منذ أسابيع الحرب الأُولى، جرى تدميرُ غزّة وقتلُ أكبر عددٍ ممكنٍ من سكّانها وتهجيرهم وإجبارهم على النزوح منها. مرّ عامٌ على قصف الدبابات والطائرات والمدافع والبوارج البحرية. مرّ عامٌ على محاصرة معظم سكّان قطاع غزة، أي حوالَي مليونَيْ نسمةٍ، في المناطق الجنوبية منه، ثمَّ قتل وإصابةِ ما يقرب من 15 بالمئة من سكّانه. مرّ عامٌ على كلّ ذلك، فتخدّرَت المشاعرُ، وإن لم يمَّحِ الإحساسُ بالخوف والقلق، وأصبح المللُ من رتابة الحرب وطول الانتظار شعوراً يلازم كثيراً من الناس. تروي السيدةُ أمل من مدينة غزّة، وقد أصيبَت وفقدت عدداً من أفراد عائلتها: "بصراحةٍ، أصبحت الحياةُ مملّةً ومكرّرةً بشكلٍ لا يصدّق. كلّ يومٍ هو نفسُه. نسمع الأصواتَ نفسَها. نرى المناظرَ نفسها. حتى الصمتُ له الشعور نفسه. لا يوجد أيّ تغيير. فقط انتظارٌ لا نَعرف نهايتَه". سئم الناسُ الخرابَ والدمارَ والعيشَ مترقّبين القصفَ أو القتلَ أو انتظار وقفِ إطلاقِ نارٍ عجزَ العالَمُ عن تحقيقه.
وفي جهودنا لتوثيق تدمير غزّة، وظّفنا مفهوماً مطوَّراً عما يعرف بالإبادة الحضرية، وهي التدمير الشامل للمدن والبنية التحتية المدنية وقتل السكان المدنيين في الحروب. وفي سياقِ تخصيص المفهوم، مرَّت حملةُ الإبادة الحضرية الإسرائيلية في غزة بثلاثة أنماط. أَوّلها تَحوُّل المجازر اليومية من أداةٍ للتهجير القسريّ إلى تخطيطٍ ممنهَجٍ لخلق حالةٍ من الاضطراب المدنيّ والقضاء على قدرة غزة على حكم نفسِها. ثمّ النمط الثاني وهو تدمير المناطق الحضرية المزدحمة لاستنزاف البنية التحتية. وأخيراً في النمط الثالث تحولّت الإبادةُ من نهجٍ ممنهجٍ في الشهور الأولى إلى عملياتٍ أكثر عبثيةً وغير واضحة الهدف. وأدّت أوامرُ الإخلاء والهجمات المتكرّرة إلى نزوح مئاتِ الآلاف من سكّان غزة، إذْ هُجّروا مراراً من غير توفير مناطق آمنة. وفي هذه الحرب استُغلّت المناطق العازلة والممرّات العسكرية لتفريق السكان وتدمير الزراعة والبنية التحتية تدميراً ممنهجاً، بدءاً بتدمير شبكات المياه والكهرباء، وصولاً إلى تدمير المستشفيات والمدارس. وحَرَمَ هذا سكّانَ غزة من أيّ قدرةٍ على الاستقرار أو البقاء، وفُرضَت عليهم الفوضى التي مَنَعَت عودةَ الحياة الطبيعية.
بعد عامٍ من السابع من أكتوبر، تشيرُ وزارةُ الصحّة في غزّة إلى أنَّ عدد الضحايا بلغ حوالي 41,900 في الحرب الجارية، بينهم ما يقارب 11,500 امرأة و 16,900 طفل. وأصيب أكثرُ من 96,359 شخصاً، وفُقِدَ أكثرُ من عشرة آلاف شخص. وصرَّحت منظمةُ الصحّة العالمية أنَّ الإصابات البليغة في الأطراف تمثّل الدافعَ الرئيس للحاجة إلى إعادة التأهيل في غزّة، إذ يُقدَّرُ عددُ المصابين الذين يعانون من هذه الإصابات ما بين 13,455 و 17,550. وذكرت المنظّمةُ أيضاً أنَّ ما بين 3,105 و 4,050 عملية بترٍ قد أُجريَت حتى الآن. ويُقدَّر أنَّ 22,500 من المصابين في غزة يعانون من إصاباتٍ غيّرت حياتَهم جذرياً، مع تزايد الإصابات في الحبل الشوكيّ، والدماغ، والحروق الكبيرة، وهي إصاباتٌ تؤثّر على النساء والأطفال تحديداً، وهي الفئة المصنّفة الأكثرَ هشاشةً في المجتمع.
وتتبّعُ الهجمات على المنشآت يُظهِرُ نمطاً متكرّراً من الاستهداف. إذ تبدأ الهجماتُ بتعطيل الخدمات ثمّ تليها ضرباتٌ لاحقةٌ لمنع أيّ تعافٍ. يعكس ذلك محاولةَ القضاء على الحياة الحضرية، وتعمُّدَ معاقبة السكان بطرقٍ مختلفةٍ ومتتابعةٍ وإبقاءَهم في حالةٍ دائمةٍ من الضعف، ممّا يقضي على قدرتِهم على التعافي أو المقاومة.
وثانيها الهجماتُ على الكثافة الحضرية بما يخدم غرضين رئيسين: العقاب الجماعي للسكان واستنزاف البنية التحتية التي تدعم الحياة اليومية والمقاومة. الحرب على غزّة لَم تَعُد مقتصرةً على استهداف المقاومة المسلحة، بل تطوَّرت لتصبحَ حرباً على شكل المدينة نفسها، إذ تُدمَّرُ الأحياءُ والمرافقُ العامّة بمنهجيةٍ لقطعِ العلاقة بين السكان وبيئتهم وتعطيل أيّ إمكانيةٍ لوجودٍ مدنيٍّ يَحتضِن المقاومةَ على المدى الطويل.
