أسرٌ مغربيةٌ تتجه إلى تبنّي الأطفالِ سراً رغم تحريمه

مع أنّ القانون المغربي يحرّم التبنّي ويسمح بكفالةِ اليتيم، إلا أنّ أسراً مغربيةً تبحثُ عن أطفالٍ للتبنّي في صفقاتٍ سريةٍ

Share
أسرٌ مغربيةٌ تتجه إلى تبنّي الأطفالِ سراً رغم تحريمه
تصميم خاص لمجلة الفراتس

وصلت علاقة نورة بزوجها مُحَمَّد إلى نفقٍ مسدودٍ بعدَ فَشلِ محاولاتِهما في الإنجابِ، واقْتَنَعت نورة أنّ تصرّفاتِ زوجِها لم تعد كسابِقِ عهدِها. فقد أصبحَ محمد شاردَ الذهنِ ومنعزلاً قليلَ الحديث وقد يغضبُ وينفجرُ في وجهِها صارخاً كلما فاتَحتْهُ في أمرِ علاجِ العُقمِ الذي يعاني منه. شعرتْ نورة أنّ الجوَ داخلَ أسرتِها الصغيرة أضحى مشحوناً وأنّ زواجها يتهددهُ الطلاق، فقد صارحها زوجُها مرة بأنّ عليها البحث عن حياةٍ جديدةٍ بعيداً عنه. 

تقول نورة للباحثةِ في علم الاجتماع بجامعةِ الحسن الثاني بالدارِ البيضاء عزيزة غلام في دراسةٍ لها إنّها لم تخبر زوجَها يوماً أنّه حرمها من الأولاد، وتضيفُ: "لم أحرجه يوماً أبداً. كنت دائما أحكي له قِصصَ وتجارب النّاسِ الذين لم ينجبوا وتكفّلوا بطفل". أدركتْ نورة ألّا سبيلَ للمحافظةِ على أُسرتِها إلا بتبنّي طفل يبعدُ عنهما شبحَ الطلاقِ ونظرة المجتمعِ الدونيةِ ويقلل مصاريفِ العلاجِ الباهظة التي أنهكتْ ميزانيتَهما المتواضعة. وتقوّى خيار التبنّي عندها بعد أن عرفتْ برغبةِ زوجها بالزواجِ بامرأة أخرى. 

وبينما يميل أزواج مغاربة لكفالة الأطفال المتخلّى عنهم في مؤسسات رعاية الأطفال، متحملين اتباع مسطرةً قانونية طويلة ومعقدة لكفالة طفل. يصرُّ أزواجٌ آخرون على تحقيق حلم الأمومة والأبوة بتبني أطفال مولودين خارج منظومة الزواج لأمهات عازبات بعيداً عن أعين القانون، فيبحثون عند وسطاء بغية الظفر برضيعةِ أمٍ عازبة، يتَّفِقون في السِّر معها على تخليها نهائياً عن رضيعتها المولودة حديثاً مقابل أن تضمن لها الأسرة المتبنية مقابلاً مالياً وتؤمّنُ وسائل العيش بمنأى عن عائلتها الرافضَةِ حملَها خارجَ مؤسَّسَةِ الزواجِ حتّى موعدِ الولادة. 

من يلجأون لهذا الطريق يفضلونه رغم خطورته ليعيشوا تجربةَ الحملِ والمَخاضِ والوِلادةِ مع الأم العازبةِ كما لو كانت تجربةً شخصيةً. ويُمَكِّن هذا بعضَ الأسرِ من ادعاءِ الحملِ والإنجاب أمام العائلة والأصدقاء. ويسجّلونَ الطفلَ باسم الأسرة، ويتخلصون بذلك من نظرة المجتمع الواصمة التي تحاصر الرجال والنساء المحرومين من القدرة على الإنجاب. 


