الفلسطينيون في مصر: من جحيم غزة إلى ضيافة مأجورة 

خرج ما يزيد عن مئة ألف فلسطيني من جحيم الحرب في غزة إلى مصر بحثاً عن الأمن ومعيشة أفضل إلا أنهم ظلّوا في خانة "الضيوف" من غير حقٍّ كامل في الحياة.

Share
الفلسطينيون في مصر: من جحيم غزة إلى ضيافة مأجورة 
تصميم خاص لمجلة الفراتس

استيقظت حنان وزوجها محمود صباحَ اليوم الأخير من شهر أبريل الماضي على اتصالٍ هاتفي يبلغهما بتحديد موعد عبورهما من معبر رفح. لملمت حنان ما تبقى لها من أغراض جمعتها قبل نزوحها من بيتها في خان يونس إلى رفح، وتجهَّزت مع زوجها وأطفالها الثلاثة للمغادرة إلى مصر بعد ساعات.

في الشهور التي سبقت وصولها وأسرتها إلى معبر رفح، استبعدت حنان وزوجها إمكانيةَ مغادرة غزة، فلا ضامن لهما للاحتفاظ بوظفتيهما في منظمة تابعة للأمم المتحدة.

نصحهما كلُّ أفراد عائلتهما بأن ينجوا بأسرتهما من الموت، وبعد هدم منزلها ومنازل كلِّ أقاربها ونزوحهم مراراً من خيمة إلى أخرى في رحلتهم من شمال غزة إلى جنوبها، وبضغط المذابح والجوع بدأت وزوجها الترتيب للذهاب إلى مصر أملاً في حياة أفضل للأطفال.

جمعت حنان وزوجها سبعة عشر ألفاً وخمسمئة دولار، أي ما يعادل ثمانمئة وواحدٍ وثمانينَ ألفَ جنيه مصري، في ثلاثة أشهر، ثمَّ دَفَعت المبلغَ لشركةِ هلا المصرية التي تملك وحدَها مفاتيحَ المعبر، عشرة آلاف دولار عنها وعن زوجها وألفين وخمسمئة دولار عن كلِّ طفل.

على بوابة المعبر ختم الضابطُ المصري على الجوازات ختمَ الدخول ومنحهم تأشيرةً سياحة مدتُها خمسةٌ وأربعون يوماً. عبرت حنان مع أسرتها إلى الجانب الآخر من المعبر ووصلوا إلى القاهرة، وفيها استقروا بمنزل أحد معارفها ثلاثةِ أيام. ثم انتقلوا إلى شقَّةٍ صغيرةٍ في حيٍّ شعبي بمنطقة إمبابة شمال محافظة الجيزة بإيجار شهريٍّ قدره تسعة آلاف جنيه، وهو ثلاثة أضعاف إيجار الشقق المماثلة التي يقطنها مصريون.

قضى زوجها محمود ثلاثين يوماً كاملة يبحث عن عمل يؤمِّن له نفقات إيجار الشقة ومعيشة الأسرة في مصر غير أنه لم يجد أي فرصة، فقرَّر السفر إلى دولة جنوب إفريقيا قبل يوم واحد من انتهاء مدَّة تأشيرة السياحة. 

ظلّت حنان مع أطفالها الثلاثة في مصر بلا عمل ولا أموال أشهراً عدّة، قبل أن توفِّرَ لها المنظمة الأممية التي كانت تعمل بها في غزة فرصة عمل مكنتها من الحصول على تأشيرة إقامة في مصر. وهو أمر متعذر على أكثر من مئة ألف فلسطينيٍّ لجؤوا إلى مصرَ بعدَ السابع من أكتوبر 2023، ومع هذه الفرصة لحنان لم تستطع حنان، مثل بقية الفلسطينيين، لم تستطع إلحاق أطفالها الثلاثة بأي مدرسة حكومية أو خاصة. كانت  الحكومة المصرية قد أعلمت كلَّ مَن جاؤوا بعدَ السابعِ مِن أكتوبر أنَّ وجودَهم بلا سندٍ قانونيٍّ رسميٍّ، بل هم ضيوف سيعودون من حيث أتوا عندَ توقّف الحرب.

