العريش: عودة مشروطة للحياة بعد القضاء على تنظيم الدولة

مرّت مدينة العريش بعد حرب الجيش المصري على تنظيم الدولة في سيناء بمراحلَ عدّةٍ من حظر التجول والتضييق الأمني، والآن تشهد عودةً حذرةً للحياة.

Share
العريش: عودة مشروطة للحياة بعد القضاء على تنظيم الدولة
تصميم خاص لمجلة الفراتس

عندما أزور العريش، عاصمة محافظة شمال سيناء، أتذكّر مطلع قصيدة أبي البقاء الرنديّ "لكلّ شيءٍ إذا ما تمّ نُقصانُ … فلا يُغَرَّ بطِيبِ العَيشِ إنسانُ". يرثي أبو البقاء بقصيدته اليتيمة بعضَ حواضر الأندلس التي سقطت. وأنا أربطُها في مخيّلتي بمدينةٍ متآكلةٍ في صمتٍ لا يتخلّلها سوى دويّ إطلاق النار حولها. كانت العريش، وسيناء عموماً، ببالي خاصرةَ مصر الملتهبةَ لِما وقع فيها من أزماتٍ منذ ما قبل حروب مصر الحديثة، أي منذ اتخذ محمد علي قلعةً في العريش. 

يرتبط مطلع القصيدة في بالي برثاءٍ لماضي العريش، لا لأني شهدتُه، ولكن لأن أيامها المزدهرة تختبئ في تفاصيل المدينة المبتلاة التي كنت أعيش داخلها. عندما أنظر إلى رصيفها المتهدّم، أرى الصدوع التي نشأت إثر عبور المدرّعات فوقها. وعندما أنظر إلى المنتجعات المرصوصة أمام البحر، أحسد مَن سَكَنَها في ما مضى، لكن سرعان ما يخفت الحسد ويهجرني تماماً كما هُجرت القرى السياحية التي أصبح معظمها سكناً لطلبة الجامعة. 

ترسّخَت سيناء في ذاكرة الشعب المصري بطَرَفَيْ نقيضٍ. فجنوبها يستضيف اجتماعات الرئاسة والمؤتمرات الدولية وبه سواحلُ وشطآنٌ غالبيةُ مرتاديها من الأجانب. أمّا شمالها فيئِنّ في صمتٍ وعتمةٍ إعلاميةٍ تعقّد الأمور، وتستدعي جيرتُها الحدودية مع غزّة وفلسطين المحتلة حساسيةً وتأهّباً دائمَيْن، ما جعل عسكرتها أمراً واقعاً. لكن في داخل المحافظة بعيداً عن الحدود المباشرة مع فلسطين المحتلّة، تحديداً في مدينة العريش، مرّت السنوات الأخيرة بتحجيم الوجود المدنيّ وتكثيف الوجود العسكري هناك. 

عرفتُ بعضاً ممّا يجري في العريش قبل زيارتي الأولى لها. فقد كانت أختي تدرس هناك قبلي بسنتين في 2015، ولم يكن التواصل معها سهلاً سواءً بالهاتف أو الإنترنت أو حتى بالزيارة. استوعبتُ تعقيدات الموقف في مرّةٍ مرضَتْ فيها أختي مرضاً استوجبَ أن تزورها أمّي، لتستغرق في الطريق ساعاتٍ أطولَ ممّا تمليه المسافة بيننا. فمع أن الطريق واسعٌ وخالٍ إلّا أن الجوّ مسكونٌ دائماً بشبح عمليةٍ مسلحةٍ محتملةٍ، ما كثّف وجود النقاط الأمنية لتدقيق كلّ شاردةٍ وواردة. وعلى ما عندنا من صلة قرابةٍ مباشرةٍ داخل المدينة، لم يكن سهلاً على أمّي أن تدخلها دون أن تُسأل في كل نقطةٍ أمنيةٍ عن سبب زيارتها، فتُخرِج من هاتفها بطاقةَ أختي التعريفية وشهادةَ الميلاد وسببَ الزيارة. في مارس 2015 دوى انفجارٌ قربَ جامعة سيناء الخاصّة، سقطت على إثره الواجهات الزجاجية لمبنى كلية طبّ الأسنان. وفي 2016 انفجرت عبوةٌ ناسفةٌ أمام محطة وقودٍ قرب شارع الإذاعة في حيّ المساعيد المليء بالطلبة، فصوّرت لنا أختي باب الشرفة المفتوح على عكس اتجاهه، ما يعني أنّ آثار الانفجار وصلت إلى شقّتها. كان الوضع مشحوناً، وبقي كذلك سنواتٍ حتى عادت الحياة إلى سيناء سنة 2022. ومع ذلك لا يمكن التركيز على وضع العريش اليوم دون إبراز السياق الذي سارت فيه الأمور من الضيق والعزلة إلى السعةِ النسبية التي تمر بها المنطقة حالياً. أصبح من الطبيعي أن يسهر السكان على الشطآن حتى مطلع الفجر بعدَ عقدٍ من حظر التجول الذي كان ينتهي فيه يوم المقيمين منتصف الليل، في أحسن الأحوال. 

