يختزل علي شعوى مسيرة أكثرَ من ثلاثةِ عقودٍ قضاها تاجراً يملك محلاً تجارياً ومقهى في قرية كوتين قرب مدنين جنوب تونس التي تضم عدداً من المحالّ التجاريةِ ومحالِّ صرفِ العملةِ والمقاهي والمطاعم والاستراحات، وكان يرتادها آلافُ المسافرينَ يومياً. كان للطريقِ أثرٌ تاريخيٌ في تشكل مجتمعات بشريةٍ ومشاريعَ صغرى على تخومها، فنشأت صداقات ومصالح مشتركة. ولكن يبدو أنّ هذه الصداقات والتجارة والمحلات تعيش فصلَها الأخير هذهِ الأيام بعد بدءِ العملِ بالطريق السريعة التي باتت تربط أقصى شمال تونس بأقصى جنوبِها عند رأسِ اجْدير، المعبر الحدودي بين تونس وليبيا. لتسرد الطريق الوطنية تاريخَها الممتد قروناً عندما كانَت طريقَ القوافلِ بين طرابلس الغربِ وتونس. ثم صارت شريان حياة جنوب تونس الذي همّشَته الدولة المركزية في الشمالِ. ومع أنّ الطريق السريعة تبدو خطوة مهمة لتطوير البنيةِ التحتيةِ في البلاد إلا أنّ الدولة التونسية لم تراعِ ذلك، عند تطويرها، القرى والمدن المتضررة في الجنوبِ المهمّشِ الذي يعيشُ جُلُّه على التجارةِ البينيةِ وحركة المسافرين العابرين الطريقَ الوطنيةَ، التي تُعد شرياناً حيوياً لهما.
دخلتْ تونس بعد الأمر العلي بعقود مرحلةً جديدةً مع الاستعمار الفرنسي سنة 1881، فحُوِّلَت منطقة مدنين إلى منطقةٍ عسكرية ولم تجد أي متنفس للتجارة. بات الرعيُ والفلاحةُ النشاطَيْن الاقتصاديين الوحيديْن في المنطقة، واستمرَّ الأمرُ على حالهِ حتى بعد الاستقلالِ في 1956 بسنواتٍ. بقيتْ حينها مدنٌ مثل مَدْنينَ وقابِسَ على هامشِ التاريخ والتنمية.
يستحضرُ عددٌ من مسنِّي تلكَ المنطقة واقعَهم الاقتصادي حينَها ويصفونه بالصعب، إذ كانت تربيةُ المواشي التي تتطلب رأس مالٍ، والعمل في ليبيا أو فرنسا، هي مصادر الدخل الوحيدة لجنوبِ تونس. لم يعلم أغلبُ سكّانِ تلك المناطق أن حدثيْن وقعا في بلديْن مختلفيْن وزمنٍ مختلف سيغيّران واقعَهم الاقتصادي تغييراً كبيراً. الأول انقلاب معمر القذافي ورفاقه على المملكة الليبية وإمساكهم زمام الحكم في ليبيا سنة 1969، والثاني سقوط الحبيب بورقيبة الرئيس الأول لتونس في نوفمبر 1987 وصعود جنرال يافع حينها هو زين العابدين بن علي إلى سدةِ الحكم.
كانت الطريق الوطنية حتى منتصف الثمانينيات تركةً ورثتها دولةُ الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي، لاسيما في جزئِها الجنوبي من مدينة بِنْقِرْدانْ الحدودية إلى مدينة قابس. طريقٌ شبه بدائيةٍ وذات بنيةٍ تحتيةٍ مهترئةٍ منذ افتتاحها سنة 1931، وبقيت على حالها، باستثناءِ محاولاتِ إصلاحٍ محدودةٍ، لقلَّةِ عددِ المسافرينَ وغيابِ الحركة الاقتصاديّة. لاحقاً، وفي منتصفِ الثمانينيات تحديداً، أصبحت الطريق أكثر الطرق ازدهاراً في تونس، ويعبرها مسافرون يتجاوز عددهم الثلاثة ملايين سنوياً.
