إسرائيل تُفشِل حلمَ الفلسطينيين في استغلال غاز غزّة، وقَلقٌ من سوء إدارة السلطة للملف

تسيطر إسرائيل على حقول الغاز في غزة وتعيق استغلالَها، مما يَحرم الفلسطينيين من فوائد اقتصادية جمّة ويَحول دون تحقيق الأمن الطاقيّ في القطاع المحاصر.

Share
إسرائيل تُفشِل حلمَ الفلسطينيين في استغلال غاز غزّة، وقَلقٌ من سوء إدارة السلطة للملف
شباب فلسطينيون خلال تجمع في ميناء غزة البحري، يطالبون فيه بحقهم في تلقي الغاز من حقل بحري قبالة إسرائيل وفتح المعابر الحدودية في 13 سبتمبر 2022. تصوير أحمد زكوت عبر صور غيتي

ظهر الرئيسُ الفلسطينيّ ياسر عرفات عام 2000 قبل اندلاع الانتفاضة الثانية بأشهرٍ قليلةٍ في تلفزيون فلسطين الرسميّ وقد ارتسمَت على وجهه معالمُ الاستبشار والسعادة معلناً اكتشاف حقل غازٍ في بحر قطاع غزّة. ومِن على متن قاربٍ يموجُ برفقٍ فوق مياه المتوسط، أشار عرفات إلى طاقم التنقيب التابع للشركة البريطانية للغاز للبدء بالعمل على المحطة لاستخراج الغاز، الذي وصفه بأنه "هديّة من الله" لأهل فلسطين، آملاً أن يشكّل هذا الاكتشافُ قاعدةً لتعزيز الاقتصاد الفلسطيني على طريق بناء الدولة المستقلة وعاصمتها القدس. 

جاء هذا الإنجازُ واحداً من ثمار اتفاقات أوسلو الموقّعة عام 1993 بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، والتي نصّت على تولّي سلطةٍ فلسطينيةٍ، منبثقة عن المنظمة، الحكمَ الذاتيَّ في مناطق من الضفة الغربية وقطاع غزة. بَيد أن الآمال تلاشت واحداً تلو الآخَر على مدار عقدَين منذ إعلان الرئيس ياسر عرفات اكتشاف حقل الغاز في غزة، حتى انطفأَت تماماً في السنوات الأخيرة مع إحكام الاحتلال الإسرائيلي سيطرته السياسية والعسكرية على هذا الملف، لا سيّما منذ اندلاع الانتفاضة الثانية نهاية عام 2000. ثمّ تفاقَم الأمرُ مع تصاعد الحصار الإسرائيلي والحروب المتكرّرة على غزة، خاصّةً بعد انسحاب إسرائيل من القطاع في 2005 وسيطرة حماس الكاملة عليه في 2007. 

ياسر عرفات يصعد على متن سفينة خلال الإطلاق الرسمي لعمليات الحفر في 27 سبتمبر 2000 لاستغلال حقل غاز تم اكتشافه حديثًا قبالة سواحل غزة. الصورة من وكالة الصحافة الفرنسية عبر صور غيتي.

ومع الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة، عاد الحديثُ عن الغاز إلى الواجهة من غير أن تحدث فيه تطوّراتٌ ملموسة. وفي حين انشغلَت وسائلُ الإعلام بتفسير أسباب الحرب، سواء بتسميتِها ردّاً على هجوم حماس أو محاولةً إسرائيليةً لتهجير سكان القطاع، ظهرت نقاشاتٌ تفيد بأن إسرائيل تَستهدف السيطرةَ على الموارد الطبيعية، وخاصّةً حقلَي الغاز مارين 1 ومارين 2، وأن ذلك من الدوافع الرئيسة للعدوان. وبغضّ النظر عن صحّة ذلك من عدمه فإن احتياطيّ غزّة من الغاز الطبيعي يفوق التريليون قدمٍ مكعّب. وهو، وإنْ لم يكن احتياطياً ضخماً لا بالمقاييس العالمية ولا الإقليمية، إلّا أنه يمثّل ثروةً كبيرةً للفلسطينيين الذين يعتمدون على التمويل الدولي في دعم موارد السلطة الفلسطينية والنشاط الاقتصادي عموماً. وهو في الوقت ذاته يمثّل مطمعاً دائماً لإسرائيل التي درجَت على استغلالِ الموارد الطبيعية في الأراضي الفلسطينية المحتلّة وسرقتِها مثلما يحدث مع المياه الجوفية في الضفة الغربية. وهو أمرٌ لفتت إليه منظّماتٌ دوليةٌ مثل منظمة العفو الدولية.