أمّا ثالثها فقد كانت الهجمات على البنية التحتية في بداية الحرب ممنهَجةً مع أهدافٍ واضحة. ولكن مع تقدّم الصراع، أصبحت العملياتُ العسكرية أكثرَ عبثيةً وغير منظّمة. هذا التحوّل يعكس حالةً من ارتباك القوّات الإسرائيلية ويثير أسئلةً عن الأهداف طويلة الأمد، وما إذا كانت القوّات الإسرائيلية مستعدّةً لمرحلة ما بعد تدمير القطاع أو ما يسمّى باليوم التالي للحرب، أم أن الهدف هو تدمير غزّة وجعلها غير قابلةٍ للحياة فقط.
دُمِّرت البنيةُ التحتية الطبّية في غزّة تدميراً منهجياً في الحرب التي بدأت في أكتوبر 2023. من بين ستّةٍ وثلاثينَ مستشفىً في القطاع أُخرج خمسةٌ وثلاثون عن الخدمة في مرحلةٍ ما، بسبب استهداف القوات الإسرائيلية المباني والمعدّات الطبّية، وذلك حتى شهر أغسطس 2024 كما ورد في دراسة لمنظمة "فورينزيك آركيتكشر". استُهدِفَ واحدٌ وثلاثون مستشفىً بشكلٍ مباشرٍ، وفُرِضَ الحصارُ على خمسة عشر مستشفىً آخَر، كما قالت المنظمة، ممَّا أدَّى إلى منعِ وصول الإمدادات الطبية الأساسية والوقود لتشغيل المولّدات الكهربائية. أجبر هذا الحصارُ الطواقمَ الطبّية على إجراء عملياتٍ جراحيةٍ في ظروفٍ قاسيةٍ، باستخدام ضوءِ الهواتف النقّالة. فمثلاً في فبراير 2024، اضطرّ الأطباءُ في مجمّع ناصر الطبّي إلى إجراء عملياتٍ جراحيةٍ في ظلِّ انقطاع الكهرباء بسبب الحصار المفروض على المجمع. يشير الدكتور عبد اللطيف الحاج، مدير قطاع المستشفيات ومراكز العناية الصحية في غزة، إلى أنَّ الطواقم الطبية تضطرّ إلى العمل مع نقصٍ حادٍّ بالمستلزمات الأساسية مثل الشاش أو الأدوية والمضادّات الحيوية، التي كانت تُعطى جزئياً، أو إبدالها بمستلزماتٍ أوّليةٍ مثل الخلّ التجاري. وكانت الأدويةُ المخدِّرة تُعطَى أيضاً بكمّياتٍ محدودةٍ لضمان توفّرها مدّةً أطول. وفي كثيرٍ من الأحيان كانت تُجرى عملياتٌ مثل بتر الأطراف أو استخراج شظايا معقّدة بلا موادّ تخديرية، ممّا عرَّض المصابين، وفيهم كثيرٌ من الأطفال، إلى آلامٍ شديدة.
نُفّذت الهجماتُ على المستشفيات على مراحل، بدأت بإصدار أوامر إخلاءٍ وتحذيراتٍ للأطقم الطبّية. أصدرت القوات الإسرائيلية في 13 أكتوبر 2023، أوامرَ بإخلاء المستشفيات شمال غزّة، ما أثّر في ثلاثةٍ وعشرين مستشفىً في المنطقة. بعض المستشفيات التي تعرّضت للاستهداف، مثل مستشفى الشفاء ومجمع ناصر الطبي، تعرّضت لهجماتٍ متكرّرةٍ حتى بعد إعادة فتحها، ممَّا أدَّى إلى تعطيلِ عملها تعطيلاً تامَّاً. واستُهدفَ محيطُ معظم المستشفيات ، ممّا أدّى إلى تعطيل الحركة حولها، وصَعَّبَ على الطواقم الطبّية والمرضى الوصولَ إليها بأمان. وبذلك، فإنَّ غالبية الأطباء كانوا يعالجون المصابين بينما كانوا هم أنفسهم نازحين أو يعتنون بعائلاتهم النازحة أيضاً. وتروي الصحفية سميّة أبو عيطة قائلةً: "في مستشفى الشفاء، كنتُ أرى الأطباء يعملون بلا كللٍ، حتى مع تدمير منازلهم. أحد الأطباء كان يحمّم أطفالَه على أرض المستشفى بسبب نقص المياه، ومع ذلك استمرّ في تقديم الرعاية للآخَرين". صدمَ استهدافُ مستشفى الشفاء تحديداً كثيرين، فهو المستشفى الأكبر في قطاع غزة ويحتوى على أجهزةٍ وإمكانياتٍ غير متوفّرة في مستشفياتٍ أخرى. والصدمة معنوية أيضاً إذ لا يكاد يخلو قطاع غزة من فردٍ لم يدخل المستشفى مريضاً أو عائداً إن لم يكن وُلد فيها أيضاً.
وشمل الحصارُ قَطْعَ الإمدادات الحيوية عن مستشفى الشفاء. وفقاً للتقارير الصادرة عن وزارة الصحة الفلسطينية ومنظمة الصحة العالمية، كان هناك تسعةٌ وثلاثون طفلاً خديجاً يعتمدون على التنفس الاصطناعي في حاضناتٍ هُدِّدَت حياتُهم بسبب نفاد الوقود. أُعلن وقتها عن وفاة طفل ٍخديجٍ واحدٍ على الأقلّ بسبب الحصار ومنعِ إخراجِهم. وبعد تدخّل منظماتٍ دوليةٍ وحملةٍ إعلاميةٍ واسعةٍ سمحت إسرائيلُ بنقل واحدٍ وثلاثين من الأطفال الخدّج إلى مدينة رفح. ثم حاصرت قوّاتُ الاحتلال المستشفى وهاجمته مرّةً أُخرى في شهر مارس 2024. في كلا الحصارين، قتلت إسرائيلُ المئات، منهم من أُعدِم ميدانياً كما تقول بعض شهادات في وسائل الإعلام، ودُفنوا في قبرٍ جماعيّ. ثمّ دمَّرت إسرائيلُ الأحياءَ المحيطةَ بالمستشفى دماراً شبهَ كاملٍ وهَجّرَت قاطنيه. ووفقاً للمكتب الإعلامي الحكوميّ بغزّة، كما نَقل عنه موقعُ قناة الجزيرة بالإنجليزية، فإنَّ الجيش الإسرائيلي قَتَلَ أكثرَ من أربعمئة فلسطينيٍّ ودمَّر 1,050 منزلاً في محيط مستشفى الشفاء او أحرقهم أو استهدفهم، بعد الحصار والهجوم الثاني على المستشفى.