تشير الأخبارُ إلى خططٍ تنمويةٍ تقدّر بالملايين تُرصد لإعادة إعمار سيناء. ففي نتائج اجتماع مجلس الوزراء في الرابع عشر من أغسطس 2024 استُعْرِضَ تقريرٌ عن جهود الجهاز الوطني لتنمية شبه جزيرة سيناء، وبيّن التقريرُ الموقفَ التنفيذي لخطّة الاستثمارات الحكومية. ومن ذلك الإعلانُ عن طرح تجمعاتٍ تنمويةٍ كالوحدات السكنية بمدينة رفح الجديدة وطرح البيوت البدوية بقُرى الصيادين بمدينة بئر العبد، والإعلانُ عن تنفيذ تجمعاتٍ حضريةٍ وتنمويةٍ بمركزَي الشيخ زويد ورفح، وإنشاءُ سوق أسماكٍ بمدينة العريش تكلفته 78,6 مليون جنيه، وحديقةٍ مركزيةٍ على مساحة ثمانيةٍ وخمسين ألف مترٍ مربعٍ، لتكون متنفّساً لأبناء المدينةِ والزائرين. وضمن مشروع إعادة تأهيل خطّ السكة الحديدية الواصل بين الفردان والعريش وطابا، أعلن تقرير مجلس الوزراء وصول القطار إلى مدينة القنطرة شرق. وقد انتهت الحكومة من محطة بير العبد والتشغيل التجريبي لها يوم الاثنين السابع من أكتوبر 2024، لم تكن الحركة السلسة والمواصلات السهلة من مميزات المنطقة عموماً، إلّا أنّ هناك وعداً بوصولها إلى المدينةِ في أقرب فرصةٍ ممكنة. يشير التقرير أن تلك القرارات تأكيدٌ على "نجاح الدولة في دحر الإرهاب وإفشال مخططاته".

بعد زيارتي الأخيرة في العاشر من أكتوبر 2023 شعرتُ أن المدينة التي كنت طالباً فيها لم تعد موجودة. تمرُّ المدينة التي تعود الحياة إليها تدريجياً بمرحلةٍ انتقاليةٍ، فالأرصفة المتكسرة التي شاهدتُها خمسَ سنوات لم تعد موجودةً، والنقاط الأمنية التي كانت تقسم المدينة إلى مناطق مُقطعةٍ أزيلت لتفتح الأحياء بعضها على بعضٍ من جديد. ولأن زيارةً واحدةً لا تكفي، عدت لأسأل سكانَ المدينة عن المدينة التي عادت إليها الحياة. عادة تُرسم صور المدن أثناء الأزمات أنها كانت جنّةً فأصبحت خراباً أو كانت نعيماً فأصبحت جحيماً أو لم يكن ينقصها شيءٌ والآن ليس بها أيّ شيء. لكن كيف ترسم صورة المدينة الحالية متجاهلاً المدينة التي تغفو تحتها؟ وهل عادت الحياة إلى محافظة شمال سيناء أم أنها دعايةٌ مؤقتة؟ ومع أنّ الحكومة خفّفت القيود الأمنية على المحافظة ومدنها، إلا أنّ الدخول إليها لا يزال صعباً.


مع ما كنت أعرفه عن توتر الأوضاع في العريش إلا أنني التحقتُ بالجامعة هناك سنة 2017 لوجود أختي فيها للدراسة، وبسبب قلّة الجامعات التي كانت متاحةً لي آنذاك لأنني درست الثانوية خارج مصر. لم أعلم قبل ذهابي هناك أن الدراسة ستتوقف بعد إكمال فصلي الدراسي الأول في الجامعة، وأني لن أعود إلا بعد ثمانية أشهرٍ بسبب عملية الجيش المصري للتخلص من تنظيم ولاية سيناء. 

بدأت الدولة المصرية رسمياً حربها على تنظيم الدولة الإسلامية عندما شنّت عناصر من جماعة ولاية سيناء في الرابع والعشرين من أكتوبر 2014 هجوماً على نقطة أمنية بكرم القواديس جنوب مدينة الشيخ زويد. حيث قُتِلَ نحو ثلاثة وثلاثون فرداً من قوات الجيش المصري وأعلن الرئيس عبد الفتاح السيسي حالةَ الطوارئ في شمال سيناء بنصّ القرار الرئاسي رقم 366 لسنة 2014 أن "تتولى القوات المسلحة وهيئة الشرطة اتخاذ ما يلزم لمواجهة أخطار الإرهاب وتمويله. وحفظ الأمن بالمنطقة وحماية الممتلكات العامة والخاصة وحفظ أرواح المواطنين".

شملت حالةُ الطوارئ المنطقةَ من تل رفح شرقاً مروراً بخط الحدود الدولية إلى العوجة، وغرباً من غرب العريش إلى جبل الحلال، وشمالاً من غرب العريش مروراً بساحل البحر المتوسط إلى خط الحدود الدولية في رفح، وجنوباً من جبل الحلال إلى العوجة على خط الحدود الدولية. ومنذ ذلك الحين اسُتنفدت الجهود في خطِّ استراتيجيةٍ جديدةٍ لمواجهة الهجمات المسلحة في شمال سيناء. وشمل القرارُ حظرَ التجول في مناطق حالة الطوارئ، وأُعلن حينها أن حالة الطوارئ لن تتجاوز ثلاثة أشهرٍ، لكنها ظلّت تُمدّد منذ أكتوبر 2014 وحتى أكتوبر 2021. بانتهاء حالة الطوارئ أصدر الرئيس المصري قراراً بفرض ما سمّي "تدابير إضافية" على منطقة شبه جزيرة سيناء مدّة ستّة أشهرٍ، دون إيضاح ماهيّة التدابير ثمّ جُدِّد فرض التدابير ستّة أشهرٍ أُخرى لتنتهي بعد ذلك حالة الطوارئ والتدابير الإضافية في أكتوبر 2022 على جميع مناطق شبه الجزيرة إيذاناً بانتهاء الحرب على تنظيم الدولة. كانت ساعات حظر التجول تبدأ من الخامسة مساءً حتى السابعة صباح اليوم التالي، لكنها خُفِّفت لاحقاً لتبدأ في السابعة مساء حتى السادسة صباح اليوم التالي. وفي مدينة العريش وجزءٍ من مدخلها الغربي خُفِّضت ساعات حظر التجول لتبدأ في الواحدة بعد منتصف الليل حتى الخامسة صباحاً بعدما كانت تبدأ من الخامسة مساءً حتى الخامسة صباحاً منذ الثاني عشر من أغسطس 2015 حتى ألغي الحظر في ديسبمر 2022.

