مضت حياةُ الزوجين هادئةً في بيتهما الذي حَوّلا مساحةً منه إلى متحفٍ ودارِ فنون. ضمّ المتحفُ أعمالَ الخزف التي أبدعها الزوجُ الفنّان نبيل درويش. وجمعَت الدارُ فنونَه ووثّقَتها من مختلف أنحاء مصر. وصمّمَت الزوجةُ رجاء راشد، فنّانةُ النحت المعدنيّ، المنصّاتِ والحواملَ الحديديةَ لمعروضاتِ المتحف. ثمّ فُجِعَت رجاء راشد أوّلاً بوفاة زوجها في سنة 2002، ثم عاجلَتها فاجعةٌ ثانيةٌ لا تقلّ قسوةً، بقرارٍ رسميٍّ من هيئة الطُرق والكَباري التابعة لوزارة النقل لمصادرة الأرض وإزالة المتحف الذي يحمل اسمَ زوجِها الفنّان الراحل، والذي صار قِبلةً لفنّانِي الخزف ومحبّي الفنون في مصر وخارجها.
القرارُ القاسي حَرَمَ رجاءَ من المتحفِ الذي قضت حياتها في بنائه ورعايته، وكان حُلمَها المشترَكَ مع زوجها. ومن أجل حمايةِ المتحف وَجَدَت رجاءُ نفسَها تخوض صراعاً مع الحكومة المصرية بقدراتها القانونية وتعقيداتها الإجرائية التي تَرُوم هدمَ المتحف بحجّة إنشاء المَحاور المرورية والجُسور. وهو التوجّه الذي نَهَجَته الحكومةُ منذ عَقْدٍ تقريباً وبات يهدّد مساكنَ المصريين ومصادرَ عيشِهم. استعانت رجاء راشد في نضالها بوزارة الثقافة لمواجهة وزارة النقل، لكنها خسرت القضيّة بعد عامين تقريباً لمصلحة وزارة النقل، وحُسِم القرارُ بإزالة المتحف من أجل توسعة محور المريوطية بالقرب من هضبة أهرام الجيزة. ولم يبقَ للأسرة سوى انتظارُ التعويض الذي لا يعدل شيئاً من قيمة المتحف المادّية والفنّية، ولا يعوّض عن محتوياته الإنسانية المتمثّلة في قصّة الحبّ والكفاح التي قادت بناءه.
استقبَلَت الفنانةُ رجاء راشد وابنتُها سارةُ مجلّةَ الفِراتْس في بيتهما الذي يَنتظر بتوجّسٍ إزالةَ امتدادِه المتمثّل في المتحف، فالأمّ وابنتُها وابنُها خالد يديرون المتحفَ بأنفسهم منذ وفاة الأب سنة 2002. زيارةُ الفِراتْس هي من الزيارات الصحفية القليلة التي وافقَت رجاء راشد على إتاحتِها لتحكيَ عن قصّة الحبّ والفنّ التي أثمرَت هذا المتحفَ. وما زالت تناضل هي وأسرتُها ومحبّو الفنّان الراحل للحفاظ على متحفه في مواجهة مشاريع توسعة المَحاور الذي ما برح يَلتهِم البيوتَ والساحاتِ الفنّيةَ في مصر منذ سنوات.
يقع البيتُ والمتحفُ في مكانٍ مثاليٍّ في محافظة الجيزة، وتحديداً في منطقة الحرَّانية على بُعد أمتارٍ قليلةٍ من مَنزل طريق سقّارة السياحيّ من الطريق الدائريّ الذي يدور حول محافظات القاهرة الكبرى الثلاث، القاهرة والجيزة والقليوبية. عَمَرَتْ هذه المنطقةَ في بدايات الستينيات منازلُ ووُرَشٌ ومَسابكُ تعود لعددٍ من روّادِ الحركة التشكيلية المصرية، أمثالِ نبيل درويش، ومحمد رزق الملقَّب بعاشق النحاس، ونحّات الحديد صلاح عبد الكريم، والنحّات آدم حنين المتخصّص في نحت الأحجار الصلبة كالبازلت والجرانيت، والفنّان رمسيس ويصا واصف الذي أنشأ في المنطقة مركزاً متكاملاً للحِرَف اليدوية وخاصّةً صناعة السجّاد ومفارش "الكِلِيم" اليدوية. والكِلِيمُ نوعٌ من السجّاد الشعبيّ المصريّ المغزول على النَوْل يدوياً من خليطٍ من الصوف والقطن والكتان. وحافَظَ واصفٌ بمركزِه على تراث تلك الحرفة الشعبية بمدرسته التي أنشأها لتعليم أبناء القرى المحيطة.