كانت البنية التحتية للكهرباء من أكثر القطاعات تضرّراً. إذ بلغت خسائر شبكة الكهرباء بسبب القصف الإسرائيلي أكثر من خمسمئة مليون دولار، فتوقفت محطات توليد الكهرباء، وانقطعت إمدادات الكهرباء جميعها في القطاع منذ بداية الحرب، لا سيما أنَّ إسرائيل أوقفت الخطَّ القادمَ منها والذي يلبّي نسبةً كبيرةً من احتياجات القطاع من الطاقة الكهربية. تشير تقاريرُ منظمة الإغاثة الدولية "كير" إلى أنَّ المدن في غزّة شهدت انخفاضاً هائلاً في مستوى الإضاءة الليلية، إذ تراجعت بنسبة 84 بالمئة في أنحاء القطاع. مدينة غزة تحديداً تأثّرت، إذ انخفضت الإضاءة الليلية فيها بنسبة 91 بالمئة. ويمثّل توقُّفُ الكهرباء في المستشفيات أزمةً كبرى، إذ يرتبط ذلك بحياة المرضى أو وفاتهم. وتشير التقارير إلى وفاةِ حديثِي الولادة بسبب عدم توفّر الكهرباء للحاضنات، وتوقُّفِ العمليات الجراحية بسبب انقطاعها. مع اكتظاظ المستشفيات بما يفوق 349 بالمئة من طاقتها الاستيعابية، تشهد غزّة ارتفاعاً حادّاً في الوفيات بين الأمهات والأطفال.
لجأ الناس، في الحياة اليومية، إلى استعمال المولّدات الخاصّة، ولكن هذا الخيار لم يكن متاحاً للجميع، بسبب نقص الوقود وارتفاع تكاليفه. وتأثّرت المدارس والمخابز ومحطات ضخّ المياه والخدمات الأساسية الأخرى بانقطاع الكهرباء، فتوقفت الحياة تقريباً في كثيرٍ من المناطق.
ويعني ذلك أيضاً انتشار الأوبئة والأمراض المنقولة من الماء بالتزامن مع تدمير خطوط المجاري وانتشارها في الشوارع ومخيمات النازحين. وقد نقلت وكالةُ رويترز للأنباء عن مسؤولين في الأمم المتحدة في شهر إبريل أنَّ الماء الملوث وارتفاع الحرارة أدّيا إلى انتشار الأمراض. وقالت إنَّ منظَّمة الصحة العالمية سجّلت حتى ذلك الوقت أكثرَ من 345,000 حالة إصابةٍ بالإسهال، أكثر من 105,000 حالةٍ منها عند الأطفال دون سنّ الخامسة. وبحسب فيليبي لازاريني، المفوّض العامّ لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، أبلغ عن أربعين ألف حالة إصابةٍ بفيروس التهاب الكبد الوبائي "أ" في مراكز الأونروا ومرافقها الطبّية في قطاع غزّة بحلول أغسطس 2024، مقارنةً بخمسةٍ وثمانين حالةً فقط قبل الحرب. والكبد الوبائي من الأمراض التي تنتقل من المياه. وفي شهر أغسطس أيضاً سُجّلت أوّل حالة إصابةٍ بشلل الأطفال في غزّة بعد انقطاعٍ دام خمسةً وعشرين عاماً. وبدأت منظمة الصحة العالمية حملةَ تطعيمٍ ضدّ الفيروس في شهر سبتمبر.
أثّر هذا التدمير المنهجيّ للموارد الزراعية والمائية في البيئة والموارد الطبيعية. إذ دُمّرت محطّات معالجة المياه ومياه الصرف الصحّي جميعها في غزّة. وتشير دراسة لمنظمة "فورينزيك آركيتكتشر" إلى أن مجموعُ المساحة التي دُمّرت وهُيّئت لإنشاء المنطقة العازلة والممرّات العسكرية 131,7 كيلومترٍ مربّعٍ، أي ما يعادل 36 بالمئة من إجمالي مساحة غزة البالغة 365 كيلومتراً مربّعاً، ممّا يعكس حجمَ الدمار والهدفَ الواضحَ في إعادة تشكيل القطاع لفرض سيطرةٍ طويلة الأمد عليه. هذا التأثير لم يكن محصوراً في تدمير المحاصيل فقط، بل أدَّى أيضاً إلى تلوُّث التربة بسبب الموادّ الكيميائية والملوّثات التي خلّفتها العمليات العسكرية، ممَّا جعلَ الأراضي الزراعية غيرَ صالحةٍ للزراعة على المدى الطويل.
وبسبب ذلك تفاقمت الأزمةُ الغذائيَّةُ في غزة مع ارتفاع أسعار الموادّ الأولية وشُحّها. فقد أصبحَ الاعتمادُ على المعلَّبات والمجفَّفات، مثل الأرزّ والبقوليات، هو الخيار الوحيد المتاح لكثيرٍ من العائلات. وهذا الاعتمادُ على الموادّ الغذائية القابلة للتخزين بسبب الغلاء الحادّ وانعدام توفّر المنتجات الطازجة التي كانت في السابق تعتمد عليها الأُسَر الغزّية بشكلٍ كبير. في أوج المجاعة، وتحديداً في منتصف سنة 2024، ومع ندرة الموارد الغذائية، لجأ كثيرٌ من سكَّان شمال غزّة إلى الأعشاب البرّية مَصدَراً غذائياً بديلاً. اضطرّت بعضُ العائلات إلى استخدام حبوب الطيور والدواجن لصنع الخبز في ظلِّ انعدامِ الطحين والموادّ الأساسية الأخرى. وأشارت تقاريرُ منظمة أوكسفام إلى أنَّ سكَّان شمال غزّة اضطرّوا إلى أكل ما لا يزيد على 245 سعرةٍ حراريةٍ وسطياً في اليوم، وهو أقلّ بكثيرٍ من المعدّل المطلوب لمنع سوء التغذية.