تباينت ردود فعل سكان المنطقة عما شهدته المدينة. ففي تقريرٍ نشره موقع هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" بالعربية بعد عامٍ من فرض حالة الطوارئ، أشاد بعض سكان العريش بتحسن الأوضاع و"قلة الأنشطة المشبوهة" لقلة الحركة وقلة الغرباء. ولكن على النقيض، تحدث ناصر أحد أبناء المدينة عن "المعاملة السيئة" التي واجهها أبناء منطقتَيْ رفح والشيخ زويد تحديداً في بعض النقاط الأمنية وقضائهم أوقاتاً أطول في التفتيش واحتجاز بعضهم، مما يضاعف المتاعب التي يواجهونها. كان تمديد الحظر في كلّ مرّةٍ إشارةً لاستمرار حالة الصراع والنزاعات مدّةً أطول وأكثر كلفةً حتى تخلو سيناء من تنظيم الدولة.

أثناء تلك التدابير تغيّر وقت حظر التجول وصار أقصر، لكن الأمر لم يخلُ من تعقيداتٍ، فقد اختلف تعريف المدنيين في نظر السلطة. إذ لَم تنظر السلطة إلى الوافد من محافظةٍ أُخرى للدراسة نَظْرَتَها للعريشيّ أو لأحدٍ من قبائل سيناء، وتحديداً قبائل العريش كالسواركة والرميلات أبرز القبائل وأكبرها عدداً ونفوذاً. بل حتى هؤلاء تفاوتت نظرة السلطة إليهم، فمن جاء المدينة نازحاً من رفح والشيخ زويد يختلف عن ساكن العريش. 

تحسنت شبكات الاتصال قليلاً بعد انتهاء العملية الشاملة في الربع الأخير من 2018 بعدما كان السكان يعانون انقطاع الشبكات في معظم اليوم، إضافة إلى عربات تشويش الشبكة التي ترافق سرب المركبات المدرعة الذي ينتقل على مدار اليوم مسبباً انقطاع الشبكات. وقبل كتابتي هذه المقالة وجدتُ قصاصةً كتبتُها في أكتوبر 2017 عن رحلة تجوالٍ في أحد شوارع حيّ المساعيد الذي يعيش فيه معظم الطلبة الوافدين. كتبتُ في القصاصة: "أسير في شوارع الحيّ المهدّم وأنا أستمع إلى أغنية 'ساوند ذا بوغل' لبريان آدمز. تتراصّ تلالٌ من الرمال وأحجار الإسمنت دلّت على مبانٍ كانت هنا. تغطي الرمالُ الأسفلتَ في مشهدٍ وإحساسٍ يغمرني. كأنها أطلال عالَمٍ انهارَ في صفحات رواية كابوسية. مجموعةٌ من الكلاب تتجمع بجانب خزانات ماءٍ مرصوصةٍ جنباً إلى جنب لإمداد المقاهي والبقالات وحتى البيوت المجاورة. ولكنني علمت فيما بعدُ أنها غير صالحةٍ للشرب، بل وأن الإمداد العامّ في خطوط الماء ليس سوى مياهٍ مالحة. لم أسكن هناك من حسن حظي".


في ذلك الوقت لم يكن يُسمح لغير سكان العريش بدخولها إلا مروراً. فعندما كنتُ أتمشّى في ضواحيها أو القرى المحيطة بها كنتُ أحسّ بجمودٍ الزمن على مَن فيها من سكّانٍ. فالهدوء المطبق والأبنية المصابة وتراجع الكثافة السكانية خلقت صورةَ مكانٍ يحتضر، كأن الموت ينازعه ببطءٍ، على مدار عشر سنواتٍ وأكثر. 

سيناء منطقةٌ أمنيّةٌ، ومع ذلك فقد كانت ضغوط الحياة في العريش أقلّ وطأةً من باقي مناطق شمال سيناء لأنها آخِر المدن التي يحقّ للجيش الوجود فيها دون الإخلال باتفاقية كامب ديفيد ومعاهدة السلام 1979. نصّت الاتفاقيةُ بين الرئيس المصريّ أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن برعاية الرئيس الأمريكي جيمي كارتر على وقف حالة الحرب القائمة منذ 1948 وسحب إسرائيل قواتِها المسلحةَ كاملةً من سيناء على أن تبقى منزوعة السلاح تحت السيادة المصرية. وعلى ما في العريش من أمنٍ إلّا أن التدقيق على الدخول والخروج من المحافظة يقصي معظم المصريين، وبالتالي أصبحت سيناء معزولةً عن الحياة. إذ لم يكن دخول المدنيين سيناءَ سهلاً، بل لا بدّ من تحقيقٍ يستقصي سبباً مقنعاً كأن يكون طالباً أو مالك بيتٍ أو موظفاً حكومياً، ومن استطاعَ من غيرهم الدخولَ كانت المضايقات والتشديد الأمني تعرقل طريقه. ساهم ذلك في شعور سكان المنطقة بالإقصاء، وعظّم مشاعر التهميش عند أبناء سيناء، والنظر إليها منطقةً حدوديةً وغيرَ متصلةٍ بالدلتا، قلب مصر الحيوي. 


عرفتُ إسلام أثناء بحثي عن شقةٍ أستأجرُها بعد انتهاء العملية الشاملة في شمال سيناء. تخرّجَتْ أختي فقررتُ البحثَ عن شقّةٍ أُخرى، تحديداً في حيّ المساعيد القريب من جامعة سيناء. كانت الطريقةُ المعهودة هي البحث عن وسيطٍ على صفحاتِ فيسبوك أو على مجموعات الطلبة على واتساب. فالشقق خاليةٌ وكثيرةٌ في حيّ المساعيد، وأصحابها إمّا خارج المحافظة أو خارج مصر، ويعتمدون في إدارة أملاكهم على أقاربهم ممّن بقوا في المدينة وممّن لهم فيها وظائف. لم أقابل إسلام على أيّ صفحةٍ على فيسبوك أو على واتساب، ففي إحدى جولاتي في الشارع كنتُ أَسألُ أصحابَ المحلّات عن شققٍ للإيجار، وفي إحدى المرّات أشار صاحبُ مكتبة تصوير المستندات على رجلٍ في أوائل الأربعينات قائلاً: "الأستاذ إسلام بيأجّر شقق".