لا يعود ازدهارُ الطريقِ إلى السياساتِ التي تبنتها تونس للدفع بالتنمية في جنوبِ البلاد. ولكن يعود إلى الطفرةِ النفطيةِ التي بدأت تعيشُها ليبيا بدءاً من الستينيات. أصبحتْ ليبيا واحدة من أبرز منتجي النفط في العالم، وانتقلتْ منذ منتصفِ الستينيات من بلد يعوِّل في جانب كبيرٍ من مواردِه الاقتصادية على المساعداتِ الخارجية إلى بلدٍ ثريّ. وتولى القذّافي ورفاقه في مجلس قيادة الثورة الحكمَ بعد سنواتٍ قليلةٍ من اكتشافِ النفط، ثم أعلن مجلس قيادة الثورة تأميمَ النفط الليبي وزادَت ليبيا إنتاجها من النفط مع حلول السبعينيات. ثم بدأ الليبيون يزورون تونس بكثافة في ذلك العقد للسياحةِ أو العلاجِ مع ارتفاع دخلهم نتيجة زيادة العائدات النفطية. وسهّل القرب الجغرافي والروابط الثقافية والاجتماعية بين البلدين في جعلِ تونس وجهة مفضلة لسياحةِ الليبيين، فتعاضدت العوامل السياسية والاجتماعية في البلديْن لتسرد قصة هذا الطريق منذ ازدهاره إلى انحداره.
بعد تولي زين العابدين بن علي الحكم في تونس سنة 1987 بدأت العلاقات بين ليبيا وتونس مرحلةً جديدةً، بعد أن شابَتها توتّرات أمنيةٌ وسياسيةٌ وعسكريةٌ فترةَ بورقيبة بلغتْ قطعَ العلاقاتِ بيْنَ البلدين. تزامنت عودةُ العلاقاتِ مع بوادرِ فرضِ الحصار على ليبيا بعد اتهام نظام القذّافي بتفجير ملهى ليليٍ في برلين أدّى إلى مقتل جنودٍ أمريكيين، واتهام نظامِه أيضاً بإسقاط طائرة "بان أم 103" ونشوءِ الأزمةِ المعروفة دولياً بحادثة "لوكربي" نسبةً إلى البلدة الأسكتلندية التي سقطتْ فيها الطائرة، إذ تفاقمتْ الضغوطات على ليبيا بعدما فرضتْ الولاياتُ المتحدةُ وحلفاؤها الحصارَ الجوي عليها. وجد الليبيون في تونس وجهة تخفف من الضغوط التي يعيشونها، فتزايد الوافدون بين ليبيا وتونس وبرزت ظاهرة التهريب والتجارة الموازية بين البلدين.
ومن رَحْمِ تِلك الأحداث وُلِدَتْ سَلاسِل من المحال على طولِ الطريقِ في أماكن متفرقةٍ، فانتشرت مطاعم واستراحاتٌ ومقاهٍ على الطريق بين ليبيا وتونس لتلبية احتياجاتِ المسافرينَ من البلديْن في قرى مثل النَّفاتِيَّة وحَسِي عُمَر وكوتين والصخيرة بالجنوبِ التونسي، وتحوّلتْ مدينةُ بنقردان إلى مركزٍ تجاريٍ كبيرٍ. فقد بدأت تنتظمُ رَحلاتٌ تِجاريةٌ من شَمالِ تونس وساحلِها إلى بنقردان لشراءِ السِّلع والملابس والمواد الغذائية والمنزلية بنصفِ السِّعرِ الذي توفِّرُه الأسواقُ التونسية. يَصِفُ الكاتبُ محمد ذُوِيبْ، الذي كان يشتَغِلُ في أحدِ المطاعم هناك، قرية كوتين وقتها أنّها كانت "مدينة لا تنام. يمرُّ الآلافُ يومياً في جميعِ الأوقات. كنتُ أشتغلُ خِلالَ موسمِ الصَّيف تحديدًا. وخلالَ صيْف كل سنة أعودُ إلى العملِ في كوتين فأجدُ مطعماً جديدًا أو أكثر فُتِحَ هناك. كانت هناك حركةٌ تجاريةٌ كبيرة، ولم تكن البطالةُ هاجسًا في ذلك الوقت، إذ كانت كوتين وغيرها من القرى قادرةً على استيعابِ عشراتِ الطلبةِ والعاطلينَ من العمل".