دأبَت إسرائيلُ على عرقلة تطوير حقول الغاز في غزة، سواءً بسياساتها التي تضيّق على الفلسطينيين أو بعدم توصّلها إلى اتفاقيات تجارية مع الشركات المختصة. ولا غرابة في ذلك، فإن السيطرة على الغاز الفلسطيني تمثل هدفاً مهمّاً لإسرائيل لتعزيز نفوذها السياسي والاقتصادي في المنطقة. وتعكس الأطماعُ الإسرائيليةُ رغبةً واضحةً في تكريس السيطرة على الموارد ومنع الفلسطينيين من إنجاز أيّ نوعٍ من الاستقلال الاقتصادي.

وفي الوقت ذاته، تواجه السلطةُ الفلسطينيةُ انتقاداتٍ حادّةً من حقوقيين وناشطين بسبب طريقة إدارتها ملفَّ حقول الغاز في غزة. فيُتّهَم المسؤولون بالتفريط في حقوق الشعب الفلسطيني بتوقيع اتفاقيات لا تعترف بسيادة الفلسطينيين الكاملة على مواردهم الطبيعية. وأثارت مشاركةُ السلطة في منتدى غاز شرق المتوسط مخاوفَ من أن تكون السلطة تقدّم تنازلاتٍ في سبيل اتفاقياتٍ اقتصاديةٍ مجحِفةٍ، بحيث يستفيد الاحتلال من الموارد الفلسطينية بينما يُحرَم الفلسطينيون من عوائدها. ويطالِب الحقوقيون السلطةَ بالانسحاب من هذه الاتفاقيات وملاحقة الاحتلال قانونياً على استغلاله للموارد الفلسطينية دون تعويضٍ عادل.


أصبح الحديثُ عن أمن الطاقة في إسرائيل وعلاقته بالعالم العربي أكثرَ إلحاحاً اليوم، إذ تَستورد مصرُ والأردنُ الغازَ من إسرائيل. وتتزايد أهمّيةُ حقول الغاز المكتشفة حديثاً في البحر المتوسط، لا سيّما بعدما كانت إسرائيل تعتمد اعتماداً كبيراً على البحر الأحمر الذي يواجه تحدّياتٍ عديدةً كما شهدنا في أثناء الحرب على غزة، وتحديداً هجمات الحوثيين على السفن التجارية المتجهة إلى إسرائيل. هذا ما تؤكّده مجلة الدراسات الفلسطينية الفصلية، في عددها الصادر في ربيع 2015، والتي أشارت إلى أن هذه الاكتشافات مكّنَت إسرائيلَ أوّلَ مرّةٍ من دخول قطاع الطاقة العربيّ.

تسعى إسرائيلُ جاهدةً لضمان السيطرة على حقول الغاز في فلسطين، ضمن سعيها إلى تعزيز تموضعها في المنطقة، وفقاً لاستنتاج الباحثة رندة حيدر في دراستها "السياسة الإسرائيلية العامة لقطاع الغاز" التي نُشرَت في مجلة الدراسات الفلسطينية عام 2017. تؤكّد حيدر حرصَ إسرائيل على تعزيز العلاقات مع دولٍ مثل الأردن ومصر، ناهيك عن دول الجوار كتركيا من جهةٍ، وقبرص واليونان من جهةٍ أخرى، وكلُّ ذلك انطلاقاً من حرصها على الاستفادة من توسيع سوق الغاز في المنطقة.

تَعدّ إسرائيلُ منشآتِ إنتاج الطاقة، وخاصّةً الغاز، جزءاً لا يتجزّأ من أمنِها القوميّ. وقد قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في خطابٍ أمام الكنيست في الثامن من ديسمبر 2015: "إذا تضرّرَت إمداداتُ الغاز التي أصبحَت المصدرَ الرئيسَ لإنتاج الطاقة، فإن أمنَنا القوميَّ سيتضرّر ... إن ضمانَ سلامة إمدادات الغاز ليس ضرورياً فقط لعمل الدولة، بل لوجودها أيضاً". وبعد هذا الخطاب بأيامٍ، وُقِّعَت اتفاقيةُ تسوية الغاز في منطقة رمات حوفاف في صحراء النقب بين الحكومة الإسرائيلية وشركات الطاقة لتطوير موارد الغاز الطبيعي واستغلالها.