لَم يجد إسلام في العريش ما يستدعي القلق عندما انتقل سنة 2007 من مدينة طنطا في محافظة الغربية إلى العريش ليعمل في إحدى شركات الغاز، ثم قرّر أنه سيعيش في المدينة مع زوجته وابنته. قبل بداية هجمات تنظيم الدولة سنة 2011 حتى التصعيد الذي أوقع المحافظةَ في حالة الطوارئ 2014 كان الشمال مفتوحاً، على حدّ تعبير إسلام، وكان التنقل من العريش وإليها يسيراً. يذكر إسلام إحدى زياراته للقاهرة من العريش في أيام رمضان. قال لي إنه كان يخرج منتصف الليل ويصل القاهرة وقت السحور. وأضاف: "الطريق مكانش بياخد أكتر من أربع ساعات". يذكر إسلام تشجيعَه أقاربَه على زيارة العريش ومصايفها والاستمتاع ببحرها الصافي قليل الزحام. قال لي: "بس ده كان زمان". بالإضافة إلى وظيفته في قطاع الغاز كان إسلام قد بنى بيتاً بثلاثةِ أدوارٍ، فسكن مع عائلته في الدور الأوّل وأجّر الشققَ العُلويةَ للطلبة وللمتزوجين حديثاً. كان قد بنى بيته على فتراتٍ متباعدةٍ، فكان كلّما توفّر معه مبلغٌ من مدّخراته أو من بيعِه قطعةَ الأرض التي وَرِثَها في بلده طنطا استثمره في تجهيز شقةٍ من شقق العمارة. 

يذكر إسلام أن الأوضاع ازدادت سوءاً سنة 2018 بعد بدء العملية الشاملة في فبراير، وهي العملية التي استَهدَف فيها الجيشُ المصريُ القضاءَ على تنظيم الدولة واستئصاله. كانت هذه آخِرَ عمليةٍ معلنةٍ وموسعةٍ للجيش المصري مستهدِفاً أعضاءَ التنظيمات الإسلامية المسلحة في سيناء. أدّت العمليةُ إلى إحكام المراقبة على تدفّق السلع الغذائية وإخلاء المدينة من الطلبة فترةً استمرت تسعة أشهرٍ. فتوقفت المدارس والجامعات وتضرّرت الكثير من المصالح، وعَزَّت الخضراوات والسكّر والخبز بسبب التدقيق الذي صعَّبَ دخولَ أيّ شيءٍ إلى العريش. فعاشت الأُسَرُ قلقاً وجوعاً. 

لم يفكر إسلام في مغادرة العريش منذ وصوله في 2007، حتى مع بدء عمليات تنظيم الدولة في 2011 وأثناء فرض حالة الطوارئ في 2014، لكنه فكر بالرحيل في 2018 حين شعر أنه قد لا يتمكن من إطعام أسرته. كانت أخبار الشاحنات المحمّلة بالدعم تظهر أمامه على التلفاز ولا يرى منها أيَّ شيءٍ. قال لي: "كنا بنتخانق على كيلو الطماطم". دفع ذلك إسلامَ وعائلتَه إلى الاقتصاد في المأكل حتى لا يستشري هذا التهديد بالجوع إلى ما هو أصعب. يقول لي إسلام: "كانت أيام سودا، الله لا يعودها، كنت هسيب المكان خلاص". ولكنه لم يترك المكان لأنه برأيه: "بيتي هنا، شغلي هنا، والوضع كان مؤقت على حسب ما فهمنا، والدنيا كانت أمان إلى حدّ كبير. بس كنّا مخنوقين من الوضع". 

كانت بدايةُ الفترة التي تحدّث عنها إسلام مليئةً بالقلق والتوترات الأمنية في المنطقة المحيطة بالمدينة. انطلقت العملية الشاملة في فبراير 2018 ردّاً على كلِّ وجودٍ مسلّحٍ من التنظيمات المسلحة في منطقة شمال سيناء، وذلك عقب أحداث مسجد الروضة في مدينة بئر العبد بمحافظة العريش، التي وقعت يوم الجمعة الرابع والعشرين من نوفمبر 2017. حيث أطلق مسلحون قذائف نحو المسجد وقت صلاة الجمعة ثم استُهدِف الفارّون بالأسلحةِ الآليّة، ما تسبّب في مقتل قرابة ثلاثمئة شخصٍ وإصابة عشرات المصلّين. ذكرت التقاريرُ آنذاك أن الاستهداف كان بسبب اتّباع غالبية روّاد المسجد إحدى الطرق الصوفية التي كانت في نظر تنظيم ولاية سيناء تجمّعاً للمخالفين عقدياً. رُفعت حالة الطوارئ إلى الدرجة القصوى، وأدّى ذلك إلى الردّ باستراتيجية العملية الشاملة بعد ذلك بثلاثة أشهر. 

أتذكّرُ أنّ الكهرباء انقطعت مدّةً طويلةً وقت إعلان العملية الشاملة، فكانت تعود ساعاتٍ معدودةً في اليوم وتغيب بعدَها حتى اليوم التالي. كنتُ قد ذهبتُ إلى العريش قبلَ بداية الفصل الدراسي بأيّامٍ حتى لا أتعرّض للمشقّة على الطريق بسبب ازدحام عبّارة القنطرة التي تنقل العربات والركّاب القادمين من خارج المحافظة إلى داخلها. وردتنا اتصالاتٌ قلقةٌ أنا وأختي، إذ عرفت عائلتي من الأخبار قبل أن نعرف أن الوضع في شمال سيناء قد صُعِّدَ إلى عمليةٍ عسكريةٍ موسّعةٍ تستدعي إغلاقَ المحافظة. استغرقنا يوماً كاملاً للعثور على عربةٍ توصلُنا إلى القنطرة. وكانت الجامعة قد وفّرت حافلاتٍ لكنها لم تكن تكفي الطلبة الذين جاؤوا. وبعد العثور على سيارةٍ تُخرِجنا من العريش استغرقنا في الطريق الذي يبلغ مئةً وثمانين كيلومتراً أكثرَ من تسع عشرة ساعةً، وهو ذاته الطريق الذي قطعتُه قبل أيامٍ في خمس ساعات. 

