يرى زياد أنَّ زراعة القمح جزءٌ من هُويته ورثها عن أجداده. لكنه وجد نفسه مضطراً إلى تقليص الإنتاج وترشيد استهلاك الماء والاقتصار على زراعة مساحاتٍ صغيرةٍ تغذّيها مياه الأمطار التي شحت في تونس بسبب التغيرات المناخية والتقلبات الحادة المرافقة لها من فترات جفاف متتالية.
تعرقل الطبيعةُ الفلاحَ منذ سنوات وتخسره مادياً، فنضوب المياه الجوفية والموارد المائية عموماً سببه عدم انتظام تساقط المطر أو قلّتها. يقول زياد: "لا يمكننا الاعتماد على مياه الأمطار والإمداد بالماء ليس بالأمر الهين ويتطلب مالاً"، ومصاريف الحرث والمداواة والتسميد والحصاد باهظة الثمن. يفصّل زياد القول فيذكر أن أسمدةً كثيرةً غير متوفرة مثل الفوسفات ونترات أمونيوم الكالسيوم أو ما يعرف لدى الفلاح "الأمونيتر"، وإن توفّرت تصل أسعار الكيس الواحد في السوق الموازية إلى ستين ديناراً، ما يعادل ثمانية عشر دولار أمريكي تقريباً، بعد أن كان سعرها عشرين ديناراً فقط، أو ستة دولارات.
كلفة الإنتاج أصبحت تتجاوز الأرباح منذ عدة سنوات، ويخشى زياد أن يضطر إلى التخلي عن زراعة القمح والشعير. يزداد ما يتكلّفه زياد وسواه من مزارعي القمح في تونس في كل عناصر الزراعة تقريباً، بدءاً من الماء الشحيح الذي يتعين شراؤه من البلديات ومصاريف الحرث والسماد والمخصبات الزراعية والمبيدات الآخذة في الارتفاع متأثرة بسعر صرف الدينار التونسي مقابل اليورو. ويضاف إلى هذا كله سعر البذور الزراعية التي تفرض عليهم قوانين الدولة أن يشتروها عاماً بعد عام، لأن الدولة التونسية تحظر تداول البذور الأصلية وتنشر البذور المعدلة وراثياً بديلة للبذور الأصيلة التي كان الفلاحون يخزنونها من محاصيلهم. فباتوا مضطرين إلى شراء بذور جديدة كل سنة من الشركات الغربية التي تصدر لتونس بذوراً صالحة للزراعة مرة واحدة فقط، على أنَّ بعض الدول المُصدّرة نفسها تحظر استخدام مثل تلك البذور في بنيتها الزراعية.
يقول زياد "خسرنا السنة الماضية. نزل التَّبْروري [أي البرد] أفسد النعمة [يقصدُ الزرع] وهذه السنة لن نعتمد على تجميع ديوان الحبوب". وديوان الحبوب هو الهيئة التونسية المسؤولة عن شراء المحاصيل من الفلاحين. يتذمر زياد من البذور وأنواعها ويقول إن البذور الهجينة والمستوردة مثل حبوب قمح "تريتيكال" الأوروبيّة عالية الإنتاجية لا تتماشى مع الأرض التونسية. وتجبرهم الدولة على اقتنائها لتتحول السنابل إلى علفٍ لاحقاً، ولا توفّر الجهات المختصة البذور التونسية الأصيلة التي يرى الفلاحون أنها مقاومة للأمراض والتغيرات المناخية مثل "الَمحمودي" و"رِزَّاق".
وأعاد النقاشُ المجتمعيُ قضيةَ استعادةِ البذور التونسية الأصيلة للواجهة، وارتفعت المطالبات بمراجعة السياسة الزراعية التونسية التي ظلت تغلّب مسألة الأمن الغذائي على السيادة الغذائية منذ السبعينيات. فتوسعت في إنتاج الخضراوات والفواكه وغيرها من محاصيل التصدير المدرة للعملة الأجنبية على حساب القمح الذي اختارت استيراده من شركات دولية متعددة الجنسيات بتكلفة أقل من زرعه في الأراضي التونسية. وغلبت زراعة بذور محددة معدّلة وراثياً تزيد من إنتاجية الفدان الواحد من القمح، لكن ارتفاع أسعارها وعدم تحملها للتغيرات المناخية التي تضرب دول شمال أفريقيا ومنها تونس جعلها لا تحقق الغرض منها. وقد استوردت تونس 39 بالمئة من احتياجاتها من القمح سنةَ 2023 من روسيا.
