استُهدف جمال حبال واثنان من رفاقه، محمود زهرا ومحمد علي الشريف، في 27 ديسمبر سنةَ 1983، بعد أن رُصدوا في أثناء تنفيذ عملية ضد القوات الإسرائيلية. طوَّقت القوات الإسرائيلية المنزل الذي كانوا يتحصنون فيه، ودارت معركة شرسة قُتل فيها ضابطٌ إسرائيليٌّ من لواء جولاني قبل أن تستشهد المجموعة.
دخل الحاج أبو شفيق المستشفى ليجد ابنه مسجىً شهيداً، بينما كان أبناء صيدا والمنطقة يتغنون ببطولاته هو ورفاقه. عاد الحاج إلى المنزل في حيرة من أمره، وسرعان ما تبدل حاله كما تبدل حال أبناء صيدا جميعاً بعد اكتشافهم الدور الكبير لجمال حبال، وهو شاب لم يتجاوز 25 عاماً، في إشعال المقاومة المسلحة التي بلغت ذروتها سنةَ 1985 بدحر القوات الإسرائيلية من صيدا وأجزاء من جنوب لبنان.
برز اسم قوات الفجر بعد معركة "طوفان الأقصى"، مما أثار كثيراً من الأسئلة عن طبيعتها ومستقبلها. ولفهم هذا التنظيم ينبغي العودة إلى جذوره المرتبطة بالجماعة الإسلامية في لبنان. تأسست قوات الفجر عقب الاجتياح الإسرائيلي للبنان سنةَ 1982، وكانت نتيجة لمسار تاريخي طويل ابتدأ منذ نكبة فلسطين سنةَ 1948. تأثرت القوات بالتطورات في لبنان، بدءاً من أحداث 1958 وصولاً إلى الحرب الأهلية سنة 1975، ليزداد دورها مع اجتياح إسرائيل لبيروت في 1982. وظلَّت قوات الفجر اليوم قوة عسكرية نشطةً في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي. تشمل أهدافها حماية لبنان وتحرير فلسطين، وتسعى بهذا التوجه إلى تأدية دور أكبر في السياسة اللبنانية بعد سنوات من التراجع. مع ذلك يفرض الخوض في الشأن السياسي من بوابة القضية الفلسطينية على الجماعة تحديات كبيرة تعكف على دراستها لتحديد مسارها المستقبلي.
شهدت الجماعة الإسلامية في لبنان تحولات جذرية على مر العقود، فبعد أن انطلقت كحركة دعوية صغيرة في الخمسينيات، تحولت تدريجياً إلى قوة سياسية وعسكرية أكثر تأثيراً، لا سيما مع تأسيس قوات الفجر. منذ نشأتها، تأثرت الجماعة بتطورات إقليمية ودولية، بدءاً من النكبة الفلسطينية التي شكّلت وعيها السياسي، مروراً بالحرب الأهلية اللبنانية التي دفعت الأطراف كافة للتَّسلح والمواجهة. ومع تفاقم النزاع في لبنان واشتداد الصراع مع الفصائل الفلسطينية والقوات الإسرائيلية، اضطرت الجماعة إلى الدخول في العمل العسكري، وهو ما برز بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982.
واصلت الجماعة تعزيز حضورها العسكري والسياسي بقوات الفجر، التي أصبحت رأس الحربة في مقاومتها الاحتلالَ الإسرائيلي. ومع مرور الزمن وتغير الظروف، استمرت الجماعة في التأقلم مع التحديات الداخلية والخارجية. بعد بدء معركة "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر 2023 برزت من جديد على الساحة، إذ أحيت قوات الفجر نشاطها العسكري بالمشاركة في "طوفان الأقصى". في الوقت الذي ترددت به القوى السنية الأخرى في مواجهة إسرائيل، كانت الجماعة الإسلامية في صلب المعركة، ما أعاد إليها وزناً سياسياً في لبنان، على تواضع إمكاناتها مقارنة بحزب الله، وبعد إطلاق إسرائيل عملية "سهام الشمال" يوم 25 سبتمبر 2024، واستخدام حزب الله لأسلحة أحدث وأقوى أظهرت فارق القدرات الهائل بين الحزب وقوات الفجر فتراجع اسمها مجدداً.
