بين 1982 و2024.. تاريخُ مدينةِ صور مع حروب إسرائيل

عايشت صور حروباً إسرائيلية عديدة على لبنان، وشهدت المدينة في كل حربٍ منها أشكال تدمير وتهجير مختلفة منذ اجتياح الجنوب اللبناني وحتى حرب 2024.

Share
بين 1982 و2024.. تاريخُ مدينةِ صور مع حروب إسرائيل
صور في 29 سبتمبر 2024، يوم دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ / خدمة غيتي للصور

ثمانية عشر عاماً المدة الفاصلة بين نزوحين عاشتهما نهاد عجمي (59 عاماً) من مدينتها صور جنوب لبنان، في حربَي 2006 و2024. لجأت نهاد للمدرسة نفسها التي تحوَّلت إلى مركز إيواء في بيروت. تكرّر النزوح، ولكن كل شيء آخر مختلفٌ هذه السنة. فمنذ الساعات الأولى لتوسّع الحرب صباحَ الاثنين 23 سبتمبر 2024، اقتربت القذائف والصواريخ الإسرائيلية من المناطق المحيطة بالمدينة.

هذا المشهد دفع نهاد ومعظم سكان صور إلى النزوح. فهي تعرف جيداً المآسي التي تُسببها الحروب الإسرائيلية، لاسيما بعد أن فقدت في حرب تموز (يوليو) 2006 عدداً من جيرانها وعايشت الاجتياحَ الإسرائيلي للجنوب. كان العامل المشترك بين الحروب جميعاً "القتل والتدمير" على حدّ قولها، إلا أن "كلّ اللي شفناه بهيديك الحروب ما بيجي نقطة ببحر هيدي الحرب والجنون الإسرائيلي فيها". تكرّرت مشاهد التهجير والنزوح الجماعي، ولكن الحرب الأخيرة فرضت مشاهد جديدة ومختلفة عن الحروب السابقة في سنوات 1982 و1996 و2006. فالعدوان هذه المرة طالَ المكان وذاكرته التاريخية والاجتماعية والثقافية.

كانت العمليات العسكرية قبل ذلك بين حزب الله وإسرائيل تتركز في القرى والبلدات الحدودية لأحد عشر شهراً، وكان يمكن للآلاف من رواد شاطئ صور الشهير مشاهدة آثار الغارات على بلدة الناقورة المشرفة على المدينة، إلا أن كلّ ذلك تغيّر في لحظة واحدة. ترددتُ أثناء الحرب وبعدها على صور وقراها لأوثّق يوميّات الحرب وأثرها على المدينة التاريخية وأهلها.


لم تعتد صور على الهدوء. تستقبل المدينة يومياً آلاف الوافدين من القرى والبلدات المجاورة والسواح اللبنانيين والأجانب، لكن الهجمات الإسرائيلية فرضت هدوءاً في فتراتِ توقّف القصف. يخرق الهدوء صوت الشاب علي بدوي (33 عاماً) الذي يجلس في زاويةٍ بساحة أبو ديب وسط المدينة، رفقةَ عددٍ قليلٍ من الأشخاص ليتكلّموا عن مسار الحرب الإسرائيلية على لبنان. يُجمع الحاضرون أنّ الحرب باتت في أيامها الأخيرة. لم تكن تحليلاتهم مستندةً على معطياتٍ بل كانت أشبه بالأماني.

وإلى الأمام من الساحة، آخر دكانين يعملان في ساعات مُحددةٍ من النهار. يؤكد صاحب أحد هذين المحلَّين، وقد طلب عدم ذكر اسمه، أنه أرسل عائلته إلى منطقةٍ آمنةٍ وبقيَ في المدينة لتأمين ما يلزم للأهالي من مأكلٍ ومشرب. نفى صاحب المحل وجود استغلال للأزمة برفع الأسعار، "بل على العكس نُحاول جمع التبرعات لتقديم حصص غذائية مجانية لبعض المحتاجين".

ظلَّ شحنُ المواد الغذائية من بيروت لصور متيسراً حتى نهاية الحرب في شهر نوفمبر 2024، فإسرائيل لم تستهدف الطرق والجسور على غرار ما حدث في حرب تموز 2006. ظلّت طرقات الجنوب مفتوحةً بمعظمها، حتّى إن بعض الباصات والسيارات العمومية كانت تعمل يومياً على نقل الركاب والمواد من الجنوب وإليه.

تابعت الطواقم الإعلامية والطبية في المدينة أداء مهامها خلال شهور الحرب فتشكلت عشرات القصص المشتركة بينهم، فالمسعفون والصحفيون أوّل من يصل إلى أماكن الغارات. يعمل الصحفي محمد زيناتي (38 عاماً) في إحدى وكالات الأنباء العالمية ويروي ما حدث معه في جولةٍ على قرى الزهراني، التابعة لمحافظة النبطية، في أواخر شهر أكتوبر. وصلهُ بلاغٌ على مجموعات واتساب بغارةٍ إسرائيلية على سيارة إسعاف تابعة لجمعية الرسالة للإسعاف الصحي، وعند وصوله لم يجد سوى سيارة إسعاف محطّمة ولوازم طبية متناثرة وبعض الدماء على الأرض. بقي زيناتي في سيارته حين سمع هدير طائرة الاستطلاع وفضَّل استكمال طريقه ليلتقي بعد دقائق بمسعفين من جمعية الهيئة الصحية الإسلامية عائدينَ من عملية إنقاذ في منطقة قريبة، حيّاهم زيناتي وسار أمامهم مسافة مئتي متر، بحسب روايته، ثم سمع دوي انفجار خلفه فاستدار بسيارته ليجد هؤلاء المسعفين كانوا هدفاً للغارة الإسرائيلية. قرّر النزول لنجدتهم ولكن المتواجدين في مكان الاستهداف تداعوا لمغادرته خشية تجدد القصف على نفس النقطة، وعرفَ زيناتي لاحقاً أن الغارة أسفرت عن مقتل شخصٍ وجرح اثنين.

