قرّر صاحبُ المزرعة مغادرةَ المكان كما يفعل معظمُ أهالي البلدتين. لكن خبرة عامله الماهر تتعدّى زراعةَ الخضروات والحبوب ورعايةَ شجر الزيتون. فما زال يحتفظ بأحد دروس الحرب السورية: آمَنُ مكانٍ بعد الغارة هو مكانُ الغارة نفسها، وأخطرُ مكانٍ هو طريق هروب الناس. وهكذا أقنعَهم بالبقاء بجوارِ المنزل. كانت أمّ محمد تحمل حقيبةً صغيرةً أعدّتها قبل أيامٍ بعد أن سمعت تحليلاً على إحدى الشاشات يؤكّد أن إسرائيل تسعى جاهدةً إلى استفزاز حزب الله واستيفاء مبرّرٍ لشنّ حربِها على لبنان. وكان الحزب قد رفع وتيرةَ قصفه شمالَ إسرائيل قبل يومين. لم تتلقّ أمّ محمد تعليماً عالياً لكنها حلّلَت المعطيات الكثيرة بدقّةٍ وحضّرت حقيبةَ النزوح الجديد مستفيدةً من خبرتها السابقة.
صواريخُ تَتْرَى وعواجلُ الأخبار تتوالى بلا تؤدة. كانت خطوات العائلتَيْن ثقيلةً متعثرةً لأن العيون ترقُب أسرابَ الطائرات وهي تحوم فوق جنوب لبنان. وبعد أن انتهت الموجة الأولى من القصف جهّز الحاج محمد السيارةَ بينما ركن أبو محمد الجرّارَ ملاصقاً لباب المنزل تحسباً لعمليات السرقة التي تحدث عادةً بعد النزوح. درسٌ آخَرُ تعلّمَه من الحرب السورية.
بعد عصفٍ ذهنيٍ مشتّتٍ كانت الوجهة الأولية بيروت. لكن الازدحام والنزوح الجماعي جعلهم يعيدون التفكير. فتصريحات الجيش الإسرائيلي لا تشي بأنها عمليةٌ محدودةٌ تنتهي بيومٍ أو يومين، فكانت الوجهة سوريا. كان الحاج محمد ممّن تأخّر في النزوح أثناء حرب 2006 وحين وصل دمشق كانت المنازل المعروضة للتأجير قليلةً والأسعار مرتفعةً، ولا يريد أن يعيد خطأَه.
سيذهب الجميع إلى سوريا باستثناء أبي محمد المطلوب أمنياً للنظام السوري. وكان الاتفاق أن يذهب الحاج محمد وزوجته إلى منزل أبي محمد في خان شيخون مقابل أن يعتني بطفليه ويحمي زوجته من أيّ استدعاءاتٍ أمنيةٍ من مخابرات النظام. في لحظةٍ، انقلبت الأدوار فأصبحت العائلةُ اللبنانية التي كان السوريون يعملون عندها سابقاً تعتمد عليهم الآن للبقاء.
لم يودّع أبو محمد عائلته وداعاً كافياً بين الزحام على البوابة الحدودية. عند البوابة تروي أم محمد تباينَ المعاملة. فاللبناني يَعبُر بسلاسةٍ ويستقبله مسؤولون في حكومة النظام وعاملون إغاثيون. بينما كانت أمّ محمد تنتظر على صفِّ صرفِ المئة دولارٍ، فالقرار الصادر سنة 2020 يلزِم كلَّ سوريٍّ مغتربٍ بصرفِ مبلغٍ يعادل مئةَ دولارٍ أمريكيٍّ قبل دخوله الأراضي السورية. يوم 29 سبتمبر، أي بعد أسبوعٍ من النزوح أوقفَت حكومةُ النظام السوري العملَ بالقرار أسبوعاً فقط.
يُقدِّرُ صحفيون في الجنوب اللبناني لتغطية الحرب، وعاملون إغاثيون وسوريون نازحون، أن ثلث السوريين الموجودين في الجنوب نزحوا منه في اليومين الأوّلَين من الحملة الجوية الإسرائيلية. لكن النزوح السوري من الجنوب مستمرٌّ حتى مع انخفاض وتيرة الغارات الإسرائيلية في الأيام الأخيرة، مخافةَ العملية البرّية التي تهدِّد بها إسرائيلُ. وتقدّر مصادر من العاملين الإغاثيين في الجنوب أنَّ 95 بالمئة من السوريين نزحوا حتى العاشر من أكتوبر ، في حين تغيبُ الإحصائياتُ الرسمية الدقيقة.
يوم الخميس الفائت، سُئل وزيرُ الداخلية اللبناني بسام مولوي في مؤتمرٍ صحفيٍ عن شمول خطّة الاستجابة لحركة النزوح للنازحين السوريين. جاءت إجابتُه إن الجهود الحاليّة تركّز على النازحين اللبنانيين. واستدرك الوزيرُ بأن لبنان يقف إلى جانب كلِّ من لديه حاجةٌ إنسانية. وأشار إلى وجود مراكز إيواءٍ في منطقة البقاع مخصّصة للسوريين. لكنه عرضَ إحصائيةً للسوريين العائدِين إلى بلادهم، "ممّا يدلّ على أن العودة إلى سوريا ممكنة" بحسب وصفِه، وفي ذلك تلميحٌ إلى أن السوري في لبنان لديه خيارٌ آخَر للنزوح.