بعيداً عن الأضواء كانت مجموعة صغيرة من الشباب في شمال لبنان، من أبرزهم فتحي يكن، يجتمعون في "جمعية مكارم الأخلاق"، إذ عقدوا لقاءات ثقافية ودرسوا فيها منشورات جماعة الإخوان المسلمين. ارتبط هؤلاء الشباب بقيادات الإخوان، لا سيما الشيخ مصطفى السباعي، مراقب عام الإخوان في سوريا، الذي قدّمهم إلى "جماعة عباد الرحمن" في بيروت، وهي أول مجموعة حركية إسلامية في تاريخ لبنان، أسسها المهندس والداعية محمد عمر الداعوق بعد نكبة فلسطين سنةَ 1948 التي شهدها في يافا.
مع أن عددهم كان قليلاً سنةَ 1958، برز نشاطُ الشباب الشمالي في طرابلس بتنظيم المخيمات الرياضية والكشفية التي تضمنت تدريبات عسكرية، كان من نتائجها تصنيع بندقية حربية وتقديمها لرئيس الحكومة رشيد كرامي. غير أن هذا النهج العسكري لم يرق لجماعة عباد الرحمن في بيروت، التي فضّلت التركيز على العمل الدعوي، مما أدى إلى الانفصال عن فرعها الشمالي. عانى الشباب الشمالي من ضغوط مادية وجماهيرية، لا سيما في مواجهة قوة المد الناصري. إلا أنَّهم لم يتوقفوا، بل أسسوا الجماعة الإسلامية، وكان أحدُ أبرز أسباب نشأتها التوجهَ العسكري ذا الخلفية الإسلامية.
كان الانفصال متوقعاً من البداية، إذ كان توجه "شباب العباد" في الشمال عسكرياً وسياسياً ويميل إلى المواجهة، بينما رفضوا مهادنة التيار الناصري في ذروة شعبية جمال عبد الناصر، عكسَ الفرع البيروتي الذي فضَّل العملَ الدعوي ومهادنة المدِّ النَّاصري حفاظاً على جزءٍ من جمهورهم.
خفتَ مؤقتاً شبحُ الحرب الأهلية الذي ظهر سنةَ 1958، إلا أن جمر الصراع الطائفي ظلَّ تحت الرماد، ليأتي اتفاق القاهرة سنةَ 1969 بين منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة اللبنانية، وهو الاتفاق الذي سمح بحرية الحركة المسلحة للقوات الفلسطينية في جنوب البلاد، فنفضَ الرماد عن الجمر، وتسارعت القوى كافةً إلى تكثيف تسلحها وتدريباتها التي لم تتوقف أساساً، استعداداً لحرب أهليةٍ قادمة. رأت القوى المسيحية الاتفاقَ إعلانَ حرب عليها، إذ شرعن السلاح الفلسطيني في لبنان بتفاهمٍ عربيٍّ هدفُه حصرُ نشاط المنظمات الفلسطينية هناك، لتجنب مسؤوليةِ الفدائيين وسلاحِهم في باقي الدول العربية. وكان لبنان بيئة ملائمة لذلك بسبب انقسامه الاجتماعي وضعف نظامه السياسي، مما خوَّفَ المسيحيين من تحول لبنان إلى وطنٍ بديلٍ للفلسطينيين، وهو تخوف عبروا عنه بشعارهم المعروف: "لبنان لن يكون وطناً بديلاً للفلسطينيين".