عدم تنظيم وجود حنان وآلاف الفلسطينيين الذين هربوا من الموت في غزة إلى مصر جعل حياتهم شبه معطلة، فلا يستطيعون فعلَ أبسط الأمور بدءاً من شراء شريحة هاتف مصري أو استئجار مسكن أو التعامل مع النظام الحكومي المصري وصولاً إلى إجراءات السفر خارج مصرَ والتنقل فيها، المحظورَين على الفلسطينيين.

معاناة حنان تتضاءل أمام واقع حياة آلاف الفلسطينيين الذين جاؤوا إلى مصر بعد السابع من أكتوبر هرباً من الموت ليُفاجؤوا بحصار الإجراءات الحكومية المصرية التي وضعتهم في خانة الضيف أو السائح، الذي عليه أن ينفق كثيراً من العملة الأجنبية بلا مقابل من أي حقوق من الدولة أو حتى من المنظمات الدولية المعنية بحقوق اللاجئين أو المهاجرين.


قبل بداية الحرب بغزة في أكتوبر 2023، لم يفوّت الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي طوال السنوات الماضية مناسبة سياسية في مصر أو خارجها للزجِّ باسم اللاجئين والمهاجرين. وهو يجمعهم في حديثه في خانة واحدة باسم الضيوف ويحمّلهم سبب الأعباء الاقتصادية الزائدة لمقاسمتهم المصريين في الخدمات الاجتماعية والتعليمية والصحية التي تقدمها الدولة.

صاحبتْ تصريحاتِ الرئيس موجاتُ هجومٍ وتحريضٍ بين الحين والآخر على اللاجئين والمهاجرين بأنَّهم يزاحمون المصريين في رزقهم ومواردهم المحدودة، شارك فيها مسؤولون وإعلاميون مقرَّبون من السلطة.

 لم يفرّق السيسي ولا المسؤولون الحكوميون بين اللاجئين والمهاجرين.  تُقدِّر مفوضية اللاجئين عددهم بسبعمئة وستة وخمسين ألف لاجئ وتدعمهم المفوضية مادياً وتقدم لهم بعض الخدمات الصحية والتعليمية بأسعار الخدمة الحكومية للمصريين. بينما تقدِّر المنظمة الدولية للهجرة عدد المهاجرين بتسعة ملايين مهاجر بينهم سبعة ملايين وخمسمئة ألفٍ لا يتلقون دعماً من أي جهة، بل يضخون عملة أجنبية وبعضهم مستثمرٌ ويوفر فرص عمل للمصريين.

استمرَّ الرئيسُ المصري سنوياً في إعلان أعداد المقيمين من غير المصريين في مصر من 2015 حتى أعلن في يونيو 2023 بلوغَهم تسعة ملايين من الدول التي حدث فيها اقتتال داخلي، مكرراً التلويح بصعوبة الوضع الاقتصادي ومحدودية موارد الدولة.

لم يكتف النظام المصري في تأجيج خطاب أعباء مصر الناتجة عن استضافة اللاجئين، والذي سهّل عقد شراكة استراتيجية كاملة مع الاتحاد الأوروبي قيمتها سبعة مليارات وأربعمئة مليون يورو في مايو 2024، بل صاغت الحكومةُ المصريةُ منذ نهاية 2023 خطة واضحة للاستفادة من المقيمين غير المصريين في إدخال العملة الأجنبية التي تعاني مصر من شحِّها، لا سيما بعدما أعلن رئيس الحكومة المصرية مصطفى مدبولي أن تكلفة إقامتهم تتجاوز عشرة مليارات دولار سنوياً.

تضمنت الخطة قرارات حكومية عدّة تُلزِمَ المقيمين جميعاً من غير المصرّيين بدفع رسوم استصدار بطاقات الإقامة أو تجديدها وغيرها من الخدمات بالدولار أو غيره من العملات الأجنبية، ثم ضاعفت الحكومةُ تلك الرسوم أكثر من خمسة أضعاف. أما من دخلَ مصر مهاجراً من الحرب في أيّ دولة وأقام فيها من غير الحصول على أيِّ نوعٍ من أنواع تصاريح الإقامة المحدَّدة في القانون المصري (سياحة - تعليم - استثمار - شراء عقار - زواج من مصري أو مصرية - لجوء) فألزمته الحكومة بإحضار كفيل مصري لضمان وجوده القانوني، ودفع ألف دولار وهو ما يعادل ثمانيةً وأربعين ألفاً وستمئة جنيه مصري. بدأت الحكومة المصرية تطبيق هذا القانون  في منتصف سبتمبر 2023 وحدَّدتهُ بثلاثة أشهر قبل أن تُمدِّد سريانه حتى سبتمبر 2025.

