واحات المغرب: تراث إنساني وكنز بيئي دمرته التغيرات المناخية ومخططات الحكومة

تضافرت التغيرات المناخية والسياسات الحكومية الخاطئة في تعريض واحات المغرب العريقة إلى خطر الجفاف والانكماش وهجرة سكانها إلى المدن.

Share
واحات المغرب: تراث إنساني وكنز بيئي دمرته التغيرات المناخية ومخططات الحكومة
واحة زاكورة جنوب شرق المغرب. خدمة غيتي للصور

"تحت جذع نخلةٍ يابسةٍ، فوق قطعة أرضٍ جرداء كانت ولّادةً، قبل أن تتعاقب عليها سنواتٌ عجافٌ وحرائقُ مهولة، صادفتُ مرَّةً رجلاً قال لي بمرارة أنَّه يتمنّى لو يحترق ما بقيَ مِن الواحة ليجدَ مبرِّراً مقنعاً للرحيل". بهذه الكلمات يصفُ عثمان البوني، أحدُ سكّان واحةِ زاكورة الواقعةِ جنوب شرق المغرب، معاناةَ مَن بقيَ من السكّان متمسِّكاً بأرضه، فيقول إن "نصف الناس هاجروا، والنصفُ المتبقّي يفكّر في ذلك". ثمَّ يُردِف بنبرةِ ألمٍ وحنينٍ: "في الماضي كانت الواحةُ خضراءَ زاهيةً تسرُّ الناظرين، أمّا اليوم فقد تحوّلَت إلى أرضٍ قاحلةٍ ليس فيها سوى أعجازُ نخلٍ خاوية".

زاكورة واحدةٌ مِن الواحات التي يتشكَّل منها "المجال الواحيّ"، الذي يتألّف من سهوبٍ وجبالٍ وواحاتٍ ووِديان ثمّ صحراء. ويتوزّع معظم المجال الواحيّ في صحراء جنوب شرق المملكة المغربية. ويشغل حوالي 15 بالمئة من المساحة الإجمالية للبلاد. استقرّ البَشرُ مبكّراً في هذه المنطقة. وشهدَت تجانساً اجتماعياً بين مجموعاتٍ من العرقيات التي تعايشَت سلمياً، مستفيدةً من موقعها ممرّاً للقوافل التجارية بين شمال إفريقيا وأوروبا. فصارَ بعضُها مراكزَ تجاريةً بينما اعتمد اقتصادُ بعضها الآخَر على الرعي والفلاحة، بتطوير نظامٍ بيئيٍّ يعتمد على أشجار النخيل والزراعات المعيشية، التي تحقّق الاكتفاءَ الذاتيّ، وتتغذّى على المياه الجوفية ومياه الأنهار المنسابة من المرتفعات الجبلية.

في القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين تقلّصت واحات المغرب تدريجياً لتدهور النظام البيئيّ، من سنوات الجفاف وندرة المياه والتدهور المستمرّ للأوساط الطبيعية بسبب التدخّلات البشرية، إلى توالي الحرائق الموسمية التي تندلع من شدّة الحرارة والجفاف في الصيف. وأُتلِفَت قطاعاتٌ واسعةٌ من الواحات التي تفتقر إلى تدخّلاتٍ منظّمةٍ تقيها الكوارثَ الطبيعيةَ أو تقلّل من أَثَرِها. وأسهمَت عواملُ أُخرى أيضاً في هذا التدهور، وعلى رأسها غياب سياساتٍ حكوميةٍ فعّالةٍ تُعنى بمنظومة الواحات الهشّة وتوفّر لها شروط الحياة. بل إنَّ بعض هذه السياسات أسهمت في تدميرها بالتشجيع على الاستثمار في زراعاتٍ دخيلةٍ، فاستُنزِفَت مواردُها المائيةُ وتَرَدَّت أوضاعُها الاجتماعية والاقتصادية، لا سيّما بعد تنامي ظاهرة هجرة أهلها إلى المدن الكبرى مجدّداً في السنوات الماضية لتكونَ الأكبرَ بعد موجة هجرة ثمانينيات القرن الماضي. تتشابك هذه المشكلات البيئية والحكومية كلّها لتهدّد باندثار تلك المنطقة التي شكّلت قروناً طويلةً توازناً بيئياً ومورداً اقتصادياً طبيعياً.