يقع منتجع "ريست هاوس"، الذي دأبت الطواقم الصحفية المحلية والدولية على اتخاذه مقراً لها مع كل عدوانٍ إسرائيلي على لبنان، على طرف المدينة. يحوّل الصحفيون ردهات المنتجع إلى زوايا للبث المباشر لقنواتهم، ومنه ينطلقون في جولاتٍ ميدانية نحو المناطق الجنوبية، إلا أن هذه الجولات اليوم تختلف عن جولات حرب 2006. ففي هذه الحرب استهدفَ الجيشُ الإسرائيلي أحد عشرَ صحفياً بحوادث متفرقة، ويشعر الإعلاميون بغياب أيّ حماية لهم. لذا تجمّدت حركتهم، خصوصاً أن العديد من الغارات الإسرائيلية استهدف أماكن قريبة منهم.

ليست الطواقم الطبية أفضل حالاً من الإعلامية، إذ سجلت وزارة الصحة اللبنانية ارتفاع الحصيلة الإجمالية للمسعفين الذين لقوا حتفهم جراء القصف منذ بدء العدوان حتى منتصف نوفمبر الماضي إلى 178، وعدد الجرحى إلى ثلاثمئة وستة وعدد الآليات المستهدفة إلى 244.

في منتصف سنة 2024، التقيتُ مصادفةً إحدى مسؤولات الصليب الأحمر اللبناني في الجنوب، وكانت الهجمات الإسرائيلية حينها ماتزال محصورةً في القرى والبلدات الحدودية. فحدّثتني عن الصعوبات التي يواجهها المسعفون في التحرك داخل تلك المناطق والاستهدافات المحيطة بهم رغم تنسيق تحركاتهم مع قوات اليونيفيل، وهي قوة تابعة للأمم المتحدة تعمل في لبنان تشكّلت عام 1978 بعد الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان. وأكدت لي المسؤولةُ أنها اتخذت قراراً بعدم تحريك أيّ طاقمٍ طبي إلا بعد التواصل مع الكتائب الأوروبية، وتقصد الإيطالية والإسبانية والفرنسية، لأن التنسيق مع الكتائب الأخرى لا يردع إسرائيل عن مضايقتهم أو استهدافهم.


تقبع الحارة المسيحية على الجانب الآخر من المدينة، وهي جزءٌ أصيل من نسيج المدينة الاجتماعي والثقافي ورمزٌ معبّر عن ثقافة العيش المشترك. فهذه المدينة لم تشهد حوادث طائفية حتى في ذروة الحرب الأهلية بين سنتي 1975 و1990. يفسر الكاتب والصحافي حسّان الزين (55 عاماً) وابن مدينة صور الذي كتب عنها، أسباب وجود هذه الثقافة عند أهل المدينة بأنَّ المساحة الجغرافية الصغيرة التي يعيشون فيها ربطت أبناء الطوائف المختلفة بعلاقاتٍ اجتماعية متبادلة. يقولُ الزين إن أبناء مدينته بطبعهم لا يميلون للعنف، ويرجع ذلك إلى موقعها الجغرافي الذي جعلها مدينةً منفتحة على العالم نتيجةَ التبادل التجاري التاريخي عبر مرفئها وسوقها. عدا أنّ الكثير من أبنائها المسيحيين انخرطوا في الأحزاب القومية والشيوعية واليسارية، ويخلص الزين إلى اعتبار أن أهالي المدينة لم ينظروا إلى ما شهده لبنان من صراعات بعينٍ طائفية.

تجوّلتُ في حارات صور القديمة مطلع نوفمبر 2024، قبل ثلاثة أسابيع من نفاذ اتفاق الهدنة بين لبنان وإسرائيل يوم 27 نوفمبر، وتمشيتُ في أزقتها الضيقة المتعرّجة والطويلة. يحيط البحر المدينة من ثلاث جهات، وأبنيتُها مؤلفةٌ من طابقين أو ثلاثة حدّاً أقصى، يعود عُمر معظمها إلى أكثر من مئة عام، وتتزين بالألوان المختلفة والأبواب المفتوحة والأزهار المعلّقة مثل الحدائق الصغيرة على الشرفات، ما جعلها إحدى أهم المناطق السياحية في لبنان. وفي آخرِ هذه الأزقة شاطئٌ صخري صغير اسمه شاطئ المباركة، يكتظ عادةً بأهل المدينة الذين يعرفون طريقه بسهولة على خلاف السائحين واللبنانيين من مناطق بعيدة، ولكنهُ كان مهجوراً في زمن الحرب. ولاسمِ هذا الشاطئ روايةٌ شعبيةٌ تفيدُ بجلوس السيد المسيح على إحدى صخوره عند زيارته المدينة، فبات الأهالي يتبرّكون به ويُطلقون عليه اسم "المباركة".