ازدهرت قرىً أخرى غير كوتين، منها قرية حَسِي عمر التي تضمُّ محالّاً تجارية جُلّ ما فيها بضائعُ ليبية. يمزح محمد الحامدي، السياسي ووزير التربية السابق، ابن المنطقة في حديثه مع الفِراتْس قائلاً: "إذا كان النيل هبةَ مصرَ. فإن حَسي عمر هبة الطريق الوطنية رقم 1". يبرر الحامدي ذلك بأن حَسي عمر كانت من أوائلِ القرى التي ازدهرتْ فيها استراحاتُ المسافرين والمقاهي والمطاعم، وتوسَّعتْ حتى باتت تضم سوقاً أسبوعية توفر الشاي والأرز والعصير وأجهزة المذياع بداية الثمانينيات. ولكن كل ذلك إلى زوالٍٍٍ الآن، فقد رُبِطَت الطريق السريعة برأس جدير مباشرةً، وتحويلات الخروج والدخول منها صعّبت الوصول إلى أماكن القرى المحلية.
يشير محمّد، صاحب مطعم في كوتين، بأن عملهم مهدَّدٌ بالإغلاق يوماً بعد يوم. قال لي: "كنّا نعانوا زمان من تسكير المعبر [في إشارة إلى معبرِ رأس جدير] كل شهر شهرين. توّا بدينا نعانوا من الأوتورت [الطريق السريعة] لي عملوه. عمرنا ما طالبنا الدولة بشيء، لا طالبناها بتنمية لا طالبناها بفلوس. طلبنا منها تخلينا نخدموا واليوم تقوم الدولة تقضي على أرزاقنا". وبتشنّجٍ يضيفُ محمد: "المطعم هذا كان يشغِّل في عشرين نَفر ويخدم طول اليوم لكن توّا نخدموا كان العشية وأوّل الليل وستةَ خدّامة بس، شنهي مصيرهم الأربعطاش البقيّة؟ مصيرهم البطالة وفيهم شكون حرق [هاجر] لأوروبا، هذي لي تحب توصلّه الدولة، تحبنا نخرجوا ونخلوها لهم يرتعوا فيها".
يشاركُ أغلب أصحاب المشاريع في كوتين محمداً في غضبه وحنقه. يشير أحدُ أصحاب محلّات الصرف المنتشرةِ في الطريق، رفضَ ذكر اسمه، إلى أنّه اضطرَ وباقي تجارِ العملة إلى توفيرِ أسعارٍ تنافسيةٍ وتعديل سعرِ صرف اليورو والدولار والدينار الليبي أمام الدينار التونسي لإغراء الليبيين للتوجه إلى كوتين، ولكن جميعهم يعلمون أن محاولتهم محدودة الأثر. يقول: "ما فيش حدّ يسلم في الأوتوروت على فارق جنيه [يقصدُ الدينار] وجنيهين في الصرف". ولكن خلافاً لباقي القرى، تجاهد كوتين في البقاءِ مع استمرار الإقبال عليها ولو كان محدوداً، إذ تستفيد القرية من غيابِ أي استراحةٍ حاليةٍ في الطريقِ السريعة الجديدة، فيحتاج المسافر في أغلب الأحيان مغادرة الطريق السريعة والتوقف عندها وثمّ العودة إلى الطريق السريعة من جديد.
تقدّر المسافة من رأس جدير إلى استراحة منطقة طينَة في صفاقِس حوالي ثلاثمئة وخمسين كيلو متراً، وتخلو من أي استراحةٍ أو محطةِ وقودٍ على الطريق السريعة. يدفع هذا الغيابُ عدداً من المسافرين إلى الاستراحة في كوتين أو كتّانة أو الصخيرة، ولكن حتى أغلب أصحاب المشاريع في النقاط المذكورة يعلمون أنّ المسألة مسألة وقت ثم تفتح استراحة على الطريق نفسها. وهو ما يدركه رمزي، شاب يشتغل في صرف العملة في قرية كوتين، إذ يقول: "قبل كنت كل يوم نهبط [أنزل إلى السوق] بعشرة آلاف دينار تونسية، وساعات نهبط بالضعف متاعهم. سوق الصرف كان ماشي والطريق في أي وقت يكون مليان بالمسافرين الليبية ولا التوانسة اللي يعيشوا في الخارج وخاصة أوروبا. ولكن تو نهبط بألف دينار وساعات ما يتصرّفش، في الأسبوع يتعدّوا نهارين وثلاثة من غير ما نصرف فيهم حتى دينار، وهاو على عينك محلات الصرف لكلها مسكرة وفيها لي طاحت ودمّرت أصلا".
