حلب تلفظ أهلها: صراع من أجل البقاء في ظلال آثار الحرب والدمار

يشهد حي البيّاضة على قصة حلب التي اندرست بعض أحيائها إثرَ المعارك بين قوات المعارضة وقوات النظام السوري؛ إذ أمست بعض أحياء المدينة أطلالاً يصعب العيش فيها. يحثّ هذا الدمار كثيراً من أهل المدينة على التفكير بالرحيل عنها

Share
حلب تلفظ أهلها: صراع من أجل البقاء في ظلال آثار الحرب والدمار
معتصم الرفاعي يتصفح وثائق تاريخية من أرشيف عائلته (تصوير الكاتب)

استمع لهذه القصة

00:00:0000:00:00

بأصابع مرتعشة يُقلّب معتصم الرّفاعي مجموعةَ وثائق تاريخية من أرشيف عائلته. يشرح بشغف مضمون بعضها، بينما يعكفُ على فرزها وتبويبها بإحدى غرف بيت العائلة في حي البيّاضة، أحد أعرق أحياء مدينة حلب القديمة. تحتوي المستندات على رسائل عائليّة ووثائق ملكيّات عقارية وصور ورسومات، غير أنّ أكثرَ ما يحظى باهتمام الرجل قوائمُ توثّق أسماء الكتب في المكتبة الوقفيّة لـلتكيّة الإخلاصية الرفاعيّة ومحتويات التكية الملاصقة لبيت عائلة معتصم والمنسوبة إليها.

يشهد حي البيّاضة شمال شرق قلعة حلب على قصة العاصمة الاقتصادية لسوريا التي اندثرت بعض أحيائها أثناء الحرب الطاحنة التي شهدتها المدينة بين قوات المعارضة من جهة  وقوات النظام السوري وحلفائه من جهة أخرى، والتي انتهت بسيطرة الأخيرة نهاية عام 2016 على المدينة. استحال كثيرٌ من أحياء حلب أطلالاً يصعب العيش فيها، لكن معتصم الرفاعي عاد ليعيش فيها بعد نهاية الحرب، بيدَ أن الصعوبات التي تعصف بالمدينة أجبرته على التفكير بالرحيل مجدداً.

أُنشئ حي البيّاضة أولاً بجوار سور المدينة القديمة، ثم بات داخل السور الجديد بعد توسعة المدينة وبناء أسوار جديدة لها. تعزو بعض المصادر تسمية البيّاضة إلى أرضيّة الحي التي كانت تربة كلسيّة بيضاء، وهو رأي يتبناه الباحث محمود حريتاني في كتابه "أحياء حلب القديمة". بينما يذكر خير الدين الأسدي في كتابه "أحياء حلب وأسواقها" روايتين: تقول أولاهما إن التسمية جاءت من انتشار مهنة تبييض النحاس في الحي، وأما الثانية فترى أن التسمية أتت من خانٍ كان يُباع فيه البيض.

كان عدد سكّان الحيّ كبيراً مقارنةً بعدد سكان المدينة المقدّر بنحو مئة وعشرة آلاف بداية القرن الماضي، مما يعني أن الحي كان مكتظاً بخلاف اليوم؛ إذ يسوده هدوء إلا من ضجيج مولدات كهرباء أو صوت سيارة عابرة يطغى على أصوات العصافير التي عششت بكثافة في أشجار بيوت الحي شبه المهجورة.

ما تزال معظم بيوت البيّاضة محتفظةً بطابعها التاريخي وهويتها المعمارية الحلبيّة العريقة. لا يعكس العمران الخارجي لهذه البيوت ما بداخلها؛ إذ كانت العمارة الحلبيّة تميل إلى البساطة في بناء مداخل البيوت وأبوابها وتزيينها. وهو أمر يُفسره بعضهم بتقاليد اجتماعية تسلّلت من ثقافة دينية تُحذر من البذخ والتّباهي بالملكية لأنّ "المُلك لله"، ولهذا يكتب كثير من أصحاب البيوت الحلبية حتى اليوم على أبواب بيوتهم "هذا من فضل ربي".

تقول المهندسة لمياء الجاسر إن "البيوت الحلبية التي تعود إلى مطلع العصر العثماني ذات نمط تقليدي منفتح على الداخل، منغلق على الخارج". وبيت عائلة معتصم المؤلف من طابقين وقبو من هذا النمط. 