أساليب السيطرة المكانية التي اعتمدتها إسرائيل في قطاع غزة أظهرت منهجيةً دقيقةً تستهدف إعادةَ تشكيل الأرض والتحكّم الكامل في حركة السكان الفلسطينيين. بدأ ذلك بإقامة منطقةٍ عازلةٍ بعرض كيلومترٍ واحدٍ على طول محيط غزّة الشرقيّ، إذ دُمّرت المباني والمنشآت الزراعية في هذه المنطقة، ممّا أدّى إلى إفراغها تماماً من سُكّانِها وأنشطتها الاقتصادية والزراعية. أصبح هذا الممرّ أداةً لفرض السيطرة على حركة الفلسطينيين بنقاط التفتيش التي أنشئت على الطرق الرئيسة. ومن يحاول الاقترابَ يعرّض حياتَه للخطر. ونقلت صحيفة القدس العربي قتلَ فلسطينيين وإصابة أحد عشر آخَرين في الأول من أكتوبر 2024 عندما حاولوا العودةَ من جنوب القطاع إلى شماله. وثمّة كثيرٌ من القصص الفردية عن قتل فلسطينيين في هذه المنطقة من غير أن يقدر أهلُهم على استعادة جثامينهم.
اعتمدت إسرائيلُ في الحرب على التهجير القسريّ والممنهَج. فبين 7 أكتوبر 2023 و31 أغسطس 2024، أصدرت العشرات من أوامر الإخلاء التي شملت معظمَ مناطق غزة. إذ بدأت العمليةُ بتهجير السكان من الشمال ثمّ توسّعت لتشمل المناطقَ الجنوبية. في الأشهر الأولى للحرب، اقتصرت أوامر التهجير على المنطقة الواقعة شمال وادي غزة، والتي تشمل مدينة غزة ومحافظات شمال القطاع. نزح معظم السكان إلى المناطق الوسطى والجنوبية من القطاع، مثل دير البلح وخانيونس ورفح، والتي تشكل حوالي 228.2 كيلومتر مربع، أي 62.5 بالمئة من إجمالي مساحة القطاع، كما تقول منظمة فورينزيك آركيتكشر. سرعان ما بدأ النازحون في هذه المناطق بتلقي منشورات تهجير جديدة شملت أيضا رفح، والتي أصبحت في أشهر الحرب أكبر مدينة خيام في القطاع، حتى اجتياحها في مايو 2024. يدعي الاحتلال اتّخاذه إجراءات لحماية المدنيين، منها إقامة ما يسميه "المنطقة الإنسانية" في المواصي غرب خانيونس. إلا أنَّ الاستهدافات تتكرر في هذه المنطقة، إذ شهدت أكثر من مجزرة آخرها مجزرة الخيام في 10 سبتمبر 2024، حين دفنت قنابل الاحتلال خيام النازحين في الرمال. فضلاً عن ذلك، فإن مساحة هذه المنطقة، حسب حدودها المعلنة في 6 مايو 2024، لا تتجاوز الـ 60.9 كيلومتر مربّع، أي 16.6 بالمئة فقط من مساحة القطاع مما أدّى إلى اكتظاظ النازحين فيها. ابتداءاً من يوليو 2024 نشر جيش الاحتلال قرارات تهجير للنازحين في هذه "المنطقة الانسانية" المكتظة، معلناً تقليص مساحتها مراراً حتى وصلت في 16 أغسطس 2024 لتصل إلى 37.9 كيلومتر مربع، أي 10.4 بالمئة فقط من مساحة القطاع، كما تنصّ المنظمة. يعكس هذا التقلص المستمر في المساحات الآمنة خطّة ممنهجة لتقليص المناطق التي يمكن أن يلجأ إليها السكان، مما جعل الحماية شبه مستحيلة.
تؤكّد الهجماتُ على المناطق الإنسانية والملاجئ أن التهجير لم يكن نتيجةً جانبيةً للصراع، بل كان جزءاً من خطة إضعاف المجتمع الفلسطيني. ومع إعلان مناطق الجنوب مناطقَ آمنةً، تعرّضت لهجماتٍ متكرّرةٍ، إذ وُثّقت مئات الغارات الجوية على تلك المناطق جنوب وادي غزة. واستُخدمت 346 مدرسةً ملاجئَ للنازحين، ولكنّ مئةً وستّاً منها هوجمت، ودُمّرت سبعٌ وعشرون مدرسةً دماراً تامّاً. أدّى هذا الاستهداف المتعمّد للملاجئ إلى تفاقم الأزمة الإنسانية، إذ لم يعد هناك مكانٌ آمنٌ للسكان. ومن نافلة القول أنَّ تلاميذ مدارس غزة البالغ عددهم 625 ألفاً لم يتمكَّنوا من الذهاب إلى مدارسهم ولا تلقّي أيّ تعليمٍ رسميٍّ منذ عام. وجهود وزارة التعليم الفلسطينية في تنظيم التعليم عن بعدٍ غيرُ مجديةٍ لعدم قدرة كثيرٍ من الأهالي على الاتصال بالإنترنت. ووفقاً لما نقلته قناة الجزيرة عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في تقريرٍ نشرته مطلعَ سبتمبر 2024، فإن إسرائيل قتلت ما يربو عن عشرة آلاف تلميذٍ فلسطينيٍّ في غزة في هذه الحرب. ويبلغ عدد من أصيبوا أضعاف ذلك.
في إطار التهجير الممنهَج، استُغلّت حركاتُ النزوح لجمع "البيانات البيومترية"، مثل الصور والبصمات، للفلسطينيين ومراقبتهم من نقاط التفتيش المزوّدة بأنظمة التعرّف على الوجوه. هذه الإجراءات استهدفت تقييدَ حركة الفلسطينيين بين الشمال والجنوب، ومنعَ عودتهم إلى المناطق التي نزحوا منها، ممّا أدّى إلى تقويض إمكانية إعادة الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.