لا يتوقف تأثير الطريق السريعة على الطريق القديمة، بل يتجاوزُ ذلك ليشملَ حتى الأسواق المحلية وصغار التجار والصناعات المحلية. يشبه ذلك أثرُ الفراشةِ فيخلقُ حدثٌ واحد قد يبدو صغيراً سلسلةً من الأحداثِ خلفه، يقول علاء، مسؤول علاقاتٍ بإحدى شركات التوصيل بتونس العاصمة، ارتفعَ الطلبُ على خدماتِ الشركة ثلاثةَ أضعاف المعدّلِ الذي كان قبلَ أن تعمل الطريق السريعة. ويضيف علاء: "اختصر الوقت من سبعِ ساعاتٍ إلى خمسِ ساعات فقط للوصول إلى مدينة مدنين من العاصمة تونس. وانخفضت تبعاً لذلك تكلفةُ خدمةِ التوصيل. فقد كانت في السابق 12 ديناراً من أجل إيصالِ طلبيةٍ ما، ولكن الآن انخفضَ السِّعر إلى تسعَ دنانير. كنا سابقاً نخصصُّ يوماً واحداً للتوصيلِ إلى مدنِ الجنوب ولكن الطلب ارتفع الآن، وباتت هناك ثلاثةُ أيامٍ مخصصةٍ للتوصيل إليها".
يعود ذلك إلى اختصارِ المسافة وجودةِ الطريق ومدة الرحلة. ينطبقُ هذا الإقبال المرتفع نفسه على شركاتِ الملابسِ ومعداتِ التجميل ومعداتِ الطبخِ وغيرها من المؤسساتِ الصناعية المتمركزة في شمالِ تونس وساحلِها، والتي تبيع منتجاتِها في مواقع التجارةِ الإلكترونية أو صفحات التواصل الاجتماعي، وتوفّر هذه الأعمال بنفسها خدمة التوصيل بأسعارٍ تنافسيةٍ. كل ذلك أثّر في التجارةِ المحلية بمدن الجنوب، مثل سوق مدينة مدنين الذي يعدّ مثل أسواق بنقردان سوقاً مركزية للبِضاعة التي تأتي من ليبيا. ويغطّي السوقان الحاجة الاقتصادية للمدن المجاورة مثل جِرْبَة وجِرْجيس وقابس ومناطق الجنوب الغربي.
"التجارة مَعادِش فيها مستقبل" يختصرُ أمين، تاجرٌ من مدنين، جملةً من الأسئلةِ التي طرحتُها عليه عن التغييرات التي طرأتْ على التجارةِ بعدَ افتتاحِ الطريق الجديدة. يضيفُ قائلاً: "قبل البضاعة الوحيدة الموجودة في السوق يا إمّا صينية ولا تركية، وسعرها يكون معقول للغاية. توصل لمدنين تهريب من ليبيا ولا فيها ضرائب ولا آداءات [الضريبة المضافة]، ولكن تو البضاعة التونسية موجودة بكثرة وبجودة أفضل. العامل الوحيد اللي مازال يخلي المواطن يشري بضاعة صينية ولا تركية هيا سعرها. وهوا مش ديما ثابت. لو يتسكر معبر راس جدير ولا تصير أزمة في ليبيا، السعر يرتفع". هكذا، لا تلوح سوى الخسارة والإفلاس اللذين خلّفهما مشروع الطريق السريعة، ويبدو سؤال الجدوى من هذا المشروع ملحاً. وهو ما يجيب عنه أحد الموظفين بوزارة التجهيز والتهيئة العمرانية، رفض ذكر اسمه أو تحديد منصبه، بقوله: "إدماج الاقتصاد وفتح أسواق جديدة وهيكلة الاقتصاد التونسي وتطوير البنية التحتية". ولكن هل تسعى الدولة فعلاً إلى إدماج مدنِ الجنوب في دورتها الاقتصادية حتى تكون مقنّنةَ ومنظمة وتقضي على التجارة الموازية؟ الإجابة عن هذا السؤال تقتضي الوقوف على تاريخِ البدائلِ التي طرحتْها السلطات لحظةَ إنجازِ طرق سريعة بدل الطرق القديمة.