يعد حي البيّاضة وامتداداته نموذجاً مهمّاً لفهم واقع الحياة بالأحياء السكنيّة التاريخيّة في حلب بعد الحرب، لا سيما أن كثيراً من هذه الأحياء سلمت من النيران المباشرة للمعارك مع أنها كانت في ساحة الاشتباك بين قوات النظام وحلفائه من جهة وقوات المعارضة المسلّحة التي سيطرت على معظم الأحياء السكنية التاريخية من جهة أخرى. تمسّكت قوات النظام السوري بالسيطرة على قلعة حلب وسط المدينة القديمة لمكانة القلعة عند الحلبيين ولأهميتها الاستراتيجية بسبب حصانتها وارتفاعها الشاهق الذي مكّن قنّاصة قوات النظام من استهداف كل ثابتٍ ومتحركٍ في محيطها. 

حاولت قوات المعارضة اختراق القلعة مراراً وفخخت في سبيل ذلك أبنية تاريخية وفجرتها، من بينها مبنى القصر العدلي القديم الواقع جوارَ باب القلعة ومبنى المحافظة القديمَين، وكلاهما أصبحا أثراً بعد عين. حاولت قوات المعارضة التسلل أيضاً عبر أنفاق تاريخية عتيقة تربط بين القلعة وبين الأحياء السكنية الأقرب إليها ومنها حي البيّاضة، إذ يسود اعتقادٌ بأن سراديب سريّةً تربط القلعة بكثير من بيوته، لا سيما معالمه البارزة مثل جامع الصروي التاريخي، والتكية الإخلاصية الرفاعية إحدى أشهر التكايا في حلب. والتكايا هي مبان دينية بُنيت في العصر العثماني لتؤدي وظائف تجمع بين تلقين الشيوخ الصوفيين الدروس لمريديهم وبين اختلاء الشيوخ مع طلابهم وانقطاعهم عن العالم الخارجي، وساعدت التكايا أحياناً عابري السبيل وبعض المرضى.

سألت معتصم الرفاعي أمام باب التكية عن شعوره وهو يمسك مفاتيح معلم تاريخي عريق، فاكتفى بالابتسام وفتح الباب كأنه يفتح باب بيته، ثم قادنا مباشرة نحو قبوٍ يجاور بابها، وأشار إلى موضع حفرة مردومة يبدو أن مجموعة من قوات المعارضة كانت تحاول الوصولَ بها إلى أحد السراديب السرية التي تصل إلى القلعة.

تحتفظ عائلة الرفاعي بمفاتيح التكية من غير أن يمنحها هذا أي حقٍ في ملكيتها، فهي من أملاك مديرية أوقاف حلب. بُنيت التكية على مراحل، ولهذا تتنوع الطرز المعمارية داخلها. يتألف مبناها من طابقين، أحدهما لسكن الشيخ. تجوّلنا بين الغرف والأقبية بينما شرح معتصم وظائف تلك القاعات قائلاً: "هذه غرف صغيرة لخلوات التلاميذ وتلك قاعة يُلقي فيها الشيخ الدروس وههنا قاعة النساء وذلك مطبخٌ وهذا قبو المونة".

يتطابق وصف معتصم لتقسيمات التكية مع أوصافها في سجلات مديرية الأوقاف بحلب عام 1940، والتي تقول إن التكية "تحتوي مغارة تحت الأرض للمونة ودرجاً من حجر، وطابقاً أرضيّاً فيه قبو المونة وسبعة محلات للسكن وممشى مسقوفاً ودرجاً من حجر، ومسجداً للعبادة يحتوي محلاً يُسمى ميدان وفيه تسعة محلات صغار من الخشب ومحل صغير في المسجد، وفسحة دار مكشوفة، وثلاث آبار ماء، وطابق أول فيه سبعة محلات للسكن وفسحة مسقوفة وفناء مسقوف ودرج حجري وبئر ماء، فيكون بذلك المجموع أربعة عشر محلاً للسكن في كلا الطابقين". 

كانت التكية في أربعينيات القرن الماضي مسجداً تقام فيه الصلوات ويجتمع فيها المريدون لقراءة الأدعية والأذكار حيث يجتمع الصوفية للتفرغ للعبادة، فقد حافظت على طابعها المعماري وأغراض قاعاتها من غير تغيير.

يتوقف معتصم الرفاعي أمام قاعة الاستقبال المجاورة للباب الخارجي ويقول: "لقاعة الاستقبال هذه أثر مهم في التاريخ المعاصر للبلاد قبل الاستقلال وبعده، ويُقال إن عدداً من الحكومات قد شُكلت هنا في هذه القاعة"، ثم يُخبرنا موارياً افتخاره بشيء من التواضع بأن "ثلاثة وزراء خرجوا من هذا البيت" مشيراً إلى عائلته، بينهم والده ظافر الذي شغل منصب وزير الخارجية بين عامي 1951 و1953 وترأس الوفد السوري إلى اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة عام 1952، ومثّل الحكومة السورية في حفل تتويج الملكة إليزابيث الثانية عام 1953. 