ومع الجهود الإسرائيلية لتحقيق الاكتفاء الذاتيّ، يشير وليد خدوري في دراسته "آفاق الصناعة البترولية الإسرائيلية وحدودها" إلى أن الاحتياطيات المكتشفة في المياه الجنوبية المحاذية لبحر غزة ضحلةٌ ولن تكفيَ لتلبيةِ الطلب المحلّي على الطاقة أو للتصدير. ويجادِل خدوري بأن مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي يقتصر على تأمين احتياجاتها من الغاز، متجاهلاً دورَ أمنِ الطاقة في المنطقة ككُلّ. وتُعرقل إسرائيلُ الاستفادةَ من حقل مارين في غزّة، مدّعيةً أن جزءاً من الحقل يقع في المياه الإسرائيلية، وتُبدي مخاوفَ من أن تعود عائداته الماليّة إلى حركة حماس.

يمكن القولُ، إذن، إن أطماع إسرائيل في الاستحواذ على أي مصدرٍ محتملٍ للغاز هي أمرٌ حقيقيٌّ، مع اعتقاد بعضِهم أنها مجرّد خرافة. والوقائع تشير أيضاً إلى أن السياسة الإسرائيلية لا تسعى إلى تعزيز نفوذها الإقليمي بالسيطرة على موارد الطاقة فحسب، بل تستغل ذلك لتعزيز سيطرتها على الشؤون الفلسطينية في الوقت ذاته. وهذه السياسات جزءٌ أصيلٌ من رؤيتها للحفاظ على أمنِها ومصالحِها، مما يضيف تعقيداتٍ إضافيةً على الجهود الفلسطينية والدول المجاورة لاستغلال مواردها الطبيعية وتحقيق استقلالها الاقتصادي.


كان مؤمَّلاً أن تُدارَ حقول الغاز في غزة بطاقةٍ إنتاجيةٍ تفوق مليار مترٍ مكعّبٍ سنوياً على مدى عشرين عاماً، مما سيُسهِم في حلّ أزمة الكهرباء في القطاع. يحتاج قطاع غزة إلى 400 ميغاواط من الكهرباء لتغطية احتياجاته، بينما يتوفّر حاليّاً 212 ميغاواط فقط، قبل أن تقطع إسرائيلُ الإمداداتِ الكهربائيةَ وتدمّر بِنى الطاقة التحتية بعد 7 أكتوبر. قبل الحرب الحاليّة، كانت غزة تَستورد من الاحتلال 120 ميغاواط، بينما يوفّر خطُّ الكهرباء المصريُّ 32 ميغاواط، ومحطّة كهرباء غزة 60 ميغاواط. كان استغلال الغاز سيمكّن القطاع من تغطية احتياجاته الطاقية ذاتياً، إلا أن الاحتلال يرفض هذه الحلول.

جاءت اكتشافاتُ الغاز الطبيعيّ مع بداية الحكم الذاتيّ للسلطة الفلسطينية، بينما كانت السيطرة الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية في أَوجِها. بدأ الحديث عن هذه الاكتشافات في أواخر التسعينيات وبداية الألفيّة، لكن اندلاعَ الانتفاضة الثانية زاد من تفاقم الصراع والمواجهات التي امتدّت من القدس إلى باقي الأراضي، مما أعاق جهود استغلال هذه الثروات.

تمتلك السلطة الفلسطينية، بصفتِها الجهة الرسمية دولياً، حقولَ الغاز المكتشَفةَ في مياه غزة والتي تُجرَى محادثاتٌ سياسيةٌ وتجاريةٌ لتطويرها. وبعد اكتشاف حقل مارين 1، وقّعت السلطة في نوفمبر 1999 اتفاقاً مع الشركة البريطانية للغاز، التي أصبحت الآن تابعةً للشركة البريطانية الهولندية "شِلّ" التي استحوذت عليها سنة 2016.