بدأت نورة ومحمد مسار التبنّي لكنّهما لم يحسما أمر مصدرِ الحصولِ على الطفلِ المرغوبِ فيه. واجه الزوجان، كغيرهما من الساعين للتبني أو الكفالة، ندرةً في الإناثِ حديثات الولادة المرشّحاتِ للكفالة بمراكزِ رعاية الأطفال المتخلى عنهم بمدينة الدارِ البيضاء. يتفق الزوجان نورة ومحمد مع كثيرين غيرهم من الأزواج الراغبين في الكفالة، فهم يبحثون عن مواصفات معيّنةٍ في الأطفالِ. يفرزونَهم حسبَ الجنسِ والسِّنِ واللونِ وقد يَطلبُ أزواجٌ بعينهم مواصفاتٍ جسديةً أخرى. فقد يفضّلُ البيضُ التكفلَ برضيعةٍ حديثة الولادة بيضاءَ البشرةِ، وقد يرفضُ البعض التكفّلَ بذوي الإعاقةِ. ويحبّذونَ أن تحمل في ملامحها الجسدية شبهاً مع الأبويْن المتكفّليْن في محاولةٍ منهما لُمحاكاةِ إنجابِ طفلٍ من نسلهما. ويفضّل أغلب الأزواج المقدمين على التبني البنتَ على الولد. يعتقدُ المغاربةُ أن الإناثَ يتَّسِمنَ باللينِ والمرونةِ واللباقة، عكس الذكور الذين يتصفون في نظرهم بالعنفِ وإثارةِ المشاكلِ داخلَ الأسرةِ نتيجةَ الكفالةِ أو التبني، لهذا لا يتكفّلونَ بهم إلا عند قلةِ المتاح من الإناث. وتُعتبر الإناث عملة نادرة بمؤسسات رعاية الأطفال التي توفّرُ خدمةَ الكفالةِ القانونية.

لم يوفّق الزوجان في إيجاد طفلة يتكفلون بها، فقررا السفرَ إلى المدنِ الصغيرةِ البعيدةِ عن المراكزِ الحضرية، لكن مع فشلهما في إيجادِ أنثى للتكفلِ بها، بحثا عبر وسيطةٍ عن أمٍ عزباء حبلى ببنت واتفقا معها على تبنّي طفلتِها بعد ولادتِها في المستشفى. 

ينظّم القانون الَمغْرِبي كفالةَ الأطفالِ بموجبِ القانونِ رقم 15.01 الصادر في يونيو 2002، ويضع جملة من الإجراءات التي يجدها بعض الساعين لكفالة الأطفال معقدة وصعبة. ويستندُ القانون إلى نصوصِ الفقْهِ المالكيِ، ويُحرِّم التبني ويستعمل مصطلح الكفالة الذي لا يمنح للمُتَكَفَّلَ بهِ حقَّ حمل اسمِ الأبِ المتكفِّل أو الحق في الإرثِ. ولكن يُمنح الطفلُ المتكفَّل بهِ الاسمَ العائلي للأبِ المتكفِّل، لكن هذا الاسم لا يُضَمَّن في خانةِ اسمِ الأبِ في وثائقِ هُوِيَّتِهِ الرَّسْمِيَةِ، مثلَ بِطاقة التعريف الوطنيةِ. ويسُجَّلُ عوضاً عن ذلكِ بواحد من أسماءِ العبوديةِ مثل عبد الله، ويُضَمَّنُ كونه مكفولاً ومتخلىً عنه في السجل الأصلي لرسم الولادة أو وثيقة الحالة المدنية للطفل. 

تقول المحامية لبنى الصغيري، النائبة البرلمانية عن حزب التقدم والاشتراكية، للفِراتْس: "بالفعل يتم الاشتراط بأن يكون اسم المتكفَّل به مسجلاً تحت أحد أسماء عُبِّدَ، وهذا قصد قانوني واضح من المشرّع المغربي لتجاوز المشاكل التي تقع في الإرث". وتُقر الصغيري بأن "تسجيل تلك المعطيات في سجل الحالة المدنية والوثائق الرسمية الخاصة بالمتكفَّل به، فيها نوع من المساس بكرامة الطفل، ومساس بنفسيته، بحيث تكون لها تأثيرات سلبية عليه من الناحية المعنوية لا سيما في مرحلة المراهقة". وتتفق مع الطرح القائل بأن تُسجل هذه المعلومات في السجل الكبير والأصلي الذي تُمسِكه المقاطعات والبلديات، "أما النسخ الموجزة التي تُسلَّم إلى المعني وتُستعمل إدارياً وفي المدرسة، فلا ينبغي أن تتضمن معطيات تُبيّن أنه متخلّى عنه ومتكفَّل به". 