ما تقوم به السلطاتُ التونسيةُ ضروري، فقد كانت مدن الجنوب على مدار عقودٍ خارجَ سيطرة الدولة الاقتصادية. يستنزف التهريب قدرةَ الدولةِ على المنافسةِ والتصنيعِ وتلبيةِ احتياجات سوقها الداخلية، علاوةً على نزيفِ العملة والتحويلِ والصرفِ بين العملاتِ الأجنبية والدينار التونسي. تسمح السوقُ الموازيةُ بتدويرِ الدينار خارجَ تسعيرةِ الدولة، وخارج أي أُطرٍ أو مَسالك رسمية، لذلك تُعدُّ البنى التَّحْتِية من طرقٍ وسككٍ حديديةٍ وموانئ خطوةً مهمةً في فتحِ أسواق جديدة وتقنين أي سوق موازية، ولكن ما يحدث هنا بعيد كل البعد. خلّفَ المشروعُ وراءَه مآسيَ ومشاكلَ عدّة، بدءاً من استيلاءِ الدولةِ على أراضي مواطنين بدافعِ المصلحةِ العامة من غير تعويضِهم. وعمّقت هشاشَتهم الاقتصادية المعتمدة على التهريبِ والتجارةِ الموازية، والخدماتِ التي تقدمُها قُرى الاستراحات، لتدفعهم الطريق الجديدة من الهامش إلى هامش الهامش.
"بن علي وما أدراك، كان قادر يقضي على التهريب في يوم وليلة ولكن خلّانا نخدموا. تعرف ليش؟ لأن التهريب كان يوفّر في مواد ومنتوجات بأسعار معقولة وتراعي الناس كلّها، الفقراء والبسطاء والموظفين". يوضح أحد المهرّبين من مدينةِ مدنين. ولا غرابةَ فيما أشار إليه، إذ إنّ الأرقام توضح تقلّصَ التبادل الحدودي بين تونس وليبيا.
تستورد تونس السُّكر والشّاي والقهوة بكثرة بالسِّعرِ العالمي وبشرائه حصراً بالدولار، لترسله لاحقاً إلى الديوانِ التونسيِ للتجارة، فيوزّعها على مصانع القهوة والبن والسلاسل التجارية والمحلات الغذائية بعد دعمِها وبيعِها أحياناً بنصفِ سعر شرائِها. لا تنطبق هذه الدورة الاقتصادية وسلسلة التوريد على عددٍ من مدنِ الجنوب التي تشكل ثقلاً سكانياً وتستفيدُ من تهريبِ هذه المواد من ليبيا وتوفيرِها بسعرٍ أقلَّ من سعرِ الدولة نفسه. تقلّصَ حجمُ التبادلِ الحدودي غير الرسمي مع ليبيا مع الحربِ التي شهدتها منذ سنة 2011 والإغلاق المتكرر للمعابرِ الحدودية. يشهد بذلك الكاتب والصحفي أحمد نظيف، ابن مدينة تطاوين الحدودية مع ليبيا، فقد عاين انتعاش التجارة الموازية على الحدود في أعقابِ وصولِ بن علي إلى السلطة وتحسنِ العلاقات مع القذافي، ويضرب مثلاً بواردات الشاي والسكر غير الرسمية القادمة إلى تونس من ليبيا، ويقول إنها ساهمت في تخفيفِ الحملِ على الميزان التجاري التونسي.
