإسلامي … كانت حماس على الجانب الخطأ في حرب لبنان الأهلية بين 1975 و1990. تطلَّب الأمرُ وقتاً لنثقَ ببعضنا". وأردفَ: "ثم تغير هذا عام 2014. نظّمت السعوديةُ إقصاءَ [الرئيس السابق محمد] مرسي في مصر؛ فعرَضنا المساعدة على حماس ثم ازدهرت العلاقة بعد ذلك".

أُرسل أعضاءٌ من وحدة القسام الصاروخية إلى إيران ولبنان وسوريا للتدريب، وأظهرت تقارير أن حرب 2014 كانت تُنسَّق من قاعدة في بيروت مكتظّة بقادة من حماس وحزب الله والحرس الثوري. وينسِّق الحرسُ الثوري تهريبَ آلاف الصواريخ. فالصواريخ قصيرة المدى ومتوسطة المدى تهرَّب برّاً عبر السودان ومصر، وبحراً بقوارب سريعةٍ تنطلق من لبنان أو بإلقائها من السفن في قناة السويس ثم تتلقفها أيدي شبكات التهريب في شبه جزيرة سيناء. قَتلَت إسرائيلُ فريقاً ضمّ عالِماً سابقاً في وكالة ناسا الأمريكية اسمه جمال الزبدة أثناء حملة القصف التي طالت أسبوعين.

على الرغم من مقتل مئات المدنيين وتهجير عشرات الآلاف، فقد عدّت إيرانُ والفصائلُ الفلسطينية المسلحة معركةَ مايو انتصاراً جلياً. فقد مَنعت حماسُ الغزوَ البرّي الإسرائيلي، وفشلَت المقاتلات الإسرائيلية في وقف إطلاق الصواريخ الغزّية على إسرائيل. رفع قائد حماس يحيى السنوار كأسَ ماءٍ للصحفيين في مؤتمر صحفي في 26 مايو قائلاً: "إنّ ما كان مجرّدُ رسالةٍ… وإنّ إرسال رشقةٍ صاروخيةٍ من 250 صاروخاً على تل أبيب أسهلُ عندنا..." ثم شرب الكأس برشفةٍ واحدة. التفسير الأوضح لرسالة السنوار هو أن غزة باتت تحت حماية "محور الممانعة" الذي سيفرض خطوطه الحمراء. عرض موقع "في إس القدس" الناطق بالفارسية، الذي تسيطر عليه على الأرجح الاستخبارات الإسرائيلية، ما زُعم أنه مخططات لأسلحة دقيقة تستخدمها حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية. وصرّح خامنئي ومسؤول إيراني كبير عن وجود أسلحة مثلها في غزة. مع أنها ما زالت في مهدها، إلا أنها إن طُوِّرَت فستوفر للمسلَّحين الغزّيين القدرةَ على التصعيد ضد إسرائيل عند أي غزوٍ برّي.

ما انفكَّ المسلَّحون في غزة يشدِّدون بخطاباتهم على محورية هذه الصواريخ والأسلحة في تهيئة الظروف السياسية الملائمة لزوال إسرائيل. صرّح قائد حماس السابق خالد مشعل لقناة "آر تي" الروسية الناطقة بالعربية في 14 مايو وفي خضمّ حرب 2021 قائلاً: "أعتقد أننا قادرون على هزيمة [إسرائيل] لأنها نِمْرٌ مِن وَرَقٍ وبيتُ عنكبوتٍ وتَفتقر إلى الشرعية وقلبُها خواءٌ وهواءٌ".


على خُطا حماس، انضمّت حركة الحوثيين في اليمن إلى "محور الممانعة" دفاعاً عن نفسها ضد عدوٍّ متقدّمٍ تقنياً ومدعومٍ من الولايات المتحدة. تدخلت السعودية عام 2015 في الحرب الأهلية اليمنية بعمليةٍ عسكريةٍ مدعومةٍ بآلاف الجنود البريطانيين والأمريكيين والمتعاقدين على الأرض. وجدَت الأممُ المتحدةُ أن المملكةَ استَهدَفَت المدنيين بمنهجية، في محاولة فاشلة لردع مقاتلي الحوثي الذي سيطر عام 2014 على العاصمة صنعاء ومعظم المناطق السكانية في اليمن.