يخضع الراغب في كفالة طفل إلى فحصٍ أمني للتأكد من خلوِ ملفِه من السوابق العدلية. ويلي ذلكَ فحصٌ اجتماعي للتعرف على ظروف مستوى عيش الأسرة ونفقاتها، ثم أخيراً الاستعلامِ عنه في فرعِ وزارةِ الأوقاف والشؤون الإسلامية بمنطقتهِ للتأكدِ من أنّه يدِين بالإسلام على المذهب المالكي. يلى ذلك جملة من الإجراءات والشروط التي تتبعها السلطة القضائية قبل الموافقة على الكفالة للأسرة المتكفِّلة، توضح المحامية: "بطبيعة الحال من الشروط الأساسية التي ينبغي توفرها في المتكفِّل الإسلام، والقدرة على توفير العيش الكريم، بمعنى أن يثبت المتكفِّل أن لديه دخلا يمَكِّنه من توفير أساسيات العيش للطفل. علاوة على ذلك خلُو السِجل العدلي للزوجين من الجنايات والجنح". ويلجأ الأزواج غالباً إلى الحصولِ على حُكمٍ قضائي بكفالةِ الأطفال تفادياً للدخول في نزاعٍ مع القانون، إذ يحصّنهم هذا من العُقوبات التي تترتب عن حيازة طفل ليسَ لهم، ومنها تهمة الاختطاف أو الاحتجاز في الفصلين 436 و 437، وجناية الاتجار بالبشر في الفصل 2-448 من القانون الجنائي المغربي.

تبّنت نورة مع زوجها محمد الطفلة حفصة منذ أن كانت جنيناً في شهرها الثامن في بطن أمها الحقيقية، رأت نورة في ذلك محاكاة لعيش تجربة الأمومة الفعلية، تقول نورة للباحثة عزيزة غُلام: ''كلما أُخِذَتْ البنتُ وهي طفلةٌ كلما أحسستِ بمتعة تربيتها، مثلاً عندما تأخذينَها للتلقيح، وعندما تمرضُ وتسهرينَ الليالي معها. شعرتُ بالسّعادةِ في المستشفى حينما كانوا ينادونها باسمها، وكذلك عندما كنتُ أناقش مع الأمهاتِ مشاكلَ الأمراضِ التي تصيب الأطفال. إنّه حقاً لإحساسٌ رائع، لذلك احتفظُ بأفلامٍ لحفصة عندما كانت صغيرة''.

أرادت العائلةُ بعد تبنّيها الطفلةَ العودةَ إلى الإجراء القانوني، وتقدمت بطلبٍ للتكفّلِ بالرضيعةِ وقُبِلَ طلبها. لا تتبع بعضُ الأسرِ المغربيةِ الإجراءاتِ القانونيةَ للكفالة، بل تتبنى الإناث سرياً قبل وصولهنّ إلى مؤسساتِ الرِّعايَةِ الاجتماعيّةِ، بحسبِ دراسة الباحثة عزيزة غلام "الكفالة: مسار بناء مشروع أسري لعيش الأمومة والأبوة لدى الزوجين في وضعية ضعف الخصوبة". إلا أن أسراً أخرى تتكفّل بالأطفال بالطريقة قانونية، ومنها أسرة عبد الغني ذي التسعة والخمسين عاماً، وزوجته فاطمة الزهراء ذات الأربعة والخمسين عاماً، إذ ظلّ بيتهما في صمت لعقدٍ ونيّف، يفتقدُ حركية الأطفال وصراخهم حتى قرّرا التكفل بطفلهما حميد. اقتنع الزوجان قبل تسع سنواتٍ بضرورة كفالة طفل يُشبع توقهما للأمومة والأبوة. أَدْرَكَ عبدُ الغني أن تجربةَ عدم إنجاب طفل من صُلبه فرصةٌ نبيلةٌ لمنح الحبِ والحنانِ والدفءِ الأسريِّ يتيماً أو طفلاً تخلّى والداه عنه. يقول عبدُ الغني:" كنّا في حاجة إليه وهو كذلك كان في حاجة إلينا. بفضله تحقق لنا حلم الأمومة والأبوة الذي لم نعِشه طبيعياً لحكمة ربانية، ونحن أيضاً منحناه الحب والحنان والعطف الذي افتقده بفعل قدَرِه". 


يُعدُّ الوُسَطاءُ، وجُلّهم من النِساءِ، المحرّكَ الذي يدفعُ بالتبني بعيداً عن القانون، مِنْهم وُسَطاء بلا مقابل كزملاءِ العَملِ والأصْدِقاءِ والأقَارِب والجيرانِ، ومنهم وُسطَاء يشْتَغِلون خارجَ نطاقِ القانونُ ويَتَّخِذونَ مِنَ الوَساطةِ مَصدر دخلٍ إضافيٍ كالممرضات والقابِلاتِ وعاملاتِ النظافِة وحُرَّاسِ أمْنِ المُسْتَشفياتِ. يتدخّلُ الوسطاءُ في الرّبطِ بين الأم الحقيقيّةِ والأسرة الراغبة في التبّني، ويتفقُ الطرفانِ بعد تعهدِ الأمِ بقبول طلب الأسرة لتبنّي مولودَتِها في يومِ الولادةِ من المستشفى. تَشرح الباحثة عزيزة غلام أن الإناث اللواتي يصلن إلى مؤسسات رعاية الأطفال "ينتمينَ إلى فئةِ الأمهات العازبات اللواتي لم تلتقطهن أعينُ الوسطاءِ لمساعدتهن واحتضانهنَّ خلال الأشهر الأخيرة التي تسبق الوضع". 