في حين اتّجه هؤلاء الفنّانون والنحّاتون المصريّون إلى المنطقة لإقامة وُرشِهم ومَسابكِهم الفنّية، كانت الحرّانيةُ لا تزال منطقةً هادئةً تقع على مقربةٍ من معامل السينما الكبرى التي اتّخذَت من منطقة سقّارة والهرم ملاذاً بعيداً عن ضجيج القاهرة. كانت تحيطُها الأراضي الزراعيةُ المنتشرةُ على ضفاف ترعة المريوطية المُجدِّدة لمجرىً قديمٍ لنهر النيل. لكن سرعان ما انتشر العمرانُ المنظَّمُ والعشوائيُّ ليصل تلك المنطقةَ الهادئةَ. فجُرِّفَت الأراضي الزراعيةُ وبُنيَت أبراجٌ سكنيةٌ ومشروعاتٌ استثماريةٌ ترافقَت مع تحوّل منطقة الهرم إلى منطقةٍ لصناعة الترفيه في ثمانينيات القرن الماضي. لكنّ وُرشَ هؤلاء الفنانين ومتاحفَهم أَنعشَت الروحَ الفنّية المميّزة لمنطقة سقّارة حيث يقع تمثالُ أبي الهول، أشهرُ المنحوتات وأكبرُها على أرض مصر.
قبل أن تَلِجَ البيتَ بقليلٍ تَستقبلُك لافتةٌ زرقاءُ مكتوبٌ عليها "متحف نبيل درويش للخزف". بعد الدخول من البوّابة الحديدية ستجد مبنيَيْن، أوّلُهما منزلُ نبيل وزوجتِه، وهو مكوّنٌ من طابقَيْن. على واجهةِ أوّلِهما كُتبَت عبارة "هنا عاش الفنّان نبيل درويش" على لافتةٍ ثبّتَتها هيئةُ التنسيق الحضاريّ، وهي تابعةٌ لوزارة الثقافة المصرية، ومن مهامّها الحفاظُ على المباني ذاتِ الطابع التراثيّ أو القيمة التاريخية والفنّية المهمّة. أمّا المبنى الآخَرُ فعلى مدخلِه بابٌ خشبيٌّ اشتراهُ الزوجان من بيتٍ قديمٍ وعليه نقوشٌ إسلاميةٌّ بديعةٌ امتازت بها أبوابُ البيوت التراثية في القاهرة الفاطمية. كانت تلك بوّابة المتحف العامر بالمنحوتات الخزفية واللوحات الفنّية وتماثيل العرائس المستوحاة من التراث الشعبيّ. ضمّ المتحفُ مئاتِ القطعِ الخزفيّةِ المشكّلةِ من الطين الأسود التي اشتهر بتشكيلها نبيل درويش، إلى جانب منصّاتٍ وحواملِ عرضٍ من الحديد المزخرَف التي تعدّ أعمالاً فنّيةً صنعَتها رجاء راشد. وبين البيت والمتحف تتوزّع ذكرياتُ ستّين عاماً عاشتها الفنّانةُ رجاء راشد مع زوجها وإبداعاتهما.
ظَلّ نبيل ورجاء يبنيان البيتَ والمتحفَ قطعةً بعد أُخرى أكثرَ من عشرين عاماً، حتى افتتحاه في الثمانينيات. واصلا جمعَ القطع الفنّية وتنسيقها بعد افتتاحه، سواءً تلك التي أبدعاها أو التي جمعاها من أقاليم مصر المختلفة. يضمّ المتحفُ 3500 قطعةٍ فنّيةٍ فريدةٍ من الخزف واللوحات والمنحوتات المتنوعة من مختلف أنواع الطين المصريّ. حَرصَ الراحلُ نبيل درويش على توثيق الطين المصريّ فنياً ودراسة الخصائص المتباينة لأنواعه المختلفة في دراسته المتخصّصة في فنون الخزف والطين، والتي نال بها درجةَ الدكتوراه. نال درويش العديدَ من الجوائز المحلّية والعالمية عن قطعه المنحوتة المتولّدة عن هذا الطين. ومِن ذلك جائزةٌ تقديريةٌ خاصّةٌ من بينالي فينيسيا سنة 1971، وهو من أهمّ معارض الفنون الدولية وأعرقها. بالإضافة إلى الجائزة الأولى من بينالي البحر المتوسط للخزف، المقام في تونس سنة 1986.