يمكن الاستدلالُ على صحة شهادة أحمد نظيف بالوقوف على نهاية الثمانينيات عندما طُبِّعَت العلاقاتُ مجدداً بعد توقفِّها زمنَ بورقيبة. رُفِعَت القيود الأمنية والجمركية بين نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، لاسيما في أثناء حرب الخليج والحصار على ليبيا. انخفضتْ وارداتُ ديوان التجارة التونسي من الشاي، بحسبِ مصدر في الديوان، بنسبة الثلث تقريباً سنة 1989 مقارنة بسنة 1988، بما يقارب 36 بالمئة من الكمية و30 بالمئةِ في القيمة. وأظهرت واردات السكر انخفاضاً كبيراً سنة 1991 مقارنة بالعام الذي قبله، حتى وصلت إلى 20.8 بالمئة من حيث الكمية و 39.5 بالمئة في القيمة. وكان الانخفاضُ سنة 1993 بواقع 21 بالمئة في القيمة و9.4 من الكمية مقارنة بسنةِ 1992. دخلت التجارة الموازية بعد رفع الحظر الجوي على ليبيا سنة 2003 مرحلة "إعادة توريد الصادرات"، فأصبحنا نشاهدُ في أسواق المدن الجنوبية السلعَ التونسية التي تُصدَّر إلى ليبيا بالسعر العالمي، ثم يعاد توريدها تهريباً إلى تونس بسعر الدعمِ الليبي. أنعش ذلك مستوى الاستهلاك في الطبقة الوسطى والفقيرة بوضوح، ويعد هذا من نتائج الاقتصاد الهامشي خصوصاً عندما يكون قريباً من المناطق الحدودية.
جذبت الهجرةُ والانتقال إلى مناطق أخرى الفقراءَ والعمّال، إذ اضطرَ كثيرون إلى النزوح والهجرة والانتقال بحثاً عن فرص عمل أفضل وانهيار أسعار الأراضي هناك والعقارات بسبب ضعف مرابحها وصعوبة استثمارها. لم تخضع الطرق والمرافق القائمة عليها، كمحطات الوقود، لعمليات صيانة بسبب قلةِ الإقبال والاستخدام، وغيابها عن أولويات السلطات الآن. فقد كان أغلب سكان الجنوب التونسي والليبيون المسافرون يعتمدون على الوقود الليبي المهرّب والأرخص ثمناً.
يتحسّر عبد السلام أحد سكّان منطقة كوتين على العروض التي رفضَها من أجلِ بيع قطعةِ أرضهِ أمام الطريق الوطنية. قال لي: "زمان، بين الأسبوع والأسبوع يكلموني لبيع الأرض. ولكن رفضت خاطر حبيت نعمل فيها مشروع لصغاري ونضمنلهم مستقبلهم، ولكن توا المشروع اللي نفتحه مصيره الخسارة. وزيد سعر قطعة الأرض أصبح أقل برشا. المتر المربع كان بـ450 دينار وتوا بـ100 دينار وأقل. ومستحيل تحصّل من يشري". هذا الانخفاض في سعر الأراضي ينطبق على قيم العقارات المحيطة بالطريق الوطنية القديمة نتيجة تراجع النشاط الاقتصادي.
تشبه قصةُ الطريق الوطنية جنوب تونس قصصَ طرق أخرى في شمال البلاد وساحلها. ولا يبتعد مصير قرى مثل حسي عمر وكوتين والنفّاتية وكَتّاَنة عن مصير قرى في ساحل تونس، مثل بوفيشة وبومِرْداس والبُرجين، قبلَ أن تتوسع الطريق السريعة، ويتخلى المسافرون عن الطرق القديمة. المختلف بين الجهتين أنَّ سكان أريافِ السَّاحِل وجدوا بدائلَ بسبب معدلات التنمية المرتفعةِ هناك خلافاً لمدن الجنوب الشرقي. قضت السلطات على قرى تونسية بجرة قلم وقرار سياسي لم يدرس خصوصية المجتمع المحلي ولم يوفّر مقترحات أو بدائل. لم تُراعَ هشاشة تلك القرى التي كانت توفر مواطن شغل لمئاتِ العائلات. وذلك لصالح شركات كبرى استفادت، وما زالت، تستفيد من إنشاءِ الطريق السريعة لتبني بها استراحات ومحطات وقود ومطاعم.