قال لي عمر الخليلي، وهو باحث دكتوارة في الجغرافيا بجامعة مولاى إسماعيل بمدينة مكناس، إنَّ الواحات أدّت دوراً مهمّاً على التراب المغربيّ، لا سيّما أنَّها عرفت استقراراً بشرياً مبكّراً. وأضاف أنَّ "الواحات شهدت تجانساً اجتماعياً بين مجموعةٍ من العرقيات التي امتزجت وانصهرت وتعايشت في سلمٍ ضمن مجتمعٍ مركّبٍ ضمّ الأمازيغ والمرابطين والشرفاء والحراطين". والمرابطون هم سلالةٌ أمازيغيةٌ مسلمةٌ، يُنسبُ لها تأسيس دولة المرابطين في القرن الحادي عشر. والشرفاء منسوبون لأهل البيت. والحراطون هم سكان الواحات. ويقول الكاتب المغربي عبد الكريم أكريمي، في مقالته "تنمية الواحات المغربية" إنَّ الواحات المغربية ذاتُ صبغةٍ ثقافيةٍ مميزةٍ تكوّنَت من الاستقرار البشري الذي عرفَته منذ حقبٍ تاريخيةٍ قديمةٍ، وتحمل أهمّيةً سياحيةً خاصّةً لا تقلّل من أهمّيتها الزراعية التي باتت مهدَّدَة لتكاثف المشكلات البيئية التي تعانيها، من ملوحة التربة وتزايد التصحّر مقابل تناقص "الفرشة المائية" أي مصادر المياه الدائمة والموسمية التي تعوّل عليها الواحات في أنشطة الزراعة، وكذا تأثّر ثروتها من النخيل. 

طوَّرَ مزارعو الواحات نظاماً بيئياً للتكيُّف مع ندرة المياه وشُحِّ الأمطار، وأبدعوا ثقافاتٍ مائيةً تميّزَت بها مناطقُ عن أُخرى. جابهَت واحاتُ تافيلالت مثلاً ندرةَ المياه هذه بالاعتماد على "نظام الخطارات"، وهو نظامُ ريٍّ مؤلّفٌ مِن قنواتٍ مائيةٍ ترتبط بآبار المنطقة وتمتدُّ بضعةَ كيلومتراتٍ تحت الأرض. الهدف هو خزنُ المياه مدّةً طويلةً وتوزيعُها بعدئذٍ على الواحات وفق أعرافٍ تحفظ لكلِّ أرضٍ حصّتَها. في المقابل اعتمدت واحات درعة الوسطى والسفلى على السواقي، وهي قنواتٌ تصرف مياه الوادي إلى الأراضي الزراعية، وتحكمها قوانينُ محلّيةٌ وأعرافٌ صارمةٌ ترتكز على مبدأ التناوب بين الأراضي الزراعية في استغلال حصص الماء المشتركة بين القبائل. وشكّلت مياهُ الأنهار المنسابةُ إلى المجال الواحيّ من سلسلة جبال الأطلس الكبير والصغير ترياقَ حياةٍ، سقى بها سكّانُ الواحات أراضيهم وأنبتوا زرعَهم وأنضجوا ثمارَهم، لا سيّما نخيل التمر. وقد حكم الواحات مشهدٌ زراعيٌ يتّسم بالتدرّج على ثلاثة مستوياتٍ؛ أشجارُ النخيل المثمر في الطبقة العليا، وأشجار الرمّان والزيتون واللوز أسفلَ منها، ثمّ الخضراوات والحبوب والموادّ العلفيّة في المستوى الأرضيّ. مستوياتٌ يخدم بعضُها بعضاً، كما يقول عمر الخليلي، مُضيفاً أنَّ "النخيل يخفِّفُ من أشعّة الشمس ويحافظ على الظلّ للأشجار المثمرة التي تعمل بدورها على توفير وسطٍ رطبٍ للزراعات الأرضية، وبالتالي تقليل حاجتها إلى الماء".

وفي ظلِّ هذا النظام باتت مُنتَجاتُ الواحات من التمور العمادَ الأبرزَ في اقتصاد الواحات الطبيعي، بل تبوَّأَت مكانةً رفيعةً في الأسواق العالمية. زاد الناتج الإجماليّ لنخيل التمور بواحات درعة تافيلالت، عن أربعة ملايين وثمانمئة ألف نخلة على مساحةٍ تقارب الخمسين ألف هكتار، وفق معطيات وزارة الفلاحة في المغرب سنةَ 2019. ويصل متوسط إنتاجها إلى مئة ألف طنّ في السنة، أي 84 بالمئة من الإنتاج الوطني. ومن بين أكثر من سبعة عشر صنفاً معروفاً من التمور، يبرز صنف "المجهول"، الذي نشأ في هذه الواحة، واحداً من أجود الأصناف في العالَم. ويقول الكاتب عبد الوهاب زايد في كتابه "صنف المجهول دُرَّة التمور، المنشأ، التوزيع والانتشار العالمي"، فقد أثبت تحليلُ الحمض النوويّ لعددٍ من عيّنات "نخيل المجهول" التي جُمِعت من مناطق متفرّقةٍ في العالَم أنَّها مغربية الأصل. 