قاتَل الحوثيون حكومةَ علي عبدالله صالح وحليفتَها السعودية منذ التسعينيات؛ إذ يتهمون الأخيرة بنَشر السلفية بين سكان مناطقهم. فالمذهب الزيدي هو جوهر الحركة الحوثية وهو ما يجعلهم على مقربة من الشيعة الاثني عشرية عقدياً. وتحكي وثيقة أمريكية أن التأثير الإيراني بين هذه القبائل كان "مقصوراً على العلاقات الدينية غير الرسمية" قبل الحرب، بل إن إيران نصحت مقاتلي الحوثي بألا يسيطروا على العاصمة. لكن بعدما تدخلت الرياض انضمّت طهران للحرب مباشرة، وقدّمت الدعم التقني لإغراق السعودية في وَحْل حربٍ مكلِفةٍ لا طائل منها.

كان حسن إيرلو ضابطاً بالحرس الثوري ومشرفاً على العلاقات بين إيران وحزب الله قبل تسلّمه منصب السفير الإيراني في اليمن منذ عام 2020 وحتى وفاته أواخر عام 2021. شارَك إيرلو في منصة "إكس" (تويتر سابقاً) صورَ زياراتِه الجرحى المدنيين وافتتاحِه عيادة مرضى الكلى وحضورِه تشييع جنازات قتلى الحوثي. وكتب مرّةً في يناير عام 2021: "لا تملك الولايات المتحدة أي إرادةٍ؛ إنها واقعةٌ تحت الضغط من الصهاينة لتصنيف [مقاتلي الحوثي] حركةً إرهابية". يُقال إن إيرلو كان يشرف في اليمن على برنامج صواريخ مقاتلي الحوثي. 

في بداية الحرب أطلق مقاتلو الحوثي صواريخ "قاهر-1" و"بركان-2" البدائية المطوَّرة محلياً؛ إذ حوّلها الحوثيون بمساعدة إيرانية من ترسانات صواريخ السكود الموجودة في اليمن إلى صواريخ تتحرك لمسافات أبعد وبحُمولةٍ أقلّ. وهناك تقارير بأن بريطانيا التي ترفض التعليق على التطورات في اليمن أَرسلت مقاتلين إلى البلاد عام 2016 لتدمير مواقع إطلاق الصواريخ لكنهم انسحبوا بعد إصابة بعض الجنود على يد عناصر مليشيا الحوثي.

قالت الأمم المتحدة إن إيران تقسّم الصواريخ قطعاً صغيرة ثم تهرّبها إلى اليمن عن طريق الموانئ اليمنية على بحر العرب. وجد تقرير عام 2019 أن الصواريخ التي استهدفت الرياض في 2017 قد أعيد تصميمها بناءً على نموذج صاروخ إيران "قيام-1" الذي دخل الخدمة عام 2010 بمدى ثمانمئة كيلومتر وبدائرةِ دِقّة عشرة أمتار. وتصل هذه الصواريخ الباليستية إلى مسافة ألف كيلومتر وبإمكانها استهداف منشآت النفط السعودية على البحر الأحمر. كان على المصنع المحلّي في اليمن أن يضحّي بهذه الدقّة، ولهذا السبب فإن توقّعَ هجماتٍ دقيقةٍ من اليمن مستحيل.