وأفاد المسؤولُ الإعلامي لخلية إدارة الأزمات والكوارث في بيروت، الملازم أوّل فادي بغدادي، أن مئةً وثماني مدارس في بيروت استقبلت النازحين، نافياً بشدّةٍ وجودَ تمييزٍ في الاستجابة بين نازحٍ لبنانيٍ وسوري. وأوضح البغدادي أن عمليات الاستجابة والإغاثة في المدارس والشقق والفنادق في بيروت قائمةٌ على المتطوعين والتبرعات والجمعيات، مع نشاطٍ لمنظمة الصليب الأحمر الدولي. وقال بغدادي للفِراتْس: "نحن متروكون ويوجد ضغطٌ كبيرٌ بسبب حملات النزوح المستمرة، وبدأنا بتحويل النازحين الجدد إلى خارج بيروت لأن مراكز الإيواء المتاحة بلغت استيعابَها الأقصى، وتفترش العائلات الحدائق". وناشد المسؤولُ الإعلاميُّ الهيئاتِ الداعمةَ للتحرك. وأكد أن الخلية والجمعيات لن تتخلّى عن النازحين مهما حصل.
تنشط جمعيةُ "بسمة وزيتونة" لإغاثة النازحين. واستجابت بحسب ما نشرته على صفحاتها لأكثر من خمسة آلافٍ وخمسمئة شخصٍ وألفٍ ومئتين وأربعين أُسرة. وتشرف على خمسة مراكز إيواءٍ في البقاع وصيدا وطرابلس وبيروت ومنطقة الشوف، وتؤمّن لهم وجبات طعامٍ ومستلزمات نظافةٍ وبطانياتٍ ووسائد. وأَطلقَت "بسمة وزيتونة" حملة جمع تبرعاتٍ للاستجابة لحالة الطوارئ. وجمعت حتى الآن ثلاثمائة وسبعة ألف دولارٍ أمريكي. يقول كريس غفاري للفِراتْس، وهو منسّق قسم التواصل والإعلام في جمعية "بسمة وزيتونة" إنهم قد جهّزوا خطّة طوارئٍ، لكن بعض مراكز الإيواء التي تنشط فيها الجمعية وخاصّةً المدارس الحكومية ليست مكتملة التجهيز للتعامل مع هذه الحالة الطارئة. وأضاف: "في وقتٍ تشحّ فيه الموارد، يخوض غالبية المهجّرين اللبنانيين إلى جانب اللاجئين السوريين والمقيمين غير اللبنانيين، معاناةً كبيرةً لتأمين أيِّ شكلٍ من أشكال الإيواء". تضمّ "بسمة وزيتونة" برامجَ دعم المجتمع المدنيّ والأمن الغذائيّ وسبل العيش والحماية وبناء السلام والتعليم والبحث والمناصرة، وجميعُها موجّهةٌ إلى المجتمع المضيف واللاجئين من السوريين والفلسطينيين. ويؤكّد غفاري أن العمل الإغاثي يقع على كاهل الجمعيات والمنظمات والتبرعات، ولذلك أطلقت الجمعيةُ حملتَها لجمع التبرعات وشاركَتْها مع الجهات المانحة ومع شركائها وبعض المنظمات المحلّية والعالمية من أجل ضمان استمرار الدعم وتقديم المساعدات. ساعدت "بسمة وزيتونة" بهذه الحملة ما يقارب خمسةَ آلافٍ وخمسمئةٍ وأربعةً وأربعين شخصاً. وبدعم المموِّلين والتبرعات، يقدِّر عفاري أن تصمد الجمعيةُ عدّةَ أشهُر.
ناشدت الحكومةُ اللبنانية في الثالث من أكتوبر المجتمعَ الدولي لتقديم مساعداتٍ بقيمة أربعمئةٍ وسبعةٍ وعشرين مليون دولارٍ لعمليات الإيواء والإغاثة للأشهر الثلاثة المقبلة. وقد وصلتها الموافقةُ الفورية على حوالي مئتَيْ مليون دولار. وقال رئيسُ الحكومة نجيب ميقاتي في جلسة مجلس الوزراء يوم الأربعاء الفائت إنه اجتمع مع منظمات الأمم المتحدة وسفراء الدول المانحة لتنسيق خطّة الاستجابة الحكومية لأزمة النزوح. وأفاد أيضاً أن مراكز الإيواء بلغت ثمانمئةٍ وأربعةً وسبعين مركزاً. وتفيد الإحصاءاتُ أن غالبية الذين يفترشون الطرقات هم من غير اللبنانيين. يستضيف لبنانُ حوالي مليوناً ونصفَ المليون لاجئٍ سوريٍّ، بحسب المفوضية. ومع التهديدات الإسرائيلية المتواترة قبل بدء الحرب، أثبت الواقعُ غيابَ خطّة طوارئٍ حكوميةٍ لمواجهة الكوارث والتداعيات المتوقّعة مثل النزوح، ممَّا دفع متطوّعين إلى إطلاق حملات الإغاثة المجتمعية لتوفير المأوى وجمع التبرعات وسدّ فراغ غياب الجهات الرسمية بعد أن انتشرت صور العائلات التي تفترش الطرقات، ولكن هذه الجهود محدودةَ القدرات فتحت المجالَ لاستغلال شبكات الاتجار بالبشر التي تَستهدِف الفئاتِ الأضعفَ في الأزمات، ممّا يعرّض الأطفالَ والنساءَ للاستغلال. وقال عمّال إغاثةٍ في عرسال إن ما يزيد عن ألف عائلةٍ سوريةٍ نازحةٍ من بعلبك والهرمل وصلت إلى مخيمات عرسال ومدرستين في المنطقة. ولم يتلقّ النازحون سوى بضع مئاتٍ من الوجبات من جمعية الأمل وناشطين سوريين في عرسال نظموا التوزيع.