روَّجت وسائلُ الإعلام المملوكة للشركة المتحدة للخدمات الإعلامية التابعة لجهاز المخابرات العامَّة في مصرَ للقرارات الجديدة. وبرَّرتْها بأنَّ للحكومة المصرية الحقَّ في تقنينِ أوضاعِ المقيمين على أرضِها من غير المصريين، شأنُها شأنُ غالبية دول العالم، وإنشاءَ قاعدة بيانات لهؤلاء المقيمين للتأكد من عدم استهلاكهم المفرط مواردَ المصريين وفرصهم في العمل. 

وحدَّدَ المسؤولون المصريون الخيارات المتاحة أمام غير المصريين، إما التسجيل في مفوضية اللاجئين وإمَّا دفع ألف دولار عن كلِّ فرد. وهدَّدت وزارةُ الداخلية المخالفين ومنهم المُعْفين من دفعِ رسومِ تراخيص الإقامة (اللاجئين) بإيقاف خدماتِهم من مؤسَّسات الدولة إذا لم يُسجّلوا بياناتهم بالإدارة العامة للجوازات والهجرة والجنسية.


تنظيمُ أوضاعِ المقيمين من غير المصريين الذي بدأت الحكومة المصرية تنفيذه قبل أيامٍ من بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، لم يشمل الفلسطينيين، بل ظلَّ الرئيسُ المصريُّ يؤكِّدُ منذ بداية الحرب في أكتوبر 2023 وحتى اليوم رفضه الكامل تهجيرَهم قسرياً إلى بلاده.

لم تُعامِل السلطةُ المصريةُ الفلسطينيين المهاجرين إلى مصر بعدَ السابع من أكتوبر كما عاملت غيرهم من السودانيين والسوريين واليمنيين، أي بفرض قوانين تلزمهم بدفع مئات الدولارات مقابل إقامتهم في البلاد. بل فرضت السلطة المصرية على الفلسطينيين سياسة الدفع المقدم، بفرض إجراءات أمنية مشدَّدة على معبر رفح لا يمكن اجتيازها إلا بالدفع لشركة "هلا" المملوكة لرجل الأعمال إبراهيم العرجاني المقرَّب من السلطة، وذلك لرفع كلفةِ المرورِ إلى الجانب المصري في المعبر وجعله أقرب للمستحيل. 

انتُقدت شركةُ هلا بسبب أنشطتها، لكنَّ أيمن الرقب أستاذ العلوم السياسية بجامعة القدس والمقيم في القاهرة عدَّ ما تفعله شركة هلا إيجابياً، إذ أسهم في وقف تنفيذ المخطط الإسرائيلي بتهجير أهالي قطاع غزة إلى مصر، مشيراً إلى أنَّ التنسيقات أو الأموال الباهظة التي تطلبها شركة هلا من الفلسطينيين قلّصت أعداد النازحين من غزة إلى نحو مئة وخمسة عشر ألف فلسطيني فقط من بين قرابة مليوني نازح من شمال غزة إلى جنوبها.

تعمل شركة هلا في الخدمات السياحية و استصدار الموافقات الأمنية على الجانب المصري من معبر رفح قبل الحرب، مثل شركة مرحبا الموجودة في الجانب الأردني من معبر الكرامة بين الضفة والأردن. ويرى الرقب أن ترك مصر معبرَ رفح أمام الفلسطينيين بلا إجراءات مشددة كان سيتبعه هجرة جماعية لنصف سكان القطاع طوعاً وكرهاً على أقل تقدير.


بعد انتهاء الخمسة والأربعين يوماً، مدة التأشيرة السياحية لحنان وأطفالها الثلاثة الذين تتراوح أعمارهم بين عشرة إلى أربعة عشر عاماً، ذهب الأربعة إلى مكتب مفوضية اللاجئين لتقديم  طلب لجوء يمكنهم من تمديد الإقامة في مصر قانونياً.

 انتظرت حنان وأطفالها أكثر من أربع ساعات قبل أن تخبرها الموظفة أن المفوضية تقدم الدعم وخدمات اللجوء لعدد من الجنسيات، ليس من بينها الفلسطينية، واقترحت عليها الذهاب إلى مكتب وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين "الأونروا". ذهبت حنان إلى مكتب الوكالة، لكن الموظف المسؤول أبلغها أن المكتب تمثيلي ولا يقدم خدمات للفلسطينيين المقيمين في مصر، ونصحها موظف الأونروا أن تقصد مكتب منظمة الهجرة الدولية.