أصدر اتحاد الفلاحة في شهر إبريل من هذا العام 2024 بياناً يعبر عن أسفه لضرر المساحات المطرية لقطاع الحبوب جراء انحباس الأمطار. وطالب بسرعة صرف التعويضات المقررة للفلاحين المتضررين. وكانت وزارة الفلاحة والموارد المائية قد منعت في شهر مارس 2023 استخدام مياه الشرب في الري الفلاحي و سقي المساحات الخضراء وتنظيف الشوارع والأماكن العامة حتى نهاية سبتمبر من السنة نفسها. ومع أنّ الأمطار هطلت بكميات جيدة بين سنتي 2023 و 2024 إلا أن مخزون السدود لم يتجاوز 34,2 بالمئة، بينما ورد في آخر إحصاء يوم 28 يونيو 2024 أن مخزون السدود تراجع إلى سبعمئة وثلاثة ملايين مكعب، أي بنسبة تعبئة 30 بالمئة وهو ما يعدُّ أقلّ 20 بالمئة عن سنة 2023.
وبينما تمرّ تونس في وضع اقتصاديٍّ حرج بين تأرجح نسب التضخم وارتفاع الدين العام، خصصت الدولة حتى نهاية شهر مايو 2024 قرابة مليار ونصف دينار لتمويل الحبوب الموردة، أي بنسبة 53,7 بالمئة من إجمالي الواردات الغذائية.
ويعد حبيب عايب في تصريحه لمجلة الفِراتس أنّ الاستعمار في تونس لم ينته، إنَّما تغيرت صيغته من الوجود العسكري الواضح إلى شكل جديد يستمر معه نزوح الموارد الاقتصادية من الدول المُسْتَعْمَرة لصالح مستعمريها السابقين "وليست تونس حالة استثنائية" كما يقول. ويضيف أن "العودة للبذور الأصلية ليسَ بالأمر الهين في ظل الوضع الغذائي والاقتصادي العالمي، لأن اختلال الأمن الغذائي يؤدي حتما للجوع والحروب الأهلية".
يرى الفلاح أصيل المنستير أن السلطات تساعد محتكري توريد البذور على تعزيز نظام الاحتكارات مستدلاً على استنتاجه بمحاولة إجباره على تسجيل ملكية بذور تعرفها تونس منذ آلاف السنين. ويرى أن تداولها من غير شروط الملكية الفكرية قد يؤدي إلى انخفاض سعرها وتراجع مبيعات البذور الهجينة التي يحتكرها عدد محدودٌ من الموردين المستفيدين. لأن هؤلاء الموردين مستفيدون من تضييق الدولة على البذور الأصيلة في ضمان بيع بذورهم الهجينة كل موسم، والاستفادة من بيع ما تحتاجه هذه البذور من مخصبات ومبيدات كيميائية.
يقول حافظ إنّ البذور الأصيلة تحافظ على موارد المياه الطبيعية، ولا تتطلب مياهاً لريها وسقيها وتتكيف مع ندرة مياه الأمطار، ولا تتطلب أيضاً مواد كيميائية للاعتناء بها. لم تتعرّض السلطاتُ مرةً أخرى لحافظ الذي يرى أن الاتفاقيات الدولية التي وقَّعت عليها تونس تحميه من العقوباتِ ومضايقةِ السلطاتِ الأمنية. عقد حافظ شراكة إكثار البذور مع "البنك الوطني للجينات" الذي يوزّع أنواعاً من البذور الأصيلة على الفلاحين لزراعتِها في أراض خاصة لتجربتها وزيادة كمياتها والمحافظة عليها. ونظراً للمنع، تُباع محاصيل البذور الأصيلة للاستهلاك العائلي ولا يمكن بيع كميات كبيرة منها.