قال الدكتور فراس الغضبان، المديرُ الطبّي لجمعية إيما، لمجلة الفِراتْس إن وضع النازحين السوريين في البقاع سيّئٌ جداً. فمفوضية اللاجئين والحكومة اللبنانية لم تخصِّصا أيَّ مراكز إيواءٍ للسوريين. وتَرفض البلدياتُ والسلطات في البقاع إيواءَ اللاجئين السوريين في المدارس التي حُوِّلت إلى مراكز إيواءٍ وتُخصِّصها للبنانيين فقط، ولا تقدّم للسوريين أيَّ مساعداتٍ غذائيةٍ أو إغاثية. وأوضح الغضبان أن المفوضية نسقت مع جمعيةٍ محليةٍ لإيواء مئةِ عائلةٍ فقط. لكن في الأيام الثلاثة الأولى من النزوح كان السوريون يفترشون الطرقات. وعمل ناشطون سوريون وجميعاتٌ لإيواء عددٍ منهم في منازل قدَّمها متبرِّعون أو في كرفاناتٍ ومدارس صغيرة.
انتشرت تسجيلات مصورة لحالتَي اعتداءٍ على سوريين في لبنان في الأيام الماضية، بلا تحقّقٍ من صحتها، لكن نازحين سوريين أكّدوا للفِراتْس وقوعَ اعتداءٍ عليهم. وكتبت الناشطة السورية في لبنان غزلان منشوراً دعت فيه السوريين خارج لبنان إلى ضرورة تخفيف خطاب الشماتة على وسائل التواصل الاجتماعي، لأنها سببٌ في الاعتداءِ على السوريين وطردِهم من المنازل وعدمِ استقبالهم في مراكز الإيواء. وحَذّرَت من وجود خطرٍ على حياة سوريين ليس لديهم خيارُ العودة إلى سوريا.
وشهدت مواقع التواصل منذ بدء الحرب الإسرائيلية على لبنان فرحاً واسعاً في أوساط بعض الناشطين السوريين الذين وجدوا في الضربات التي تلقّاها حزب الله نوعاً من العدالة على ما ارتكبه من فظائع ضدّ السوريين. ممّا أدّى إلى استقطابٍ وجدالٍ واسعٍ بين الشامتين بما يجري لحزب الله، والمندّدين به كونَه استهدافاً من العدوّ المشترك.
يربط لبنانَ بسوريا خمسةُ معابر رسميةٍ أهمُّها وأكبرُها معبرُ المصنع - جديدة يابوس الذي يربط ريفَ دمشق بالبقاع، ومعبرُ جوسية الذي يربط البقاعَ الشمالي اللبناني بريف حمص عند مدينة القصير، ومعبرُ الدبوسية وهو معبرٌ جسريٌّ يربط بين قريتَي العبودية اللبنانية والدبوسية السورية الواقعة بين محافظتَي حمص وطرطوس، ومعبرُ العريضة الذي يربط مدينةَ طرابلس اللبنانية بمحافظة طرطوس السورية، ومعبرُ جسر قمر الذي يربط بين تلكلخ السورية ومنطقة وادي خالد في لبنان.
إحصائية المفوضية وإحصائيات النظام السوري تشمل النازحين إلى سوريا من المعابر الرسمية، إلّا أن عددَ الفارّين إلى سوريا من معابر التهريب لا يمكن تقديرُه، وقد يصل إلى خمسة عشر ألف سوريٍّ بحسب تقديرات مهرّبين تحدّثت الفِراتْس معهم. انتعشت معابر تهريب البشر في الجزء الشمالي من لبنان لأسبابٍ عدّةٍ، أبرزُها تجنّب التفتيش الأمنيّ على المنافذ الحدودية السورية وتجنّب فقدان حقّ اللجوء في لبنان للعودة إليه مجدّداً في حال هدأ الميدان، وتجنّب انتظار خمس ساعاتٍ في المعبر وصرف المئة دولار.
ووثّقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان حتى الثاني من أكتوبر اعتقالَ النظام السوري تسعةَ لاجئين سوريين عائدين من لبنان، ووثقت شبكة السويداء 24 اعتقال أربعة مواطنين من أبناء السويداء في حادثتين منفصلتين، خلال محاولتهم العودة من لبنان إلى سوريا منذ مطلع الشهر الجاري. بينما كشف لبنانيون وسوريون للفِراتْس وجودَ سماسرةٍ مرتبطين بضباط الداخلية السورية ينشطون في المعابر الرسمية لتمرير العائلات مقابل خمسين دولاراً أمريكياً من غير الوقوف في الصف. وتحدّثت الفِراتْس مع سمسارَيْن عن الخدمات المقدّمة، فذكرا عدداً من الخدمات المدفوعة بعد تمرير العائلة، مثل تأمين شاحنةٍ أو سيارةٍ لنقل الناس والمتاع وتأمين سكنٍ مؤقّتٍ مجهّزٍ إلى حين العثور على منزلٍ في دمشق وريفها وريف حمص.