ستجد أمامك الشارع الرئيسي الذي تتفرع عنه تلك الحارات الضيقة عند الخروج من هذا الشاطئ، وفي داخل منزلٍ مفتوح بابُه الرئيسي، تحدّثتُ مع جورجيت واكيم (65 عاماً). كانت تجلسُ أمام التلفاز لمشاهدة آخر أخبار الحرب، رحّبت بي وعند سؤالها عن صور وعلاقات سكانها ببعضهم على اختلاف طوائفهم، قصّت إحدى الحكايات الشهيرة عن جوزيف أنتيبا وهو مسيحي له محلٌ لبيع البوظة العربية التي تُصنع بالضرب بالمدقات التقليدية. عُرف جوزيف واشتهر ببوظته وكان لهُ منافس في المهنة من الطائفة الشيعية، وليستجلب الأخير الزبائن أشاع بينهم أن بوظة أنتيبا محرّمة لأن صانعها مسيحي. فراحَ جوزيف إلى الإمام موسى الصدر، أحد أبرز الشخصيات الشيعية اللبنانية والذي اتخذ صور مركزاً له في تلك الفترة، وعرض مشكلته عليه فوعده الصدر خيراً. وبعد صلاة الجمعة طلب الصدر من جماعةٍ من المصلّين التجوّل معه في أزقة السوق، وما كان منه إلا أن جلس على أحد كراسي محل أنتيبا وطلب منه توزيع البوظة على الجميع وسط دهشة الحاضرين وذهولهم، ثم غادر بعد ذلك من دون أن ينطق بكلمة. وسرعان ما انتشر خبر تلك الجلسة وصارت دليلاً يستند إليه أبناء المدينة للإشارة إلى أن تناول المسلمين الطعام لدى المسيحيين جائزٌ شرعاً.

تابعتُ جولتي في الحارات وجالستُ إلياس مزاوي (60 عاماً) وصاحب أحد أشهر محلات بيع معدات الصيد. يجلسُ إلياس أمام محلّه الواقع على مرتفعٍ صغير مشرفٍ على ميناء الصيادين شرقي المدينة، يرتشف فنجان القهوة وأمامه مشهد شامل للبلدات والقرى المحيطة بصور، تتساقطُ عليها القذائف الإسرائيلية وتغطي أعمدةُ الدخان سماءَها. يؤكّد إلياس لي باطمئنان أن الحارة القديمة لن تُستهدف، مستنداً إلى تاريخٍ طويل من الاعتداءات الإسرائيلية على جنوب لبنان حُيِّدت فيها تلك الحارات. وهذا التصوّر يعزّزه عند اللبنانيين سببٌ آخر أيضاً، أن إسرائيل تستهدف مناطق يسكنها أبناء طائفةٍ مُحددة وتستثني مناطق طوائف أخرى، رغمَ الاختلاط في الأحياء، في محاولةٍ لتعزيز الفوارق الطائفية. وعلى هذه الأسس، قرّر المزاوي البقاء في المدينة قائلاً: "نحن ولا مرة تركنا وهلق مش حنترك". وأثناء حديثنا دخلَ شاب في أوائل العشرينات لشراء أدوات صيدٍ، فشكا العمّ إلياس –كما يُحب أن يُنادى– قلّةَ الزبائن بعد أن حذّر الجيشُ الإسرائيليُ اللبنانيين من ارتياد شاطئ البحر أو ركوب قوارب على ساحل لبنان وحتى نهر الأولي.


هذه المشاهد التي تعاند فيها الحياة لتستمر في صور أثناء الحرب لا يمكن رؤيتها في القرى المحيطة بها، لأنها تعرضت لقصفٍ واسع جعل الوصول إليها صعباً، ومن بقي فيها أثناء الحرب لا يتعدّى بضع عشرات أو مئات. معظم أولئك اختبر صعوبة النزوح سابقاً ويُفضّل معايشة الخطر اليومي على تكرار النزوح، أو يعتبر بقاءه نوعاً من الصمود والتحدي، فيما بقيَ بعضهم لمساعدة المواطنين الرافضين النزوحَ. تمكنتُ من زيارة تلك القرى أثناء الحرب والتقيتُ بعضَ من أصرّ على البقاء، من بينهم رولا حجازي (47 عاماً) وتعمل في صيدليةٍ ببلدة معركة. اعتبرت رولا أن بقاءها "يُساعد من تبقّى في البلدة للحصول على بعض الأدوية التي يحتاجها". وقد جرّبت النزوح في حرب تموز 2006 إلا أن "ما خبرتُه في ذلك الوقت من مأساة النزوح والمكوث في مراكز الإيواء جعلني أقسم على عدم تكراره مهما حدث". 

أحمد ذو الستة والثلاثين عاماً، صاحب محل هواتف من نفس البلدة، يروي لي يوميات الحرب بعد قراره البقاء في البلدة "نوعٌ من الصمود ولدعم الأهالي الباقين في البلدة البالغ عددهم نحو خمسمئة شخص، ولا سيما العُجّز منهم". يتحرّك أحمد رفقة مجموعة من شباب البلدة يومياً في فترات متقطعة في جولةٍ على أطراف البلدة، حيث تقع الكثير من المنازل، لتأمينها من أي عمليات سرقة. أمّا المواد الغذائية فمتوفرة في البلدة، إذ يذهب أحد الشباب يومياً منها إلى بيروت لإحضار ما يحتاجه الأهالي، وينقل الراغبين بالمغادرة ولا يملكون وسيلة نقل مقابل مبلغ مادي قليل لا يتجاوز عشرين دولاراً للشخص الواحد. وتصل البلدةَ بعضُ المساعدات من أبنائها المغتربين، ثمّ يوزّعها أحمد وزملاؤه على الأهالي.