وقّعتْ الدولةُ التونسية سنة 2000 على اتفاقية "التنوع البيولوجي" التي تضمن الاستعمال العادل للموارد الوراثية. ووقعت أيضاً على "بروتوكول قرطاجنة" التابع للاتفاقية نفسها سنة 2002 والذي يهدف إلى حماية التنوع الأحيائي من المخاطر المحتملة التي تشكلها الكائنات الحية المعدلة وراثياً الناتجة بالتقنية الحيوية الحديثة، وهو الإجراء الذي كفل شكلاً من الحماية لحافظ كرباعه، رغم التضييق.
سألتُ حافظاً عن كمية ما ينتجه، فأجاب أن كمية الإنتاج ليست الهدف الأهم لهذه التجربة، إنما زيادة المساحات التي تزرع بذوراً أصيلةً ووعي المواطن المتنامي بقيمتها الغذائية والصحية وتزايد عدد الفلاحين المنخرطين في هذه التجربة. ثم استدرك أن التجربة أثبتت تفوّقَ البذور الأصيلة على المهجنة، فقد أنتج صنف بذور "المساكني" في آخر موسم، أي شتاء 2023، ما يقارب 68.88 قنطاراً للهكتار، والهكتار يعادل عشرةَ آلاف متر مربع، بينما أنتج القمح المحسن وراثياً واحداً وعشرينَ قنطاراً فقط في الهكتار، أي أقل من ثلث إنتاج البذور الأصيلة. أما إنتاجه الخاص فقُدِّرَ مردوده هذه السنة على منطقتين بما يقارب أربعةً وستينَ طناً، أي ستمئة وأربعين قنطاراً.
ملاحظات كرباعه تؤكدها إحصاءات معهد الإحصاء التونسي، الذي ترجمت إحصائياته معاناة الفلاحينَ في إنتاج القمح اللين. تذكر إحصاءات المعهد أنّ البلد تشهد تناقصاً مستمراً في زراعة القمح، إذ كانت المساحة المزروعة قمحاً ليّناً في حدود 124,8 ألف هكتاراً سنة 2014، وتناقصت المساحة إلى 64,4 ألف هكتار سنة 2022. وصارت البلد مهددة في أمنها الغذائي، عكسَ ما كانت تصبو إليه. فمن تقديرات محصول الحبوب والمراكز التي تحتلها تونس عالمياً نرى تراجعاً في الإنتاج لموسم 2023 و 2024 مقارنةً مع المعدلات السابقة، وذلك حسب تصريح محمد علي بن رمضان، مسؤول الإدارة العامة للإنتاج الفلاحي بوزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري. قال بن رمضان في الندوة الدورية التي عقدتها الوزارة في الرابع من يونيو الماضي، إن محصول هذا العام يأتي دون المعدل المتوسط، لكنه يعدُّ أفضل من العام المنقضي إلا أنه يظل دون المتوسط مقارنة بالمعدل الوطني الذي يساوي سبعة عشر مليون قنطارٍ. واحتلت تونسُ سنة 2023 المركزَ الرابع والستين عالمياً من مجملِ مئة وثلاثة عشر بلداً في ترتيب الدول في الأمن الغذائي، بعد أن كانت في المركز الحادي والخمسين سنة 2018.
غلّبت الدولة تونسية الأمنَ الغذائي على حساب السيادة الغذائية باستيراد القمح وبذوره المعدلة وراثياً، ذلك أن مفهوم الأمن الغذائي، كما تقول منظمة الأغذية والزراعة الدولية "الفاو"، يتلخّصُ في "توفير الغذاء"، من غير الخوض في سبل توفيره، ويستبعد المسؤولية الإلزاميّة للإنتاج المحلي في توفير الاحتياجات الغذائية الضرورية، ويقترح أن تعوّض سياسةُ استيراد المواد الغذائية مهامَ إنتاجها محلياً.