كان قطاع غزة حينها تحت السيطرة الكاملة للاحتلال، بما في ذلك المستوطنات والثكنات العسكرية المنتشرة في مختلف مناطق القطاع. لم يسمح الاحتلالُ للسلطة الفلسطينية بتنفيذ الاتفاقية مع أنها التي تتولّى الحكمَ الذاتيَّ بموجبِ اتفاق أوسلو، كما أشار الصحفيّان محمد أبو جياب وحامد جاد من غزة، وهما يتابعان موضوعَ حقول غاز غزّة عن كثب.

بقيَت الأمورُ معلّقة بين عامَي 2001 و2006، إذ جرت العديدُ من المفاوضات بين الشركة البريطانية ووزارة الطاقة الإسرائيلية لشراء الغاز، إلّا أن إسرائيل أصرّت على شراء الغاز بأسعارٍ أقلّ من العالمية، ممّا أدّى إلى فشل المفاوضات وتوقّف القضيّة.

مرّت الأراضي الفلسطينية، وخاصّةً قطاع غزة، بعدّة أحداثٍ سياسيةٍ في هذه الفترة، أبرزُها وفاةُ الرئيس ياسر عرفات، وتولّي روحي فتوح رئاسةَ السلطة، وانتخابُ محمود عباس في 2004. وفي 2005، انسحب الاحتلالُ من غزّة انسحاباً أحادياً من غزة، وأعاد تمركزَه خارج حدود القطاع، وفرض حصاراً بحرياً مشدّداً لمنع الدخول والخروج البحريّ.


العام المفصلي كان 2006 عندما فازت حركةُ حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية. وبعد صراعٍ وتجاذبٍ بين الجناح العسكريّ لحركة حماس والأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية في قطاع غزّة، أحكمَت حماس سيطرتَها الكاملةَ على القطاع في منتصف يونيو 2007. عقب ذلك، بدأ الحصارُ الخانقُ الذي فرضَه الاحتلالُ على غزّة. ولم يقتصر الأمرُ على الحصار والمعابر. ففي أواخر عام 2008، شنّ الاحتلال أُولى حروبه على قطاع غزة بهدف إسقاط حكم حماس والسيطرة على القطاع بالقوة.

وحتى عام 2016 كانت الأردن مهتمّةً بتوقيع اتفاقيةٍ مع الشركة البريطانية للغاز لتوريد الغاز المستخرَج من قطاع غزة. وبمرور الوقت وتسارع الأحداث، شنّ الاحتلال حربَيْن على غزّة في عامَي 2012 و2014، محاولاً إنهاءَ سيطرة حماس، لكنه فشلَ في تحقيق أهدافه. انسحبَت شركة "شِلّ" البريطانية، وهي الشركة التي استحوذت على الشركة البريطانية للغاز، من اتفاقيات الغاز في عام 2018 بينما كانت السلطة الفلسطينية تأمل في إضافة مستثمرين جددٍ آنذاك. وهو ما حدث بالفعل، إذ أصبحَت حقولُ الغاز مملوكةً من صندوق الاستثمار الفلسطيني وشركة اتحاد المقاولين، المعروفة اختصاراً بالأحرف الإنجليزية "سي سي سي"، وهي من كبريات شركات المقاولات في المنطقة العربية. 

من بين ركام الدمار في غزة، يقول محمد أبو جياب إنه لا جديد يُذكَر في موضوع الغاز أثناء الحرب، سواءً في البحر أو على الصعيد السياسي. يقع مارين 1 داخل الحدود الفلسطينية، بينما يقع مارين 2 في منطقةٍ مشتركةٍ مع إسرائيل. وقد مَنَحَت إسرائيلُ امتيازاتِ استكشافِ غازٍ في مناطق بَحريةٍ موازيةٍ لقطاع غزّة لعدّة شركات. ويُحتمَل إذا ما طُوِّرت حقولٌ في الجانب الإسرائيلي أن يُستخرَج الغازُ من المنقطة المشتركة التي يقع فيها حقل مارين 2 الغزّيّ، وأن يُحرَم الفلسطينيون من مواردهم الطبيعية نتيجةً لمنع إسرائيل المستمرّ تطويرَ حقول الغاز، وهو أمرٌ تنفيه الشركة المطوّرة من الجانب الإسرائيلي.