بدأت هيئةُ الطُرق والكَباري التابعةُ لوزارة النقل سنة 2022 إصدارَ قراراتٍ متتابعةٍ لهدمِ المتحف وعددٍ من المنشآت المجاورة لتوسعة طريق المريوطية الدائريّ. بدا لرجاء وأولادها أن التمسّك بالمتحف ومحاولةَ الدفاع عنه دفاعٌ عن حياتِهم وسيرةِ زوجِها الراحل وذكراه. فلجأت الأسرةُ إلى الخزّافين والفنّانين ومحبِّي إبداع الفنّان الراحل من طلّاب الفنون الذين تعلّموا على يديه، إلى جانب بعض الجهات الحكومية والأهلية كالنقابات والمؤسّسات المَعنيّة بالثقافة والفنون، وقليلٍ من أعضاء مجلس النوّاب المقدِّرين قيمةَ الفنّان الراحل، في محاولةٍ للوقوف في وجه حفّارات الهدم ومَعاولِه.
لكنّ خطّتَهما لم تكن واضحةً في البداية. تقول رجاء: "كنّا عايزين نعمل حاجة لكن هنعمل إيه وفين؟ كانت أسئلة كتير خصوصاً إنّنا كنّا فنّانين شباب في بداية حياتنا. وتحقيق الأحلام صعب ومحتاج كفاح وإمكانيات مادّية ومواجهة لصعوبات ومشقّة". في البداية استقرّا على إنشاء مركزٍ للفنون الحِرفية ومن بينها الخزف، في حين أخذ كثيرٌ من أبناء دفعتِهما والدفعات اللاحقة في التوجّه إلى قرى الحرانية التي كانت تتناسب مع إمكانياتهم الماليّة المحدودة لبناء مساكن ووُرشٍ فنّيةٍ وسط الأراضي الزراعية. واجَه نبيل ورجاء مشقّةً وضغوطاً مادّيةً كبيرةً حتى تمكنّا من إنشاء المركز الملحق ببيتهما، الذي أصبح لاحقاً متحف نبيل درويش للخزف. تقول رجاء "ضغطنا نفسنا مادياً وكنّا بنكتفي بالأساسيات الضرورية جدّاً عشان نقدر نبني البيت والمتحف اللي مكملوش إلا بعد أكتر من عشرين سنة". لم تقتصر التكلفة على تكاليف البناء وحسب، وإنما أضيفَ إليها تكلفة سفر نبيل درويش إلى محافظات مصر المختلفة لجمع عيّنات الطين التي كان يُجري عليها تجاربَه في إنتاج الأعمال الخزفية لعمل أرشيفٍ للطين المصريّ وخصائصه وأثرِ تلك الخصائص على صناعة الخزف المصرية وتنوّعها.
رحلاتُ نبيل درويش وما جَمَعَه فيها دَفَعَته للتمسّك بحُلمِه. تحكي زوجتُه: "نبيل جمع كلّ الطينات المصرية، كان عنده عيّنات من طينات موجودة بمحافظات المنيا وسوهاج وحلوان والتبين وبني سويف ومدن الدلتا. كان يذهب إلى كلّ محافظة ويأخذ عيّنات من الطينة ويحلّلها ويختبر إمكانية تشكيلها ودرجة الملوحة بها، واكتشف إمكانيات كبيرة في تشكيل الطينات المصرية". تصمت قليلاً ثمّ تتابع بابتسامةٍ فيها حزنٌ "الحقيقة كان ممتاز. محدّش قدر يعمل اللي عمله نبيل. كان بيروح ياخد خيمة وينام جنب بحيرة قارون عشان يفكر ويكتب ويفكر ازاي الفراعنة قدروا يوصلوا لمراحل رائعة من النحت و[صناعة] الخزف".
من أجل تحقيق حلمهما وما يستلزمه من موارد ماليّة، اضطرّ الحبيبان إلى الابتعاد عن بعضهما فترةً في نهاية الستينيات حين ذهبت رجاء إلى الكويت لتعمل مدرّسةً للتربية الفنّية. تقول رجاء إنّ نبيل "كان ضدّ سفري جدّاً، لكن أقنعتُه إننا لو هنعمل البيت والمتحف فلازم نجمع فلوس". تخرّجا في كلّية الفنون التطبيقية، وعقب زواجهما حصل نبيل الذي كان يعمل حينها معيداً في الكلّية التي تخرّج هو وزوجته منها على إجازةٍ من عمله وانضمّ إليها ليعمل هو أيضاً مدرّساً للتربية الفنّية في الكويت. لم ينقطع نبيل عن الإبداع فشارك بأعماله الفنّية في عديدٍ من المعارض في الكويت ليصبح واحداً من الفنّانين المعروفين في الكويت ومنها إلى العراق التي كانت تمرّ بمشهدٍ فنّيٍ حيويٍّ في ذلك الوقت تدعمه خلفيةٌ تاريخيةٌ ثريّة.