أما معظم البلدات على الجبهة الأمامية إلى الجنوب والغرب، فهُجّر أهلها بالكامل، وأصبح أي تحرّك فيها هدفاً للطائرات الإسرائيلية. فخّختْ القوات الإسرائيلية هذه القرى وجرفتها وفجّرت معالمها، ولم يبقَ مبنى أو بيتٌ أو متجرٌ أو مؤسّسة وحتّى بعض المقابر إلّا ومُحيت عن بكرة أبيها. حولا وميس الجبل وكفركلا وبليدا وعديسة ومركبا وعيترون وعيتا الشعب، كل هذه القرى دُمّرت مثل غزة. 


تتشابهُ وتختلفُ حرب اليوم من وجوهٍ عدّة مع حرب 2006 ومع اجتياح الجنوب سنة 1982. ولكن قبل الحديث عن ذلك، من الضروري الإشارة إلى وجود اعتقاد سائدٍ لدى اللبنانيين وأبناء صور خاصة مفادهُ أنّ المدينة مُحيَّدة عن دائرة الاستهداف الإسرائيلي. ولذلك الاعتقاد أسبابٌ عدة أبرزها أن صور بتضاريسها ومساحتها الجغرافية، التي تخلو من أي وادٍ أو جبل أو أحراش، يصعب فيها العمل العسكري. ووفقاً للاعتقاد السائد، هي خالية من أي أهدافٍ عسكرية أو مخازن أسلحة أو منصات لإطلاق الصواريخ. وهناك عامل الانتماء، فهي المدينة الجنوبية الوحيدة التي تدين بالولاء لحركة أمل ورئيسها نبيه بري. 

لصور وضعٌ خاص مع قوات اليونيفيل وعامليها الأجانب واللبنانيين ممن يتمركزون حول المدينة، وحتى أعوامٍ قليلة سابقة كان جنود اليونيفيل يتجوّلون بزيّهم العسكري في المدينة قاصدين مقاهيها ومحلاتها. أخيراً، تتميّز صور بموقعين أثريين مُدرجَين على لائحة التراث العالمي التابعة لليونسكو منذ سنة 1984، وهي مدينة صور القديمة ومقبرة البص، ما يمنح المدينة نوعاً من الحماية الخاصة ويُبقيها بعيدة عن الاستهداف المباشر، إذ "يُشكل الاعتداء عليها اعتداءً على التراث الثقافي العالمي الذي يطال كُل شعوب العالم"، وفقاً لمارون خريش، أستاذ التاريخ والتراث ولغات الشرق الأدنى القديم في الجامعتين اللبنانية واليسوعية.

سقطت هذه الاعتبارات في حرب 2024، واستفاق أهالي المدينة على تهديد جيش الاحتلال الإسرائيلي لهم بإخلاء ثلثي الأحياء السكنية يوم 23 أكتوبر، وتكرر التهديد في 28 أكتوبر. عمدت بعدها طائرات الاحتلال إلى شنّ أكثر من اثنتي عشرة غارة استهدفت كامل المدينة تقريباً، فلم يخلُ بيتٌ فيها من آثار القصف، ثم استهدفتها الغارات بوتيرةٍ متقطعة بعد ذلك. وما يُفسّر هذا الكم الهائل من الدمار الذي أصاب المدينة رغم محدودية الضربات، مقارنةً بالبلدات الجنوبية الأخرى، هو أنّ سكانها يتكتّلون في مساحةٍ صغيرةٍ داخل المدينة وتتوزّع على باقي مساحاتِها المواقعُ الأثرية والشاطئ التاريخي. طالت الاعتداءات معظم أحياء المدينة وأغلقت نحو 90 بالمئة من طرقاتها بالركام، وفقاً لتقدير جمعيّة الرسالة الإسلامية العاملة بالمدينة، وقد حاولتْ البلديةُ إعادةَ فتحها بإزاحة الركام إلى جانبي الطرقات. حاولتُ أن أعرف كم قضى من أهل المدينة في العدوان عليها، فتواصلت مع عدّة جهات رسمية من دون أن أحصل على رقمٍ مؤكد، لأنّ الكثير من أبناء البلدات والقرى المجاورة جاؤوا للمدينة أثناء الحرب وقُتلوا فيها بعد نزوحهم، وآخرون من أهلها قضوا خارجها ودفنوا بعيداً.

يبدو أن استهداف صور رسالةٌ إسرائيلية للجميع، لا لحزب الله فقط، بأن لا خطوط حمراء في هذه الحرب. فلصور أهمية تاريخية استثنائية لأنها واحدةٌ من أقدم الحواضر بالعالم، وشكّلت بتاريخها الممتد أكثر من ثلاثة آلاف عامٍ قبل الميلاد حاضنةً جاذبة لحضارات متعاقبة من الإغريقية والبيزنطية والعربية والعثمانية، وكان لها دورٌ رائدٌ في التجارة العالمية في الحضارة الفينيقية فضلاً عن أساطيرها التاريخية من بناء قرطاجة في تونس إلى تسمية أوروبا على اسم ابنة ملك صور.