أعلنت وزارة الإدارة المحلية السورية ومجالس المحافظات السورية تشكيلَ غرفِ عمليّاتٍ لاستقبال النازحين اللبنانيين وتجهيز مراكز إيواءٍ تقدّم خدماتٍ أساسيةً مثل الماء والكهرباء والحمّامات، إلى جانب الدعم الإغاثي ومساعدات الطوارئ في القطاع الطبّي لتقديم الخدمات الإسعافية. تحدّث نازحون للفِراتْس أنهم لم يعثروا على أيٍّ من هذه الخدمات في رحلةٍ تنقلهم من تلكلخ ودير مار إلياس وربلة في ريف حمص، ولا في الزبداني ولا العاصمة دمشق، باستثناء المياه وكمّياتٍ قليلةٍ من المعلّبات. وقال نازحٌ لبنانيٌّ إن مشاجراتٍ عدّةً اندلعت حيث اتَّهَم نازحون عمّالاً في جمعياتٍ ومنظماتٍ بسرقة المساعدات.
قدّمت الأمانة السورية للتنمية والهلال الأحمر السوري المساعداتِ الإنسانيةَ للعائلات النازحة. ووفّرت موادّ غذائية ومستلزمات أساسية في مراكز الإيواء، وقدّمت خدمات الرعاية الصحّية الأوّلية في المراكز الحدودية ومراكز الإيواء داخل المحافظات السورية. وتَحضر فِرَقُ الهلال الأحمر السوري و"الأمانة السورية للتنمية" التابعةِ لأسماء الأسد في المعابر بين الساعة العاشرة صباحاً والواحدة ظهراً لتوزيع المساعدات القليلة، ويشترطون للتوزيع الحصولَ على كامل معلومات النازحين بوعودِ متابعتهم لاحقاً وتقديمِ سلّاتٍ غذائيةٍ ومساعداتٍ عينية.
ويَرفض نازحون انتظارَ وصول المساعدات، خشيةَ تكرار الهجمات الإسرائيلية على المعابر أو الطرق المؤدية إليها. وذكر مصدرٌ يعمل في إدارة معبر "جديدة يابوس" الحدودي للفِراتْس، أنّ فِرَق الهلال الأحمر السوري تتعمّد تأخيرَ وصول شاحنات المساعدات الإنسانية إلى الخيام المخصّصة لتوزيعها حتى مغادرة النازحين المسجّلين من المعبر. وكشف مصدرٌ في الهلال الأحمر السوري للفِراتْس أنه لاحظ سياسةَ إحداث زحامٍ بشكلٍ واضحٍ لتشكيل مشهدٍ دعائيٍّ لتوظيفه لاحقاً في خطابات النظام السوري الذي يبيّت غاياتٍ خبيثةً، بينما تنشر منظمة الهلال الأحمر السوري على صفحاتها في مواقع التواصل الاجتماعي ألبوماتٍ مصورةً يومياً وتقول إنها تعمل على مدار الساعة.
وبحسب آخر تقرير للمفوضية، ما زالت الأسر اللبنانية التي وصلت مؤخرًا إلى سوريا دون سكن بديل وتتلقى الدعم من المجتمعات المحلية، في حين بلغ عدد مراكز الاستضافة 25 مركزاً فقط في جميع أنحاء محافظات دمشق وريف دمشق وحمص وحماة وإدلب وطرطوس واللاذقية، وتبلغ طاقتها الاستيعابية حوالي 10 آلاف شخص، في حين تقدم الإغاثة منظمات مجتمع مدني شريكة لوكالات الأمم المتحدة.
لاحظَت عائلاتٌ نازحةٌ بوضوحٍ الفارقَ في قدرة الاحتضان والمساعدة بين حربَيْ 2006 و 2024، إذ تأثّر جميعُ السوريين معيشياً واقتصادياً، ولم يعد لديهم القدرة على الدعم، تكاد تخلو خزينة الجمعيات الخيرية المحلية في المدن الصغيرة والبلدات السورية، ولا يكفي المبلغ المتاح سوى لدعم فقراء البلدة ذاتها، وأغلب الدعم من زكاة المقتدرين وتبرعات المغتربين.
بعد استقرار العائلات تبدأ رحلةُ البحث عن شقّةٍ، وهي مهمّةٌ صعبةٌ في العاصمة دمشق ومدينة حمص اللتين تشهدان اكتظاظاً سكانياً مسبقاً نتيجةَ النزوحات السورية الداخلية إليهما بفعل الحرب. وتحدّث لبنانيون للفِراتْس عن وجود استغلالٍ فجٍّ في الإيجارات حيث بلغت أسعارُ الإيجارات في أحياءٍ مثل الأمين والمهاجرين وكفرسوسة والمزة ثمانية ملايين ليرةٍ سوريةٍ شهرياً، أي ما يعادل نحو خمسمئة وخمسين دولارٍ أمريكيٍّ، بينما كانت تتراوح في شهر أغسطس بين مليون وثلاثة ملايين ليرةٍ سورية.