يقول مدير دار الوثائق الرقمية التاريخية الباحث علاء السيد إن تاريخ بناء هذه التكية يعود إلى سنة 1634، وقد أمر بإنشائها "الوزير الأعظم محمد باشا الأرناؤوط"، الذي اشترط أن يتولاها الشيخ إخلاص دده. يوضح علاء السيد أن "دده" لازمة مخصصة لشيوخ الطريقة الصوفية المولوية التي أسسها جلال الدين الرومي. ويذكر كتاب "معادن الذهب" لأبي الوفا العرضي أن شيخ هذه التكية كان من أتباع الطريقة الصوفية الخلوتية التي تتطلب شعائرها أن "يختلي الشيخ مع مريديه كلّ شتاء، يصومون ثلاثة أيام ويفطرون على قليل من الزاد ويذكرون ويتعبدون آناء الليل وأطراف النهار". 

يقول علاء السيد إن أحد أجداد معتصم الرفاعي استلم هذه التكية سنة 1826، وهو الشيخ محمد أبو الوفا الرفاعي، بعدما "تبرع رضا علي باشا عام 1826 بمبلغ سبعة آلاف قرش لترميم التكية وإعادة إعمارها، ثم أوقف لها عقاراتٍ لتوفّر مصاريفها. ومنذ ذلك الوقت توارث أولاد محمد أبي الوفا الرفاعي وأحفاده مشيخة الطريقة الرفاعية في التكية الإخلاصية". 

تقول إحدى الروايات في تبرير المكانة التي مُنحت لآل الرفاعي إنّ العثمانيين قدّروا للشيخ أبي الوفا الرفاعي موقفه الرافض حملة نابليون على مصر سنة 1798 حين أصدر بياناً يحث على "الجهاد ضد الحملة"، وتضيف رواية أخرى أن الشيخ بهاء الدين الرفاعي ابن الشيخ أبي الوفا التزم النهج نفسه، فأفتى بوجوب الجهاد ضد حملة محمد علي باشا على بلاد الشام عام 1831.

أصبحت التكية معلماً أثرياً سياحياً لا مكاناً للتعبّد منذ أن قرر الرئيس السابق حسني الزعيم إغلاق معظم التكايا والزوايا الدينية في سوريا سنة 1949.

تأثرت التكية بالتفجيرات أثناء الحرب في محيط قلعة حلب، وازداد الضرر إثر زلزال فبراير 2023، فاتُّخذت بعض الإجراءات الإسعافية مثل تثبيت بعض الجدران بخرسانات حديدية، غير أنها لم ترمم حتى اليوم. يشرح معتصم بعض التعقيدات التي حالت دون الترميم، لا سيما تقاذف المسؤولية بين مديرية الأوقاف ومديريات السياحة والمدينة القديمة والآثار.

وهذه حال عدد من المعالم والبيوت التاريخية المهمة في حلب القديمة، فكثيرٌ من البيوت الخاصة لم تشهد عملية إصلاح أو ترميم لا سيما تلك التي هجر أصحابها البلاد، أو التي يقطنها مستأجرون لا قدرة لديهم على تكبد النفقات.

يغمض معتصم الرفاعي عينيه مستعيداً بعض تفاصيل مغادرته حلب وأسبابها إثر انتشار العسكرة فيها، ويقول: "كانت الدنيا رمضان [يوليو 2012]، خرجت من المنزل ففاجأني انتشار عدد من العناصر المسلّحة [المعارِضة] في الحي، سلمت عليهم وأكملت طريقي. في اليوم التالي غادرت الحيّ إلى عيادة أحد أصدقائي حيث مكثتُ بضعة أيام، ثم رتبت سفراً إلى مصر، ومنها إلى بريطانيا حيث يقيم ابني".