أثناء السفر، وَضَعَ نبيل ورجاء خطّةً مفصّلةً لدراسة المتاحف المصرية ومعارض الخزف والفنون التشكيلية. كانا يلتقطان بلهفةٍ صوراً للقطع المميّزة المعروضة في مختلف المعارض في مصر وخارجها. وبدأ نبيل ورجاء بناءَ أرشيفِهما عن تطوّر فنون الخزف المصريّ المعاصرة. تقول رجاء: "كان بيصوّر كلّ الأعمال الفنّية، ويكتب كلّ حاجه قدّامه ويعمل زيّ ملاحظات على كلّ مكان يروحه. هو كان شاطر قوي. الأعمال اللي عملها مشفتش حدّ عملها".
لم ينحصر اهتمامُ نبيل بالخزف في مصر فقط، بل امتدّ لخارجها. فهو "عاشق للفنّ والطينة"، هكذا تصفُه زوجتُه، مضيفةً أنه في كلّ بلدٍ زاراه في مصر أو خارجها كان يفكّر في الخزف. فذهب إلى مَعارضِه في تركيا وإيران والأردن وسوريا والعراق وغيرها من الدول التي زاراها في السبعينيات برّياً مستقلَّيْن حافلةَ "تي بي تي" حسبما تذكر رجاء. في تلك الرحلات كان نبيل يحتفظ بعيّنةٍ من تربة كلّ منطقةٍ يزورانها "كان يوقف سائق الأتوبيس، وكان معاه كيس يحطّ فيه الطينة. حتى إنه كان يذوقها بلسانه عشان يعرف درجة ملوحتها وتماسكها، والناس كانت تبصّ ليه باستغراب شديد".
عندما عادا من الكويت إلى مصر، استقرّا في شقّةٍ صغيرةٍ وبدأت رحلة البحث عن أرض بناء الحلم. وبعد عشر سنواتٍ ونيّفٍ من الغُربة وَضَعَ نبيل ورجاء "تحويشة العُمر" في قطعة أرضٍ اشترَياها في جوار ترعة المريوطية وبَدَآ في بناء البيت ومتحف نبيل درويش للخزف. لكن الأمور لم تَمْضِ سلسةً، فقد تعثّر الزوجان مادّياً بعد بناء الطابق الأوّل من بيتهما. تتذكّر رجاء بابتسامةٍ ونظرةٍ شاردةٍ كيف تغلّبت هي ونبيل على المصاعب. تقول إنّ نبيل تَميّزَ بقدرته على عمل قطعٍ فنّيةٍ يَعلم يقيناً أنها ستُباعُ، "كان بيشتغل ليل نهار عشان يعمل شغل يتباع، وشغل تاني فيه تجريب يخزنه للمتحف، وفي نفس الوقت بيحوّش فلوس عشان نكمّل البناء". وبعد سبع سنواتٍ اكتمَلَ البناء.
تضع الفنانةُ القديرةُ أمامها صوراً عديدةً بالأبيض والأسود لتاريخ بناء المتحف ومقتنياته. التُقِطَت هذه الصور بكاميرا كانت جديدةً وقتَها، تَطبع الصورَ على "نيغاتيف" خامٍ. تقول رجاء "أغلب الصور التقطها نبيل بنفسه، فيها صور قطع خزفية عملها بنفسه، وقطع أخرى شافها وعجبته وأراد اقتناءها". تضمّ المجموعة أيضاً صوراً لموضع المتحف قبل بنائه أو أثناء البناء، وصوراً للافتتاح ومَن زارَ المتحفَ من فنّانين وحِرَفِيين وجمهورٍ محبٍّ للفنون، ومن بينهم صورةٌ تعتزّ بها رجاء بشدّةٍ، التقطها الراحلُ نفسُه لزيارة العالِم المصريّ الأمريكيّ الراحل أحمد زويل للمتحف.