قالت لي ليلى الرياحي، إحدى مؤسسي مجموعة العمل من أجل السيادة الغذائية، إنَّ المجموعة تأسست سنة 2017 بعد حراك بلدةِ جمنة، جنوب تونس، حينَ بسط أهالي البلدة سيطرتهم على أراضيها رافضين وصايةَ الدولة عليهم. تقول ليلى إنّ مجموعة العمل اشتغلت على قضايا مرتبطة بالسيادة الغذائية، مثل الماء والبذور لمساعدة صغار الفلاحين والدفاع عن حقوقهم وحقّ تونس في سيادة غذائية. وتضيفُ: "افتقدنا البذور الأصلية. لكنها ظلت عند بعض الفلاحين مثلا في الجنوب في محافظة قابس"، وأكدت أيضاً أن الفلاحين يدركون أهمية البذور الأصيلة نظراً لغلاء الأسعار والأمراض، لكنهم كانوا يعتقدون أنه لا يمكن استعادتها. تقول ليلى: "قد تكونت شبكة لتبادل البذور بين الفلاحين. أصبح هناك متخصصين منهم مع أنّ وزارة الفلاحة تضيّق عليهم هذه الأنشطة".
ليس ببعيدٍ عن أرض زياد يجلس العم عمر الفلّاح الستينيّ وزوجته مُنْجِيَّة في فناء المنزل، وبرّاد الشاي فوق الكانون أمامهما. تصب لنا مُنْجِيَّة كأسين من الشاي الأحمر الذي يحبه الفلاحون، وينظر العم عمر في الأفق قائلاً: "كنا نزرع هكتاراتٍ شاسعةٍ ويأتي موسم الحصاد فنفرح لقدومه، ويمر كأنه حفل عرسٍ نجهز له العدة وندعو الأهل". ويواصل حديثه متذكراً الأيام الخوالي عندما كانوا يبدأون العمل منذ بزوغ خيوط الشمس الأولى، ويشارك أفراد العائلة كلهم في هذا العمل الجماعي، يقول لي: "كان الفرح يملأ قلوبنا برؤية السنابل الممتلئة وترفع الأهازيج والزغاريد". تنهد ثم أضاف: " أما اليوم فقد اختلف الواقع تماماً"، مع تراجع المحاصيل واستخدام المبيدات الكيميائية التي يجزم أنها سبب المشكلة. يقول: "كانت الأرض تعطي خيراتها وتغطي تكاليف الإنتاج"، وعلى حد تعبيره "تمشي الناس الكل فرحانة"، فيتصدقّون من الحصاد ويتركون نصيب "العولة"، وهو مخزون غذائي يكون عادة من الحبوب أو التمر ويحقق الاكتفاء الذاتي للعائلات. صمتَ قليلاً ثم استأنف قائلاً إنّ "هذا لم يعد ممكناً، نحن حقاً نحتاج حلولاً دائمةً لمشكلة الماء، خصوصاً أنَّ الآبار جفت. ونحتاج دعماً لشراء البذور باهظة الثمن ومحصولها قليل مقارنة بأنواع أصلية فقدناها مثل المحمودي. تونس التي كانت تسمى 'مطمورة روما' لما توفره من محصول حبوب للإمبراطورية الرومانية أصبح وضع فلاحَتِها وفلاّحيها مُحزناً". يقول العم عمر مشيراً إلى تراجع محاصيل الحبوب سنوياً واستيراد بذورها، ويخبرني أنّ الفلاح يعاني، وحدّثني عن أرضٍ مجاورة له هجرها مالكوها منذ سنتين والتحقوا بمن نزح إلى المدن. يقول لي متأسفاً إنّ العمل الفلاحي أصبحَ مضنٍ لمن يزاوله ويتطلب مجهوداً نفسياً وجسدياً، يضيفُ: "هناك من أجّرَ أرضه لمدة عشر سنواتٍ واتجه نحو الاستثمار في المدن".