بالرغم مما ذُكِر فإن الهجمات الأجرأ كانت بالصواريخ الموجهة قصيرة المدى. وخلافاً للصواريخ الباليستية، تطير هذه الصواريخ بارتفاعٍ منخفضٍ وبحركةٍ بطيئةٍ نسبياً تُصعِّب رصْدَها. أعادت إيرانُ هندسة صواريخ سوفييتية موجّهة اشترتها من أوكرانيا عام 2001 مما مكّنها من الوصول إلى أكثر من ألفي كيلومتر. استخدم الحوثيون صواريخَ موجّهة فعّالة على الأهداف الاقتصادية السعودية؛ على منشأةٍ لأرامكو في جدّة على بعد ستمئة كيلومتر من اليمن، وعلى مطار أبها الدولي على بعد مئةٍ وخمسين كيلومتراً من اليمن، واستَهدَفَت القواتِ العسكرية داخل مطار عدن العسكري، واستَهدَفَت استعراضاً عسكرياً للقوات المدعومة إماراتياً في مدينة الضالع. وبما أن هذه الصواريخ المعروفة باسم "قدس-2" لَم تشاهَد قبل ذلك في إيران نفسِها، يرجّح خبراءُ أن إيران طوَّرَتها خصيصاً لحلفائها في محور الممانعة.

تطوّرت تصنيعاتُ مُقدَّم البدائية في الثمانينيات والتسعينيات إلى قاعدةٍ معرفيةٍ منظمةٍ لإنتاج صواريخ ومقذوفاتٍ رخيصةٍ أنهَت "الهيمنة الكلّية" لأمريكا في الشرق الأوسط. تؤمن طهران بأن الصواريخ وحدَها ستَحرس "محور المقاومة" على المدى البعيد، وستُضعِف التحالف الأمريكي في المنطقة. قال أحد الداعمين الإيرانيين للمقاومة مكرّراً عبارة المسؤول الحوثي بوضوحٍ أكثر: "يعلم السعوديون والصهاينة أنهم يعتمدون تماماً على نظامٍ عالميٍ متداعٍ ولا يملكون القوة لحماية أنفسهم من مسِيرة التاريخ".

في عام 2021 كانت تصاميم صواريخ مُقدّم تبدو بدائية؛ لكن قُبيل مقتله بدأَت إيرانُ تطويرَ أنظمة توجيهٍ استطاعت في العقد الماضي ضرْبَ أهدافٍ على بُعد آلاف الكيلومترات بدقّةٍ متناهية. قال فابيان هينز: "إنها فعلاً قفزةٌ كبيرةٌ في دقّة الصواريخ. ففي غضون عشر سنوات، انتقلَت إيران من وضع 'هناك احتمال لوصول صواريخنا إلى تل أبيب' إلى وضع 'نثق بقدرتنا على استهداف حيٍّ بعينِه في تل أبيب' ... حتى أنهم يستطيعون اليوم ضرب الكنيست". 

هذه القدرة المؤثرة وبأدوات غير متكافئة هي سبب انتقادات ساسةٍ أمريكيين الصفقةَ الإيرانية النووية التي وقّعها أوباما وألغاها ترامب وحاول بايدن بعْثَها من جديد. فهُم رأوا أن الصفقة لم تضع كوابح على التقنية الصاروخية لإيران. وكرَّر رئيس إيران إبراهيم رئيسي في أول مؤتمر صحفي له أن "قضية الصواريخ لا تَفاوض فيها".

حقَّق التقدم الإيراني توازنَ رعبٍ بين إيران ولبنان وإسرائيل والسعودية، رافعاً الكلفة السياسية لخوض أي حرب. لكن ما زال الوضعُ في اليمن وغزّة تحت رحمة التفوّق الجوّي السعودي والإسرائيلي، بالرغم من السعي لبناء قدرة ردعٍ من الصفر. أوضحَ مايكل نايتس أن "الحوثيين وحماس يصنعون أسلحةً دعائية. إنهم يدّعون بلوغَهم مرحلةَ النضج التي وصلَتها إيرانُ وحزب الله، لكنهم حقّاً ما زالوا أطفالاً". لكن الأطفال يكبرون. فعندما انسحبت إسرائيل من لبنان عام 2000 لم يكن حزب الله مهدِّداً حقيقياً، لكنه الآن قادرٌ على الحدّ من قدرة إسرائيل على التدخل شمال حدودها. ومع تزايد التزام طهران الكبير تجاه مقاتلي الحوثي أو حماس في العقد الماضي، يُستبعد أن يصبحوا نُسخاً من حزب الله. وبالرغم من كل الخطابات ما زالت علاقات طهران مع أعضاء "محور المقاومة" الجدد تعاقدية نسبياً، فطهران ليست على وفاقٍ تامٍّ معهم سياسياً أو إستراتيجياً أو دينياً كما هي مع حزب الله. ودعمُ اليمن وغزة خصوصاً أصعبُ من دعم حزب الله المتصل بطَريقٍ يمرُّ بسوريا والعراق حليفتيْ إيران.