كان الوقت الذي تستغرقه السيارات آنذاك يطول بسبب إجراءات التفتيش والوقوف عند النقاط الأمنية. وقد طال بنا الطريق وكانت السيارة تمشي مسافاتٍ قصيرةً وبطيئةً بهدف التأمين. إن لم تخُنّي الذاكرةُ، فقد قضينا ستَّ ساعاتٍ في سيارةٍ لا تتحرّك في الصحراء، أمامها وخلفها صفٌّ من السيارات المنتظرة، وكان سبب التأخّر إرسالُ مدرّعاتٍ أمام السيارات بمسافةٍ لتؤمّن الطريق. خرجنا في السادسة صباحاً ووصلنا إلى المنزل في محافظة الشرقية في الثالثة فجر اليوم التالي.

لم تنفكّ سلسلةُ الهجرات من سيناء إلى خارجها منذ بدأت عمليات تنظيم الدولة وإعلان الجيش المصري العمليات المضادّة ابتداءً من عملية "نسر" سنة 2011 وبلوغها ذروتها من 2014 إلى 2018. حُوِّلَت مناطق حدوديةٌ وعسكريةٌ إلى مناطق عازلةٍ بمحيطٍ يفرض على المدنيين النزوحَ من أماكنهم مع وعدِهم بصرفِ تعويضاتٍ، أو وعودٍ بالعودة تحت إشراف الجيش المصري. وتَشكّل نمطٌ من الانتقال يمكن ملاحظته. فمَن كان في قرى رفح والشيخ زويد اضطرّ إلى الانتقال إلى العريش. والتجّارُ الذين ضاقت بهم الأوضاع وتأثّرت تجارتهم هاجَروا إلى الإسماعيلية أو الصالحية، ومنهم من ذهب مباشرةً إلى القاهرة. وسمّي هؤلاء سكان الوادي، ولهم في وادي الدلتا ممتلكاتٌ تتيح لهم الانتقالَ إليها ريثما تتحسن الأوضاع. والعجيب أنّ كثيراً من العريشية جاؤوا إليها من القاهرة ومدن الدلتا إثر بناء الحامية التابعة لمحمد علي قلعةَ العريش وتعميرها الميناءَ القديم، وهم مختلفون عن قبائل البدو الذين لهم جذورٌ تمتدّ إلى أزمنةٍ أقدم.

تأثّر الاقتصاد في العريش أثناء العملية الشاملة وبعد انتهائها بسبب الوضع الذي عانت منه المدينة والمحافظة عموماً. فمِن التجّار مَن ضاقت تجارتُهم بسبب التشديدات التي كانت تمرّ بها الواردات إلى المحافظة، خاصّةً الموادّ "ثنائية الاستخدام" وهي كلّ ما يمكن استخدامه في أعمالٍ مسلّحةٍ وصنع القنابل، مثل الأسلاك الكهربائية والدهانات والموادّ القابلة للاشتعال، كلّها صارت محظورة. أذكر أنّ صديقةً أهدتني موقداً نحاسياً صغيراً ولم أجد غازاً يملؤه إلّا بتتبّع سلسلةٍ من محلات الدهان حتى وصلتُ إلى شخصٍ باع لي نصفَ لترٍ بأضعاف سعره العاديّ، وحذّرَني أن يُرى معي، وكان  يجب عليّ أن أُظهِر الموقِدَ لكلّ الباعة حتى لا يُشكّ في أمري. 

تحدثتُ عن الأوضاع الحالية مع مراد حجازي، وهو صحفيٌّ بموقع "مدى مصر" يقيم في العريش. أخبرَني أن الوضع منذ أن عَنْوَنَت الحكومةُ إنهاءَ الحظرِ سنة 2022 بلحظة "عودة الحياة" أفضلُ كثيراً ممّا سبق من فترات. يقول مراد: "في الفترة اللي بَدؤوا يقولوا فيها إنه الحياة عادت لطبيعتها، دي الكلمة اللي مركّزين عليها 'عودة الحياة'. شبكات الهواتف رجعت. الشوارع اترصفت. التنسيقات [يقصد التفتيش] بتاعت البضايع للتجار اتشالت، لإنه التنسيق ده كان بياخد وقت وجهد وحاجات كتير مكانتش بتخشّ بمسمّى المواد ثنائية الاستخدام زي الأسلاك الكهربائية ومواتير الكهرباء، وموادّ الدهان عامّةً. الوضع ده كان صعب للتجار ووقف شغلهم. وفيه تجار ممكن نسمّيهم تجار الحرب، من لديه في نفس النشاط أو في النشاط اللي فيه تضييق. تلاقي تاجر بيعرف يدخل من تحت الطرابيزة وينتعش، وحدّ تاني لا. ناس بَنت قصور وناس غيّرت شغلها". يقصد مرادُ بحديثه التجارَ الذين استغلوا معارفهم وقدراتهم على إدخال الموادّ المحظورة بطرقٍ غير شرعيةٍ "من تحت الطرابيزة" على حدّ تعبيره ليتمكنوا من احتكار التجارة التي يعاني فيها غيرهم ممّن عجزوا عن إدخال تلك الموادّ ويغيّروا بعدها نشاطهم إلى تجارةٍ أقلّ "وجعاً للدماغ".