يقيم العم محمد الرجل السبعيني في مدينة منزل تميم من محافظة نابل المطلّة على البحر، والتي يسمّيها التونسيون "الوطن القبلي" وهي من أنشطِ المحافظات التونسية في الفلاحة. التقاني العم محمد مبتسم الثغر بوجه تملؤه التجاعيد على تخوم أرضه الصفراء الجرداء. أشارَ بعصاه إلى أرضه قائلاً إنَّه أصبح يزرع القليل من "القُصّيبة"، أي التِبِن عند المغاربة، حتى يتمكَّن من إيجاد الغذاء للمواشي. قال لي: "لم نعد نتحدث عن الصابة [يقصد المحصول]. نحصد قوتنا لا غير. على الأقل نتخلص من مصاريف العلف لمدة من الزمن، ثم إن الماء هنا مالح ونحن لا نقدر على أثمان مياه الري الزراعي وتعقيداته الإدارية. تمدني أختي بما يفي حاجتي من أرضها المجاورة". تنهّد العم وأخبرني أنّه لا يستطيع الاستمرار بلا ماء، ولم يعد قادراً على زراعة الحبوب.
الباحث علي عبدالله، المختص في الاقتصاد في مركز الدراسات والبحوث الاقتصادية والاجتماعية، يقول للفراتس إن تكلفة استيراد الحبوب تؤثر في الميزانية العامة للدولة تأثيراً كبيراً "وفي الحالة التونسية يكون التأثير مباشراً باعتبار الدولة تستورد مباشرة عبر ديوان الحبوب، وبالتالي هي من يدفع التكلفة في الأخير حتى وإن اعتمدت الدواوين على الاقتراض البنكي كما هو الحال اليوم". ويضيف عبدالله أن التأثير غير المباشر للميزانية المرصودة لدعم الحبوب تدخل في هذا الباب، ويزداد تأثير تكلفة الاستيراد كلما ارتفعت أسعار الحبوب، وابتعدت عن الأسعار المرجعية في تحديد الدعم.
ويشرح الباحثُ أنَّ تأثيرَ الاستيراد على الميزان التجاري يتجسد في ارتفاع الأسعار أو انخفاضها، فكلّما انخفض الإنتاج داخلياً وارتفعت الأسعار العالمية، أثَّر ذلك سلباً في الميزان التجاري. أما الفلاحون المحليون، فكلُّ الاحتمالات واردةٌ، والأمر خاضع لسياسة الدولة في هذا المجال. ذلك أن البذور إذا كانت مستوردةً وخاضعةً للأسعار العالمية فإن التأثير الإيجابي مرهون بارتفاع أسعار الإنتاج داخلياً بما يفوق تغطية تكلفة الاستيراد. وهذا يتأثر بسياسة الدولة في تحديد سقف أسعار الإنتاج وتحمُّل جزءٍ من تكلفة الاستيراد، عدا ذلك فكلُّ التأثيرات على المستوى المحليّ سلبيةٌ. وأما الأمن الغذائي فإن الباحث يرى أن المفهوم متشعب، وتقلبات الأسعار تمثل جزءاً منه، وتهديده يكون في أي دولة ليس لديها سيادة غذائية وتعجز عن الاستيراد أيضاً.