 ذهبت حنان وسجلت بياناتها وبيانات أطفالها ومعهم أكثر من عشرين سيدة فلسطينية جاؤوا إلى مكتب المنظمة، وقد وعدتهن موظفة التسجيل بالاتصال بهنَّ إذا أصدرت  المنظمة الأممية أو الحكومة المصرية قراراً يضمن تقنين أوضاعهنَّ وأطفالهنَّ مهاجرين أو لاجئين.

بعد فشل محاولات حنان تقنينَ وضعها وأطفالها في مصر نصحها جارها الفلسطيني إبراهيم هلال بالذهاب إلى الإدارة العامة للجوازات والهجرة والجنسية بمنطقة العباسية غرب القاهرة للاستفسار عن الرسوم والإجراءات المطلوبة وعن إمكانية تقسيط الرسوم. يقيم هلال وعائلته في مصر منذ 1967، وقد عرض على حنان أن يرافقها إلى إدارة الجوازات لأن موعد تجديد إقامته وأفراد أسرته قد حان.

رافقْنا حنان وهلالاً في زيارتهما إلى إدارة الجوازات في الحادي والعشرين من سبتمبر 2024. قالت حنان للضابط إنها تريد إقامة لها ولأطفالها لتتمكن من إلحاقهم بالمدارس، وشرحت له أن مديري عشر مدارس بمحافظة القاهرة ومثلهم بالجيزة رفضوا قبول أطفالها لأنهم لا يحملون إقامة سارية في مصر. 

استمع الضابط بالإدارة العامة للجوازات والهجرة لحنان بإمعان قبل أن يخبرها بأنها وأطفالها والفلسطينيين جميعهم الذين جاؤوا إلى مصر بعد السابع من أكتوبر 2023 ضيوف، ولا يُطلب منهم دفع أي رسوم إقامة أو حتى رسوم تقنين الأوضاع.

 أخبرتْ حنانُ الضابطَ حاجتَها الحصولَ على إقامة شرعية في البلاد لإلحاق أطفالها بالمدارس، أو السفر إلى دول أخرى، إلا أن رده كان: "لسه مجالناش أوامر بالتعامل أنتو ضيوف وبعد الحرب هترجعوا بلدكم عشان متشجعوش إسرائيل على مشروع التهجير".

وقد أكد مصدرٌ بمفوضية شؤون اللاجئين للفراتس كلام الضابط لحنان، فالحكومة المصرية لم تُعطِ الضوءَ الأخضر للمفوضية والمنظمات الأممية في مصر المعنية بحقوق اللاجئين والمهاجرين لتقنين أوضاع الفلسطينيين. وقال المصدر، الذي طلب عدم ذكر اسمه، "الحكومة المصرية مش موافقة إننا نسجل الفلسطينيين كلاجئين"، مضيفاً "مش قادرين نعملهم حاجة في ناس منهم عارفين يتصرفون وفي ناس لأ".

في تصريحات إعلامية متكررة للسفير الفلسطيني في القاهرة دياب اللوح ذكر أن السفارة تسعى منذ أشهر إلى استصدار تصاريح إقامة مؤقتة قابلة للتجديد للفلسطينيين الذين وصلوا مصر من غزة بعد العدوان الإسرائيلي المستمر منذ عام، ليتمكَّنوا من تسجيل أطفالهم في المدارس أو فتح شركات أو حسابات مصرفية أو السفر أو الحصول على تأمين صحي أو غيرها، لكن هذا الأمر "مسألة سيادية مصرية" على حد تعبيره "تُبحث على أعلى المستويات".

قدر مصدرٌ بالسفارة الفلسطينية في مصر في حديثه لمنصة "مدى مصر" عدد الطلاب النازحين إلى مصر بعد السابع من أكتوبر في مرحلتي التعليم العام والجامعي بواحد وعشرين ألف طالب وطالبة، منهم خمسة عشر ألفاً في مرحلة التعليم العام وستة آلاف في مرحلة التعليم الجامعي. ولصعوبة الالتحاق بالمدارس والجامعات المصرية بادرتْ السفارة بإلحاق الطلبة بمدارس الضفة الغربية وجامعاتها إلكترونياً، ليواصلوا تعليمهم عن بُعد، لكنه حلٌ صعبٌ لعدم قدرة كثير من الطلبة على توفير حاسوبٍ شخصيٍّ واتصال منتظم بالإنترنت.