نجحت إيران في إحباط الخطط والترتيبات الأمريكية في الشرق الأوسط بفضل إستراتيجيتها المزدوجة المشتملة على تأهيل وتطوير القدرات الدفاعية لحلفائها واحتواء خصومها في المعسكر الأمريكي. ومع أن إيران لم يكن لديها ما تدفع به الحرب الاقتصادية التي شنّتها عليها الولايات المتحدة بالنظام المالي الدولي، إلا أن إيران وحلفاءها انتصروا عسكرياً في حروبهم كلّها بكلفةٍ ضئيلة. فقد أنفقَت الولايات المتحدة ما قيمتُه تريليونا دولار في حرب العراق التي خسرَتها بسبب حشد إيران أجهزةَ تفخيخ محلّية الصنع. ومع توظيف إيران المحسوب للصواريخ والقذائف والمسيّرات ذي الكلفة البشرية المحدودة فإنه من المستبعد أن نرى أمريكا تنسحب من العراق قريباً.

لا شكّ أن التبعات الإنسانية للقتال غير المتكافئ هائلةٌ في اليمن ولبنان وغزة. وقد قَبِل حلفاءُ إيران في هذه الساحات الثلاث تكبّدَ خسائر عسكرية ومدنية، فهو ثمنٌ لا مفرّ منه للقتال ضد أكثر أجهزة القتل تطوراً وبطشاً في العالم. وخلافاً للولايات المتحدة، لا يمكن أن تختفي إيران من خريطة المنطقة، لذا ترى مصلحتَها في الحفاظِ على أحلافها والقتال على المدى الطويل. وتخلّت إيران منذ زمن عن هدفها في تشييع حلفائها، وتُظهر حاليّاً الدعم غير المحدود على المدى الطويل، بينما   تقلّ الثقة في الدعم الأمريكي عبر المنطقة.

تنتهج إيران سياسة ثابتة  ومتسقة مع رؤية نظامها، عكس سياسات الغرب التي تتقلب حيثما هبّت رياح التغيير بعد كل انتخاباتٍ وإدارةٍ جديدة لذا تُواصِل طهرانُ دعمَ حلفائها في المنطقة أمام تهديد الولايات المتحدة. إن تمسّكَ مقاتلي حماس والحوثيين بأساليب الحرب غير المتكافئة ضد أقوى جيوش المنطقة أمرٌ ملفتٌ للنظر، لكنه يتلخص في كونهم برغم الفقر والحاجة متشبثين بإستراتيجية النصر أو الموت.

والحرب لدى هذا المحور ليست من أجل البقاء فحسب. فجذور الرغبة في مقاومة الاستكبار مغروسةٌ في ذاكرة أتباعه الثقافية وبالأخص مركزه الشيعي، وتمتد قروناً قبل الثورة الإيرانية. صحيح أن الصهاينة والأمريكيين ليسوا سنّة، والفلسطينيين ليسوا شيعة لكن الحافز الشيعي يرسخ ويحرك التفكير الإستراتيجي لـ"محور المقاومة". فهُم يعدّون خصومَهم طارئين على المنطقة ومصيرُهم الرحيل. قال مسؤولٌ حوثيّ: "عُمُرُ السعودية مئةُ عامٍ، لكنّنا هُنا قبلَ الرومان. لقد بدّدوا كل ثرواتهم في قتل بعض العائلات الفقيرة في الجبال. وبإذن الله، بعد مئة عامٍ سيزولون وسنظلّ نحن هنا".

اشترك في نشرتنا البريدية