تواتر الخطاب الرسمي والإعلامي في السنوات الأخيرة برسالةٍ واحدةٍ عن رفع الدعم أو البدء في إرساء الدعم الموجه، وهي من شروط صندوق النقد الدولي الذي طالب الدولة التونسية برفع الدعم عن المحروقات والمواد الأساسية للحصول على قرض قيمته 1,9 مليار دولار. ولم تتمكن تونس من تطبيق هذه الإجراءات خصوصاً على الخبز، فالقدرة الشرائية عند التونسي محدودة. وكان غيابُ الخبز عن عدد من المناطق والأفران وتوفره في أماكن أخرى بأسعارٍ مرتفعةٍ مشكلةً تذمَّر منها المجتمعُ التونسيّ واحتجَّ على مواقع التواصل الاجتماعي، وتشجار من أجلها المواطنون مع أصحاب الأفران ومع بعضهم بعدَ وقوفهم الطويل في صفوفٍ لشراء حصصهم اليومية. بينما اتجهت السلطة إلى خطاب المؤامرة ومحاربة الاحتكار والمضاربة، وأقال الرئيس قيس سعيد في 14 أغسطس من سنة 2023 المديرَ العام لديوان الحبوب بشير الكْثِيرِي. وقبضت السلطات على رئيس الغرفة الوطنية لأصحاب المخابز المدعمة محمد بوعْنان في 17 أغسطس 2023، بتهمة الاحتكار والمضاربة في السوق بمواد غذائية. وقد أورد المرصد التونسي للاقتصاد معلوماتٍ تدعم رواية "المؤامرة" والاحتكار في رسوم بيانيةٍ مفادها أن الدولة التونسية تحتكر توريد الحبوب من ديوان الحبوب الذي يقتني الحبوب بأسعارٍ عالميةٍ، ويضخها في السوق المحلية بأسعارٍ مرجعيةٍ محددةٍ إدارياً من الدولة. وعادة يكون الثمن أقلَّ من كلفته في الأسواق العالمية، وتسد الدولة الفارق بين سعر البيع والشراء من صندوق دعم المواد الأساسية.
وفي السياق ذاته يذكر الموقع الرسمي لديوان الحبوب أنه يحتكر نشاط توريد الحبوب، بما فيها القمح الصلب والقمح اللين. وتخضع عملية التوريد، لإجراءات شراء المواد المستوردة ذات الأثمان المتغيرة المضمنة بالأمر ذي الرقم 1039 لسنة 2014 المؤرخ في 13 مارس 2014 المتعلق بالصفقات العمومية. ويوفر الديوانُ المؤن بطلبات عروض من شركاتٍ ومؤسساتٍ دولية، وتختار اللجنة الداخلية لمراقبة الصفقات العرض الأنسب سعراً وجودةً وفق التراتيب والإجراءات التي تعملُ بها الدولة.
انخفضت قيمة الدينار التونسي منذ سنة 2016 إلى 2,34 للدولار الواحد بعد أن كان في سنة 2015 يساوي 2,2، واستقر بعد ذلك، حسب البنك المركزي التونسي، في شهر يوليو من سنة 2024 في حدود 3,1261 للدولار الواحد. وأدى هذا الانخفاض إلى ارتفاع كلفة شراء الحبوب بالعملة الأجنبية فعجزت الدولة عن صرف مستحقات الديوان تحت بند دعم منظومة الحبوب في الآجال المتفق عليها، وهو ما جعل الديوان غير قادر على تأمين الدفع للموردين. ومع أنّ البنك الأوروبي خصّص دعماً للدولة التونسية بقيمة خمسمئة مليون دينار للإسهامِ في تمويل مشروع "تعزيز صمود الأمن الغذائي"، الهادف إلى تمويل واردات القمح الليّن والقمح الصلب والشعير، أي بنسبة 15 بالمئة من الاستهلاك السنوي، إلا أن ديون ديوان الحبوب تراكمت لتصل إلى 27 بالمئة من إجمالي القروض الممنوحة لعملاء البنك الفلاحي التونسي. وفي السياق ذاته يشيرُ تقرير وزارة المالية إلى أنَّ ديوان الحبوب استهلك مدخراته كاملةً فأضحت سيولته تعاني عجزاً بلغ قرابة الملياري دينار. ويذكر المرصد الاقتصادي في أغسطس 2023 أنَّ تونس تستهلك سنوياً مليونين ونصف طن من الحبوب وتستورد الدولة أربعة أخماس الكمية من الخارج، أي ما يُقارب 80 بالمئة، مما يكرّس التبعية الغذائية. خلّف هذا الوضع المعقد والمتشعب مشاكل في التزود بالحبوب وفي خلاص المزوّدين، علاوة على صعوباتٍ في توفر المواد الأساسية في الأسواق ومشاكل في دعم إنتاج الخبز ومشتقات الحبوب وتزويد المُصنِّعين.