ثم وُقِّعَت مذكّرةُ تفاهمٍ في فبراير 2021 بين صندوق الاستثمار الفلسطيني وشركة المقاولون المتحدون والشركة المصرية القابضة للغازات الطبيعية، المعروفة بِاسم إيجاس، بهدف تطوير حقل غزة مارين للغاز. تلا ذلك توقيعُ اتفاقيةٍ إطاريةٍ في أكتوبر 2022 تضمّنَت تفاصيل فنيةً وماليةً لدور الشركات المصرية في المشروع، إذ كان سيتم نقل الغاز إلى العريش في مصر لمعالجته وبيعه للشركة المصرية القابضة للغازات الطبيعية. فضلاً عن ذلك، وافقت الحكومة الإسرائيلية مبدئياً في يونيو 2023 على المشروع شريطةَ التنسيق مع السلطة الفلسطينية ومصر لضمان المصالح الأمنية. وكُلِّفَت شركة شيرون المصرية بالإشراف على الجانب الفنّي لتطوير الحقل.

يبقى مستقبل المشروع الآن معلّقاً بعد سنواتٍ من استمرار الاحتلال والسيطرة الإسرائيليَّيْن على الأراضي الفلسطينية، وبعد حرب الإبادة القائمة في غزة. ويرى أبو جياب أن أيّ حديثٍ عن الغاز في الوقت الراهن يأتي في سياق الضغط السياسي، إذ يسعى الاحتلالُ إلى تحقيق أهدافٍ إستراتيجيةٍ بعيدةِ المَدى في غزة، بينما لا توجد خطواتٌ فعليةٌ ملموسةٌ على الأرض في ملف الغاز، مشيراً إلى أن هذا الملفّ سيُطرَح بعد اتّضاح الوضع السياسيّ في غزّة عقب الحرب.


بعد توقيع التفاهمات مع إيجاس والموافَقة الإسرائيلية المبدئية، يؤكّد الصحفي حامد جاد، من صحيفة الأيام الفلسطينية، أن المفاوضات بلغَت مرحلةً متقدمةً في سبتمبر، وكان مؤمَّلاً بدءُ العمل في أكتوبر 2023، أي الشهر نفسه الذي اندلعت فيه الحرب. 

هذا التأخير يفاقم إحباطَ سكّان غزّة الذين يعانون من انقطاعٍ مزمنٍ للكهرباء منذ سنوات. فلَم يقتصر إحباط الغزّيّين على عدم تطوير الحقل طوال هذه السنوات فحسب، وإنما تفاقَم وهُم يَرَون منصّةَ التنقيب من شواطئ غزّة منذ عقدين دون أن يجني أحدٌ منها أيَّ ثمار. وعلى كلّ حالٍ، على الأقلّ ضمن التصوّرات الحاليّة، لا يُتوقّع أن يحصل الغزّيون ولا الفلسطينيون عموماً على الغاز نفسه، إنما الفكرة تكمن في بيع هذا الغاز في السوق الدولية ومن ثمّ حصول السلطة على حصّتها من الأرباح التي ستُقسم بينها وبين المالكين والمطوّرين الآخَرين.

وفي حديثٍ لمجلّة الفِراتْس مع محمود نواجعة، المنسّق العامّ لحركة مقاطعة الاحتلال، وهو يتابع ملفّ الغاز مع السلطة الفلسطينية، أكّدَ أن المسألة تتجاوز حقولَ الغاز في غزة، إذ تشير الحدود الدولية إلى أن المنطقة البحرية المفترَض أن تتبع غزّةَ تمتدّ بما يتناسب مع حجم القطاع إلى الحدود القبرصية. إلا أن سيطرة الاحتلال على الحدود البحرية تَحُولُ دون استفادة الشعب الفلسطيني من حقوقه في هذه الثروات الطبيعية. وتؤكّد هذا الكلامَ دراسةٌ أَجرَتها منى سكرية بعنوان "بين الأساطير والحقائق: الملحمة الطويلة لغزة مارين" ونَشَرَها معهدُ عصام فارس للسياسات العامّة والشؤون الدولية في الجامعة الأمريكية في بيروت في شهر فبراير 2024.