غالباً ما تتخلّص الأمُّ العازبةُ من طفلِها فورَ ولادتِه، فتضعهُ خفيةً في حاوياتِ النفاياتِ أو تتركه بقسمِ الولادةِ في المستشفى. وربما سلّمته لإحدى مؤسساتِ رعايةِ الأطفالِ المتخلّى عنهم التي تسمح لها برؤيته وزيارته، وفي أحيانٍ قليلةٍ تتخلص منه عبرَ وسيطة تُوصله إلى أسرة ترغب في تبنّيهِ سرياً. 

بلغَ عددُ الأطفال حديثي الولادة الذين عُثِرَ عليهم في الشارع سنة 2021  خمسمئة وواحداً وثلاثين طفلاً، وبلغ عدد الأطفال الذين تخلّت عنهم أمهاتهم في مؤسسات رعاية الأطفال أو المستشفيات 2656 طفلاً، ووصل عدد طلبات التصريح بالإهمال، وهو تصريح توقعه الأمهات أو الأسر التي تريد التخلي عن الطفل ويوجه إلى القاضي المكلف بشؤون القاصرين، ألفين ومئة وأربعين طلباً في السنة ذاتها بحسب تقرير لرئاسة النيابة العامة صدَر سنة 2021. وكشفتْ نتائج دراسة أنجزتها العُصبة المغربية لحماية الطفولة المغربية مع منظمةِ الأمم المتحدة للطفولة "يونيسِف" أنَّ نسبةَ الأطفالِ الذين يولدون خارجَ إطارِ الزّواجِ بلغتْ 11.43 بالمئةِ، أي ما يمثّل مئة وثلاثة وخمسين طفلاً يومياً. 

أحصت جمعية إنصاف، وهي منظمة غير حكومية، مئتين وعشرة آلاف أُمٍّ عازبة بالمغرب في الفترة بين 2003 و2009، وبلغ عدد الأطفال الذين ولدوا خارج إطار الزواج في العشر سنوات الأخيرة خمسين ألف طفل. وصرّحت عائشة الشنا، الرئيسة السابقة لجمعية التضامن النسوي، لصحيفة ميخار هوي الإسبانية بأنّ "خمسين ألف طفل يُتَخَلّى عنهم سنوياً، وأنه يوجد في المتوسط أربعة وعشرون طفلاً يُرمى بهم كل يوم في القمامة. ولا يوجد رقم رسمي عن عدد الأمهات العازبات بالمغرب".


تنسقّ الوسيطةَ بين الحوامِلِ اللائي يرغبنَ في التخلّي عن أطْفالِهنّ والأُسَرِ الراغبةِ في التبنّي. تُمَكِّن الوَسيطَةُ الأمَ العازِبَة منْ مَكانٍ للإِقامَةِ وتُوَفِّرُ لها الَمأْكلَ والَملْبَس بعيداً عنْ عائِلَتِها، وتُساعِدُها على الوُلوجِ الآمِنِ إلى الُمؤسَّساتِ الصِحِيَّةِ عِنْدَما يَحِّلُ أَوانُ الوَضْعُ. وبينما يمنحهن القانونُ حق ولوجِ المستشفيات والحصول على الرعاية وإن منجبات بغير زواج، لكنهنّ يخفنَ انكشافَ أمرِهنَّ أمامَ أسرهِنَّ وأقاربهنَّ ويخشينَ الاعتقالَ بسببِ الحملِ خارجِ منظومةِ الزواج. تَحدّثْتُ مَع فَاطمة، وهي عامَلةُ نَظافَةٍ في الخمسين من عمرها تعمل في مستشفى بمدينة طنجة، فقالت لي إنَّها تُسهّلُ للأمَّهاتِ العازباتِ عملية الولادة بالمستشفى، وتبحثُ لَهُنَّ عمَّن يتبنى أطْفالهنَّ. وتَدَّعي أنّها لا تسْعى إلى المالِ بل لأنّها مَرَّت يوماً ما بنفسِ التجربةِ فقد حَملتْ خارِج مؤسسة الزَّواجِ. حكَتْ لي بحسرةٍ قصة فتاة عشرينية اسمها حياة، اغْتصبها زوجُ أختِها فقَرّرت كسرَ حاجِزَ الصمتِ بَعْدَ ظُهورِ أَعْراضِ الحَمْلِ وتأَكدِها منه، فأَخْبرتْ عائلتها بأمرِ الاغتصابِ ليْنَتَهي بها المطافُ مُتشرِّدَةً في الشَّارعِ خارج مدينتها بعد فِرارها مِن البَيْتِ. 