تستعيد رجاء جولاتِهما ومحادثاتِهما الطويلةَ عن أدقّ تفاصيل المتحف. تستذكر نقاشَهما عن اختيار لون الأرضيّات وحجمها بحيث يخدم العرضَ المُتْحَفيَّ دون أن يَصرِفَ الأنظارَ عن المنحوتات واللوحات. ثمّ استقرارهما على أرضيّاتٍ صفراء كبيرة الحجم تحمل كلٌّ منها منحوتةً واحدةً مهما كَبرَ حجمها. تستذكر كذلك اضطرارَها لاحقاً لتبديل تلك الأرضيّات المختارة بعنايةٍ بسبب مشاكل الصرف الصحّي التي تراكمت مع تغيّر المنطقة وازدحامها بالمساكن الجديدة التي ضغطت على المرافق الأساسية ومنها إمدادات المياه والصرف الصحّي.
كان دخلُهما مقسَّماً بين تعليم الأبناء ورعايتهم واستكمال بناء المتحف وأبحاث نبيل المستمرّة. فَقاعةُ الجلوس في بيتِهما لم تكن تحوي سوى كرسيَّيْن من الخشب المصريّ المزخرَف أو "الأرابيسك". وقد ظَلّا يَستكملان تأثيثَ بيتهما سنواتٍ طويلةً بعد زواجهما وإنجاب الأولاد إلى أن وصل البيت إلى حالته الحالية. في ذهن الفنانة رجاء راشد، لا فرق بين البيت والمتحف الذي ينتظر الهدم، فهُما متلازمان. تقول للفِراتْس "المتحف ده طلع عمود ورا عمود ورا عمود ومطلبناش فلوس من حدّ ولا من الدولة. لكن أصدقاءنا الفنانين وتلاميذنا في كلية الفنون التطبيقية بعد ما تخرّجوا حبّوا يساهموا في بناء الحلم، وساعدوا في عمل الديكورات والفتارين وتنفيذ الإضاءة ومنصّات العرض المُتْحَفي". في مرحلة البناء الأولى قبل الانتقال إلى البيت، كان يومُ زيارةِ رجاء وأولادِها أرضَ المتحف كيومِ عيدِ شمِّ النسيم، العيدِ المصريِّ القديمِ الذي يَخرج المصريّون فيه للتنزّه، وترتبط طقوسه بنهر النيل وبِطَمْيِ الأرض الزراعية. فكانت رجاء وأولادها يُعِدّون المأكولات ومستلزمات الزيارة ويراقبون البناء من الأرض الزراعية المحيطة بالبيت والمتحف.
تذكُر رجاء راشد جيّداً تفاصيل ذلك اليوم العصيب. جاء نبيل إلى البيت بعد أن أنهى عملَه في ورشته. "فجأة نبيل حسّ بتعب وطلب دواء أحضرته له من صيدلية في شارع الهرم، ولم يكن في هذا الوقت وسائل مواصلات مباشرة بين طريق سقارة وشارع الهرم. أحضرت له الدواء وأخذه ونام ولم يُفِق من نومه بعدها ورحل عنّا". ترفض ذاكرةُ رجاء الاعترافَ بأن نبيل مات بعيداً عن البيت. تقول ابنتُها سارة إن التفاصيل سارت كما حكت والدتها ما عدا أنهم نقلوه إلى المستشفى وهناك رحل عنهم وعن الدنيا. لم ينطق نبيل درويش لها أو لأيٍّ من أولاده قبل وفاته مباشرةً بوصيّته، لكنهم يعونها جيّداً لأنه لم يَفْتُر عن ترديدها في حياته: المتحف يجب أن يظلّ مفتوحاً "حتى وهو بيموت بيدّي (يعطي) هديّته لمصر وأنا معاه، هحارب عشان المتحف ده يكمل وأحافظ على المكان ده".
لم تغلق الأسرةُ المتحفَ يوماً واحداً. أصبحت رجاء هي من يهتمّ بالمتحف وزوّاره، وكافحت للحفاظ عليه مفتوحاً دون رسمِ دخولٍ للطلّاب ومحبّي الفنّ لاستكمال ما بدأه زوجها معها. عالَجَت تسريباتِ الصرف الصحّي الذي أثّر على أرضيّة المكان وغيّرتها. وظلّت تصلح كلّ ما يُنذِر بإضرار المتحف، عشرين عاماً دون كللٍ، وظنّت أن الأمور ستستمرّ على الوتيرة نفسها إلى أن جاءها النذير الأول بالهدم بعد عشرين عاماً من وفاة شريك العُمر والحُلم.