لم توقف الجماعة الإسلامية تدريباتها بعد سنة 1958. وأسوةً بغيرها من القوى اللبنانية، ومصحوبةً بفكرٍ عقدي يشجع على "الجهاد والدفاع عن النفس ورد الغزاة"، واصلت الجماعةُ تدريباتها على هامش الأنشطة الرياضية والكشفية التي عُرفت باسم "الفتوة". في ذلك الوقت كان التدريب العسكري جزءاً من المنهج المدرسي الرسمي في لبنان، بإشراف الجيش اللبناني، مما سهّل عسكرة الأحزاب كافة. وبعد اتفاق القاهرة، بدأ يظهر تدريجياً التدريب العسكري لدى القوى المسيحية، مما دفع القوى المسلمة والوطنية، كما كانت تُعرف حينها، إلى تعزيز تدريباتها. كان للجماعة الإسلامية نصيب في هذا التوجه، فانتقلت إلى التدريب العسكري المكثف سنةَ 1972، أسوةً بباقي المجموعات، أي قبل الحرب الأهلية بثلاث سنوات. تركزت التدريبات في الشمال، وشارك فيها أعضاء الجماعة من أنحاء لبنان، واقتصرت على المنتظمين في صفوفها. اعتمدت الجماعة في تلك المرحلة على السلاح الشخصي، قبل أن يزودها جيش لبنان العربي بأسلحة ثقيلة وإن كانت محدودة، وهو جيشٌ شُكِّل من ضباطٍ وعسكريينَ منشقين عن الجيش اللبناني بقيادة الضابط أحمد الخطيب، بعدما رفضوا أوامر القيادة المركزية بالعمل ضد الفصائل الفلسطينية والمجموعات اليسارية.
مع اندلاع الحرب الأهلية سنةَ 1975، أطلقت الجماعة الإسلامية من الشمال تنظيم "المجاهدون"، الذي شارك منذ البداية في معارك مع مسيحيي قضاء زغرتا المتاخم لطرابلس، معتقدةً أنها تدافع عن المسلمين في وجه "الانعزالية المسيحية" و"التقتيل على الهوية". في ذلك الوقت، وسّعت الجماعة دائرة تنظيم "المجاهدون"، بضم الملتزمين دينياً عموماً، ولم تعد المشاركة مقتصرة على أعضاء الجماعة، بل أصبحت الدورات العسكرية شبه علنية. كان التنظيم بإشراف لجنة سياسية تضم شخصيات بارزة، مثل إبراهيم المصري، أحد مؤسسي الجماعة، ومحمد علي الضناوي، أول مرشح للجماعة في الانتخابات النيابية سنة 1972. وقاد التنظيم عسكرياً المهندس عبد الفتاح زيادة، وهو ضابط سابق في الجيش اللبناني وأحد أبناء الجماعة.
استمرَّ عمل تنظيم "المجاهدون" في حرب السنتين عامي 1975 و 1976، إذ تمركزت أنشطته العسكرية في الشمال، وفي مواجهة الأطراف نفسها. فقدت الجماعة عدداً من مقاتليها في معارك للدفاع عن منطقتي الكورة والقلمون المتنازع عليهما حينها، وللحفاظ على قرية مرياطة التي تربط طرابلس بالقرى الإسلامية المحيطة بها، وتأمين طريق طرابلس الضنية، و"تطهير" مناطق المسلمين في طرابلس ومحيطها من الوجود العسكري المسيحي.
مع أن هذه المعركة لبنانية في جوهرها، إلا أنها كانت جزءاً من صراعات أوسع تشمل مستويات عدة، من نزاعات محلية بين العصابات للسيطرة على الموارد إلى النزاعات الطائفية وصراع النفوذ السياسي، ومن صراع حقوق الطوائف في لبنان إلى الصراعات الإقليمية التي ألقت بظلالها على البلاد. شمل هذا الصراع بين البعثين السوري والعراقي، والتنافس الخليجي والليبي، وحتى الحرب الباردة بين السوفييت والأمريكيين. كل هذه العوامل جعلت يد سوريا الأثقل في الصراع، إذ عدَّ الرئيس حافظ الأسد لبنان جزءاً من نفوذ سوريا. كان تدخل سوريا العسكري سنةَ 1976 نقطة تحول، بعد أن طلب الرئيس اللبناني سليمان فرنجية الدعم السوري لإسناد القوى المسيحية، بعد أن مالت كفة الصراع ضدها. دخلت القوات السورية إلى لبنان بتفويض عربي، وأعادت التوازن للصراع، لتلعب سوريا بعد ذلك على التوازنات وتتنقل في تحالفاتها حتى انسحابها سنةَ 2005.