يقول مراد إن بعض سكّان العريش اضطرّوا إلى تغيير نشاطاتهم. فمنهم من قرّر التجارة في الملابس والحليّ النسائية بعد عجزه عن إمداد مشاريعه التي تتطلب موادّ قد مُنِعَت، أو تطلبت وجود تنسيقاتٍ بين التجار وبين الجيش في تحديد الواردات وكمياتها. توقفَت أشغال المقاولات واقتصرت بعد 2022 على المقاولين العائدين من القاهرة، وخصوصاً الذين عملوا في مشاريع الدولة الضخمة والكبيرة مثل العلمين. أخبرني مراد أن هناك من عاد بثرواتٍ أكبر مما رحل بها وبنوا قصوراً وعادوا بسياراتٍ فارهةٍ لازدهار أعمالهم في مشاريع خارج المحافظة، سواءً المشاريع الجديدة للدولة أو لوجود تجارةٍ لهم في العاصمة. 


أزيلت النقاط الأمنيّة من قلب المدينة في ديسمبر 2022. بدت اللحظة مفاجئةً لمن لم يتتبّع سير الأمور. فقد أزيلت الحواجز من الطريق المؤدّي من القنطرة وأنفاق بورسعيد والإسماعيلية متّجهةً إلى عاصمة المحافظة فزالت عوائق الطريق الذي كان مشلولاً بسببها وبسبب التدقيقات الأمنية. أخبرتُ مراد عن معاناتي حين أذهب إلى وسط المدينة من حيّ المساعيد حيث يسكن الطلبة لأسبابٍ منها صعوبة العثور على سيارةٍ توصلني ذهاباً وإياباً. وسألتُ مراد عمّا إذا ساهمَت النقاط الأمنية في عزل مناطق المدينة وأحيائها عن بعضها بعضاً. أجابني: "طبعاً، الكماين كانت مقطعة كلّ أوصال المدينة. اِحنا مثلاً في البلد كنا نستثقل مشوار المساعيد. خمس كماين عشان تعدّي مشوار صغير نسبياً. واحد من الخمسة أكيد هيوقفك، وحتى لو مش بسيارةٍ شخصيةٍ وهتروح بتاكسي، التاكسي مكانش يرضى يوصّلك، خصوصاً السواقين اللي كانوا نازحين من رفح والشيخ زويد، كانوا بيشتبه فيهم أكثر. ولكن كل ده اتشال، والطريق بقى أروق وأفضى".

أخبرني مراد عن عودة الشطآن فقط لأصحاب المنطقة وليس للسياحة أو للمصايف، وعن عدم ذهابهم إلى البحر لما فيه من خطورة. كانت هناك احتمالية الإصابة بطلقٍ عشوائيٍّ أو أن يُشتبه في بعض الأشخاص فيُؤخَذون للتحقيق. لم يعد هناك ما يشدّ للبحر. وكان خفر السواحل يحدّ الشاطئ من ناحية البحر، وعمليات التدقيق في النقاط الأمنية تصعّب الوصول إليه. لكن الوضع اختلف الآن فالسواحل تُنظّف من الغبار المتراكم بفعل الإهمال ورياح الشتاء، وأصبحت متاحةً أكثرَ من ذي قبل. يقول مراد: "البحر رجع لأهل العريش. احنا الصيف كان زيّ الشتا، محدش كان بيطلع، الناس كان عندها تخوّف، بصّ مكانش حدّ بيروح حتّة". 

أتذكّر آخِرَ زيارةٍ للعريش في العاشر من أكتوبر 2023 بعد بدء الحرب على غزّة بثلاثة أيامٍ، إذ قرّرتُ وأصدقائي الذهاب لإنهاء إجراءات التخرج من الجامعة. اصطحبنا معنا صديقاً لم يزُر العريشَ من قبل، وكان قد تحمّس للزيارة إثر مشاهدته مقاطعَ انتشرت على الإنترنت قبيل إعادة فتح العريش للزوار. كانت المقاطع توصي بأماكن في المدينة للزيارة كأفضل أماكن الإقامة والمطاعم، وهي توصياتٌ من مشاهير من مدوّني مقاطع الأطعمة والحياة الثقافية ولهم متابعون بالآلاف على فيسبوك ويوتيوب. نشر عدنان، صاحبُ قناة "أكلة عدنان" البالغُ عددِ مشتركيها أكثر من ثلاثمئة ألفٍ، سلسلةَ مقاطع في العريش داعياً إلى حضور سباق الهجن الرياضي في المدينة الذي يقام مرّتين في السنة، مرّةً في أبريل وأُخرى في أكتوبر. تحدّث عدنان عن جَمال المكان وحضوره حفلةَ المطرب محمد منير ورغبته في أن يتحول الشاطئ الخالي إلى مصيفٍ وأن "يأتي كلّ المحبّين لمصر والمقدّرين للتضحيات التي بُذلت ليقوم هذا المكان". حاول عدنان إبرازَ المطبخ العريشيّ وختم كلامه قائلاً: "اللي عايز يعيش لازم يجي العريش". 

وتذكُر المدوّنةُ أسما رؤوف في مقطعٍ عنوانه "العريش وجَمال العريش وأحلى أيام هتعيش" أن الفرصة سنحت لها لتزور المدينةَ بدعوةٍ من مجلس القبائل والعائلات العربية لحضور سباق الهجن في أبريل 2023 بعد توقفٍ دامَ اثني عشر عاماً. وقالت إنّ العريش "تطهّرَت من الألم والإرهاب بفضل جهود القوات المسلحة". يظهر في مقطع أسما أيضاً محمد طاهر، صاحبُ قناة "محمد طاهر" التي يراجع فيها الأفلامَ بأسلوبٍ ساخرٍ، ويبلغ عدد مشتركي قناته على يوتيوب أكثر من مليون شخص. وكان مجلسُ القبائل في المدينة دعا عدداً من الفنانين والمؤثرين للترويج للمدينة وعودة الحياة فيها، ومنهم الفنان محمد منير وخالد عليش وسامح حسين وحسين الجوهري. 