وأوضح صاحبُ مكتبٍ عقاريٍّ في دمشق للفِراتْس أن الطلب على المنازل المفروشة زاد كثيراً في الأسبوع الأخير، مع وصول نحو مئتَيْ عائلةٍ لبنانيةٍ إلى منطقتَيْ كفرسوسة والمَزّة في العاصمة دمشق منذ اليومين الأَوّلين للحرب، ثم باتت مهمة العثور على منزل في هذه الأحياء صعبة للغاية، فأصحاب المنازل يرفضون تأجير عائلات من الجنوب اللبناني خشية أن يكونوا عائلات قياديين في حزب الله وبالتالي استهداف المبنى من قبل إسرائيل، وكانت الغارة الإسرائيلية على المزة في الثامن من الشهر الجاري رادعاً أكبر ومدعاة للخوف، حيث ضربت الغارة ثلاث شقق في مبنى سكتي ما أسفر عن مقتل دكتور جامعة يمني وزوجته وأطفاله الثلاثة وطبيبة سورية وامرأة سورية وطفلها، في حين لم يتم التعرّف على المستهدفين في الغارة وتضاربت الأنباء في وسائل الإعلام السورية والعبرية بين أنهم قياديين في حزب الله أو قياديين إيرانيين.أما في ريف دمشق، فقد ارتفعت الإيجارات بنسبةٍ أقلّ مقارنةً بالعاصمة، وفَضّلت العائلاتُ اللبنانية غيرُ المقتدرة ماليّاً اللجوءَ إلى مناطق بعيدةٍ عن مركز العاصمة، مثل الكسوة والتلّ والسيدة زينب، والبلدات المحيطة بها.
وفي منطقة القلمون الغربي الحدودية، أفادت مصادرُ محلّيةٌ للفِراتْس أن تسعين عائلةً لبنانيةً وصلت من جنوب لبنان إلى الزبداني وقرىً محيطةٍ بها. أما العائلات المقتدرة ماليّاً فسكنت في بيوتٍ فاخرةٍ بإيجاراتٍ تصل إلى خمسمئة دولارٍ أمريكيٍّ أو في فندق بلودان الكبير. وفي القلمون الشرقي، وصلت أكثرُ من مئتي عائلة لبنانية وسورية إلى بلدات النبك وفليطة والحميرة وقارة عسال الورد ويبرود وصيدنايا.
تتداخل في حالات الاستغلال العواملُ الطائفية والاقتصادية والاجتماعية في بناء المواقف من الوافدين الجدد. فحوادث استغلال النازحين منها ما هو ردُّ فعلٍ على حوادث العنصرية والفوقية التي ظهرت في السنوات الماضية وعُومِل بها اللاجئون السوريون في لبنان. ومنها ما هو مرتبطٌ بالطائفية التي عزّزَها نمطُ تدخّل حزب الله في سوريا، وكذلك السخط في الأوساط السنّية السورية، لا سيّما في دمشق، من النشاط الشيعيّ المتنامي على حساب الهوية الدمشقية. ومنها ما هو نابعٌ عن خوف تأجير شقّةٍ لعائلةٍ شكّاً بأنها قد تُؤوي قيادياً في الحزب أو الحرس الثوري وعليه تُحيلُ المنزلَ هدفاً للقصف الإسرائيلي. ولكن هذا لا ينفي وجودَ استغلالٍ لغاياتٍ اقتصاديةٍ بحتةٍ بلا أيّ اعتبارٍ. لكن لا يمكن الحديث عن الاستغلال ببساطته الاقتصادية لأنه مرتبطٌ بأسبابٍ أخرى. في بعض الحالات كان الاستغلال محاولةً من أصحاب المنازل لتعجيز الوافدين الجدد وطردهم بشكلٍ غير مباشر. ورصدت الفِراتْس وضعاً مشابهاً في طرابلس اللبنانية، إذ احتُفِي بالنازحين السوريين وقُدّمت لهم خدماتُ الإغاثة والإيواء لإغلاق الطريق على النازحين اللبنانيين من الطائفة الشيعية.
تنتشر فكرةُ أن إيران "باعَت الحزبَ ونصر الله" في أوساط الحزب وحاضنته واللبنانيين. ولذلك تخشى عائلاتٌ لبنانيةٌ من الإقامة في المناطق السورية التي ينشط فيها الحرس الثوري الإيراني والمجموعات المرتبطة به، خشيةَ استهدافها من الطيران الإسرائيلي. وقد دفع ذلك بمئات العائلات إلى الإقامة المؤقتة في ريف دمشق، والبحث عن مساكن بديلةٍ في محافظات حلب وحماة واللاذقية وطرطوس والمناطق الريفية التابعة لتلك المحافظات. لكن بعض الجمعيات بدأت تعرض خدماتِ مأوىً وإغاثةٍ مغريةٍ، مثل ما تفعله جمعية "المرتضى الخيرية" في حلب، المموَّلة من الحكومة الإيرانية. إذ كشف مصدرٌ في المدينة أنَّ الجمعية جهَّزت عدداً من الأبنية السكنية المهجورة والمتضرّرة لاستقبال النازحين اللبنانيين في أحياء الزهراء والأشرفية والجميلية، وأنهت تجهيزَ ثمانية أبنيةٍ تضمّ ما يزيد على مئة شقّةٍ سكنية. وأكّد المصدر للفِراتْس أن هذه المساكن ستخصّص لعائلاتِ قتلى عناصر حزب الله ومصابيهم.
وفي دمشق وحلب وحمص تنشط جمعياتٌ صغيرةٌ مرتبطةٌ بإيران مثل "جهاد البناء" و"جمعية الزهراء" وغيرها، لتأمين شققٍ سكنيةٍ، إذ تعرض على سماسرة الإيجار وأصحاب المنازل طردَ المستأجِرين الحاليّين مقابل ضعف المبلغ أو أكثر. وكشفت مصادرُ محليةٌ في مدينتَيْ حلب ودمشق للفِراتْس أن الجمعيات "الخيرية" المرتبطة بإيران والعاملة في دمشق وريفها وفي مدينة حلب كانت الغطاء لكثيرٍ من الإيرانيين والعراقيين واللبنانيين لشراء شققٍ ومبانٍ سكنيةٍ في سوريا للتجارة دون أن يسكنوها، مستغلّين حاجة السوريين الملحّة لبيع أصولهم وممتلكاتهم، في حين تنظّم هذه الجمعيات عملية الشراء بما يضمن تحقيق غايات إيران في تغيير التركيبة السكانية في سوريا.
انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي تسجيلاتٌ مصورةٌ لمسيرةٍ مؤيِّدةٍ لحزب الله في ساحة الساعة وسط مدينة حمص ثم جابت شوارعَ المدينة الرئيسةَ، بهتافاتٍ طائفيةٍ بحتةٍ "شيعة شيعة شيعة"، واستمرَّت المسيرةُ ساعتين دونَ أيِّ تدخُّلٍ من أمن النظام ومسؤوليه لوأدِ هذهِ النعرة التي تسكب الزيتَ على النار. وأكّدت مصادرُ أهليةٌ من مدينة حمص للفِراتْس أن هؤلاء ليسوا جميعهم لبنانيون وإنَّما معهم من أبناء القرى الشيعية في الريف وبعض أبناء المدينة الذين تشيّعوا في سنوات ما قبل الثورة السورية. ورجَّحت تلك المصادرُ أن ما فعله المتظاهرون مرتبطٌ برفض معظمِ العائلات الحمصية تأجيرَ منازل للنازحين. فالمدينة شهدت في فبراير الفائت غارةً إسرائيليةً فريدةً دمّرت مبنىً في شارع الحمراء الراقي وسط حمص راح ضحيّتَها تسعةُ مدنيين، وكان الهدف قيادياً في حزب الله. هذه الغارة التي قُتِلت فيها صاحبةُ البناء السيدةُ نبيلة رسلان وابنُها المقيم في الولايات المتحدة الذي كان يزور والدتَه، تركت أثراً كبيراً في نفوس أهالي حمص.
وكانت البلداتُ والقرى الشيعيةُ في ريف حمص مثل العقربية والزرزورية والمصرية الوجهةَ المفضّلةَ للنازحين من جنوب لبنان. ووصلت عائلاتٌ إلى بلدتَيْ نبّل والزهراء في شمال حلب، لكن هذه القرى صغيرةٌ وغير قادرةٍ على استيعاب عددٍ كبيرٍ من العائلات.
وصلت نحو ثلاثين عائلةً لبنانيةً، غالبيتهم من الطائفة الشيعية، إلى قرية غدير البستان في ريف القنيطرة الجنوبي، برفقة دوريةٍ من فرع سعسع التابع للأمن العسكري، واستقروا في منازل تعود ملكيتها إلى نازحين ومهجّرين خارج المنطقة، بحسب ما قاله الناطق بِاسم "تجمع أحرار حوران" أيمن أبو محمود للفِراتْس. وقبلها وصلت عشراتُ العائلات من الطائفة الشيعية إلى مدينة إزرع في ريف درعا، في حين وصلت سبعون عائلة من أبناء مدينة نوى إلى مدينتهم،
ولم تصل أيُّ دفعاتٍ من النازحين إلى محافظة السويداء. وقالت مصادر محليةٌ للفِراتْس إن مجلس المحافظة يعمل على تجهيز "معسكر الطلائع" لاستقبال عددٍ من النازحين.
ويوم مقتل نصر الله، ظهر في تسجيلٍ مصوّرٍ وسط مدينة بصرى الشام أحمد العودة قائدُ "اللواء الثامن" التابع للفيلق الخامس المدعوم روسيّاً، وسابقاً كان قائدَ فصيلِ "شباب السنة" في الجيش السوريّ الحُرّ لكنه أجرى اتفاقَ مصالحةٍ مع النظام وروسيا وبقي في درعا. وظَهَرَ العودة في التسجيل وهو يطلق رشقةً من الرصاص احتفالاً بمقتل زعيم حزب الله. بصرى الشام أكبرُ مدن حوران التي كان يقطنها سوريون من الطائفة الشيعية وتبلغ نسبتهم 10 بالمئة من إجمالي السكان، لكنهم اصطفّوا مع النظام ثم طردهم الأهالي بعد سيطرة الجيش الحرّ على المدينة سنةَ 2015، ولم يتمكنوا من العودة إلى منازلهم حتى الآن. التسجيل المصور رسالةٌ مبطّنةٌ من أحمد العودة بأن النازحين من الطائفة الشيعية غير مرحّبٍ بهم في بصرى الشام.
وتكمل بعضُ العائلات طريقَها إلى العراق. وأعلنت وزارة الداخلية العراقية وصولَ ما يقرب من ثمانية آلاف مواطنٍ لبنانيٍّ، عَبَرَ خمسة آلاف وستمئة وتسعة عشر شخصاً منهم معبرَ القائم الحدودي بين العراق وسوريا، واستقر نصفهم في النجف وكربلاء. وخصصت الحكومة العراقية 3 مليارات دينار إلى وزارة الهجرة والمهجرين لتقديم المساعدة للعائلات اللبنانية.