قَصدتْ حَياة عِدةَ مَنازلَ بطَنْجَة تَطلبُ الإيواءَ والمساعدةَ إلى أن احْتَضَنَتْها أسرةٌ تُعاني ابنة لها من العقمِ. ساعدتْها الوسيطةُ فاطِمَة عَلى الولوجِ إلى الُمستَشْفى بِدونِ هُوِيّةٍ إلى أنْ وَضَعتْ طفلَها وسهَّلَتْ فِرارَها خارجَ المسْتشفى رِفْقةَ رَضيعِها. تحكي فاطمةُ أنَّ الأسرةَ سَجَّلتْ الرَّضيعَ باسمِها بطريقةٍ لا تعلمُ تفاصيلِها. زوّجتْ الأسرةُ حياة وحاوَلتْ إِبْعادَها عنْ طِفلِها حتّى لا ينكشف أمر التَّبَني، وكانَ الثَّمنُ تستُّر الأسرةِ على قصتِها أمامَ أسرة زوجها الجَديد. ومعَ ذلِكَ ظلّتْ على عَلاقةٍ مع الأسرةِ حتَّى تتمكن من رُؤيةِ طفلِها. ورَفضتْ حياة أي مقابلٍ مادِّيٍ للتَّخَلّي عنْ رؤيةِ طِفْلِها.

تُرجع الأستاذة لبنى الصغيري رغبة الأسر غير المنجبة في تبني طفل وتسجيله باسمها إلى حاجة الإحساس بالتملّك الكامل للطفل، وتجاوز مشكل الإرث. واعتبرتْ أنّ "الأزواج يُنعتون بالعقم، لذلك عندما يأتون بطفل يصبح بمثابة طفلهم. هذا الإحساس يريدون أن يُحسّوا به فعلياً وقانونياً، ولأنّهم ليس عندهم ورثة يريدون أن يستفيد طفلهم من الإرث، لأنه إذا لم يكن مسجلاً على أنّه ابنٌ حقيقيٌ لهم فإنه لن يحصل على الإرث الذي سيذهب إلى الأعمام والعائلة. وحتى إذا ما سُجِّل باسمهم فإننا أحياناً كثيرة نُفاجأ في المحكمة بعد الوفاة بملفات طعن في النسب من أجل حرمان طفل من حق الإرث".

واعتبرت عزيزة غلام، رئيسة جمعية الحالمين بالأمومة والأبوة ''مابا'' والباحثة في علم الاجتماع، في تصريح للفراتسٍ أنّ "التبني السري مرفوض قانونياً وأخلاقياً، لأنه لا يحمي حقوق الأسر، ويخرق المصلحة الفضلى للطفل. ذلك أن الأسر غير المنجبة تمتثل كلياً إلى مسطرة الكفالة بحيث إن كل أعضاء الجمعية المتكفلين بأطفال اتبعوا مسطرة قانون الكفالة". وأضافت ''أن الجمعية تعمل على تشجيع الكفالة القانونية، وتترافع من أجل ألا يبقى الطفل المتكفل به مجرد مقيم لدى الأسرة المتكفِّلة، من خلال الدعوة إلى إعادة النظر في النقطة المتعلقة بحق الوالدين الحقيقيَّين في استرجاع الطفل بعد بلوغه سن ثماني عشرة سنة". 


تحدّثتُ مع قريبِ زَوْجَيْنِ عقيميْن بمدينةِ مِكْناس اتَفَقا مَع أمٍ عازبةٍ حُبْلى في شَهرِها السّادِس على التَّخلّي عنْ جَنِينِها فور إنجابِه مقابلَ مَبلغٍ ماليٍ كبيرٍ. وتولتْ الوسيطةُ التّي نسَّقتْ الاتِفاقِ بين الطَرَفَيْنِ عِمليِةَ فَحْصِ جِنسِ الجَنِينِ وسَلامتِه منَ الأمْراضِ والإعاقةِ عِندَ طَبيبِ النساءِ. ووفرتْ لوالدةِ الطفلِ، التي اتضحَ أنّها كانتْ بنتاً غير متزوجة، الإقامةَ بعيداً عن عائِلتِها إلى حين وَضعِ حَمْلها، وأخْبَرتهْم أنَّها حَصلتْ على عَملٍ بمعامِلِ تَعليبِ الأسماكِ.