استرجعتُ مع أهل صور تجاربَهم مع الحروب السابقة في جولتي داخل المدينة. تحدّثت مع حسين شرف الدين (45 عاماً) وهو تاجرٌ يملك محل ألبسة في وسط المدينة. يرفضُ حسين المقارنة بين حرب تموز 2006 وحرب اليوم: "ما يحدث اليوم ليس حرباً، وإنما إبادة للبشر والحجر"، ويستشهد بما حصل في حرب 2006 حين لم تقصف القوات الإسرائيلية إلا أربعة مبانٍ في المدينة، أحدها يقيمُ فيه عنصرٌ لحزب الله ولم ينفجر صاروخ الاستهداف. والمبنى الآخر يقع فيه منزل نبيل قاووق الذي كان "مسؤولاً عن منطقة الجنوب" في حزب الله، ولم يُفلح الاستهداف، لكن قاووق اغتيل في الحرب الحالية في الضاحية الجنوبية لبيروت. واستهدفتْ إسرائيلُ في 2006 مبنىً آخر فيه مكاتب لمؤسسة القرض الحسن، وهي جمعيةٌ مالية اجتماعية منسوبة لحزب الله.

لكن الاستهداف الأهم في حرب 2006 وقعَ في اليوم العاشر من الحرب بتاريخ 16 يوليو، وبدأت لفظاعته موجةُ النزوح الأولى، حين أغارت الطائراتُ الإسرائيليةُ على مبنى اتخذه الدفاع المدني مركزاً لتقتل ستّة عشر وتُوقع عشرات الجرحى، في واحدةٍ من أكبر مجازر تلك الحرب.

يروي لي رئيس مركز الدفاع المدني في صور علي صفي الدين قصّته مع تلك المجزرة. في ذلك اليوم فقدَ ابنته لين (وعمرها سنة) فيما أصيب مع زوجته إصاباتٍ بالغة اضطرتهما إلى العلاج في الخارج لشهور. في ذلك اليوم كان صفي الدين في عملية إطفاء ببلدة برج الشمالي القريبة من صور، نجمت نيرانها عن غارة إسرائيلية، إلا أن وقوع غارة جديدة قريبة منهم دفعهم للعودة إلى المركز الذي ترك زوجته وابنته فيه معتقداً أنه مكانٌ آمن. وبُعيد وصولهم استهدفت غارةٌ إسرائيليةٌ المبنى لينجو مع زوجته بأعجوبة بينما فقدت ابنته حياتها. وبعد عام على الحادثة رُزق صفي الدين بابنة أطلق عليها نفس اسم ابنته المتوفية وهو لين، وقال إن ذلك كان نوعاً من "التحدي والاستمرارية والمواجهة".

يتابع صفي الدين عمله في الدفاع المدني ويخبرني عن تهديدات إسرائيلية وصلتهم في الحرب الأخيرة، وعن شنّ غارات قريبةٍ منهم أثناء عملهم في الإنقاذ، فضلاً عن احتمال استهداف مركزهم مباشرةً مثلما حدث في مراكز الدفاع المدني في بعلبك ودردغيا والنبطية. ويوضح صفي الدين آلية تحركهم أنه "يأتي فورَ وقوع الغارات في صور والبلدات المحيطة، أما في الخط الثاني من القرى الجنوبية فلا نتحرك إلا بعد الحصول على إذن من الجيش اللبناني" الذي يتواصل عادةً مع قوات اليونيفيل.


في تهجير سنة 2006 كان عُمْرُ ياسمين أحمد أربعة عشر عاماً فقط، فلم تحمل الكثير من الذكريات من تلك الحرب إلا يوم التهجير. حينها اجتمعت العائلة أمام المنزل للخروج معاً هرباً من آلة التدمير الإسرائيلية، وكان حظّ والدها جيداً لأنه يملك سيارتين. أعطى واحدةً لأحد أقرباء العائلة حتى ينزح بها وأخذ سيارةً تعاني مشاكل ميكانيكية، لكنه سائق الأجرة المعروف في المدينة ويُحسن التعامل مع هذه الأعطال إن وقعت.

سارت الرحلة بِيُسرٍ حتى نهر القاسمية، وهو جزء من نهر الليطاني الذي هدّد القادة الإسرائيليون بالوصول إليه في عمليتهم البرية الأخيرة. وفي تلك النقطة بلغت زحمة السير ذروتها بعد استهداف إسرائيل في الأيام الأولى للحرب معظمَ الجسور ومنها الجسر الواقع فوق نهر القاسمية، فعمدَ الجيشُ اللبناني إلى فتح طريقٍ فرعية ضيقة. انتظر النازحون ساعاتٍ طويلة للعبور، والمشتركُ بين معظم السيارات رفعها الرايات البيضاء من نوافذ السيارات، إشارة للسلام وأنهم مدنيون. وبعد نحو سبع ساعات وصلت عائلة ياسمين إلى مدينة صيدا، عاصمة الجنوب، والتي كانت حينها خارج دائرة الاستهداف الإسرائيلية. 