في طريقنا إلى العريش أظهرْنا بطاقاتِنا الشخصيةَ وبطاقات الجامعة في نفق "تحيا مصر" الذي يَعبر السائقُ منه تحت تفريعات قناة السويس. ثم سُمِحَ لنا بالعبور ما عدا صاحبنا الذي يزور العريش أوّلَ مرّةٍ. فقد سأله رجل الأمن عن سبب الزيارة ولم نكن مستعدين للإجابة لأننا لم نتوقع أن يكون هناك تدقيق، فقد ظننّا أنّ كلّ شيءٍ أصبح مفتوحاً. كان أمام صديقنا خياران؛ إما أن ينتظرَ الضابطَ الأعلى رتبةً ليبتّ في أمره، أو يعودَ أدراجه إلى القاهرة في أيّ سيارةٍ راجعةٍ في الطريق المقابل. تركناه هناك وبعد ساعتين اقتربنا من بوابة العريش وسَلّمْنا هواتفَنا للسائق لتكون مرئيةً استعداداً لنقطة تفتيش "الميدان"، لكن لم تكن النقطة موجودةً هذه المرّة. ثم اتصل صديقُنا يخبرنا أنه في طريقه إلينا بعد أن تحقق المسؤولون في النفق من سلامة أوراقه وأن غرض الزيارة التنزه والسياحة مع أصدقائه الطلبة. 

كانت العريش مثلَ أيّ مدينةٍ تدخلها وتخرج منها. لكن بعد 2013 أصبحَت شبهَ محظورةٍ على أيّ قادمٍ وبعد أن "عادت الحياة" إلى شمال سيناء أصبحَ مثل جنوبها، فالذهاب هناك لا بدّ أن يكون لغرضٍ محدّدٍ كالدراسة أو العمل أو وجود محلّ إقامة. سألتُ مراد عن مؤثّري وسائل التواصل الاجتماعي ودعْوَتِهم الجميعَ إلى استكشاف المكان، فصمتَ قليلاً ثم أجاب: "لا ده قصة تانية. الدولة كانت مسؤولة عن الفعاليات دي. معروف خط سير الفعالية. ده كان هدفه إعلان إنه المنطقة بقت خالية من الإرهاب. كلّ شيء كان مترتّب. معروف مين اللي هيجي، والدولة كانت مسؤولة عن دعوتهم للفعاليات دي زيّ سباق الهجن ومسابقة الشطرنج. زيّ حفلة محمد منير وهشام عباس، باعتبار المؤثرين شخصيات عامة. بالنسبة للدخول للأفراد هي فكت للفئات اللي ممكن تخشّ بنسبة عشرين في الميّة، بس لازم تعدّي بمرحلة استعلامات أمنيّة عشان يتعرف هل هيسمح بدخولك أو لا". والهدف الواضح من ذلك أن تهدأ الهواجس العامّة تجاه المخاوف الأمنية. أضاف مراد : "أنت ممكن تدخل عادي، بس فيه مستوى من التنسيق لازم يتمّ بشكلٍ ما لو ملكش حاجة هناك. أما لو بتدرس أو ساكن أو شغال فدول عالطول بيدخلوا". لم يكن من السهل الوصول من مدينتَيْ رفح والشيخ زويد إلى العريش لأيّ غرضٍ كان. وكان المرضى القادمون للعلاج في الجامعة يخرجون من بيوتهم في السادسة صباحاً حتى يصلوا في الثامنة صباحاً، مع قرب المسافة وخلوّ الطريق. أخبرني مراد أن رفح أصبحت مغلقةً بينما صار من السهل التردّد على الطريق المؤدّي إلى الشيخ زويد. 

تَبادَر إلى ذهني ربطُ إغلاق رفح بما يحدث الآن على الحدود. سألتُ مراد عن آثار ما يحدث في قطاع غزة على سكان المدينة، فقال إن الموضوع في انطباعه الشخصيّ لا يتخطّى حكاياتِ مدينةٍ حدوديةٍ. هناك من يذكر أنه رأى الانفجارات أو سمع دويّ الهجمات، لكنها لا تعدو كونَها حكايات. ربما يكون الأثرُ الوحيدُ الذي ذكره انزعاجَ السكان من وجود شاحنات المساعدات في وسط المدينة لأنها عطّلت الحركة. بعض حمولة هذه الشاحنات أُتلفت لاحقاً لانتهاء صلاحية المواد الغذائية فيها.

ختمتُ حديثي مع مراد بسؤال: هل عادت الحياة إلى سيناء في يومٍ وليلة؟ فأجاب أنها قد تبدو فجائيةً لمن لا يتابع، حتى ولو كان مدنياً في قلب المدينة. ولكن مَن تابَع سيجد في الأخبار وتحركات الجيش تدريجَ ما وصلنا إليه. يذكر مراد أن التعاون مع القبائل ومبادرات الاستسلام التي عَرَضَها الجيشُ المصريّ بعد حصار أعضاء التنظيم وتجويعهم أجبرَهم على تسليم أسلحتهم وقضاء عقوباتٍ ليُفرَج عنهم بعدها. كلّ ذلك أسهَمَ في لحظة 2022. يذكر تقريرُ مؤسسة سيناء لحقوق الإنسان أن هذه المبادرة الرسمية ظهرت برعاية أجهزةٍ أمنيّةٍ، من أبرزِها مكتب شؤون القبائل التابع للمخابرات الحربية، من أجل تسليم مقاتلي التنظيم أنفسَهم مقابل العفو عن الجرائم السابقة. لم تكن هذه المبادرات فعّالةً سابقاً، لكن بعد إعلانها رسمياً سلّم أعضاء من التنظيم أنفسهم، وعَفَت السلطات عنهم بعد التأكد أنهم غير مطلوبين لقضايا أُخرى.