أرادَ الزّوْجانِ حيازة الطفلةِ نِهائياً وإلحاقَها رَسْمياً في سِجِلِّ العائِلة، لذلكَ أَخبرَ الزوجان أقرباءَهم بِخَبر حملِ الزّوْجَة بالتَّخصيبِ خارجَ الرَّحمِ بإحْدى الدّولِ الأوروبيَّة بعد معاناةٍ مَعَ العُقمِ دَامتْ أكثرَ مِنْ سَبْعِ سنواتٍ. حَصَلَ الزّوْجانِ على الرضيعة بعد الولادة ودَفَعا لأمِّها المبلغَ، وأقاما لطفلتهما حَفلَ العَقيقَة واخْتارا لها مِنَ الأسماءِ سارَة. بيْدَ أنَّ خيبة أمَلْهِما كانتْ كبيرةً بعْدَ ظهورِ والِدِ الطفلةِ الذي كان على اتصالٍ دائمٍ بوالدتِها وهدَّدَها بإفشاءِ سرِّ حَملِها وتَخَلّيها عنْ رَضيعتِها إذا لمْ تَمنْحهُ جُزءاً مِنَ مالِ التّخلّي عنها. تقدّم الزوجانِ بطلبِ كفالةِ الطفلةِ إلى السُلطاتِ القضائيةِ بَعدَ خوفِهما منَ اسْتمرارِ تَهديدِ الوالدِ لهما.

تخضعُ عمليةُ تبنّي الأطفال إلى السرية التامة. يرغبُ المشاركون في العملية أي الأسرة المتبنية والأم العازبة والوسطاء في عدم التعرض للوصم الاجتماعي وتحقيق الأمومة والأبوة الكاملة بالنسبة للأسرة، فضلاً عن الخوف من المتابعة القانونية بسبب حيازة طفل بدون سند قانوني. لذلك يندرج تبني الأطفال المتخلّى عنهم ضمن المسكوت عنه فيثير نقاشاً حقوقياً وقانونياً كلما تفجرت فضيحة متعلقة بأطفال الأمهات العازبات. 

أَوقَفتْ الشُّرطَة الَمغْربية في فبراير 2024 بمدينةِ فاس ثَلاثَةً وثَلاثينَ شَخْصاً، بينهم طَبيب ومُمرِّضان وطاقم طبي وحُرّاس أمنٍ خاصٍ، للاشتباهِ بتَشكيلِهِم شَبكةً للاتجار بالرُّضعِ حَديثي الوِلادةِ عُرِفَت بعدها باسمِ "شَبكَةِ بَيْعِ الأطْفالِ". وُجهت لبعض الموقوفين تُهمَ الوساطةِ في بيعِ أطفالٍ حديثي الولادةِ بتواطؤٍ مَعَ أُمَّهاتٍ عازباتٍ بمقابلٍ ماديٍ، لفائِدةِ أُسرٍ تَرغبُ في التَّبَنّي السّري للأطفال. وأقَرَّ أحدُ المُتّهَمينَ في جلسةِ المُحاكَمَةِ بوساطتِه في بَيعِ طِفلٍ رَضيعٍ أَنْجبَتْهُ أمٌّ عَازبةٌ إلى أُسرةٍ بمدينةِ تاوْنات شمالَ فاس بثمَنٍ بَخْسٍ يقاربُ ألفاً وخمسمئة درهمٍ مايعادل مئة وأربعين دولاراً أمريكياً، منها ألف درهم للأمِّ، وخمسمئة درهم للوسيط. اسْتَمعَ القاضي خِلالَ الجلسة إلى شاهدٍ في القَضِيّة يروي تفاصيلَ بَحْثِه عنْ طفلٍ للتَبنّي، فقادتْه رحلتُه إلى حارسِ أمْنٍ في مُسْتَشْفى عامٍ في فاس ووعدَهُ بتحقيقِ حُلمِهِ. عَرَّفَهُ الحارِسُ على سيدةٍ حبْلى تقترب من وَضعِ مولودها، ودَفَعَ لها ما يساوي مئة دولار مُقابِلَ التَّخَلّي عنْ طِفْلِها. وساعَدَهُ الحارِسُ بعد ذلك في تَسْجيلِ الرَّضيعِ باسمِ زوجتِهِ في سِجِلّاتِ المستشفى بدلاً من والِدة الطفلِ، فدَفَعَ حوالي ثلاثمئة دولار لوسيطٍ بغيّةَ اسْتكمالِ الإجراءاتِ الإداريةِ بالتوسط لدى مسؤولة في المستشفى، بيد أن محاولته تلك فشلت. 