وتنصُّ دراسةٌ أنجزها المعهد المغربي لتحليل السياسات سنة 2022، أنَّ مستوى المياه الجوفية للواحات تراجعَ في العقدين الماضيين تراجعاً تراكمياً بمعدّلٍ يتراوح بين خمسة عشر وعشرين متراً مكعباً سنوياً. ويقول عثمان البوني ساكنُ واحةِ زاكورة: "في السابق كان الناس يَصِلون إلى المياه الجوفية على عمقِ ثمانية أمتارٍ على الأكثر، أمّا اليوم فصارت على بعدٍ يزيد عن مئةٍ وخمسين متراً في بعض المناطق"، مضيفاً أنَّ "حَفر الآبار ليس في متناول الفلاحين الصغار، فتكلفتُه مرتفعةٌ وإجراءات الحصول على رخصة الحَفر معقّدةٌ، ونتيجته ليست مضمونةً دائماً". وتقول الدراسة نفسها إنَّ وضع المياه الجوفية وصعوبة الحصول عليها خَفّضَ إنتاج المغرب من التمور بنسبة 34 بالمئة، مقارنةً بما كان قبل عقدَين.

لا ينتهي التدهور هنا. إذ استهدَف مرضُ البيوض أجرادَ النخيل، وتفاقمت ظاهرة التصحّر بمختلف تجلّياتها، من زحف الرمال وغزو أسراب الجراد والحرائق التي باتت تتكرّر اضطراداً مع زيادة المساحات الجرداء بسبب التغيّر المناخيّ. وتشير الوكالة الوطنية لتنمية مناطق الواحات أنه شبَّ 2393 حريقاً في الواحات ما بين سنتَيْ 2009 و2024، والتهمت النيرانُ حوالي 172 ألف نخلة. مع تغيّر نمط حياة سكّانها واعتمادهم على أنابيب الغاز في الأنشطة المنزلية بدلاً من حطب الواحات، ممّا أدّى إلى تراكم الحطب بكمّياتٍ كبيرةٍ لتسهيل اندلاع الحرائق واشتدادها وتوسّع دائرتها. تقلّصت بسبب هذا كلّه المساحة الإجمالية للواحات من مئةٍ وخمسين ألفاً إلى حوالي أربعةٍ وأربعين هكتاراً. 

قال لي عنها جمال أقشباب، رئيسُ جمعية أصدقاء البيئة، أنَّ هذه الأوضاع "انعكست على مداخيل الفلاحين، التي ترتكز بالأساس على تسويق التمور، فتَعَزّزَ البؤسُ والفقرُ وارتفعَت نسبةُ الهجرة"، بعدَ أن كان نخيلُ التمر يُسهِمُ بـ 65 بالمئة من الدخل الفلاحيّ للواحات، كما أوردت وزارة الفلاحة المغربية.


تحوّلت بعضُ الواحات المغربية منذ عقودٍ إلى مراكز حضاريةٍ ترتكز على التجارة وقطاع الخدمات إلى جانب الفلاحة. وحَظِيَ البعدُ الاقتصاديّ ومنطق الربح بنصيب الأسد. رافق ذلك تغييرٌ في السلوكيات وأنظمة التدبير ونمطِ العَيش ممّا أدّى إلى اختلال توازنها البيئيّ. يَتّهم ناشطون بيئيّون السياساتِ الحكوميةَ والمخطَّطاتِ الموجَّهة للواحات والمؤثِّرة سلباً على الموارد المائية بتشجيعها على زراعاتٍ دخيلةٍ لا تراعي خصوصياتِ المنطقةِ، ممّا أنهكَ فرشتَها المائيةَ، أي المواردَ والمخزونَ المائيّ. ومع توالي سنواتِ الجفاف تَحوّلَ بعضُها إلى حقولٍ جرداءَ يابسة. 