كبَّل الحضور السوري منذ سنة 1976 عملَ الجماعةِ الإسلامية، مما دفعها إلى تفكيك تنظيمها العسكري في العام نفسه. ترَكَّزَ الحضورُ السوريُّ في المناطق المتاخمة للحدود السورية، خاصةً في الشمال، وهي منطقة سرعان ما تحوّلت إلى منطقة نفوذ سوري. وتوقّف عملُ التنظيم في بيروت متأثراً بالحضور السوري العسكري، بعد مشاركته في معارك محدودة ضد الكتائب اللبنانية بداية الحرب. وهكذا، انحسر التنظيم، وبقيت بقاياه في صيدا، التي كانت بوابة الجنوب اللبناني. عاد نشاط الجماعة العسكري لاحقاً هناك باسمٍ جديد عاش حتى اليوم، وهو "قوات الفجر".
وصلت القواتُ الإسرائيلية إلى بيروت بسرعة مذهلة، ودفع انكشاف قوى المقاومة اللبنانية والفلسطينية الشارع اللبناني إلى إفرازِ قوى جديدة أخذت على عاتقها مهمة مقاومة الاحتلال الإسرائيلي. في تلك السنوات، لفحت لبنان رياح الثورة الإسلامية في إيران، وتشكّلت نواة حزب الله كما نعرفه اليوم. قبل إعلان حزب الله عن نفسه، وضعت مقاومةُ الاحتلال في الجنوب، حيث الأغلبية الشيعية، في صلب أهدافها. أما الجماعة الإسلامية، فقد حُرمت من الانتشار الواسع بفعل الحضور الطاغي للفصائل الفلسطينية، إلا أن نشاطها العسكري شَهِدَ انتعاشاً في تلك الظروف.
بداية الحرب كانت الجماعة الإسلامية حديثة العهد في مدينة صيدا، لكن بعض شبابها قاتلوا القوات السورية على أطراف المدينة، مما زودهم بخبرة عسكرية وجذب المزيد من الشباب إلى صفوفهم. تأسس من جديد تنظيم "المجاهدون" في صيدا، كما يوثق كتاب "الجماعة الإسلامية في لبنان 1975-2000" الصادر سنةَ 2017. التحق حوالي ثلاثة آلاف شابٍّ بالتنظيم، خاصةً بعدَ إعلانِ منظَّمة التحرير الفلسطينية التجنيد الإجباري، مما دفع بعض القوى الإسلامية في المخيمات الفلسطينية إلى الانضمام إلى "المجاهدين" حفاظاً على خصوصيتهم الإسلامية. شهدت صيدا تداخلاً كبيراً بين اللبنانيين والفلسطينيين، ولم يكن فيها الشدّ الطائفي بمستوى مناطق أخرى كطرابلس وبيروت.
سيطر جيش الاحتلال الإسرائيلي على الشريط الساحلي حتى بيروت، مستفيداً من غاراته الجوية المكثفة، بينما كانت القوى اللبنانية المقاومة مشغولة بالصراعات الداخلية. سارعت القوى الفلسطينية إلى لملمة جراحها وتشكيل قيادة مشتركة مع القوى المقاومة الأخرى، بما في ذلك الجماعة الإسلامية في صيدا، بقيادة جمال حبال، قائد التنظيم العسكري في الجنوب. اشترك "المجاهدون" مع القوات الفلسطينية في عمليات عسكرية، بدأت بمحاولة التصدي لإنزال إسرائيلي في ملعب صيدا البلدي. لكن الخطة فشلت، وانهارت غرفة العمليات المشتركة، مما دفع القوات الإسرائيلية إلى تدمير عشرات الأبنية وعدد من المساجد. حينها قرَّرَ حبال ورفاقه التحول إلى حرب العصابات.
جمع شباب "المجاهدون" الأسلحة المنتشرة في الشوارع، وشرعوا بزرع العبوات الناسفة لتفجيرها في قوات الاحتلال الإسرائيلي وعملائهم من ميليشيا "جيش لبنان الجنوبي" بقيادة سعد حداد. نجح التنظيم الجديد في إيقاع عدد من القتلى والجرحى من غير الكشف عن هوية منفذي العمليات. توالت عمليات التنظيم، وزاد عدد شهداء الجماعة، ومنهم من بدأ العمل في صيدا مثل سليم حجازي وبلال عزام. يروي إبراهيم المصري، "أبو عمر"، الأمين العام السابق للجماعة الإسلامية، في توثيقه مسيرته السياسية، أن السلاح الذي توفَّر لهم تلك الفترة كان خفيفاً ويعود لمقتنيات شخصية لأعضاء التنظيم، قبل أن يتطور وضعهم بفضل التمويل الذاتي ودعم متعاطفين مع الإخوان المسلمين في العالم.