هذا النمط من أساليب الإبادة الحضرية له جذورٌ تاريخيةٌ في فلسطين. ففي فترة الانتداب البريطاني (1920-1948)، وقبلها بثلاث سنواتٍ سيطرت بريطانيا على فلسطين، واعتمدت القوّاتُ البريطانيةُ سياسةَ "العقوبات الجماعية" على القرى والمجتمعات التي كانت تشكّل بؤراً لمقاومة الاستعمار البريطاني. هذه السياسة تضمّنت تدميرَ المنازل، وفرض حظر التجوّل، وتدمير الأراضي الزراعية والممتلكات. على سبيل المثال، في أحداث الثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1939)، دمّرت القوّاتُ البريطانية مئاتِ المنازل في المدن والقرى الفلسطينية، ممّا أدّى إلى تهجير آلاف العائلات. كانت هذه الممارسات تستهدف إخضاعَ السكان والسيطرةَ على المناطق التي كانت تحت سيطرة المقاومة، وذلك بتدمير البنية التحتية ومحاولة فصل السكان عن الحاضنة الشعبية التي تدعم المقاومة.
وفي سياقٍ زمانيٍّ ومكانيٍّ ليس ببعيدٍ، يمكن القول إنَّ النظام السوريّ اعتمد تكتيكاتٍ مشابهةً في سعيه إلى تدمير البنية التحتية الأساسية ومنع تقديم الخدمات المدنية البديلة في حلب الشرقية قبل التدخل الروسي في 2016. فقد دمّرَ النظامُ مؤسساتِ الدولة التي كانت المعارضةُ تديرها، لضمان فشل أيّ جهودٍ لإعادة البناء خارج سيطرته. واستهدفت البراميلُ المتفجرة الأحياءَ المدنية في حلب الشرقية، ممّا أدّى إلى نزوح ستمئة ألف شخصٍ وإيقاف الأنشطة المدنية والخدمات الأساسية جميعها. في ظلّ هذه الإستراتيجية، اعتمد النظامُ أيضاً على تدمير محاولات تقديم بدائل خدميةٍ للحكومة، وحرص على إبقاء السكان تحت رحمة خدمات الدولة الخاضعة لسيطرته. هذا يعكس منطق الإبادة الحضرية الذي يُستخدم لتفكيك الحاضنة الشعبية وضمان عدم استقرار المجتمعات المحلية.
وفي سياق الاستعمار الاستيطاني الحالي في فلسطين، نجد جذورَ هذا المنطق في كثيرٍ من مراحله التاريخية. نجده مثلاً في استهداف مخيمات غزة في السبعينيات بأوامر أرييل شارون، وكان حينها وزيراً للدفاع. ونجده في ترسيخ ما يُعرف بـ"عقيدة الضاحية"، من ضاحية بيروت الجنوبية التي تُعَدّ الثقلَ الشعبيّ لحركة حزب الله، التي صاغها رئيسُ الأركان السابقُ غادي أيزنكوت في حرب لبنان عام 2006. في هذه الأمثلة نجد خطةً للتدمير الواسع للبنية التحتية المدنية بهدف الضغط على الحكومات المعادية. حُدّدت معالمُ هذه العقيدة على يد رئيس الأركان السابق للجيش الإسرائيلي، غادي أيزنكوت، بوصفها نهجاً يستهدف المصالحَ الاقتصاديةَ ومراكز القوّة المدنية التي تدعم التنظيماتِ المسلّحة. المنطق وراء هذه العقيدة هو إلحاقُ ضررٍ شديدٍ بالسكان المدنيين بحيث ينقلبون ضدّ المسلحين ويضطرّ العدوّ لطلب السلام.
في المراحل الأولى من الحملة الحضرية المدمّرة على غزّة، طُبِّقت عقيدةُ الضاحية تطبيقاً مختلفاً. إذ استهدفت الهجماتُ الأحياءَ ذات الدخل المرتفع، مثل الزهراء والرمال، لتوجيه الضربة إلى الكثافة السكانية وإثارة التهجير الجماعي. كان الهدفُ الظاهريّ هو عزل السكان عن المقاومة، على أمل أن ينقلب السكانُ على المقاومة في غزة. ولكن، عكس تطبيقِ العقيدة في سياق دولةٍ ذات سيادةٍ كما في لبنان، اتّخذ تطبيقُ العقيدة قوّةً استعماريةً استيطانيةً ضدّ سكّان غزّة المحاصَرين شكلاً آخَر. فالتدميرُ لم يُركِّز على المصالح الاقتصادية أو على عزل مراكز القوة المدنية، بل استهدف مباشرةً السكانَ المدنيين أنفسَهم بهدف خلق بيئةٍ مفكّكةٍ اجتماعياً، لتسهيل فرض السيطرة الإسرائيلية على المنطقة.
أظهرت الهجماتُ المتواصلة على غزّة تغييراً في منطق المجازر، والتي كانت في الأشهر الأولى تتركّز على أهداف التهجير القسريّ للسكان وإلى تدمير البنية التحتية الأساسية بمنهجية. وبحسب البيانات المحدَثة فإن التكرار المكانيّ للهجمات وتدمير المرافق العامّة يعزّز فكرةَ أن هذه الحرب لم تكن مجرّدَ حملةٍ عسكريةٍ، بل كانت جزءاً من إستراتيجيةٍ منظّمةٍ لحرب إبادةٍ تستهدف ترسيخَ حالةٍ من الاضطراب المدنيّ الحادّ في غالبية القطاع. هذا ما يعكسه المنطقُ الجديد للمجازر، والذي يتجلّى في محاولة خلق حالةٍ دائمةٍ من عدم الاستقرار على مبدأ "العشوائية المنظمة" للدمار. يتعلق الجانب الآخَر من هذا المنطق بزعزعة المجتمع المحلّي ونزع أشكال الحوكمة المحلية الممكنة عنه، لتفكيك المساحات المجتمعية التي تستمرّ فيها الروابط الاجتماعية الصامدة.