تُقارن ياسمين بين ذلك النزوح ونزوحها الآن في هذه الحرب. فبعد أن باتت الغارات الإسرائيلية تستهدف المناطق المحيطة بمدينة صور بدأ الناس بجمع حقائبهم للنزوح، ولمّا ناقشَ والدُها حيدر فكرةَ النزوح انتفضت والدتها رافضةً ترك منزلها لأن "صور ما فيها شي عسكري ومش حيستهدفوها". وأمام إصرار الوالدة على البقاء، قرر حيدر ألا يتركها بمفردها لتقود ياسمينُ سيارتَها رفقة شقيقتها الصُغرى وابن خالتها في أصعب رحلةٍ بحياتها.

الاختبار الأوّل لياسمين كان في منطقة "مفرق برج رحال" البعيدة نحو سبعة كيلومترات عن شمال شرق المدينة، حيث استهدفتْ مسيّرةٌ إسرائيليةٌ سيارةً لا تبعد عن ياسمين سوى مئات الأمتار، تستذكرُ المشهد مؤكدةً أنها لم تسمع صوت الصاروخ وإنما صوت دوي الانفجار الذي رافقه وهجٌ كبير من النار. في تلك اللحظات "سارعتُ إلى احتضان شقيقتي الجالسة إلى جانبي وبدأت بترديد آيات قرآنية"، وبعد دقائق استجمعتْ ياسمينُ قوتَها لتُغير طريق سيرها وصولاً إلى أوتوستراد الجنوب في وقت كانت فيه الغارات تستهدف البلدات المطلة عليه، ولم يطمئن قلبها سوى عند الوصول إلى زحمة السير في وسط الاوتوستراد. استغرقت رحلة ياسمين هذه المرة ثلاث عشرة ساعة للوصول إلى مدينة صيدا، حيثُ قصدت إحدى صديقاتها لقضاء الليلة ثم الانتقال بعدها إلى منزل كانت قد استأجرته في منطقة عالية الجبلية.


يخبرني الصحفي حسان الزين أنّ "التدمير الذي تشهده المدينة اليوم يُماثل ما شهدته خلال الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982"، مع الإشارة إلى التوسع العمراني الذي شهدته البلدة بين الحربين. حينها كانت المدينة مقراً لقيادات منظمة التحرير الفلسطينية والمنظمات اليسارية اللبنانية، وشهدت قصفاً عشوائياً على الأحياء السكنية أسفر عن تدمير معظم الأبنية والمنازل وتضررها، وفقاً للزين.

في يومي 23 و28 أكتوبر 2024، تجوّلتْ قوات الدفاع المدني في المدينة لإشعار الناس بإخلاء أحياء هددت إسرائيل بضربها. ذكّر هذا المشهد أهالي المدينة باجتياحها في حرب 1982 عندما دخلتها الدبابات الإسرائيلية وأمرت الدفاع المدني بالتعميم على الأهالي بالخروج إلى شاطئ البحر المحاذي لمنتجع الريست هاوس، الذي كان حينها مقراً للصليب الأحمر اللبناني. تستعيد الحاجة أم علي (73 عاماً) تلك الأيام حين ذهبت مع زوجها وأولادها الثلاثة إلى شاطئ البحر. مشّطت القواتُ الإسرائيليةُ المدينةَ وأطلقت الرصاص عشوائياً على أبنيتها بحثاً عن المقاومين، وبقي أهالي المدينة يومين على شاطئ البحر بلا مأكل أو مشرب، وابتكروا طريقةً لتنقية مياه البحر لاستصلاحها للشرب بالابتعاد مئة مترٍ عن الشاطئ وحفر الأرض بعمق متر واحد وتنقية المياه بمناديل النساء بطريقة بدائية.

وبعد انقضاء اليوم الأوّل سمح الجيش الإسرائيلي لأهالي بعض الأحياء بالعودة إلى منازلهم، وفي طريق العودة كان أبرزُ ما رأته أم علي تحطيمَ الدبابات الإسرائيلية عدداً كبيراً من السيارات، فلضيق شوارع المدينة سارَت الدبابات على السيارات. وبعد عودتها وعائلتها، استضافتْ مجموعة راهبات كنّ يقطنّ ويعملّن في إحدى المدارس الكاثوليكية منتظراتٍ سماح إسرائيل لهنّ بالعودة.

لم يشهد اجتياح سنة 1982 أي تهجير كبير لأهالي المدينة باستثناء بعض أبنائها المنخرطين بالعمل السياسي المباشر، على عكس ما حصل سنة 2006، فبعد مجزرة مبنى الدفاع المدني خرج معظم الأهالي إلى مناطق يعتبرونها آمنة، ووقع نزوحٌ كبير تكرّر سنة 2024 بكل تفاصيله التي جسّدتها صورُ يوم الاثنين 23 سبتمبر، حين خرجت آلاف السيارات العالقة بزحمة السير على أوتوستراد الجنوب باتجاه العاصمة بيروت ساعاتٍ طويلة.