صَرَّحتْ مَرْيَمة العِراقي، رئيسة مصلحة القضايا الماسة بالأسرة والأخلاق العامة بمديرية الشرطة القضائية لموقع العمق: "أنَّ مَصالحَ الشُّرطةِ القضائيةِ، لم تُسَجِّل في 2020 و2021 و2022 أي قضيةٍ تتعلق بملفِ الاتجارِ بالرُّضعِ، في حين تم تسجيل قضية واحدة خلال شهر فبراير 2024 [شبكة الاتجار في الرضع بفاس]. ولم يتم تسجيل أية شكاية، أو وشاية، أو الوقوف على حالة ملموسة لنقل طفل من شخص إلى آخر بمقابل مادي". وعلّقتْ الأستاذة لبنى الصغيري على هذا الأمر بالقول: "أنا أتابع هذه الظاهرة منذ عشر سنوات، وكما يعلم الجميع أن الأم العازبة تكون في وضع قانوني وإنساني سيء. أسرتها أحياناً لا تعلم بمشكلتها، لذلك تكون في حاجة ماسة للتخلّص من طفلها بأقصى سرعة. بالنسبة للأمهات العازبات المدمنات على التدخين والمخدرات اللائي يكن في وضع الشارع غالباً ما يتخلصن من أطفالهن من خلال بيعهن".  

وقد أثارَ اعتقالُ أفرادِ الشبكةِ صَدمةً في الرأيِ العامِ الَمغربيِ. ونَصَّبت مُنَظَّمة ''ما تقيش ولدي"، أي لا تلمس طفلي، نفسها طَرفاً مدنياً في مَلِفِ القضيةِ ضدّ شبكةِ التجارةِ. واعْتَبَرتْ في بيانٍ لها أنَّ القَضِيّة تسلّطُ الضوء من جَديدٍ على ملفِّ تخلّي الأمهاتِ العازباتِ عن أطفالهنَّ. وأكدّت أنّ هذه الظاهرة شهدتْ تطوراً خَطيراً لظاهِرةِ الاتجارِ بالبشرِ. ودَعتْ المنظمةُ كل المُؤسّساتِ المدَنيةِ والحقوقِيّة والأحزابِ السِياسِيّة إلى "تكثيفِ الجهودِ ووضعِ اليدِ في اليدِ من أجلِ حمايةِ الطُفولةِ الَمغْرِبيّة". وطالبت الجمعية ذاتها بضرورةِ إيجادِ الرّضعِ الذينَ بيعُوا، خوْفاً عليْهِم مِنَ أن يَسقْطوا في أيْدي شبكاتِ الاتجارِ في الأعْضاءِ البَشَرِيّةِ.

وفي حادثةٍ مشابهةٍ بداياتِ الأَلْفِيّةِ أَوْقَفتْ الشُّرطَةُ القَضائيّةُ بالدار البيضاء في يناير 2010 شبكةً للاتجارِ بالرضع. داهَمَ رِجالُ الأمْنِ شِقَّةَ قَابِلَةٍ تُدعَى "الحاجَّة" بحيِ بورْكون، وضُبِطَت القابِلَةُ متزعمة الشبكة متلبسةً ببَيْعِ رَضيعَةٍ تَبلغُ من العُمرِ عِشْرينَ يَوْماً مُقابِلَ عشرين ألف درهم لسيدة مُتَعاونةٍ معَ الشُرْطةِ لاسْتِدراجِ القابِلَة. وتَكوّنتْ الشَّبكَةُ منَ القابِلَةِ ومُمَرِّضةٍ وأُمٍّ عازبةٍ ومُوَظَّفٍ بمَكتَبِ الحالةِ المَدَنِيّةِ وأحَدِ المتعاونين مع السلطات وضابِطِ صَفٍّ بالقُوّاتِ المُساعدةِ المَغْرِبيّةِ. صَرّحتْ "الحاجّة" للقاضي خِلالَ جَلسةِ المُحاكَمة أنَّها لا تُتاجرُ في الأَطْفالِ وإنَّما تُساعِدُ النِّساءَ العقيماتِ على التَّبَنِّي، وقالَتْ إنّ كُلَّ ما تَفْعَلُه "لوجْهِ الله" لا مِن أجلِ المالِ. واْعتَرَفتْ بِتوْليدِ أُمَّهاتٍ عازِباتٍ سِرّياً في بَيْتِها لمدةِ خمسة وثلاثين عاماً. وأَقَرَّتْ باعتِقالِها سنة 1987 عندما توسَّطَتْ لامْرَأَةٍ أَرادَتْ تَبَنِّي طفلٍ.