وفي هذا الصدد يقول أقشباب إنَّ المنطقة في وضعٍ مقلقٍ بسبب الجفاف الذي تشهده منذ سنة 2014، ويَصِفُه بأقسى جفافٍ في تاريخ المنطقة. ويأتي هذا تأكيداً لتقارير رصدٍ صحافيةٍ ومناخيةٍ صادرةٍ عن هيئة الأرصاد الجوية المغربية أشارت إلى أنَّ نسبة الهطولات المَطَريّة في المغرب هي الأدنى منذ ثلاثة عقود. ويضيف أقشباب "أنَّ هذا الجفاف أدّى إلى نضوب المخزون المائيّ سواءً السطحيّ أو الباطنيّ، في وقتٍ تراجعَت فيه الهطولات المَطَريّة ولم تتعدَّ ثلاثين ملّيمتراً سنوياً (على المتر المربع من الأرض)، بينما ارتفعت الحرارة بشكلٍ مهولٍ لتصل أحياناً إلى خمسين درجةً في الصيف". وهنا يعودُ عمر الخليلي ليؤكِّدَ أنَّ "المنظومة الواحيّة عاشت على النُدرة وتكيّفَت معها. لكنّ ما آلَت إليه أوضاعُها اليومَ ليس بسبب التغيّرات المناخية فقط، وإنّما أيضاً بسبب مزاولة أنشطةٍ فلاحيةٍ لا تراعي خصوصيّات المنطقة، على غرار زراعة فاكهة البطيخ الأحمر".

أطلقت الحكومةُ المغربيةُ سنةَ 2008 برنامجاً أسمَته "المخطّط الأخضر". وقد أتى سعيُ المملكة، منذ الاستقلال سنةَ 1956، إلى تطوير قطاع الفلاحة ببرامج كبرى. استَهدَف المخطَّطٌ الأخضرُ جعلَ قطاع الفلاحة رافعةً للتنمية الاجتماعية والاقتصادية بالعمل على تقليص الفقر وتقوية اندماج الفلاحة في الأسواق الوطنية والدولية. أسهمَ هذا في رفع صادرات المنتوجات الفلاحية إلى الخارج بنسبة 117 بالمئة، حسب دراسةٍ أجراها المعهدُ المغربيُّ لتحليل السياسات سنة 2022. غيرَ أنَّ ناشطي البيئة يشدّدون على أنَّ هذا المخطّط لَم يُراعِ خصوصيات المجال الواحيّ فكان سبباً مباشراً في أزمة الماء التي يعيشها. فقد أدَّى بتشجيعه على زراعة البطيخ الأحمر، الذي يَستهلك كمّيةً كبيرةً من الماء، إلى إنهاك الفرشة المائية. وهو ما يؤكّده عثمان البوني في اتهامه الحكومةَ المغربية وبرنامجَها المذكورَ بالتسبّب في زيادة الجفاف الحادِّ في المنطقة.

ويشير البوني إلى أنّ ما حلَّ بموطنه، واحة زاكورة، امتدادٌ لما حلَّ بواحاتٍ أخرى: "في مناطق أخرى هاجَرَ الناسُ تاركِين منازلَهم وأراضيهم لأنّ الحياة لم تمنحهم خياراً آخَر. الذين لم يهاجِروا بَعْدُ لا يمارسون أيّ نشاطٍ، وأصبحوا يعيشون على تحويلات أبنائهم من المدن، وعلى إعانات الدولة مع أنها لا تكفي". يحكي عثمان أيضاً أنَّ سكان الواحات في الماضي عاشوا اكتفاءً ذاتياً، معتمِدين على رعاية الماشية والزراعة المعيشية. ثمّ يضيف بصوتٍ بدا فيه بعضُ الأسى أنَّ " ما آلَت إليه أوضاع الواحة اليومَ محزنٌ، فأنت تحصل على الماء الصالح للشرب مرَّةً كلَّ عشرةِ أيام. ويعني هذا أن لا مكان للماشية والزراعة في حياتك. وإذا استمرّ الحالُ هكذا، قد يتخلّص سكان الواحات عموماً من منازلهم وبساتينهم ويهاجرون نحو المدن الكبرى كما هاجَرَ الأوّلون، لأن انعدام الماء يعدم كلّ إمكانيات العيش".

أما الباحث عمر خليلي فيرى أنَّ: "أغلب قرى الواحات نضبت مياهُ آبارها، وباتت تُزوَّد بالماء الصالح للشرب بالصهاريج، بعضها مرّةً كلّ أربعة أيّامٍ والبعض الآخَر مرّةً في الأسبوع. كما أن السكّان تخلّوا عن حقولهم بسبب تراجع الفرشة المائية الباطنية (المياه الجوفية)"، مردفاً أنه في ظلّ نضوب موارد المياه أو شُحِّها دُفع بعض السكان في العقدَيْن الأخيرَيْن إلى الوظيفة العمومية، معَ أنَّ زراعة البطيخ الأحمر نظرياً أسهمت في تحريك عَجَلة الاقتصاد بالمنطقة. بينما يَصِفُ جمال أقشباب التشجيعَ على زراعة البطيخ الأحمر بأنه سياسةٌ فلاحيةٌ غير رشيدةٍ لأنَّها "غير مستدامةٍ ولأنها مستنزِفةٌ للفرشة المائية". مضيفاً أنَّ هذه الزراعة التي بلغت سنة 2016 حوالي عشرين ألف هكتار مع استمرار توافد المستثمرين إلى المنطقة "استنزَفَت خمسة عشر مليون مترٍ مكعبٍ من المياه الجوفية".