بعد توقيع رئيس صندوق الاستثمار الفلسطيني ومستشار رئيس السلطة لشؤون الطاقة، محمد مصطفى، على مذكّرة تفاهمٍ مع الشركة المصرية للغاز، تولّت الشركةُ المصرية مسؤوليةَ التواصل مع الاحتلال الإسرائيلي للتفاوض على التنقيب عن الغاز في بحر غزة. وفي إطار جهود الاستفادة من موارد الغاز في المنطقة، أسّسَت مصرُ منتدى غاز شرق المتوسط، الذي ضمّ مصر والأردن وإيطاليا واليونان والسلطة الفلسطينية إلى جانب إسرائيل، مع عضويةٍ مراقبةٍ من الإمارات، التي انسحبَت لاحقاً لأسبابٍ لم تعلَن رسمياً.

أُسّس منتدى غاز شرق المتوسط بهدف تعزيز التعاون الإقليمي في مجال الطاقة، لا سيّما الغاز الطبيعي، وتسهيل تصديره إلى أوروبا. غير أن الدور المصري في هذا السياق أثار تساؤلاتٍ من جهاتٍ فلسطينية. فقد طالبت حركةُ المقاطعةِ السلطةَ الفلسطينيةَ ورئيسَ الوزراءِ بنَشرِ الاتفاقيات الموقّعة في المنتدى للكشف عن تفاصيلها. فهناك قلقٌ من أنّ هذه الاتفاقيات قد لا تحقّق العدالةَ في توزيع العوائد، خاصّةً في ظلّ الشراكة مع الاحتلال الإسرائيلي.

ومع محاولاتنا للتواصل مع الشركة المصرية للغاز للحصول على توضيحٍ للدور المصري في هذا الملف والاتفاقيات المتعلّقة بغاز غزّة، لم نحصل على أيّ ردٍّ حتى لحظةِ كتابةِ هذه السطور.

وعد وقتها رئيسُ الوزراء الفلسطيني، محمد اشتية، بالسماح لحركة المقاطعة بالاطّلاع على اتفاقية الغاز قبل توقيعها. لكن أعضاء الحركة فوجِؤا بتوقيع الاتفاقية دون التشاور معهم، ثم سُمح لهم لاحقاً، بعد ضغوطاتٍ، بالاطّلاع على تفاصيل الاتفاقية دون نشرها. وعندما اطّلعت حركة المقاطعة على محتوى الاتفاقية، اكتشفَت أنها تركّز فقط على الجوانب التقنية المتعلّقة بمدّ الأنابيب، دون أن تتضمّن أيّة إشارةٍ إلى حقوق الشعب الفلسطيني في الغاز أو الاعتراف بحقّهم الكامل في الاستفادة من مواردهم البحرية.

محمود نواجعة، المنسّق العامّ لحركة مقاطعة الاحتلال، يكشف عن فرضِ الاحتلال الإسرائيليِّ خريطةً بحريّةً يستولي بموجبها على معظم الموارد الفلسطينية البحريّة. وتتضمن الخريطةُ، التي أطلعت عليها الفراتس، أقلَّ من ثلثِ حقوق الفلسطينيين في تلك المنطقة. إذ يفترض أن تتضمن منطقة تحت السيادة الفلسطينية الكاملة ضمن مياه قطاع غزة، وتحتوي على ثلاثة حقول غازٍ رئيسةٍ، وهي: مارين وشمشون ورويي. لكن الاحتلال يعترف فقط بملكية غزة لحقل مارين، ممّا يَحرم الفلسطينيين من الاستفادة الكاملة من مواردهم الطبيعية.

ويضيف نواجعة أن وزارة الطاقة الإسرائيلية مَنحت شركتَي إيني الإيطالية ودانا بتروليوم حقوقَ التنقيب عن الغاز في البحر المتوسط، وذلك خلال الحرب الجارية في قطاع غزة. وتأتي هذه الخطوة في إطار الصراع الإقليميّ على حقول الغاز، في محاولةٍ من الاحتلال الإسرائيلي لفرض الأمر الواقع. حالياً، تنقّب الشركتان في حقلَيْ شمشمون ورويي، حيث بلغَ الاحتياطيُّ المكتشَفُ فيهما حتى الآن خمسة تريليونات قدمٍ مكعّبٍ من الغاز، وهو ما يعادل خمسة أضعاف الاحتياطيّ المكتشَف في حقلَيْ مارين 1 ومارين 2.