أما النازحون السوريون العائدون إلى بلادهم، فهم رهن خريطة السيطرة في سوريا، فإن كانوا من أبناء المناطق الخاضعة الآن لسيطرة النظام السوري، فيتوجّهون إلى مدنهم وقراهم إن كانت منازلهم ما زالت سليمةً من القصف والحرب، أو إلى منازل أقاربهم للعيش مؤقتاً على أمل انتهاء الحرب في لبنان والعودة مجدداً. أما إن كانوا من أبناء المناطق الخاضغة لسيطرة "قوات سوريا الديمقراطية - قسد" في شمال شرقي سوريا، أو من أبناء المناطق الخاضعة لسيطرة فصائل المعارضة في شمال غربي سوريا، فهؤلاء ، تقطّعت بهم السبلُ في حدائق حمص وحماة وكراجاتهما، ولم يعد بمقدورهم إكمالُ طريقهم، فرحلتهم إلى مدنهم وبلداتهم تكون تهريباً خطيراً يتطلّب عبورَ خطوط التماسّ بين القوى المتحاربة، ودفع مبالغ كانت قبل حرب لبنان مئة دولارٍ أو أقلّ إلى مناطق سيطرة "قوات سوريا الديمقراطية" وبلغت الآن ثلاثمئة دولارٍ، أو ستمئة دولارٍ إذا كانت الوجهةُ مناطقَ سيطرة "الجيش الوطني السوري" في ريفَيْ حلب الشمالي والشرقي.
وفي الأيام الأولى من النزوح، افترشت عائلاتٌ سوريةٌ من محافظات دير الزور والرقة والحسكة الأرضَ في كراج حماة لعدم توفّر حافلاتٍ تقلّهم. وتتذرّع شركات النقل بعدم توفر الوقود، بينما رفعت أسعار التذاكر من خمسةٍ وستين ألف ليرةٍ سوريةٍ إلى مئةٍ وعشرين ألف ليرة. إلّا أن نازحين في الكراج كشفوا للفِراتْس أن الحافلات تعمل على مدار الساعة ولَم يلاحَظ وجود نقصٍ في الوقود، لكنه أكّد بحسب ما شاهده أن جمعياتٍ "شيعية" تستأجر الحافلات في الكراج لتنقل بها العائلات اللبنانية من الحدود إلى المدن والبلدات السورية. وفي السياق نفسه رصدت الفِراتْس على مواقع التواصل الاجتماعي استنفارَ معظم الشركات العراقية والإيرانية العاملة في السياحة الدينية في سوريا، لنقل الوافدين إلى سوريا بحافلاتهم.
تركت سلطاتُ النظام ومسؤولوه في حماة تلك العائلات في الكراج خمسة أيامٍ، في حين نَقَلَ مجلسُ محافظة حماة ثلاثين عائلةً لبنانيةً إلى مركز إيواءٍ استحدث في "مركز الصم والبكم" الواقع على طريق حماة - السلمية. وأمّن ما يلزمهم من مساعداتٍ ضروريةٍ وإغاثيةٍ عبر "الهلال الأحمر السوري"، دون أن يقدّم أيّ دعمٍ أو مساعداتٍ للسوريين.
وفي شمال شرقي سوريا، أعلنت "الإدارة الذاتية" وصولَ ثمانية عشر ألفاً وستمئة وسبعة وستين وافداً من لبنان إلى مناطق سيطرتها حتى العاشر من أكتوبر، من بينهم ثمان وخمسون عائلة لبنانية ،وسبق أن وصلت إلى شمال شرقي سوريا اثنتا عشرة جثّةً من أهالي الرقة والطبقة ومنبج قُتلوا في القصف الإسرائيلي على لبنان.
أما في مناطق سيطرة الجيش الوطني شمال غربي سوريا، بلغ عدد الواصلين من لبنان نحو ثلاثة آلاف شخص جميعهم سوريون، بحسب تقرير المفوضية في العاشر من أكتوبر، وهؤلاء وصلوا عن طريق معبر "عون الدادات" الذي يصل بين مناطق سيطرة "قسد" في منبج ومناطق سيطرة "الجيش الوطني" في جرابلس. ومنعت الشرطة العسكرية التابعةُ للحكومة السورية المؤقتة دخولَ هؤلاء النازحين الذين انتظروا يومين. وبعد احتجاجاتٍ واسعةٍ نظّمها ناشطون وأهالي النازحين، سمحت سلطاتُ المعارضة في الثالث من أكتوبر بدخول الدفعة الأولى. وهرعت منظمات وجمعيات لتقديم الدعم والمساعدة. وأكّد للفِراتْس ناشطون ومصدرٌ في الحكومة السورية المؤقتة غيابَ خطط التعامل مع النازحين من لبنان في مناطق سيطرة المعارضة، وأن الألف وسبعمئة شخصٍ الذين دخلوا في اليوم الأول لم يُفتَّشوا ولم يُسجَّلوا، وفي ذلك خللٌ أمنيٌّ وتنظيميٌّ كبير.
وأوضح ناشطون ومصادر من الشرطة العسكرية للفراتس أن السلطات التركية أمرت بمنع دخول النازحين من لبنان إلى مناطق سيطرة الجيش الوطني، خشية أن يكملوا نزوحهم إلى تركيا من خلال طرق التهريب، ولعدم وجود قدرة لدى سلطات الجيش الوطني للتأكد من هوية الواصلين وخشية أن يكون بينهم عملاء من حزب الله أو النظام السوري أو "قسد".
ولتوضيح الخارطة الممزقة: لا توجد معابر بين مناطق سيطرة المعارضة والنظام، في حين توجد معابر بين مناطق سيطرة النظام ومناطق سيطرة "قسد"، ويوجد معبرٌ بين مناطق سيطرة "قسد" ومناطق سيطرة المعارضة. ولذلك يجب على من يريد الوصولَ من لبنان إلى مناطق سيطرة المعارضة في شمال غربي سوريا أن يصل أولاً إلى مدينة حلب الخاضعة لسيطرة النظام ثم يتوجه إلى مدينة منبج الخاضعة لسيطرة "قسد" ثم إلى مدينة جرابلس الخاضعة لسيطرة المعارضة.