لم يكن هلال جار حنان الفلسطيني أفضل حظاً في تجديد إقامته، فقد أخبره الضابط المختص بزيادة رسوم تجديد إقامة الفلسطينيين الموجودين قبل العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة. تضاعفت رسوم الإقامة لثلاث سنوات من سبعين دولاراً، ما يعادل ثلاثة آلاف وخمسمئة جنيه، إلى ثلاثمئة وسبعين دولاراً، ما يعادل ثمانية عشر ألف جنيه.

يحمل هلال وثيقة سفر مصرية وصفة لاجئ فلسطيني منذ السبعينيات، قال في حديثه للفراتس إن كونه لاجئاً لا يعفيه وأسرته من رسوم الإقامة، مضيفاً "احنا موجودين في مصر وشغلنا في مصر وبنقبض بالجنيه المصري لكن مطلوب منا ندفع بالدولار الأمريكي". وأشار هلال إلى أنَّه رب أسرة مكونة منه وزوجته وثلاثة أبناء وزوجاتهم وأربعة أحفاد، فبعد الأسعار الجديدة مطلوب منه أن يدفع أكثر من أربعة آلاف دولار للحكومة المصرية، مع تدبير نفقات المعيشة والسكن والتعليم، مردداً "هنجيب منين".

جاء هلال ذو الخمسة والستين عاماً إلى مصر بعد احتلال القوات الإسرائيلية الضفةَ الغربية وقطاعَ غزة سنة 1967، وكان والده قد سبقه إلى القاهرة بعد نكبة 1948 واستقرَّ بها. عاش هلال في مصر منذ ذلك الحين وعاصر أنظمةً مختلفةً حتى في تعاملها مع الفلسطينيين، فأدرك مساواتهم بالمصريين ومنحهم حقوقَ المواطنة - دون التجنيس- وقت عبد الناصر، ثم تلاشت المعاملة التفضيلية شيئاً فشيئاً، وعُوملوا معاملة الأجانب وفرضت عليهم رسوم إقامة بداية من الثمانينيات.

"مفيش بعد مصر" يقول هلال الذي ينتمي إلى عائلة فلسطينية تمتدُّ جذورها في فلسطين والأردن ومصر، ويرى نفسه محظوظاً بالإقامة في مصر على كلِّ الصعوبات ولكنه منذ بداية الحرب في غزة هناك شيء كبير تغير، مضيفاً "مصر أحسن دولة في العالم، الشعب بيعامل الفلسطينيين معاملة كويسة لكن الحكومة بتعاملنا معاملة الأجانب ويمكن أقل وسفارتنا مش بتعمل حاجة".

في أكتوبر 2023 كان هلال وأسرته في غزة لقضاء مناسبة عائلية وعندما اندلعت الحرب علقوا فيها أربعة أشهر، "مكنش فيه حل قدامي للعودة لمصر سوى الدفع لشركة هلا" يضيف هلال أنَّ الشركة وضعت تسعيرة للمصريين ستمئة وخمسين دولاراً، ولحاملي وثيقة السفر المصرية من الفلسطينيين اللاجئين في مصر ألفاً ومئتي دولار، أمَّا الفلسطينيون الذين معهم جوازات سفر من السلطة الفلسطينية وغيرهم فخمسة آلاف دولار لكلِّ شخص.

دفع هلال أكثرَ من عشرين ألف دولار بعدما ساعده أفراد عائلته في غزة وخارجها بجمع المبلغ، وعاد إلى مصر أملاً في عودة حياته المستقرة منذ الستينيات. لكنَّ الحكومة المصرية فاجأته برفع رسوم الإقامات وإلزامه بتحويل قيمتها بالدولار إلى البنوك أو الصرافات المعتمدة، وهو يعمل وأبناءه سائقين ودخلهم بالكاد يكفي نفقات المعيشة. قال هلال "لو كان معانا قرشين دفعناهم على المعبر، دلوقتي مطلوب مننا نجدد الإقامة أو يطردونا".