تواصَلْ فريق الفِراتس أيضاً مع ائتلاف "أمان" من أجل النزاهة والمساءلة، وهي مؤسسةٌ فلسطينيةٌ أهليةٌ تعمل في مجال الديمقراطية والحكم الصالح وحقوق الإنسان. سألْنا المستشارَ القانونيَّ للائتلاف، بلال البرغوثي، عن دورهم بصفتهم مؤسّسةَ مجتمعٍ مدنيٍّ في قضية الغاز. أوضح البرغوثي أن دور الائتلاف يقتصر على تقديم النصح والاستشارات للجهات الرسمية في مختلف الملفات، بما في ذلك ملف الغاز، مشيراً إلى أن الائتلاف ليس جهةً قانونيةً أو سياسيةً ترفع القضايا، وأن هذا الدور يجب أن تضطلع به وزارة الخارجية الفلسطينية. وأكّد أن الائتلاف سَبَقَ أن طالَبَ الوزارةَ بالانسحاب من اتفاقيات الغاز وبإلغائها.

وتواصَلْنا مع شركة إيني الإيطالية للطاقة، والتي أوضحَت أنها ليست مشارِكةً في رخصة غزة البحرية. وذكرت الشركةُ أنها شاركت في اتحادٍ مع شركاء في مناقصةٍ دوليةٍ تنافسيةٍ أطلقَتْها وزارةُ الطاقة الإسرائيلية في ديسمبر 2022 لتخصيص تراخيص التنقيب البحرية، حيث أُغلِقَت العطاءاتُ في 16 يوليو 2023. وفي 29 أكتوبر 2023، حصلَت إيني على منطقة الاستكشاف "جيه"، إلّا أن هذه المنطقة تبعد أكثر من 100 كيلومتر عن حدود غزة البحرية، ولا يوجد أيُّ نشاطٍ جارٍ فيها حتى الآن. وأضافت الشركة أنها تعمل دائماً وفقاً للقانون الدولي وأفضل ممارسات السلامة.

يخشى نواجعة من وجود تفاهماتٍ غير معلَنةٍ بين السلطة الفلسطينية والاحتلال بحيث تسمح للسلطة بالسيطرة على حقل مارين واستخراج الغاز منه مقابل غضّ النظر عن باقي الحقول وعدم المطالبة بها. ويضيف أن السلطة لا تطالِب بأيّ حقوقٍ لغزّة مقابل مرور أنابيب الغاز الإسرائيلية من الأراضي المحتلة إلى مصر عبر مياه غزة. ووفقاً للاتفاقيات بين الاحتلال ومصر، يُنقَل الغاز من ميناء أسدود بأنبوبٍ بحريٍّ يمرّ من مياه غزة إلى محطات التنقيط في العريش، ومن ثمّ يُشحَن بالبواخر إلى أوروبا، دون منح الفلسطينيين أيّ عوائد ماليّةٍ، مع استغلال الاحتلال للغاز الفلسطينيّ، ومرور الأنبوب بمناطق فلسطينيةٍ أيضاً.

ويطالِب نواجعة السلطةَ الفلسطينيةَ بالانسحابِ من منتدى غاز شرق المتوسط، ورفضِ القبول بالفتات الذي يقدّمه المنتدى، وعدمِ التفريط بالموارد الطبيعية للشعب الفلسطيني. ويدعو إلى إسناد مسؤولية الملفّ بالكامل إلى سلطة الطاقة الفلسطينية المختصة، بدلاً من بيع الغاز لصندوق الاستثمار ما يؤدّي إلى تضارب مصالحِه. ويشدّد نواجعة على ضرورة تحذيرِ السلطة الفلسطينية كلَّ الشركات التي تنقّب عن الغاز في المنطقة البحرية الفلسطينية، وملاحقتها قانونياً إذا لزم الأمر. ويشير إلى أن السلطة ينبغي أن تلاحق الاحتلال نفسه على سرقة الموارد الطبيعية الفلسطينية، مثل الغاز والمياه والنفط في الضفة الغربية. ويستنكر نواجعة الصمتَ الغريب من السلطة تجاه ممارسات الاحتلال، وكذلك غياب المجلس التشريعي وآليات المساءلة القانونية. 