هذا النزوح الكبير شهدهُ أهالي البلدات المجاورة للمدينة مضاعفاً، ففي تلك البلدات يواجه الأهالي تحدياتٍ أكبر بسبب صعوبة الوصول إليها جراء قطع الطرقات. ولتلك البلدات تجارب قديمة مع الاعتداءات الإسرائيلية، تبرزُ من بينها بلدةُ قانا ذات المكانة الدينية الخاصة عند المسيحيين. ففيها مغارة تاريخية يُعتقد أن المعجزة الثانية للسيد المسيح وقعت فيها، حين حضرَ عرساً هو والسيدة مريم وحواريوه وهناك أحالَ الماء خمراً، وفي المغارة نقوشٌ يُعتقد أنها للسيد المسيح ونقشٌ منفردٌ يُنسب للسيدة مريم. وفي حديثنا مع رئيس بلدية قانا، محمد كرشت، لا يتردد في شرح دلائل وبراهين تاريخية على أن قانا الجليل التي يورد الكتاب المقدس أنها شهدت المعجزة الثانية للسيد المسيح، هي نفسها قانا في الجنوب اللبناني وليست كفركنا الموجودة في بيت لحم. 

ويستذكر كيف عمد رئيس مجلس النواب، نبيه بري، إلى تقديم هذا الملف إلى الفاتيكان لنيل اعتراف رسمي بذلك، ولكن الملف تعطَّل "لأسباب سياسية مرتبطة بالصراع العربي الإسرائيلي. فالاعتراف بذلك من شأنه جعل المنطقة ذات خصوصيةٍ وبعدٍ ديني عالمي، ما يجعل الضوء مسلطاً عليها دائماً، وهذا ما يُعيق المخططات الإسرائيلية تجاه الجنوب اللبناني"، وقد يُفسّر هذا البُعدَ إحراقُ الجيشِ الإسرائيليِ المغارةَ في اجتياح سنة 1982 في محاولة لطمس معالمها، ولكن أُعيدَ إحياء هذه المعالم سنة 2000.

قانا علامةٌ فارقة في الحروب بين لبنان وإسرائيل. فالمدينة مقدسةٌ مسيحياً، وغنيةٌ بإرثها الثقافي والديني، ولها تاريخٌ وحاضرٌ مكتوبٌ بالدم مع إسرائيل التي لم تتردد بتنفيذ جرائم فظيعةٍ فيها في حرب "عناقيد الغضب" 1996، وتموز (يوليو) 2006، وحرب 2024.

في ظهيرة 18 أبريل 1996 شنّت إسرائيلُ إحدى أشهر مجازرها التي ترسخّت في عقول الجنوبيين وصارت تُعرف باسم "مجزرة قانا"، حين استهدفت مركز قيادة القوات الفيجية التابع لقوات اليونيفيل، بعد أن احتمى بداخله نحو ثمانمئة لبناني، معظمهم من الأطفال والنساء والشيوخ، خوفاً من القصف الإسرائيلي. أسفر الهجوم عن مقتل أربعة مراقبين دوليين ومئة وستة لبنانيين بينهم عشرات الأطفال، وأُصيب نحو مئة وخمسين آخرين. قيل الكثير عن تلك المجزرة وروى الناجون البالغ عددهم نحو ثلاثمئة شخص قصصاً متعددة عن ما حدث معهم في ذلك اليوم، واتفقوا على أن لجوءهم إلى مركز قوات اليونيفيل كان للاحتماء إلا أن العدو لم يحترم حقوقهم ولا المواثيق الدولية.

من ضحايا المجزرة، ولو مجازاً، الأمينُ العام السابق للأمم المتحدة بطرس غالي، إذ سعت إسرائيل مستغلةً الضغط الأمريكي على غالي لإغلاق الملف وتغييب نتائج التحقيقات التي أجرتها الأمم المتحدة عن مجزرة قانا. قال بطرس غالي في برنامج "شاهد على العصر" مع قناة الجزيرة إن اتصالات أمريكية جانبية أجريت معه لثنيه عن نشر نتائج التحقيقات لأن ذلك سيضرُّ في الانتخابات المقبلة لشمعون بيريز، رئيس حزب العمال ورئيس الوزراء آنذاك، في حين أنَّ "مصلحة العرب" في نجاحه، وقُدّم له اقتراح آخر بأن يكون تقريرُ نتائج التحقيقات شفوياً. رفضَ غالي الضغوط، ونشرَ التحقيق الذي خلص إلى "استحالة أن يكون قصف القاعدة التابعة لليونيفيل فى قانا نتيجة خطأ تقني أو إجرائي فادح". وكان هذا الخلاف لغالي مع الإدارة الأمريكية تتويجاً لخلافات دبلوماسية أخرى في الصومال وبعد مجازر رواندا، وجاء موقفه بلبنان فضيّع فرصة التجديد له أميناً عاماً للأمم المتحدة، وأطاح بها الفيتو الأميركي، ليصبح غالي بذلك أول وآخر أمين عام للمنظمة الدولية يشغل منصبه لدورة واحدة فقط.

يستشهد حسّان الزين بمجزرة قانا على مدى العلاقة الوطيدة والقوية التي ربطت أهالي الجنوب بقوات اليونيفيل التي استقبلت الأهالي داخلَ المقر وليس في محيطه، ويستذكر ما قيل حينها من أن بيريز أمر بالمجزرة لدفع دول العالم، وخاصةً أمريكا، للتدخل لوقف الحرب. واشتهرت قانا بتلك المجزرة التي بقيت عنواناً لحديث الجنوبيين وشاهداً على ضعف المجتمع الدولي أمام إسرائيل، وعجز قوات اليونيفيل والشرعية الدولية على حماية أبناء الجنوب. ولسنوات طويلة أحيا اللبنانيون ذكرى المجزرة في موقعها وأقاموا نصباً تذكارياً يخلدها.