كان لهذا الرحيل وقعٌ مختلفٌ في نفس معتصم، مع أن علاقته بالسفر والترحال قديمة؛ إذ كان يسافر مراراً للسياحة أو إنجاز بعض الأعمال، ولا يلبث أن يعود إلى مدينته وقتَ يشاء. أما في 2012 فقد غادر نازحاً لا يدري أيعود أم لا. ساعدت الظروفُ الاجتماعية معتصماً على التنقل بأريحية بين بريطانيا وألمانيا، فولداه يحملان جنسيتي البلدين. مع ذلك شعر الرجل الستيني أن حياته صارت "بلا معنى" هناك، حيث "الحياة مملة وباردة". يروي الرفاعي كيف كان يحتال على الوقت بجولات طويلة بالدراجة الهوائيّة، ويقول "سافرتُ بين كثير من البلدان على البسكليت، قطعت آلاف الكيلومترات، ومللت".

يشرح الرفاعي الاختلافات بين نمط الحياة هناك وبين ما اعتاده في مدينته وحارته، "ابني طبيب ومشغول بعمله وعائلته، كانت تمر أسابيع من غير أن أراه، أما بحارتي (في حلب) أعرف الجميع ويعرفونني، كيفما سرت أسلم على جار أو أتبادل حديثاً سريعاً مع آخر".

مرت السنوات ثقيلة على معتصم بينما يتابع أخبار الحرب في مدينته، قبل أن تُفضي التطورات العسكرية إلى إبرام اتفاق بين قوات النظام وحلفائه من جهة وقوات المعارضة من جهة أخرى، بترتيب روسي تركي، أدى إلى انسحاب قوات المعارضة من المدينة واستعادة النظامِ السيطرةَ على أحياء حلب أواخر 2016. لم ينتظر الرجل كثيراً بعدها وقرر العودة سنة 2017 بعد أن أقنع ولديه أنه عائدٌ لتفقّد بيت العائلة. غرق الرجل سريعاً في شغفه الحلبي وأخبر ولديه أنه قرر البقاء في مدينته، حاولا ثنيه عن ذلك، بذريعة أن "الناس عم تموت لتلاقي طريقة تطلع من البلد". لكنّه لم يتراجع عن قراره، فالدمار المباشر الذي طال الحي لم يكن كبيراً، شأنه شأن كثير من الأحياء السكنيّة في المدينة القديمة، خلافاً للأسواق التاريخية التي مُنيت بأضرار فادحة، فتهدمت أجزاء واسعة منها، وأكلت الحرائق والتفجيرات والقذائف أجزاء أخرى.

لكن ما نجا من الدمار لم يسلم من الإهمال. مطلع 2017 اتضح أن التفاؤل الذي أفرط به الحلبيون أمثال معتصم الرفاعي كان وهماً، فلا دارت عجلة الحركة الاقتصادية في الأسواق التاريخية، ولا ضجّت الأحياء السكنية بالحياة. كان الحلبيون آنذاك يراهنون على ما اشتهرت به مدينتهم وأبناؤها تاريخياً من حيوية أتاحت لها النهوض مراراً عقب كل نكبة مُنيت بها، لكن بعد مرور أكثر من سبع سنوات ازدادت الأمور سوءاً، لا سيما أن كثيرين من أبناء هذه الأحياء كانوا قد ارتحلوا عنها طوال سنوات الحرب، وهُجّر آخرون إثر الاتفاق الذي أخليت بموجبه أحياء حلب الشرقية التي سيطرت عليها المعارضة عام 2016 وباتت عودتهم رهينة حل سياسي لا يلوح في الأفق.

يتنقل معتصم بين غرف بيت عائلته، يُعدد بعض الأضرار التي مُني بها البيت، ويشرح محاولاته بث الحياة فيه والتحايل على الصعوبات التي أحالت الحياة اليومية في حلب صراعاً مستمراً مع الوقت. يقول: "قررت أرجع عيش هون، ركّبت ألواح طاقة شمسية لحل مشكلة انقطاع الكهرباء، اعتمدتُ على التدفئة بالغاز في غياب الوقود، فكرت أنني أستطيع إيجاد حلول لكثير من المشكلات، المهم أن أعود لأعيش في حارتي".

ثم يستفيض في شرح الهوّة بين الحياة التي كان يظنّ أنه عائدٌ إليها، وبين الحياة التي عاد إليها، فالحلول التي تخيّل أنه قادر على إيجادها لمشكلات الحياة اليومية باتت أكبر من قدرته على الاستمرار فيها. لم يعد سهلاً تأمين أسطوانات الغاز المنزلي بعدما صار شراؤها محصوراً بمخصصات "البطاقة الذكية"، وهي وسيلة فرضها النظام في سوريا لتحديد استهلاك معظم السلع الأساسية وحصرها بمخصصات محددة تُوزّع لحاملي البطاقات بناء على عدد أفراد كل أسرة ووفق برامج تقنين صارمة وجداول زمنية لا يُلتزم بها غالباً، فربما تمر الأسابيع والشهور ولا يحصل حامل البطاقة على مخصصاته.