كان قرار إطلاق العمليات العسكرية في أغسطس 1982 قراراً فرضه الواقع الميداني إلى حد كبير. فبعد انهيار الفصائل الفلسطينية المدربة والمسلحة أمام القوات الإسرائيلية، كادت المقاومة أن تصبح مهمة مستحيلة، خاصةً لمن يفتقرون إلى التسليح والتدريب الكافي. في مقابلة خاصة، يؤكد أحمد حبال، شقيق جمال حبال، ما ذكرته عددٌ من المصادر عن الظروف التي حالت دون اجتماع قيادة الجماعة في ذلك الوقت لأسباب أمنية، ولوجود عدد من القيادات خارج لبنان. وعندما انعقد مجلس شورى الجماعة، اختلفت الآراء بين من يقرّ بأن قدرات الجماعة محدودة، خصوصاً عند مقارنتها بمنظمة التحرير الفلسطينية وما أصابها في الحرب من الترسانة الإسرائيلية. وأشار حبال إلى أن التقييم الغالب عند القيادة هو أن تدريب الجماعة يحتاج إلى تعزيزٍ ووقت إضافي.
من المهم هنا الإشارة إلى الوضع السياسي في سوريا تلك الفترة، إذ سعى نظام حافظ الأسد إلى استئصال الإخوان المسلمين تماماً، وكانت مجزرة حماة حاضرة في ذهن الجماعة الإسلامية اللبنانية، مما جعل الأسد يركز على مراقبة تحركاتها في لبنان.
ومع تعقيد الحسابات السياسية وصعوبة الواقع، لم يكن ذلك حاجزاً أمام شباب "قوات الفجر" في صيدا. وكان للبعد العقائدي والفكري أثر كبير في اتخاذ القرارات الميدانية، فمثلاً في نقاشات الجماعة الداخلية عن مستقبل العمل العسكري، ذكّر أحد قادة الشباب بأن وجود الإسرائيليين في صيدا فرصة ساقها الله لهم وبوابة لدخول الجنة. رأى الشباب وبعض قيادات الجماعة أن هذه المعركة واجب شرعي وسياسي، ويشير حبال إلى أن القيادة الميدانية كانت متحمسة للقتال، بناءً على معرفتها بالأرض وتمركز القوات الإسرائيلية وتحركاتها. لم تكن مهاجمة هذه القوات بحاجة إلى معدَّات متطورة أو تدريب متقدم، بل كانت العبوات والقنابل اليدوية كافية للتأثير على العدو.
قررت الجماعة تكليف لجنة لدراسة الوضع، لكنها لم تصل إلى نتيجة واضحة بسبب تعقيد الميدان وصعوبة التواصل والحصول على معلومات دقيقة. وكما هو معتاد في جماعات الإخوان المسلمين عربياً، مالت الأكثرية إلى إيثار السلامة وعدم المخاطرة، خاصة أن الظروف في لبنان كانت حينها خطيرةً جداً. هذا المبدأ، "إيثار السلامة"، الذي اتبعه إخوان لبنان كما في محطات أخرى، كان له آثار كبيرة، ويُعدُّ برأيي أحدَ الأسباب الرئيسة لعجز الجماعة عن قيادة الساحة السنية سنوات طويلة.
فبينما كانت الجماعة غارقة في الحسابات السياسية وتبعات العمل المقاوم، فرضت الأوضاع الميدانية نفسها، فاستمرت العمليات. فيما بعد اجتمع جمال حبال، قائد التنظيم، مع قيادة الجماعة في بيروت، التي دعمت قرارات أهل الميدان وأَقَرَّتْها، على أن يكون العمل العسكري سرياً، وأن يكون التنسيق بين المجموعة العسكرية وعضو من القيادة لتأمين الدعم المادي والسياسي. حددت آلية معينة للعمل، ونقل الأخبار، والتمويل، وتوفير حاجات المقاومين. كان إبراهيم المصري، عضو القيادة المركزية، المشرف على العمل العسكري في الجنوب والأكثر دعماً لتمكين العمل المقاوم تلك الفترة. لم تستمر فترة العمل بلا قرار طويلاً، فقد امتدت ما بين نصف شهر إلى شهر ونصف. تم وُزِّعت المهام التنظيمية بوضوح، فقد استمرَّ حبال في القيادة العسكرية، وتولى صلاح الدين أرقه دان العلاقات الخارجية، لا سيما مع القوى الشيعية المقاومة في الجنوب، بينما أشرف مصعب حيدر على الإعلام.