قصة قانا والاحتلال لا تقف عند هذا الحدّ، بل تجددت في حرب 2006 حين تصدّرت صور جثث الأطفال النائمين المنتشلين من تحت الأنقاض، بعد استهداف الطائرات الحربية الإسرائيلية مبنى من ثلاث طوابق كان يحتمي فيه مدنيون، فقُتل في هذه الضربة اثنان وخمسون مدنياً بينهم اثنان وثلاثون طفلاً.

يحفظ علي عطية (46 عاماً) النازح من قانا إلى بيروت، تلك الأحداث بحذافيرها. ويتذكّر هذه المشاهد التي اجتاحت العالم: "دماء أطفال قانا جعلت المجتمع العربي والدولي يدين إسرائيل في ردّ فعل نادر على جرائمها، وهذا ما دفعها لمحاولة احتواء الموقف عبر الإعلان عن وقف القصف الجوي لمدة 48 ساعة آنذاك". يتكررُ مشهد الانتقام من بلدة قانا في حرب 2024، بعدما دمّر الطيران الإسرائيلي، في 10 أكتوبر خمسة عشر مبنى بالكامل وقتل ثلاثةَ أشخاص وأصاب أربعة وخمسين بجروح، لتتوالى بعدها الضربات التي استهدفت البلدة.

لم تلقَ مجزرة قانا في هذه الحرب اهتماماً واسعاً محلياً أو دولياً كما في الحروب السابقة، وربما يعودُ ذلك لاعتيادنا رؤية مشاهد الدمار سواء في غزة أو الجنوب اللبناني، فمسح المربعات السكنية عن وجه الأرض صار عادةً مكررةً، وصورُ جثث الأطفال لا تهزُّ المجتمع الدولي كما حصل سابقاً.

تُركت قانا هذه المرة وحيدةً تواجه العدوان، ولم يبقَ في داخلها سوى عدد قليل جداً من أبنائها، وبات أهلها منتشرين على امتداد الأراضي اللبنانية.


في غاراتها على مدنٍ تاريخية مثل صور، تستهدف إسرائيل الذاكرةَ الجماعية للبنانيين، تستهدف منازلهم وأحياءهم وشوارعهم ومقاهيهم وأسواقهم، وتحوّل كل ذلك إلى كُتلٍ من الركام المتناثر. وكأن الحرب هذه المرة ليست على البشر وحسب، وإنما على المكان الذي ينتمون إليه وعلى قيمته الثقافية والتاريخية أيضاً. ومن هذا المنطلق يمكن فهم الاستهداف الواسع لمدينة صور وبلدة قانا، تلك المناطق التي يصعب تخيّل وجود أي نشاطٍ عسكري فيها لطبيعتها الجغرافية السهلية.

بعدَ ساعات من إعلان التوصل إلى وقف إطلاق النار سنة 2006 تدفق الجنوبيون إلى بلداتهم وقُراهم وتلحّفوا ترابها. تكرر هذا المشهد بتفاصيله في حرب 2024، فما كادت تدق الساعة الرابعة فجراً من يوم 27 نوفمبر، وهو الوقت الذي دخل فيه وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، حتّى توافد الجنوبيون إلى بلداتهم وقراهم حتّى الحدودية منها التي ما زالت القوات الإسرائيلية متمركزة فيها.

بعد يومين من وقف إطلاق النار نهاية نوفمبر 2024، تجوّلتُ في مدينة صور والبلدات المحيطة بها. فوجئتُ في بلدة معركة، التي تبرز فيها آثار الغارات الإسرائيلية، براجمة صواريخ يستخدمها حزب الله ما زالت موجودة في أحد الطرقات الفرعية البعيدة بعد أن استهدفتها القوات الإسرائيلية. هناك، حدثني محمد سلمان (76 عاماً) الذي لم يغادر بلدته أثناء الحرب، قائلاً: "قررت في ذلك اليوم الانتقال مبكراً من بيتي إلى ساحة البلدة لاستقبال الأهالي العائدين. وصلت الساعة السادسة صباحاً، أي بعد ساعتين فقط من وقف إطلاق النار، ولكن بعض أهالي البلدة كانوا قد وصلوا قبل ذلك، ومن عايش الحروب الإسرائيلية لا يفاجئه هذا الأمر، فتعلُّق الجنوبيون بأرضهم يفوق كل احتلال أو حرب مُدمرة".

ويشرح حسّان الزين ذلك بأنه يرتبط بمفهوم متوارث لدى الجنوبيين يُلّخص "بقدرة العادة"، أي الاعتياد على تدمير إسرائيل منازلَهم وإعادة إعمارها، وهذا ما يجعلنا نفهم العبارة المُستخدمة في الجنوب "بأننا سنعود إلى أرضنا"، ولا يقولون "سنعود إلى منازلنا". ويحكي الزين عن مفهومٍ آخر مُترسخ في عقول الجنوبيين، عن فكرة "المكان الآخر". فمعظمهم امتلك بيتاً في أماكن أخرى، سواء في لبنان لاسيما الضاحية الجنوبية لبيروت أو في أماكن هجرتهم في القارة الإفريقية أو غيرها. وأمام هاتين الحالتين، يبدو أن تحديات ما بعد الحرب لن تكون أسهل من الحرب نفسها.

اشترك في نشرتنا البريدية