أما "المازوت" فصار أكثر ندرة وأشد غلاء. ولا تزال بنية الكهرباء التحتية متهالكة تسبب انقطاع التيار الكهربائي حتى في الساعات الأربع المتفرقة التي يصل فيها التيار كلّ يوم، وكذلك مياه الشرب تُقنن أيضاً.

نقفُ على سطح البيت الذي يُطل على السفح الخلفي لقلعة حلب، وعلى عشرات البيوت التاريخية لجيران الرفاعي. تبدو أكثر تلك البيوت مهجورة إلا من أشجار البرتقال والكبّاد التي تشي بأن ثمة حياة هنا. تهيمن الوحشة على شعور معتصم؛ إذ تمرّ أيام طويلةٌ لا يجالس فيها أحداً، خلافاً لما كان يُمنّي نفسه به حين عاد. أما ولعه بالطبخ الحلبي فقد تضاءل شيئاً فشيئاً، واكتفى بأطعمة جاهزة يقمن صلبه. لكن "كل شيء في كفة وتهاوي الحياة الثقافية والاجتماعية في كفة أخرى" كما يقول الرفاعي بأسى بادٍ. 

يحكي عن غياب الأنشطة الثقافية أو اقتصارها على بعض الفعاليات المتفرّقة الخاضعة للضوابط الأمنية التي يضعها النظام. يستنكر تسمية بعض النشاطات "ثقافية" مع أنه يُحظر الخوض فيها بأي نقاش عميق يتصل بالشأن العام. أما الحياة الاجتماعية فاضمحلت تحت وطأة الصعوبات الخدمية والتردي الاقتصادي الذي أرخى ثقله على أكثر الطبقات الاجتماعية في المدينة، "قد يمرّ جارك قربك ولا يراك، تُسلم على أحد معارفك فلا يسمع".

نصحه بعض معارفه بتجهيز البيت، واستثماره بتأجيره أحياناً لحفلات استقبال نسائيّة راجت في الفترة الأخيرة بحلب؛ إذ تستأجر مجموعة من النساء داراً تراثية نهاراً كاملاً، ليتناولن غداء ويغنين ويرقصن ثم يغادرن، وهذا نوع من النشاط لا يحتاج إذناً ولا ترخيصاً، لكن معتصم لا يستطيع أن يكون جزءاً من هذا النشاط. فكّر في تحويل البيت إلى "صالون ثقافي" يحتضن جلساتٍ دوريّة تجمع مثقفين ومهتمّين بالشأن العام، غير أن هذا النشاط يفضي إلى مساءلات أمنية ويفتح أبواباً لا طاقة له بها، فضلاً عن أنّ استجابة الناس غير مضمونة؛ خوفاً من الملاحقة الأمنية ولأن الجميع "غارقٌ في مشكلات اقتصادية واجتماعية ووجودية. سافر كثيرون ويخطط كثيرون للسفر ويحلم كثيرون به". للتحايل على ذلك كان يستطيع التنسيق مع إحدى الجمعيات أو المجموعات المرخّصة التي تنظّم بعض الأنشطة والجولات السياحية التي يغلب عليها جلسات الغناء والطرب، يقول الرفاعي: "على عيني الطرب، أنا بحبه، بس الثقافة ليست مجرد غناء".

دَخلتُ ستّة بيوت حلبية قديمة ربما يصح تسميتها قصوراً، ولاحظت فيها جميعاً إهمالاً كبيراً في ظل عجز النظام السوري حتى اليوم عن توفير الشروط والمتطلبات الضرورية لإنقاذ مدينة حلب التاريخية والحفاظ عليها، ولذلك قررت منظمة اليونسكو العام الماضي إبقاء حلب في قائمة التراث العالمي المعرّض للخطر حتى إشعار آخر.

سألتُ الرجل "هل ندمت على العودة"؟ فتهرّب من الجواب. تشعب حديثنا وامتد، لكننا اتفقنا أن حلب تغيّرت كثيراً، ولم تعد تُشبه نفسها. يبدو أنّ قرار رحيله عن حلب أمرٌ لا مفرّ منه مع أن وجهته النهائية لم تُحسم بعد. يقول: "يمكن أرجع لعند أولادي، ويمكن حاول لاقي شي ضيعة جبلية صغيرة هون بسوريا وانتقل عليها". ثم يسود صمتٌ طويل.

اشترك في نشرتنا البريدية