تواصلَتْ رجاء مِن فورها مع تلاميذ زوجها الراحل وأصدقائه في وزارة الثقافة لاستجلاء الأمور، فتلقّت حينها وعوداً من وزارة الثقافة بالتدخل. وزاد من طمأنينتها أن متحدّث محافظة الجيزة اللواء علاء بدران نفى في تصريحاتٍ صحفيةٍ صدورَ أيّ قرارٍ رسميٍّ بإزالة المتحف أو أيٍّ من المباني المجاورة له على طريق سقّارة السياحيّ، لأنّ الشارع وُسّعَ قبل سنة 2022 ولا يوجد به أيّ كثافاتٍ مروريةٍ تستدعي مزيداً من التوسعة. لكن هذه التصريحات ليست جديدةً ولن تثْنِيَ الدولةَ عن إزالة مبانٍ ومؤسّساتٍ ثقافيةٍ أخرى، منها ساحة درب 1718 التي هيّأَت مساحةً جديدةً لفنون الصورة والأداء خارج منطقة وسط القاهرة، مع تكرار مسؤولين رسميين عبارة "لا نيّة للهدم".
بدأ أصدقاءُ الفنّانِ الراحلِ نبيل درويش وتلاميذُه ومحبّوه حملةً على وسائل التواصل الاجتماعي تحت وسم "أنقِذوا متحفَ نبيل درويش". وأقامت جهاتٌ ثقافيةٌ مصريةٌ بالتعاون مع بعض روّاد الفنّ التشكيليّ عدداً من الندوات عن أهمّية الفنّان الراحل ومنجَزِه العلميّ والإبداعيّ الذي يوثّقه متحفُه مؤكّدين رفضَ الحركة الفنية والثقافية المصرية هدمَ المتحف. وبدأ المتحف يلفت انتباه الصحفيين الذين استقبلتهم رجاء ومن بينهم كاتبةُ هذه السطور. فعند زيارتي الأولى، وبينما تُعرّفني على تاريخ كلّ قطعةٍ في المتحف، سألتني الفنانة رجاء راشد في حيرةٍ "إزاي هيهدموا المتحف؟ وأنا أروح فين؟" تواصلتُ حينَها في سنة 2022 مع وزارة النقل ومحافظة الجيزة وتأكّدتُ أن قرار الهدم لم يصدر رسمياً، فمنحتُ نفسي الحقّ في طمأنتها.
لكن ذلك الاطمئنان لم يَدُمْ طويلاً، فقد فوجئَت عائلةُ الفنّان نبيل درويش في الأسبوع الأول من شهر أكتوبر سنة 2023، ومعهم سكّان عمارة نجمة المريوطية المجاورة لها، بعلامةٍ حمراء تحمل أرقاماً رمزيةً وُضِعَت بعد أن زار المتحفَ أفرادٌ من الهيئة العامّة للمِساحة، التابعة لوزارة الريّ. وفور ظهور تلك العلامات سارعَتْ الأُسرة إلى التواصل مع وزارة الثقافة لمعرفة مصير المتحف. استقبَلَتْ وزيرةُ الثقافة السابقةُ نيفين كيلاني الفنانةَ رجاء راشد وأُسرتَها، ووعدت بعرض المشكلة في اجتماع مجلس الوزراء و"السعي بكلّ الطرق للحفاظ على تراث المتحف"، حسب البيان الرسميّ الصادر عن الوزارة حينها وما أكّدته سارة درويش ابنةُ الفنان الراحل.
خاضت سارة درويش رحلةً طويلةً على مدار عامَيْن في أروقة المباني الحكومية والإدارات المختلفة ومجلس النوّاب ومجلس الوزراء ووزارة الثقافة لإقناع المسؤولين بالحفاظ على المتحف. ولم تخلُ الرحلة من قلقٍ أحياناً ويأسٍ أحايِينَ أُخَر. ولا تزال تسعى مع عِلمِها بإصرار وزارة النقل على الإزالة رغم تدخّل مسؤولين حاليّين وسابقين لمحاولةِ إِثناء وزارة النقل عن قرارها.
تدخّلَت جهاتٌ دوليةٌ كذلك في محاولة إنقاذ المتحف لقيمتِه الفنّية الفريدة. منها الأكاديمية الدولية للخزف، التابعة لليونسكو، التي راسلَتْ وزيرَ النقل تطالبُه بإعادة النظر في قرار هدم المتحف. أسامة إمام، ممثّلُ إفريقيا بالأكاديمية، قال للفِراتْس إنه قدّم العديدَ من الشكاوى الرسمية عبر موقع شكاوى مجلس الوزراء مرفِقاً بها الأوراقَ الخاصّةَ بالمتحف وملكيّته. وألحقَ بها مطالَبةَ الأكاديمية الدولية للخزف بسويسرا التي أرسلَتْها لوزير النقل. لكن الأكاديمية لم تتلقّ ردّاً من الوزير، بينما لا يزال وضع الشكاوى معلَّقاً على موقع رئاسة مجلس الوزراء.