لم تتوقع "عبير"، وهو اسمٌ مستعارٌ، عندما جاءت من شرم الشيخ إلى العريش عام 2017 للدراسة أنها بعد سبع سنواتٍ ستعمل في المكان نفسه الذي قرّرت مغادرتَه بعد أول فصلٍ دراسيّ. أذكر أنها كانت تخبرني برغبتها في نقل مكان دراستها إلى القاهرة، وشاركها كثيرون في هذه الرغبة. كان من المعتاد لطلبة الجامعة الالتحاق بكلّياتها والحضور في العريش فترةً وجيزةً ثم يفاجَأون بموت الحياة خارج أسوار الجامعة، وانعزالهم عن كلّ شيءٍ فيقرّرون الرحيل. 

الكثير من الطلبة كانوا مسجّلين بالجامعة لهدفٍ وحيدٍ، وهو الحصول على درجةٍ في السنة الأولى تتيح لهم القبولَ في أيّ جامعةٍ خاصّةٍ أُخرى في القاهرة. لكن بعضهم يغيّر رأيه نهاية العام، منهم صديقتي عبير التي قرّرت العمل في الجامعة بعد تخرّجِنا، مبرّرةً بأن شكل المكان قد اختلف. فقد توافرت معظم النواقص في المحلات التجارية كاللحوم والمجمّدات. وفي داخل الحرم الجامعي بُنيت محلاتٌ صغيرةٌ لخدمة الطلبة وسكان قرية سما. وقلّت أسعار المنتجعات داخل قرية "سما العريش السياحية" مع أنّ أعداد الطلبة زادت. ربما دلالة ذلك "تحسن الأوضاع" خارج القرية التي كانت مدينةً جامعيةً محاطةً هي والجامعة بسورٍ واحدٍ يحدّها من ثلاثة اتجاهات والبحر رابعها.

تشعر عبير وكأن لمسةً سحريةً غيّرت المكانَ في يومٍ وليلة؛ الطرق الممهّدة والموسّعة، واختفاء النقطة الأمنية التي كانت أمام الجامعة طوال فترة وجودها هناك، ونظافة كل شيءٍ وازدهاره مقارنةً بما كان عليه. أسألها هل بالإمكان التنزّه هناك والترفّه مثل المدن الأخرى، فذكرت أن لا فرق بين قائمة طعام مطعمٍ في العريش وآخَر في القاهرة. وتضيف: "مبقاش في مشاكل شبه الأول، خصوصاً في الشبكات. كل حاجة بقت أسهل. الحياة بقت ألذ وأهدى. بقت أدفى عن اللي فات. تخيل بقينا نفتح يوتيوب من داتا الموبايل". 

في ديسمبر 2015 نشرتْ إدارةُ السياحة في وزارة التخطيط على البوابة الإلكترونية لمحافظة شمال سيناء بياناً يبرز المقوّماتِ السياحية للمحافظة، ويذكر النشاطاتِ الشاطئيةَ والترفيهيةَ، مقترِحاً رفعَ كفاءة الخدمات السياحية بالمدن الساحلية كالعريش ورفح وبئر العبد والشيخ زويد. واقترح البيان تطويرَ الطرق التاريخية كطريق العائلة المقدسة بين مدينتي رفح والفرما، وتطوير طريق الحج الإسلامي بتمهيده وتزويده بمراكز خدماتٍ سياحيةٍ كالفنادق والورش ومحطات الصيانة والوقود والاستراحات. وذكر البيانُ سياحةَ السفن الترفيهية الكبيرة وإقامة ميناءٍ لها يتصل بميناء العريش، والاستثمارَ في المحميات الطبيعية وأبرزها محمية الزرانيق والتي يَفِدُ إليها نحو ثلاثمئة نوعٍ من الطيور، وقد تكون أكبر محميّةٍ للطيور المهاجرة. ولكن لم يحدث أيّ شيءٍ من ذلك على الواقع. 

تقارن عبير بين الشعور بالراحة في العريش وشرم الشيخ مدينتها التي جاءت منها. فتذكر أن قلّةَ الناس في العريش تُغلِق المجتمعَ على نفسه، بينما سياحية شرم الشيخ تفتح مساحاتٍ واسعةً من الحريات والممارسات المختلفة والمحمية بوجود شرطة السياحة. تضيفُ قائلةً: "الموضوع بيرجع لمبادئك واختيارك وشكل الأخلاق اللي انت ماشي عليه، قد ايه ممكن حاجة تغريك". ومع أنّ جامعة سيناء تستقطبُ الطلبة من مختلف محافظات مصر، إلّا أن المكان وظروفه الأمنية كانت تحدّ من ممارسة الأفراد حرياتِهم الشخصية. رصدت "بي بي سي" في تقريرٍ عن حظر التجول حبَّ سكان العريش للسهر وصعوبته بعد فرض الحظر. قالت عبير: "كنا عايشين في مجتمع مغلق أوي عشان الناس اللي بتيجي من أماكن كتير في مصر للجامعة. بس معندكش مساحات إنك تعمل حاجات مختلفة". حتى بعد زيادة الرسوم مؤخراً زادت أعداد الطلبة مقارنة بالدفعة التي تلت دفعتي في كلية طب الأسنان والتي لم تتجاوز مئةً وثمانين طالباً في 2018، إذ تجاوز عدد طلاب الدفعة الأخيرة سنة 2023 ستمئة طالب. للجامعة نفسها فرعٌ آخَر في مدينة "القنطرة شرق" وهو أقلّ إثارةً للقلق الذي أحاط مدينة العريش لأن القنطرة شرق كانت أبعد عن قلب المحافظة، ولا يتطلب الوصول إليها أو الخروج منها سوى عبور قناة السويس.

لم تعد العريش والشمال عموماً منطقةً ملغّمةً بمخاطر هجمات تنظيم الدولة كما كانت في الماضي. ولكن ما زال الطريق طويلاً للتعافي من الشلل الذي عانت منه، وخرجت منه في نزاعٍ طويلٍ ومؤلم. والحديث عن عودة الحياة لا يكتمل إلا بالحديث عن عودة الأهالي إلى أماكنهم.

اشترك في نشرتنا البريدية