يرى أيمن الرقب أنَّ سبب الأزمة عدم حسم آلية معينة للتعامل مع الفلسطينيين في مصر منذ بداية وجودهم في البلاد وحتى اليوم، مؤكِّداً أنَّ في مصرَ فلسطينيون يقيمون منذ أربعين عاماً وخمسين عاماً من غير الحصول على الجنسية. ويعتقد الرقب أن معاملة الفلسطينيين معاملة المصريين كما كان يحدث في الستينيات، ومنح المستحقين منهم الجنسية سيخفِّف من معاناة آلاف الفلسطينيين مع الإجراءات الحكومية في مصر. 

 وبدأت السلطات المصرية التعاملَ مع ملفِّ اللاجئين الفلسطينيين سنةَ 1948 بتحديد إقامتهم في معسكر في العباسية غربَ القاهرة، جمعت فيه من وصلَ منهم إلى مصر. إلَّا أنَّ الحصار أدى إلى صدامات بين اللاجئين والقوات المصرية، فتراجعت الحكومةُ المصريةُ عن الفكرة وسمحت بعدها بخروج الفلسطينيين الذين يملكون الأموال ومنحتهم حقَّ الإقامةِ في مصر، وسمحت كذلك بخروج كلّ من أتى من فلسطين إلى مصر عن طريق كفيل مصري مقتدر.

مع تولّي عبد الناصر مقاليد السلطة في مصر، كان الفلسطينيون مصريين لا تنقصهم سوى الجنسية. فتح عبد الناصر لهم الأبواب بين مصر وغزة بداية من سنة 1958 حين كان قطاع غزة تحت الرعاية المصرية، وأتاح لهم العمل في الحكومة والتعليم مجاناً والإقامة وأعطاهم وثائق سفر مصرية. 

ثم تغيّر وضع اللاجئين الفلسطينيين مع تولي محمد أنور السادات رئاسة مصر، ففي كل مرَّة يوقّع السادات اتفاقيات مع الجانب الإسرائيلي، مثل اتفاقية فك الاشتباك وبعدها اتفاقية  كامب ديفد 1978، تُخفِّفُ الدولةُ شيئاً فشيئاً من مساواتهم بالمصريين في الخدمات والحقوق. حتى وصل هذا التغير ذروته سنةَ 1978 عقب اغتيال منظمة التحرير الفلسطينية وزيرَ الثقافة المصري يوسف السباعي في قبرص بسبب مشاركته السادات في زيارة إسرائيل، إذ عدَّلت مصرُ عدداً من قوانين معاملة الفلسطينيين كالمصريين في العمل، فعومل الفلسطينيُّ كالأجانب ومُنِعَ من العمل في مصر.

وكانت الحكومةُ المصريَّةُ تدفع منذ الستينيات وحتى الثمانينيات إعانةً شهريَّةً للاجئين الفلسطينيين، خصوصاً في ظلِّ عدمِ عمل الأونروا في مصر، فأصدرت الحكومة سنة 1984 قانونَ فرضِ رسومِ إقامة على الفلسطينيين في مصر تشمل مَن يحملُ بطاقة لاجئ، ومساواتهم بالأجانب في رسوم التعليم في المدارس والجامعات المصرية.    


تحدثت حنان وهلال، في أثناء وجودهما بالإدارة العامة لمصلحة الجوازات والهجرة والجنسية، إلى فادي وهو شاب فلسطيني من أم مصرية حصل على الجنسية المصرية قبل ستة أشهر من بداية الحرب على قطاع غزة في أكتوبر 2023. جاء فادي إلى الإدارة للاستفسار عن الرسوم الخاصة بإقامة زوجته الفلسطينية، وآلية استخراج شهادات ميلاد مصرية لطفلتيه وإعفائهم من رسوم الإقامة.

 استفاد فادي من خدمات شركة هلا في تجاوز الإجراءات الأمنية المشددة على معبر رفح التي تمنع أيَّ شابّ فلسطيني دون الأربعين من عمره من دخول مصر إلا بتأشيرة أو موافقة أمنية مسبقة، واستطاع عبور المعبر ودخول مصر لإتمام  إجراءات بدأها سنة 2019 للحصول على الجنسية المصرية.

"عملت تنسيق في شهر أبريل الماضي لأنه في الشتاء وفي رمضان الضغط على المعبر بيقل وسعر التنسيق بيكون أقل خمسين شيكل (مائة وخمسين دولاراً)".