عكفت جميع وسائل إعلام النظام السوري والمنظمات المرتبطة به منذ اليوم الأول للحرب الإسرائيلية على لبنان، على الترويج لـما سمّي "الاستنفار الحكومي" لإغاثة النازحين والعائدين. ومنذ بدء النزوح اللبناني، سارع النظام السوري إلى اتخاذ تدابير شكليةٍ ترويجيةٍ لا تسمن النازحين ولا تغنيهم من جوع. ونشطت صفحات المنظمات العاملة في مناطق سيطرته بمنشوراتٍ وصورٍ وفيديوهاتٍ على مدار الساعة، لتظهر جهوداً إنسانيةً مبالغاً فيها لمساعدة النازحين، ما يهدف إلى تحسين صورته أمام المجتمع الدولي وتعزيز مكانته "مستجيباً أوّل" لهذه الأزمة الإنسانية. وأظهر النظام أيضاً قدرته على تكرار أساليبه السابقة في استغلال الكوارث، مثلما فعل في كارثة الزلزال المدمر الذي ضرب سوريا وتركيا في فبراير 2023.
لا يتخلى النظام عن أمله في أن يثمر الضغط على المجتمع الدولي بربط إعادة اللاجئين السوريين بمشاريع إعادة الإعمار والتعافي المبكر. واليوم يستغلّ أزمةَ النزوح اللبناني لتعزيز موقفه. في الاجتماعات الأخيرة مع الأمم المتحدة، أصرّ الأسد على ضرورة دعم مشاريع إعادة الإعمار شرطاً لعودة اللاجئين، وهو مطلبٌ من شأنه تعزيز تدفق الأموال والمساعدات إلى خزينته.
ومع محاولات النظام إظهارَ انفتاحه لاستقبال النازحين اللبنانيين، ما تزال الظروف الإنسانية في سوريا كارثية. فقد أعرب مكتبُ تنسيق الشؤون الإنسانية التابعُ للأمم المتحدة (أوتشا) عن قلقه إزاء تزايد أعداد النازحين اللبنانيين والسوريين الذين يعبرون الحدود، مشيراً إلى أن سوريا تواجه واحدةً من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم، مع حاجة أكثر من 16.7 مليون شخصٍ إلى مساعدات إنسانية.
يُغرِق النظامُ المنظماتِ والجمعياتِ بجموع الوافدين النازحين لتصل مرحلةَ العجز، وحينها يضع المجتمعَ الدوليَّ في موقفٍ حرجٍ كما فعل في زلزال 2023 وقبله كلّ الكوارث. ويرى النظام السوري في هذه الأزمة فرصةً للضغط على المنظمات الإنسانية والدول الداعمة لتقديم المزيد من المساعدات، في وقتٍ يسعى فيه أيضاً لإعادة إظهار نفسه على الساحة الدولية. النظام لم يتوقف عن استغلال المساعدات الإنسانية، وهو ما أكّده تقريرٌ سابقٌ لصحيفة "الغارديان" الذي أشار إلى أن النظام كان يجبر المنظمات الدولية على تصريف العملة الأجنبية بسعرٍ منخفضٍ، ما سَمَحَ له بالاستيلاء على جزءٍ كبيرٍ من المساعدات.
في رصدٍ واسعٍ لتصريحات مسؤولي النظام السوري والإحصائيات المنشورة في صفحاته وإعلامه، يبدو أن ما تقدّمه حكومة النظام ومؤسساته من مراكز إيواءٍ ودعمٍ إغاثيٍ لا يغطي 10 بالمئة من الوافدين من لبنان. في حين توزّع المنظمات مساعداتٍ ومستلزماتٍ لنسبةٍ أقلّ من ذلك. وبحسب ما استمعت له الفِراتْس من شهاداتٍ ومصادر في جمعياتٍ ومنظماتٍ، فإن النسبة العظمى من النازحين من لبنان إلى سوريا يعتمدون على أنفسهم وأقاربهم. وأكّدَت للفِراتْس أربعةُ مكاتب حوالاتٍ ماليّةٍ كبرى في دمشق، ومكتبان في ريفها، وثلاثة مكاتب في كلٍّ من حماة وحمص، ومكتبان في كلٍّ من حلب واللاذقية أن وتيرة الحوالات المالية ارتفعت باطّرادٍ ملحوظٍ منذ بدء النزوح من لبنان. وقَدّرَ أصحابُ المكاتب الارتفاعَ بنسبة 40 بالمئة، في حين وصلت في دمشق إلى 60 بالمئة، وهذا مؤشّرٌ على أن معظم الإغاثة في سوريا، كما هي في لبنان، قائمةٌ على التبرعات.
سيواصل النظام السوري نهجه في استغلال الأزمات الإنسانية لتحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية، مع الاستمرار في فرض شروطه على المجتمع الدولي للحصول على دعمٍ ماليٍّ تحت غطاءٍ إنساني. وفي أزمة النزوح اللبناني، يبدو أن الأسد يسعى إلى تعزيز روايته بضرورة إعادة الإعمار وربطها بتدفق المساعدات، ممّا يفتح المجالَ أمام مزيدٍ من التوترات والمفاوضات الدولية.