حاولْنا التواصلَ مع قياديين في حركة حماس للحصول على معلوماتٍ عن ملفّ الغاز في غزّة، إلّا أن القياديين الذين تواصَلْنا معهم أفادوا بعدمِ امتلاكهم أيّ معلوماتٍ أو تعليقٍ على الموضوع. وأرجعَ الصحفيُّ الاقتصاديّ محمد أبو جياب هذا الموقفَ إلى أن حركة حماس تفتقر حالياً إلى معلوماتٍ عن ملفّ الغاز، إلى جانب خشية متحدّثيها من الانتقاد إذا ما تطرّقوا إلى هذه القضية في ظلّ الحرب الجارية على القطاع.

من جانبه، يرى الباحثُ السياسيّ عزيز المصري، المديرُ العامّ لشبكة المصدر الإخبارية، أن الاحتلال الإسرائيلي يعمل منذ سنواتٍ على منع أيّ استغلالٍ لحقول الغاز في غزّة. ويرى أن المسألة تتجاوز الغازَ والموارد الطبيعية، إذ يسعى الاحتلالُ إلى جعل القطاع بيئةً غيرَ صالحةٍ للسكن، متحكِّماً في موارد القطاع الاقتصادية. يشير المصري إلى أن الاحتلال يمنع العمل في منطقة حقول الغاز التي تحت سيطرته الكاملة، وأن السلطة الفلسطينية لا تملك السيادة على هذه الموارد. ومع محاولاتٍ فلسطينيةٍ سابقةٍ للتفاوض مع الجانب المصري لإعادة تفعيل ملف الغاز، إلّا أن هذه الجهود لم تنجح.

يضيف المصري أن حركة حماس عارضت في السابق كلَّ الاتفاقيات المتعلقة بالغاز، قائلةً بأن لها الحقّ في حصّة غزّة من هذه الثروة. حتى أنها هَدّدت في بعض الأحيان بالتدخل العسكري واستهداف منصّات التنقيب إذا لم تُمنَح حصّتَها. إلا أن المصري يرى أن هذه التهديدات كانت تندرج ضمن التصريحات الإعلامية أكثر من كونها مواقف حقيقية.

ويوضح المصري أن الاحتلال يستهدف على المدى البعيد حرمانَ الفلسطينيين من استغلال مواردهم الطبيعية، بما فيها الغاز. ومنذ سيطرة حماس على قطاع غزة في 2007، عمل الاحتلال على تحويل القطاع إلى منطقةٍ غير صالحةٍ للحياة الاقتصادية المستدامة، بتدمير البنى التحتية وتعطيل المشاريع الاقتصادية في كل حربٍ شَنَّها منذ ذلك الحين، وعرقلة أيّ تقدّمٍ في استغلال الغاز الذي يمكن أن يسهم في إنعاش اقتصاد غزة. وهذا أمرٌ نراهُ في أَوجِه الآن في الحرب الإسرائيلية المدمِّرة على غزة.


منذ الإعلان المبشّر للرئيس ياسر عرفات عن اكتشاف حقل الغاز عام 2000، ومروراً بالانتكاسات السياسية والاقتصادية التي شهدتها الأراضي الفلسطينية، وصولاً إلى الحرب الحاليّة وتداعياتها، يبقى استغلال الغاز الفلسطيني حلماً مؤجّلاً. وتسعى إسرائيل إلى السيطرة على موارد الطاقة في المنطقة، ليس فقط لتعزيز أمنِها القوميّ واقتصادِها، بل لفرض هيمنتها على الفلسطينيين وحرمانهم من حقّهم في استغلال ثرواتهم الطبيعية أيضاً. ثمّ إن مصير استغلال موارد غزة مرهونٌ بتفاهماتٍ إقليميةٍ بشأن استغلال الغاز في شرق المتوسط. لكن، وفي خضمّ كلّ ذلك، يبقى الفلسطينيون الحلقةَ الأضعفَ بعد أن كانوا قابَ قوسين أو أدنى من تحقيق حلمِهم في الأمن الطاقيّ الذي أمَّلوا أن يخفِّفَ من انقطاع الكهرباء المزمن أو أن يدرَّ دخلاً ثابتاً على السلطة الفلسطينية، ولو إلى حين. مع ذلك، ليس من المتوقع أن يحصل الفلسطينيون على أيّ امتيازاتٍ تمثّل حقوقَهم الكاملةَ في أيّ اتفاقيةٍ لتطوير حقول الغاز قد تُوقَّع في المستقبل لأن هذه الاتفاقية يجب أن تمرّ أوّلاً بطريق تل أبيب.

اشترك في نشرتنا البريدية