تجلّى هذا النمطُ بعد تفريغ غزة واقتحام رفح في السادس من مايو، بأوجهٍ متعدّدة. بدايةً، كان للمستشفيات في غزّة أدوارٌ متعدّدةٌ تتجاوز تقديم الخدمات الصحّية، لاسيّما مجمع الشفاء الطبّي، الأكبر في القطاع. فمنذ الأيام الأولى للحرب، أصبح مجمع الشفاء منصّةً إعلاميةً مركزيةً لغزة. إذ بُثّت المؤتمرات الصحفية من ساحته الرئيسة، وثبَّت الصحفيون كاميراتهم أمام مبنى الإدارة. من أبرز المؤتمرات التي بُثّت من مجمع الشفاء كان المؤتمر الذي عُقد بعد مجزرة المستشفى الأهلي المعمداني يوم 17 أكتوبر، وهي المجزرة التي لم تنجح في تحفيز المجتمع الدولي لحماية باقي المستشفيات في غزة. أصبحت المستشفياتُ، التي يفترض أن تكون محميةً بموجب القانون الدولي خلال النزاعات، ملاذاً للنازحين الذين لجؤوا إليها بحثاً عن الأمان أو للحصول على مياه الشرب والمساعدات. على سبيل المثال، كان مجمع الشفاء ملجأً لما يقارب خمسين إلى ستين ألف نازحٍ قبل اقتحامه الأول في نوفمبر 2023. أما مجمع ناصر الطبّي في خانيونس فاستضاف نحوَ خمسة عشر ألف نازحٍ، بينما استَقبَل مستشفى القدس في غزة حوالي اثني عشر ألف نازح.
لم تقتصر عملياتُ اقتحام المستشفيات على تعطيل الرعاية الطبية، بل شملت أيضاً اعتقالَ الطواقم الطبية. على سبيل المثال، في 17 فبراير 2024، اعتُقل عددٌ كبيرٌ من العاملين في مجمع ناصر الطبي بعد اقتحامه. علاوةً على ذلك، تشير البياناتُ إلى أن الهجمات على المستشفيات تزامنت مع تقدّم القوّات البرّية الإسرائيلية، ممّا أدّى إلى إضعاف البنية التحتية الطبّية وزيادة معاناة المدنيين.
أصبحت ساحاتُ المستشفيات مقابرَ عامّةً بسبب تعذّر نقل الجثث خارجها نتيجة الحصار المتزايد، وارتفاع أعداد الضحايا بشكلٍ يصعب معه العثورُ على مقابر كافيةٍ أو وسائل نقل. في مستشفى الشفاء، تحوّلت الحدائق الخلفية إلى مقبرتين كبيرتين، وفي ساحته الرئيسية حُفِرَ قبرٌ جماعيٌّ في أثناء الحصار في نوفمبر. وفوق ذلك، كانت المستشفياتُ مكاناً لعقد الاجتماعات والتنسيق لفِرَق الدفاع المدني والشرطة بعد تدمير مقرّاتها الرئيسة. جعل هذا الدور مجمعَ الشفاء هدفاً للاقتحام الثاني في مارس، والذي أدّى إلى تدميره بالكامل وتجريف المقابر فيه.
لَم يقتصر هذا الاستهدافُ على المرافق الصحّية فحسب، بل امتدّ إلى البنية التحتية التعليمية، فنحو 59 بالمئة من المنشآت التعليمية إمّا دُمّرت أو تضرّرت. ومن ذلك تدميرُ اثنتين وثمانين مدرسةً بالكامل. من بين 564 منشأةً تعليميةً، تعرّضت 250 مدرسةً لأضرارٍ جسيمةٍ، ممّا أدّى إلى تعطيل النظام التعليمي وزيادة معاناة المدنيين، لا سيّما الأطفال. استُهدِفت سبع عشرة جامعةً بشكلٍ كاملٍ، بينما تعرّضت ستّ عشرة جامعةً أُخرى لأضرارٍ جسيمةٍ، ممّا يعكس مدى تأثير هذا التدمير على مستقبل الأجيال الشابة.
الاستهداف الممنهج للبنية التحتية الحيوية لم يقتصر على الصحة والتعليم، بل شمل أيضاً البنية التحتية العامّة والخدمات الأساسية. من بين 605 منشآتٍ خدميةٍ في غزة، دُمّر ما يزيد عن النصف بالكامل، بما في ذلك محطات الكهرباء وآبار المياه ومحطات التحلية، ممّا أدّى إلى تفاقم الأزمة الإنسانية في ظلّ انقطاع الخدمات الأساسية عن السكان. على سبيل المثال، دُمّر 47.3 بالمئة من شبكة الطرق الرئيسة في شمال غزّة بين 7 أكتوبر 2023 و7 نوفمبر 2023، ممّا أدّى إلى عزل أحياءٍ كبيرةٍ عن البنية التحتية الحيوية. وفي الجنوب، دُمِّر 33.7 بالمئة من الطرق بحلول 7 يناير 2024، ممّا حدّ من قدرة السكان على الوصول إلى الملاجئ والمستشفيات.
قراءة البيانات المحدثة تشير إلى أن هذا التدمير المتكرّر لم يكن عشوائياً، بل استهدَف المنشآتِ الحيوية استهدافاً مُمَنهجاً، حتى بعد تعرّضها للضرر أو الإخلاء. ومع عدم إصدار أوامر الإخلاء للسكان في المناطق جنوب وادي غزة قبل شهر ديسمبر 2023، استمرّت الضربات الجوية، ممّا أدّى إلى زيادة عدد الضحايا المدنيين. ويشير هذا إلى الإستراتيجية نفسها المستهدِفة خلقَ حالةٍ واسعةٍ من الاضطراب المدنيّ وحرمان السكان من أي شكلٍ من أشكال الدعم الاجتماعي أو المدني.
تكرّرت الهجمات على البنية التحتية للمساعدات الإنسانية على مراحل. إذ استهدفت الأسواق والمخابز شمال غزة في الأشهر الأُولى من الصراع، ما بين أكتوبر ونوفمبر 2023، عندما أصبحت هذه المخابز مصدراً رئيساً لتوزيع الطعام. تضرر ما يزيد عن سبعين منشأةً لتخزين وتوزيع المساعدات، بما في ذلك مستودعات المياه ومرافق معالجة المياه، ممّا أدّى إلى تعطيل توزيع المساعدات بشكلٍ كبيرٍ وزيادة الاعتماد على المساعدات الخارجية. ومع ذلك استُهدِفت هذه المساعدات ممّا أدّى إلى خلق حلقةٍ مفرغةٍ من الأزمات الإنسانية. تدمير الطرق المؤدّية إلى المناطق التي صدرت فيها أوامر الإخلاء زاد من معاناة السكان وإعاقة قدرتهم على النزوح، لا سيما الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصّة وكبار السنّ الذين لم يتمكَّنوا من التحرّك بسهولةٍ، ممّا أدّى إلى وفاة كثيرين منهم.