غيّبت طبيعة العمل السرية اسمَ التنظيم في البداية، فظل مجهولاً حتى سُمّي "قوات الفجر". تتابعت عمليات قوات الفجر في صيدا، وفي أواخر سنة 1983، رُصد جمال حبال في أثناء تنفيذه إحدى العمليات، فطوَّقته القواتُ الإسرائيلية ومعه اثنان من عناصر التنظيم، محمود زهرا ومحمد علي الشريف. حوصروا في منزل الأخير، ودارت معركة شرسة قُتل فيها ضابط من لواء جولاني قبل أن تتمكن القوات الإسرائيلية من قتل المقاومين الثلاثة في 27 ديسمبر 1983.
وضعت هذه العملية قواتَ الفجر تحت المجهر، فاعتقلت الإسرائليون عدداً كبيراً من قيادات الجماعة في صيدا. لكن في المقابل، وكما أشار أحمد حبال في مقابلة معه، تغير التصور الشعبي بعد انكشاف هوية قوات الفجر. فقد كان المجتمع الصيداوي بمعظمه يرى أن عمليات المقاومة في صيدا يقودها فلسطينيون، ليتفاجؤوا عند استشهاد جمال حبال بأن العمليات كانت بقيادة أبناء المدينة أنفسهم، بل كان حبال، ابن أحد أعيان المدينة وصاحب الأعمال الخيرية فيها، هو الذي يقود العمليات. صدمت الحادثةُ أبناءَ صيدا وغيّرت نظرتهم إلى إمكانية مقاومة جيش الاحتلال، مما أكسب قوات الفجر مكانةً جديدةً بين الأهالي. فتحت الجماعة ذراعيها للمتدربين، وأصبحت مظلة للتجنيد الشعبي للمقاومة، مما وسّع قاعدتها الشعبية وزاد من عملياتها. أصبح لبعض شهدائها رمزية كبيرة، مثل سليم حجازي وبلال عزام، اللذين استشهدا قبل تلقي أي تعليمات رسمية.
تكلَّلتْ جهود المقاومة في الجنوب بانسحاب جيش الاحتلال الإسرائيلي في 18 فبراير 1985. وقبل انسحابه، ترك الاحتلالُ عملاءه وميليشيا جيش لبنان الجنوبي يديرون منطقة عازلة بعمق حوالي تسعةَ عشر كيلومتراً. تحولت قوات الفجر من حرب العصابات إلى الهجوم، وخاضت سلسلة من المواجهات الشرسة سميت "معارك شرق صيدا". لم تكن الفجر وحدها في هذه المعارك، ولكنها كانت الأبرز، إذ تقاسمت الجبهة مع القوى الوطنية ونسقت مع حزب الله في الجنوب. انتهت المعارك بسيطرة الفجر والمقاومين على المدينة وضواحيها صيف 1985، وأُسست معسكرات ثابتة، كان أشهرها "معسكر بدر".
في هذه المراحل، تطورت الجماعة الإسلامية معتمدة على خبرة ضباط منشقين عن الجيش اللبناني بعد انقسامه، واستفادت من بعض الخبرات الخارجية. نقلت معارك صيدا الجماعة إلى مستوى جديد، وذاع صيتها. يذكر القائد العسكري إبراهيم المصري كيف كان يبذل جهداً كبيراً في جمع التمويلات لتسليح قواته، ثم بدأ المتبرعون يأتون إليه ليقدموا الدعم. شهدت المرحلة الجديدة تحوّلاً في التدريب والتأهيل، إذ انتقلت الجماعة من العمل بعقلية العصابات إلى العمل العسكري المنظّم. فقد أدخلت الجماعة تلك الفترة أسلحة نوعية للتصدي للغارات الإسرائيلية على معسكراتها والقصف المدفعي من ميليشيا جيش جنوب لبنان، مثل صواريخ سام 7 السوفيتية.