من بحثي في ما نشرته الصُحف المغربية والإسبانية سابقاً اتضح أنَّ الاتجارَ بالأطفالِ في المَغْرِب أو تبنّيهم بما يُخالفُ القانونَ ليسَ جديداً، بل تعودُ خيوطِهِ إلى السَّبعينِيات. ولا تَقْتصِرُ على حُدودِ التُّرابِ الَمغْرِبيِ، إذ يهرّبُ الوسطاءُ الرُّضَعَ من المغربِ إلى أوروبا، لا سيما إسْبانْيا، عَبرَ مَدينةِ مَليلْيَة شمالَ المملكةِ المغربيَّة. كَشَفَ تقريرٌ لجمعيةِ الريفِ لحقوقِ الإنسانِ سنةَ 2012 عن بيْعِ راهِبةٍ إسبانيَةٍ متقاعدةٍ بمَليلْيَة خمسةً وعشرينَ ألفَ رضيعٍ مغربيٍ لأُسَرٍ إسبانيّةٍ منذُ سنةِ 1975. وقد فَجَّرتْ الجَمْعِيّةُ الوطنيةُ الإِسْبانِيّة لضحايا التَبني غيْرِ القانونِيِّ القضيةَ عندما تَقدَّمتْ بشِكايةٍ إلى المدعي العامِ الإسبانيِ سنةَ 2011، لتشرع السُّلطاتِ الإسبانِيّة في التحقيق كاشفةً عن عِصابةٍ تُتاجرُ في الأَطْفالِ الَمغارِبة وُجّهت إليْهِم تُهمُ الاتجارِ في البَشرِ، والاحتجازِ غيْرِ القانونيِ وتَزويرِ وَثائق رَسْمِيّةٍ. وكَشَفَتْ التحقيقاتُ أن اثْني عشرَ مُتَهماً من أَعْضاءِ العِصابةِ قد ماتوا، ولم يبق من العصابة حياً إلا راهبتيْنِ وثلاثة أعضاءٍ يعملونَ بقطاعِ الصِّحةِ ووسطاء بين الُمسْتَورِدينَ والمُصَّدِرينَ. واسْتَطاعَت التَّحْقيقاتُ في إسْبانيا الوُصولَ إلى ثمانية وعشرين طفلاً فَقَط، وذلكَ على إثرِ بَثِّ قناةِ ''أنتينا طْريِس'' الإسبانية تَقْريراً عن خَطفِ الأطفالِ. وقد عُزّز التقريرُ بشهاداتٍ لشبابٍ يَحْمِلونَ جِنْسِياتٍ وأَسماءٍ إِسْبانِيَّةٍ مِثِل ''ميغيل أنخيل'' و''لورا غارسيا ماركيز''، وهما مِثاليْنِ لمغاربة تَبنّْتهم أسرٌ إسبانِيّةٌ من مِصَحّةِ ''سان رامون'' بمدينة مليلية بين سنتي 1980 و 1997.


ولئن كانت الكفالة حلاً شرّعه ونظمه القانون المغربي لتجاوز مشكل العقم، إلا أنه على أرض الواقع لا يُحقق لفئة واسعة من الأسر المغربية حلم الأمومة والأبوة كاملاً. لذلك يلجأ بعض الأزواج المغاربة إلى التبني بدلاً من التكفّل القانوني وهو ما قد يشجّع بعض أنشطة شبكات الاتجار في الأطفال الرضع وبالتالي إمكانية سقوطهم في أيدي شبكات أخطر مثل مُمْتَهِني التسول والاتجار في الأعضاء البشرية. أصبح من الضروري مراجعة قانون الكفالة، فضلاً عن مراجعة مدونة الأسرة ومسألة الإرث حتى تستجيب قدر الإمكان إلى تطلعات الأسر غير المنجبة والأمهات العازبات وأطفالهن. 

اشترك في نشرتنا البريدية