تحدّث مصدرٌ مطّلعٌ في تقريرٍ لصحيفة "لو ديسك" المغربية نهاية 2018، أنَّ المخطّط الأخضر يُنذِر بمغربٍ أصفرَ في واحات الجنوب الشرقيّ التي أعطت على مدار قرونٍ دروساً في التدبير الجيّد والمتضامن للماء. ويضيف المصدرُ أن الصمت الذي رافق زراعة البطيخ الأحمر من لَدُن المسؤولين وصنّاع القرار يعود بالأساس إلى سببَيْن. أوّلُهما أنَّ وزير الفلاحة السابق ورئيس الحكومة الحالي عزيز أخنوش قدّم هذا المشروع على أساس أنه مشروعٌ ملكيٌّ ممّا أَلجَمَ المنتقِدين. والثاني ازدهارُ هذه الزراعة وأهمّية الأرباح التي تحقّقها؛ إذ يحتلُّ المغربُ الرتبةَ الرابعة والعشرين من الدول المصدّرة للبطيخ الأحمر، ممّا يجعل "حلاوة الدلاح (البطيخ) في أفواه المستثمرين أهمَّ من مرارتها على لسان الفقراء العطشى"، كما علق للصحيفة مهندس مشتغل في مديرية الري وإعداد المجال الفلاحي.

وفي ومضةِ أملٍ، يبدو أن الوضع الكارثيّ الذي تعيشه الواحات لَفَتَ أنظارَ المسؤولين سنةَ 2022، وعَجّلَ بإصدار حزمةٍ من القرارات قَضَى بعضُها بمنع الزراعات المستهلِكة للماء وعلى رأسها زراعةُ البطيخ الأحمر. وكان وزير التجهيز والماء، نزار بركة، قد صرّح في ندوةٍ في الثالث من مارس سنة 2022، بأن زراعة البطيخ الأحمر في مناطق الجنوب الشرقيّ مكلِفةٌ، و"تستهلك كمّياتٍ كبيرةً من الماء في مناطق تعاني في الأصل من نقص هذه المادّة الحيوية، ممّا يؤثّر على الفرشة المائية بشكلٍ مرتفعٍ للغاية". وهنا يعلّق جمال أقشباب أنَّه لولا التدخّل الحكومي المتأخّر لكانت نسبة المياه المستنزَفة ارتفعت من خمسة عشر مليون مترٍ مكعبٍ إلى أكثر من مئةٍ وأربعين مليوناً. 


تَضافُرُ التغيّرات المناخية والسياسة الخاطئة للدولة أدّى إلى نتائج كارثيةٍ أزّمت أوضاع الواحات التي تُعَدُّ تراثاً حضارياً وإنسانياً، وهي التي كانت طيلة قرونٍ خَلَتْ فضاءً للاستقرار وإقامة تجارةٍ مزدهرةٍ وسط محيطٍ قاحلٍ، وشَكّلَت خطَّ الدفاع الأوّل لمدنِ المملكة المغربية ضدّ زحف الرمال. دفع هذا الوضع مؤسّساتٍ رسميةً وغيرَ رسميةٍ إلى دقّ ناقوس الخطر من التهديد الذي طالَها من ناحية الحقّ في الماء والأمن المائيّ بسبب الاستغلال المفرِط للموارد المائية. ودفع حكومةَ البلادِ إلى إطلاق مبادراتٍ ومشاريعَ – وإن كانت متأخّرةً – تَستهدِف تحقيقَ تنميةٍ مستدامةٍ بمناطق الواحات، وتصحيح سياساتٍ خاطئةٍ دامت عقوداً، علّها تكبح ظاهرةَ الهجرة التي تنامت في السنوات الأخيرة، بعد أن وجدها مليونا نسمةٍ من سكان الواحات حلّاً وحيداً. ويرى عثمان البوني أنَّ نصف السكان هاجروا والنصف المتبقّي منهم يفكّر في ذلك. هذا النصف الذي يعيش على أمل أن الغد سيكون أفضل، لكنه "كفّ عن زيارة بساتينه القريبة، لأنّ المشاهد الصفراء تُدمي القلب".

اشترك في نشرتنا البريدية