لم تتوقّف محاولاتُ الضغط على وزارة النقل عند هذا الحدّ. بل تقدّم عددٌ من أعضاء مجلس النوّاب المصريّ بطلبات إحاطةٍ لِلَجْنةِ الفنون والثقافة بالمجلس لمناقشة وضع المتحف. وأكّدت للفِراتْس الدكتورةُ درّية شرف الدين، رئيسةُ لجنة الثقافة والإعلام والسياحة والآثار بمجلس النوّاب، أن اللجنة ناقشَت بدائلَ الهدم وقُدِّمت حلولٌ أخرى لوزارة النقل، إلّا أن الوزارة مصرّةٌ على قرار الهدم وترفض الحلولَ البديلةَ كافّة. وتقول سارة درويش إن وزارة النقل عرضت سابقاً هدم المتحف لتوسعة الطريق الدائريّ وترك البيت مع السماح للأسرة ببناء طابقٍ فوقه لعرض مقتنيات الفنّان الراحل. رفضت الأسرة هذا العرضَ لأنه سيقضي على العرض المتحفيِّ المصمَّم بعنايةٍ، وسيحوّل الطابق المقترح إلى محضِ مخزنٍ للقطع الفنّية ويقضي على جهدِ عُمْرِ الفنان الراحل وزوجته.
وشكّلت وزارة الثقافة لجنةً من المعماريين والمهندسين لإيجاد حلولٍ بديلةٍ عن هدم متحف نبيل درويش. أحد أعضاء هذه اللجنة هو المعماري حمدي السطوحي، استشاريّ تصميم المتاحف وعضو لجنة الفنون التشكيلية والعمارة بالمجلس الأعلى للثقافة المصري، ورئيس صندوق التنمية الثقافية. أوضح السطوحي للفِراتْس أن رأيه الذي قدّمه في التقرير يرتكز على ثلاث نقاطٍ أساسيةٍ، أحدها أن المتاحف الخاصّة مثل متحف نبيل درويش "لها ميزةٌ نسبيةٌ وهي أن المتحف هو جزءٌ رئيسيٌ من بناء الفنان الثقافي، وبالتالي لا يجوز التعامل معها باعتبارها حاوية مقتنياتٍ فقط، ومهما كانت متطلّبات الهدم فالعلوم الهندسية وُجدت لحلّ المشاكل، بشرط أن تتوفر المعلومات الكاملة لهدم المتحف بوضوح". وفي حالة قرار هدم متحف نبيل درويش، فإن المعلومات غيرُ واضحةٍ لدى اللجنة، ومع ذلك كان رأيها الفنّي هو عدم الهدم. يقول السطوحي "قدّمنا هذا الرأيَ في تقريرٍ رسميٍّ مصحوباً ببدائل تمّت مناقشتها في مجلس النوّاب وقطاع الفنون التشكيلية". بَيْدَ أنّ وزارة النقل مصرّةٌ على الهدم.
ومع أن قانون نزع الملكية للمنفعة العامّة المصريّ ينصّ على تحديد تعويضٍ مناسبٍ للملّاك وغيرهم ممّن يطبّق عليهم القانون، إلّا أن هذا لم يحدث مع أسرة الفنّان الراحل. ففي كلّ المناقشات مع الأسرة لم يُحدَّد أيّ تعويضٍ مناسبٍ لسعر الأرض أو المباني إلى الآن. وعندما سَألَتْ الفِراتْسُ اللواءَ حسام الدين مصطفى رئيس هيئة الطُرق والكَباري عن المبلغ المخصّص لتعويض الأسرة بعد الهدم كان الردّ "التعويضات مسؤولية هيئة المساحة وليس هيئة الطُرق والكَباري، ولكن نضمن لهم تعويضاً عادلاً وبديلاً مناسباً". تواصلَتْ الأسرةُ مع هيئة المساحة المصرية المسؤولة عن تحديد التعويض المناسب، ولكن الهيئة ردّت بأن قيمة التعويض لم تحدّد بعد. وقد علمت الأسرة من وسطاء أن هيئة الطرق والكباري تفكّر في توفير أرضٍ بديلةٍ خارج القاهرة الكبرى. ولكن لم يصدر أيّ قرارٍ بذلك.