في الأسابيع التي سبقت الاجتياحَ الثاني لمجمع الشفاء، زاد في المنطقة ما يُعرف بـ "مجازر الطحين"، التي تركّزت قرب دوّارَي الكويتي والنابلسي عند تقاطع شارعَي صلاح الدين والرشيد، على محور نتساريم الذي يفصل بين شمال القطاع وجنوبه. وهي المنطقة التي احتلّت مساحتَها مستوطنةُ نتساريم قبل أن يغادرها المستوطنون والجيش الإسرائيلي مع خطة فكّ الارتباط من غزة في أغسطس 2005. ارتبطت هذه المجازر بمحاولات المدنيين الحصولَ على الطحين الذي كان يصل بشاحنات المساعدات من جنوب القطاع، بينما كانت القوات الإسرائيلية تطلق النار عليهم.
وكانت المساعدات تُسلَّم في هذه المواقع بعشوائية تؤدّي إلى صعوبة وصولها إلى شمال القطاع، ممَّا أسفر عن توزيعٍ غيرِ عادلٍ للمساعدات المحدودة التي سمحت إسرائيلُ بإدخالها. هنا، برز دورُ الشرطة والمتطوعين والعشائر في تنظيم عملية استلام المساعدات. في 15 مارس، أصدرت لجنة الطوارئ في غزة تعليمات بعدم التوجه إلى دواري الكويتي والنابلسي وانتظار وصول المساعدات إلى المخازن. وبتنسيقٍ محليٍ، نجحت الشرطة والمتطوعون في إيصال أول دفعة مساعداتٍ إلى جباليا شمال القطاع في 17 مارس.
لكن في صباح اليوم التالي، 18 مارس، اقتُحم مجمع الشفاء الطبّي واغتيل العميد فايق المبحوح، مسؤول التنسيق مع العشائر ووكالة الأونروا لإدخال وتأمين المساعدات الإنسانية إلى شمال غزة، ممّا أدّى إلى تفاقم الأزمة وزيادة تعقيد الوضع الإنساني في غزة. هذا الاغتيال يمثّل جزءاً من خطةٍ إسرائيليةٍ تستهدف نشرَ الفوضى وضربَ الحوكمة المدنية في غزة. وفقاً للمحلّلين السياسيين الفلسطينيين، فإن اغتيال المبحوح كان يَستهدف قطعَ الصلة بين حماس والعشائر، وهي الصلة التي كانت تسهم في تنظيم المساعدات وتوزيعها. هذه العملية تعكس رغبةَ إسرائيل في القضاء على أيّ عناصر تسهم في استقرار المجتمع المحلّي، وتعطيل اللجان الشعبية والشرطة التي تحافظ على هذا الاستقرار.
في ظلّ هذا المشهد، يمكن أن نرى بروزَ منطقتين معزولتين في مساحةٍ محدودةٍ للغاية فيهما التركّز الأكبر للسكّان حاليّاً: مدينة غزة ومنطقة المواصي في خان يونس، وهي منطقةٌ ذاتُ كثافةٍ وخدماتٍ أساسيةٍ قليلة. وههنا يظهر منطقٌ مشابهٌ لتجزئة الضفة الغربية، ممّا يعكس خططاً مبكّرةً قد تكون موجّهةً لترتيباتِ ما بعد وقف إطلاق النار، إن وُجدَت، وللتجارب التي تحاول القوات الإسرائيلية فرضَها بمنهجية التجربة والخطأ. ومع الفوارق الكبيرة بين غزة والضفة الغربية، يبدو أن الجيش الإسرائيلي يحاول تطبيق دروسٍ مستفادةٍ من الضفة، إلّا أن التحدّيات الخاصّة بالقطاع، خاصّةً شبكات الأنفاق والتشبّث بالبقاء في أماكن حيويةٍ تحت القصف، تجعل الأمرَ أكثر تعقيداً من الحسابات العسكرية كافّة.
في سياق التأثير الاجتماعي والنفسي للحرب، تُظهر الرواياتُ شرخاً عميقاً ومتعدّدَ الجوانب للنسيج المجتمعيّ في غزّة. فكثيرٌ من الشهادات المحلّية توضِّح تأثيرَ الحرب على المستوى الفردي والجماعي. فمثلاً توضّح الصحفيةُ سميّة أبو عيطة أن التنقل المستمر بين الملاجئ، وتفرُّقَ أفراد الأسرة الواحدة في أماكن مختلفة على مدار أشهرٍ، خلقت شعوراً عميقاً بالخسارة على المستوى الفردي، ليس من الدمار المادي فحسب، وإنما من تفكّك التضامن الاجتماعي. ومع نقص الغذاء، أصبح الناسُ أكثرَ اهتماماً بتلبية احتياجاتهم الشخصية على حساب دعم المجتمع. ومع ذلك، يؤكّد الكاتبُ ضياء وادي بأنه "رغم كل محاولات الاحتلال لقطع وسائل الاتصال بيننا، استمر الناس في التواصل بطرقٍ مبتكرةٍ، حتى لو كانت عن طريق رسائل ورقيةٍ بين العائلات".