مع أنَّ الطريق السريعة تسبَّبت في إغلاقِ مشاريع كثيرة كانت على طول الطريق القديمة، يُبدي محمود السليماني وعائلتُه امتناناً كبيراً لهذا المشروع. قال لي محمود: "أني ومراتي نخدموا بسبب الأوتوروت [الطريق السريعة]، نلموا الزعفران من جبل مُرْناق ونبيعوه على الطريق. يوميا تتعدى آلاف السيارات، وحتى لو على كل مية سيارة تعدت تحبس [تقف لي] سيارة وحدة وتشري منا، آخر النهار نبيعو محصولنا ونروح بمربوح يعيشني أني وزوجتي ويخليني نقرّي صغاري". وهو ما يتوافق مع باقي الأطفال المشتغلين هناك، إذ يقف عشراتُ الأطفال والنساء قربَ محطاتِ الاستخلاص على طول الطريق الوطنية لبيع المياه المعدنية وخبز الطابونة، وهو خبزٌ محليٌ يُخبز في أفرانٍ تقليدية، وبعض الأكلات والحشائش والأزهار وحتى الوقود والبنزين المهرب من ليبيا. ففي الجزء الجنوبي من الطريق السريعة لا سيما في المفترق بين مدنين وقابس أو قابس وصفاقس تظهر أسواقٌ جديدة للتجارة الموازية على الطريق السريعة، ولكن لا يمثل هذا سوى الفتات أمام ما تغنمه الشركات الكبرى.
حاورتُ مسؤولاً، رفضَ التصريحَ عن اسمه، في شركة "الطرقات السيارة" الحكومية، المتصرف الوحيد في الطرقات السريعة في تونس. أخبرني أن الشركة تسندُ حصرياً رخصَ إنجازِ الاستراحات على الطريق، ويرى أنَّ إنجاز مشروع الطريق السريعة الرابط بين مدينة قابس قد تأخر سنوات، وقال إنّ "بعض المشاريع الصغرى لا يجب أن تقف عائقاً أمام صيرورة التطور". رفض المسؤول نفسُه الإجابةَ عن دور الشركة في توفير بدائل أو تخصيص أماكن جديدة على الطريق السريعة لأصحاب المحالِّ والمقاهي. وأشار إلى أنّ الشركة تشترطُ سبعين ألف دينار، أي حوالي ثلاثة وعشرين ألف دولار أمريكي شهرياً لتأجيرِ مكانٍ لاستراحة مسافرين، مع ضرورة دفع إيجارِ سنتيْن مقدماً. وهو شرط يستحيل أن يحققه أصحاب الاستراحات والمقاهي في الطريق القديمة، ويسهل أن تستوفيه الشركات الكبرى ووكلاء شركات الوقود والغاز مثل "شِل" و"توتال" و"أوليبيا" الذين باشروا إنجازَ استراحات على طول الطريق السريعة الجديدة.
تبدو رحلة البحث عن أي بديل لأصحاب المشاريع السابقة غامضة. على مدار أشهر من إعداد هذا التقرير، حاولتُ التواصلَ مع الجهات المنفذة للمشروع بمختلف هياكلها لمعرفةِ مصيرِ التجار بلا جدوى. كانت الإجابة المألوفة هي "عدم الاختصاص" بهذا الموضوع. حاولتُ الاتصالَ بوالي مدنين أو مندوب وزارة التجهيز هناك، ثم ذهبت إلى وزارة التجهيز ووزارة التجارة في تونس ورفضا تقديم أرقام وإحصائيات عن عدد من المعطيات مع أنني قدّمتُ طلباً بالنفاذ إلى المعلومة، وتنصّلوا من المسؤولية وحمّلوها أطرافاً أخرى.
أموالٌ أنفقت، وعلاقات نُسِجَت وآمالٌ بُنِيَتْ في تلك القرى الصغيرة على هامِشِ الجمهورية. ولكن مثل ما ازدهرت تلك التجارة فجأة، تتلاشى اليوم متجهة إلى الاندثار بسرعة، مخلّفة وراءها شرخاً اجتماعياً واقتصادياً قد يستحيل رأبه. يتحسر رمزي اليوم على فرصة "الحرقة"، أي الهجرة غير الشرعية، التي تسنت له قبل عشر سنوات ولكنه رفضها مختاراً البقاء في كوتين وفتح مشروع صغير. يقف اليوم بلا أمل، ويدفع ضريبة سياسات عمومية غير مدروسة ليعود إلى نقطة البداية التي عاشها قبل عشر سنوات، الحرقة أو البحث عن عمل من جديد.