في تلك الأثناء برز حزب الله ودخل في صراع شرس مع حركة أمل الشيعية المدعومة سورياً. تعطَّل تدريب حزب الله في الجنوب، مما دفع الجماعة إلى فتح أبوابها لقوات الحزب للتدرب في معسكراتها.
سيطرت الجماعة على صيدا وشرقها بعد سنة 1985 وحتى اتفاق الطائف، وتركزت مهمة قوات الفجر في التدريب والدفاع عن المدينة، مع تنفيذ عمليات خاصة في الجنوب ضد القوات المتحالفة مع إسرائيل. استشهد في تلك العمليات عدد من شباب الفجر. ومع ذلك، كان سلاح الجماعة الأهم في تلك المعركة هم المشايخ الذين قادوا التعبئة، مثل الشيخ محرم العارفي، الذي أدّى دوراً مههماً في استقطاب المجاهدين وتشكيل الحاضنة الأساسية لقوات الفجر. وذكراه ما تزال حاضرة وجامعة أبناءَ المدينة.
وكان حضور الجماعة متفاوتاً في عددٍ من المخيمات الفلسطينية قبل سنوات من وجود حركة حماس فيها. كان شباب الإخوان في المخيمات أعضاء في الجماعة قبل أن ينقلوا بيعتهم مطلع التسعينيات إلى حماس. ومع أن هذا الوجود لا يُقارن بمنظمة التحرير، كان شباب الجماعة في المخيمات سبّاقين للالتحاق بقوات الفجر، وقدم أبناء المخيمات شهداء في عمليات الجنوب، وكذلك في عمليات تأمين المخيمات في حرب المخيمات نهاية الثمانينيات.
لم يكن للجماعة دور بارز في المفاوضات لأنها لم تكن تملك سنداً دولياً أو ميليشيا طائفية مسلحة تسيطر على جزء من طائفة، كما هو الحال مع بعض القوى. ومع حضورها العسكري في الشمال وصيدا، غابت الجماعة عن المفاوضات. وتصلبها في رفض التبعية لأي طرفٍ خارجيٍّ أسهم في الحفاظ على نقائها، ولكنه حرمها من دورٍ سياسيٍّ متقدم في بلد تحكم فيه العلاقات الدولية والإقليمية اللعبة السياسية، وهو ما افتقدته الجماعة.
في أول انتخابات بعد الحرب، دخلت الجماعة البرلمان، لكنها فشلت في الحفاظ على تمثيلها في الانتخابات اللاحقة، واستمر تراجعها السياسي لعدم امتلاكها أدوات اللعبة السياسية اللبنانية. تراجع دور قوات الفجر عسكرياً مقارنة بحزب الله، الذي احتكر المقاومة في الجنوب. مع ذلك، لم تتخلّ قوات الفجر عن دورها في صدِّ العدوان، وكان لها حضور محدود في حرب تموز 2006. مع انحسار الدور المقاوم للجماعة لصالح حزب الله وأسباب أخرى، انشقَّ جناح من قوات الفجر بقيادة عبد الله الترياقي وأسس "تيار الفجر" بدعم من حزب الله، لكن دوره ظلَّ محدوداً حتى اليوم، بينما استمرَّت قوات الفجر في حالتها المعتادة، وتطور حزب الله بفضل الدعم الإيراني والغطاء السوري.
لاحقاً، مع اغتيال رفيق الحريري، وُجّهت أصابع الاتهام إلى سوريا وحزب الله، وانقسم البلد إلى قوى مؤيدة لسوريا تُعرف بقوى 8 آذار بقيادة حزب الله والطائفة الشيعية، وأخرى معارضة تُعرف بقوى 14 آذار، تضم القوى السنية والمسيحية. انحازت الجماعة عملياً إلى المزاج السني العام، فكانت أقرب إلى قوى 14 آذار. ومع الأحداث السياسية المتتالية بعد اغتيال الحريري، تعمّق الخلاف بينها وبين حزب الله، ووصل إلى القطيعة بعد الثورة السورية واختلاف التوجهات تماماً، من غير أن تحرز الجماعة أي تقدم سياسي. غاب دور قوات الفجر، لكن هذا الغياب لم يكن نهائياً.