أسهمت هذه الأوضاع في خلق ضغطٍ نفسيٍ على المواطنين، الذين يعيشون في خوفٍ متَّصلٍ من فقدان ما تبقّى لهم بعد كلّ عملية نزوح. يعزّز هذا الوضعَ الدائمَ من عدمِ اليقين روايةُ السيدة ا.ص.، وهي مديرة مكتبٍ إعلاميٍّ في غزّة، وقد تعرّض بيتُها للقصف مرّاتٍ عدّة في الحرب:
"تنقّلنا خلال هذه الحرب ما لا يقلّ عن عشر مرّاتٍ، وفي كل مرّةٍ نترك وراءنا جزءاً كبيراً ممّا استطعنا إنقاذَه من بيتنا المقصوف. كنا نحاول البدءَ من جديدٍ في كلّ مكانٍ نلجأ إليه، نرتّب حياتَنا مرّةً أُخرى ونحاول التأقلمَ مع الوضع، لكن الاجتياحات المتكرّرة للأحياء التي نلجأ إليها تجبرنا على الرحيل بشكلٍ مفاجئٍ وسريع. نترك كلَّ شيءٍ خلفَنا لنبدأ من جديدٍ في مكانٍ آخَر، مع عِلمِنا أن الاستقرار في المكان الجديد لن يدوم طويلاً، ولكننا مضطرّون للاستمرار في ترتيب أنفسنا وإعادة بناء حياتنا مراراً وتكراراً".
هذا الوضع يضعنا تحت توتّرٍ وضغطٍ مستمرَّيْن. الحيرة تكون في كلّ مرّةٍ: كيف نتصرف؟ ما الذي نحمله معنا؟ العبء الماليّ للنزوح المتكرّر لا يُحتمَل، حيث يتطلب منا كلُّ انتقالٍ جديدٍ إعادةَ ترتيب كلِّ شيءٍ من الصفر. نفقد الأغطية، الفراش، أدوات المطبخ، وحتى القليل من الطعام الذي كنا ندّخره. في كلّ مرّةٍ نواجه قراراتٍ صعبةً: ماذا نحمل معنا؟ الأوراق المهمة؟ الممتلكات الخاصة؟ غالباً ما نضطرّ للاختيار بين الأشياء الضرورية في عجلةٍ من أمرنا، ولا نجد الوقتَ الكافي سوى لحمل الأطفال والخروج بسرعة".
تشير الصحفيةُ أ.ش. والتي فقدت طفلَيها في قصفٍ على بيتها، إلى أن "هذه الحرب دمّرت النسيجَ المجتمعي بطرقٍ لا مثيل لها في الحروب السابقة. مدّة الحرب الطويلة، والفقد المستمرّ، والتدمير الكامل لكلّ شيءٍ من حولهم، سواءً كان الإنسان أم الشجر أم الحجر أم جوانب الحياة كافّةً، والتجويع المستمرّ، أفقد الناسَ إنسانيتَهم". تراجع التكافل الاجتماعي بوضوحٍ بسبب نقص الموارد. في بداية الحرب، كانت العائلات تتجمع معاً، وقد يسكن حوالي خمسين شخصاً في شقّةٍ واحدةٍ ويتقاسمون ما لديهم من طعامٍ، لكن مع استمرار الحرب، تفكّكت هذه الروابط وأصبحت كلّ أسرةٍ تسعى إلى تدبير أمورها بنفسها، حتى لو كانت تلك الجهود تعني إنشاءَ خيمةٍ فوق بيتها المقصوف. البحث عن لقمة العيش في ظلّ حرب التجويع دفع الناسَ إلى الانعزال عن بعضهم البعض، حيث أصبح كلّ شخصٍ مشغولاً بتدبير شؤونه وسط القصف المستمر والخوف والنزوح المتكرّر، ممّا خلق حالةً من الضغط النفسي المستمرّ على الجميع.
ومع جولات القصف والتدمير المتكرّرة، لَم تتمكن القوات الإسرائيلية من إخلاء شمال غزة كاملاً. الوعي العامّ لدى السكان بمنطق الإبادة الحضرية كان حاضراً من تجربة التهجير في النكبة بتجارب الحروب السابقة، إذ أدرك الناسُ أن الهدف ليس فقط تهجيرهم بل القضاء على إمكانية إعادة بناء الحاضنة الشعبية التي قد تدعم أيّ مقاومةٍ مستقبلية. هذه المعرفة المتزايدة بمنطق الحرب أدّت إلى مقاومةٍ متجدّدةٍ وصمودٍ على حجم الدمار الهائل. هذا التشبّث بالبقاء أظهر الإحباط والارتباك في صفوف الجيش الإسرائيلي، وأثر ذلك في تباطؤ الحملة العسكرية، لاسيما بعد اجتياح رفح.
ومِن أبرز جوانب الحملة الحالية للإبادة الحضرية وتأثيرها على الواقع الاجتماعي هو تدهور قيمة الحياة الفلسطينية والعربية عموماً. تستمر المجازر حتى اليوم، وحتى في الأول من أكتوبر، مع تناقصٍ تدريجيٍ في الاهتمام وردود الفعل على هذا القتل المستمر. الأعداد الكبيرة من الضحايا في الضربات الجوية الأولى، التي بلغت أربعمئةٍ إلى خمسمئة ضحيّةٍ في الضربة واحدة، جعلت المراقبين الإقليميين والدوليين معتادين على قتل عشر أشخاصٍ أو حتى ثلاثين شخصاً، وهو معدّل قتلٍ لا يزال شائعاً. الإحصاء الرسميّ لعدد الضحايا اليوم يتعدّى 41,900 في غزّة، وسبعمئةٍ وأربعين في الضفة. هذا التدهور في قيمة الحياة صُدّر إلى جبهاتٍ أخرى، كما نرى في لبنان مؤخراً. فقد أُحصي أكثر من ألفٍ ومئة ضحيّة في بضعة أيامٍ من أواخر سبتمبر، خمسمئةٍ منهم كانوا في يومٍ واحدٍ، وهو تقريباً نصف عدد ضحايا حرب 2006. ومع ذلك، نجد أن الاستجابة العامّة لهذه الأرقام قد أصبحت روتينيةً ومخفّفة. وهنا يبرز أثر مجزرة مخيم جباليا في 31 أكتوبر من العام الماضي، والتي أسفرت عن سقوط أربعمئة فلسطينيٍ مدنيٍ بين قتيلٍ وجريحٍ بذريعة استهداف "قيادي كبير" في حماس. وهذا يثير الأسئلةَ عن حجم العقاب الذي تسعى "عقيدة الضاحية" إلى فرضه على أيّ شعبٍ مقاومٍ، سواءً في غزّة أو في أماكن أُخرى.