أكّدت سارة درويش أن هيئة الطُرق والكَباري لم تقدّم أيّ حلولٍ للحفاظ على مقتنيات الفنّان الراحل. والورثة ليس لديهم أيّ حلولٍ للحفاظ على المقتنيات ولا مكانٍ لنقلها، ولا يمكن تسليمها لوزارة الثقافة لتُلقَى في أحد المخازن دون أن يعلموا مصيرَها وما قد تَؤُول إليه. وقد عرضت وزارة الثقافة أن تخزنها لديها دون مقابلٍ ودون أن تتعهّد بالعرض المتْحَفِيّ المناسب للحفاظ على وصيّة الفنّان الراحل. وأكّدت سارة أن بناء متحفٍ بتقنيات عرضٍ كالتي كَدَحَ والدُها من أجل تنفيذها وتوفيرها يحتاج إلى تكلفةٍ كبيرة. "والدي ووالدتي استنفذا كلّ رصيدهما لبناء هذا المكان. ورغم كل التحركات إلّا أن الأُسرة تلقّت [في نهاية أكتوبر 2024] اتصالاً يطالبها بسرعة الإخلاء استعداداً، للهدم بدون أن يخبرونا بالوقت ولا حتى يمنحونا تعويضاً ليمكننا أن ننشئ متحفاً بديلاً". وقد تواصلتُ مع وزارة النقل والمواصلات للحصول على ردٍّ رسميٍّ على البدائل التي قُدّمَتْ للوزارة لعدم إزالة المتحف وتفاصيل التعويض الذي تنوي الوزارة تقديمه للأسرة، لكنني لم أتلقّ أيّ ردٍّ رسميٍّ مصرَّحٍ بنشرِه.
قبل نحو ثلاثة أشهرٍ فوجِئَت الفنّانةُ رجاء راشد بأصوات هدمٍ وتكسيرٍ قادمة من حديقة المنزل. وحين خرجَت وجدَت عمّالاً يهدمون مخزناً تابعاً للمتحف. تقول إنها لحُسن الحظّ نقلَت الأعمالَ الفنّية التي كانت مخزَّنةً فيه قبل عدّة أيّامٍ لتجهيزها للعرض. جرى الهدم مفاجئاً ودون إخطار الأسرة ولا تعويضها، وهو ما تخشى الأسرةُ تكرارَه.
في أغسطس الماضي، علمَتْ ابنةُ الفنّان الراحل في مكالمةٍ هاتفيةٍ مع وزير الثقافة الحاليّ أحمد هِنّو أن الوزارة تسعى لبناء متحفٍ بَديلٍ في منطقة تلال الفسطاط. لكن وليد قانوش، رئيس قطاع الفنون التشكيلية التابع للوزارة نفسها، قال للفِراتْس إنهم يسعون لتوفير اعتماداتٍ ماليّةٍ وتخصيص أرضٍ بديلةٍ للمتحف لم يتحدّد موضعُها بعدُ، تمهيداً لبناء المتحف تحت إشراف وزارة الثقافة. ولكن مع نهاية أكتوبر تبيّن أن هذه التعهدات لا سبيل لتنفيذها، ويوشك قرار الهدم أن ينفذ دون أن تعلم الأسرةُ مستقبلَ المتحف بعيداً عن مبناه، ولا التعويضَ الذي استقرّت عليه الجهات المسؤولة في الدولة دون نقاشٍ معهم.
تقول سارة درويش إنها باتت "مجرّد متلقٍّ للأخبار"، وإنّها وأفراد أُسرتِها لا يتلقّون دعوةً للمشاركة في أيّ حوارٍ عن قضيّتهم ."حلم أبويا وتاريخه كلّه بيتهدّ عشان كوبري ومحدّش عايز يدوّر على أيّ حلّ. وحتى عايزين يهدّوا بدون تعويض، وبدون ما نعرف أيّ تفاصيل، ولا حتى أطّمّن على أمّي اللي هتكمّل باقي حياتها مع البيت بدون المتحف اللي حطّت فيه كلّ أحلامها هي وبابا إزاي بيعملوا فينا كده".
قضى نبيل درويش وزوجتُه أكثرَ من خمسين عاماً من عمرِهما يحلمان بهذا المتحف ويعملان ويدّخران لبنائه. أنفَقا من أموالهما الشخصية على سَفَر نبيل إلى كلّ المناطق المتاخمة للنيل في مصر لجمع عيّنات الطين ودراستها وعمل قطعِه الفنّية منها بعد كثيرٍ من التجارب لضمان قوّتها في الحرق وكيفية تشكيلها. وظنّ أنه يهدي بلدَه هديةً ستحظى بالتقدير. لكن، تقول زوجتُه، "النهاية هيهدموه".