أصدرت الحكومة المصرية سنةَ 2004 قانوناً يمنح أبناء الأم المصرية الجنسية المصرية، إلا أنها استثنت الفلسطينيين والفلسطينيات من هذا القانون معتمدة على توصية قديمة صادرة عن جامعة الدول العربية في الخمسينيات، لمنع الدول الأعضاء من منح جنسياتها الفلسطينيين، حفاظاً على الهوية الفلسطينية.

رفض الفلسطينيون من أبناء الأم المصرية الموجودون في مصر حرمانهم من الجنسية وحصلوا على كثير من الأحكام القضائية بأحقيتهم في الجنسية، إلا أنَّ وزارة الداخلية لم تنفذ تلك الأحكام سوى بعد قيام ثورة الخامس والعشرين من يناير، وذلك بعدما نظَّم مئاتُ الفلسطينيين مظاهرات أمام إدارة الجوازات تدخَّل إثرها رئيس الوزراء  عصام شرف وطلب من جامعة الدول العربية إبداء رأيها بمنح الفلسطينيين من أمٍّ مصريةٍ الجنسيةَ المصرية على غرار باقي الجنسيات، فأوصت الحكومةُ بتجنيسهم مع الاحتفاظ بجنسيتهم الفلسطينية.

بعد التوصية استقبلت وزارة الداخلية طلبات التجنيس من الفلسطينيين أوَّلَ مرَّةٍ في مايو 2011 وبدأت في إصدار الجنسيات المصرية للفلسطينيين بعد اجتيازهم تحريات جهاز أمن الدولة "الأمن الوطني حالياً" والأمن العام وموافقة وزير الداخلية. وحسب تصريح سابق لمدير إدارة الجوازات والهجرة المصرية الأسبق اللواء حسين الريدي، فقد حصل أربعة وعشرون ألف فلسطيني من أم مصرية على الجنسية المصرية منذ مايو سنة 2011 وحتى مايو 2014. ثمانية آلاف منهم حصلوا عليها سنةَ 2013 وقت رئاسة الرئيس السابق محمد مرسي، لكن بداية من 2014 تباطأت إجراءاتُ الحصول على الجنسية المصرية للفلسطينيين من أمٍّ مصرية ولم تصدر عن أي جهة رسمية إحصاءات بالعدد الحالي.

أخبر ضابط الجوازات فادي بأن زوجته ستكتسب الجنسيةَ المصرية بعد عامين من اكتسابه لها في أبريل 2023 بعد إحضار الأوراق والرسوم المطلوبة، أي في أبريل المقبل، وأن عليها حتى انتهاء تلك المدة أن تدفع رسوم إقامتها المؤقتة في البلاد.


خرج هلال وفادي من الإدارة العامة للجوازات يفكران في كيفية تدبير رسوم الإقامة بعد تضاعف قيمتها واشتراط دفعها بالدولار، بينما تواصلت حنان مع أصدقائها في المنظمة الأممية التي كان تعمل بها قبلَ مغادرتها قطاعَ غزة في أبريل الماضي لتدبير وظيفة لها ووضع قانوني يعينها وأطفالها الثلاثة على العيش في مصر. تحقَّقت المعجزة، إذ وفَّرت المنظمة لحنان فرصة عمل بالقاهرة ومنحتها جواز سفر خاصٍّ بالعاملين في الأمم المتحدة، حصلت بموجبه حنان على إقامة خاصة تكفل وجودها قانونياً في مصر مدَّةَ عملها في المنظمة، وحصل أطفالها على إقامة "مجاملة" تمكّنهم من الالتحاق بالمدارس المصرية لأنَّهم أجانب موجودون في مصر قانونياً.

اعتقدت حنان أن مشاكلها انتهت وأنها ستعود إلى حياتها المتوقفة منذ قيام الحرب في غزة، إلا أن جولة ثانية على المدارس المصرية الخاصة والإدارات التعليمية المختلفة كانت محبطة، فقد طلبت المدارس لقبول أوراق أطفالها الثلاثة تقديم إقامة الزوج بمصر ونسخة موثقة من شهادتها وشهادة زوجها الجامعية، و شهادات الأطفال الخاصة السابقة، وهو الأمر الذي يشبه المستحيلات الثلاثة، لأن زوجها في جنوب إفريقيا، والحرب ما زالت مستمرّة في قطاع غزة.

اشترك في نشرتنا البريدية