مع التجديد فترة ثانية للأيوبي، فقد وصل بفارق ضئيل عن منافسه، مما يعكس انقساماً في الجماعة، لا سيما بعد الفشل في دخول البرلمان في انتخابات 2018، مع أن اعتماد قانون انتخاب نسبي كان من المفترض أن يساعدها. أوضح لي الباحث شفيق شقير أن الجماعة نجحت في مسار اللبننة على مستوى القيادة، ولكن بقيت القواعد ذات توجه إقليمي، وهو ما ظهر في انتخاب الشيخ محمد طقوش سنة 2022 أميناً عاماً من غير منافسة تذكر من المرشح المدعوم من الأيوبي.
مع انتخاب طقوش، فُتح الباب أمام الجماعة لإعادة العلاقات مع حزب الله بوساطة من حماس، خصوصاً بعد تغيّر الواقع الإقليمي وتراجع الثورات العربية، ومنها الثورة السورية. تجدَّدت العلاقة بين حماس وإيران وحزب الله، وتوطَّدت العلاقة بين تيار المستقبل وحزب الله، وهو ما مهّد لاتفاقات أوصلت ميشال عون، حليف حزب الله، إلى رئاسة الجمهورية. لا بُدَّ من الإشارة إلى أنَّ الأيوبي هو من أسَّس هذا المسار تحت شعار "إطفاء الفتنة" في لبنان، ممَّا انعكس على قوات الفجر التي شهدت انتعاشاً نهاية فترة قيادته.
يرى وائل نجم، مسؤول المكتب الإعلامي في الجماعة الإسلامية، أنَّ الأيوبي التقى السيد حسن نصر الله أكثرَ من مرَّة برعاية رئيس المكتب السياسي لحماس، إسماعيل هنية. وبهذا لم تكن استعادة العلاقة مع حزب الله وليدة اللحظة الراهنة، بل نتيجة مسار طويل. برأيي يمكن تقييم فترة الأيوبي بأنها نجحت في تثبيت لحمة الجماعة وتوسيع انفتاحها السياسي على مختلف الأطراف، مع زيادة التنسيق مع حركة حماس وانتعاش قوات الفجر. غير أنَّ الفشل الانتخابي ونشوء مراكز قوة جديدة ذات توجه جهادي أمني تركا أثراً داخلياً، وهو ما انعكس سلباً على الأيوبي نهايةَ فترته.
أما الشيخ محمد طقوش، الذي وصل إلى الأمانة العامة مع دعم من مراكز قوى جديدة، فقد ركّز في خطابه الأول على "مقاومة العدو الإسرائيلي" وأعلن أنَّ قوات الفجر "باتت أصابعها على منتصف الزناد". وترافق ذلك مع اختفاء وثيقة "رؤية وطن" من موقع الجماعة، مما يشير بوضوح إلى التحوَّل في خطط الجماعة بقيادته. تحقّق ما قاله الباحث شفيق شقير بغياب تأثير التحالفات السياسية اللبنانية عن قواعد الجماعة فانعكس ذلك بوصول الشيخ طقوش من خارج دائرة الأسماء المتوقعة، معدّاً المقاومة مركزاً لخطابه، مع الاستفادة من العلاقات مع حماس والابتعاد عن قوى 14 آذار، ممّا يعكس تغيرات في الاتجاهات في الجماعة والظروف المحيطة بها.
هذا التفاعل مع الجماعة لقي ترحيباً من مفتي دار الفتوى الذين كانت علاقاتهم متوترة معها تاريخياً. على سبيل المثال، رفع مفتي البقاع، الشيخ علي الغزاوي، بندقية قوات الفجر في جنازة أحد الشهداء، مؤكداً أن السلاح هو الحل في مواجهة العدوان الإسرائيلي. لكنَّ كُتاباً وسياسيين سُنة معارضين لحزب الله هاجموا الجماعة، ودعوا إلى الحدِّ من انتشار فكر الجماعة "لمنع انزلاق السنة نحو التطرف أو نحو حزب الله."
مع استمرار العمليات التقطت رادارات الجيش الإسرائيلي أحد عناصر قوات الفجر يحمل صاروخاً موجهاً مضاداً للدروع من نوع "كورنيت". وقد أدى هذا التطور النوعي في تسليح الفجر إلى تصعيد إسرائيل ردودها، إذ استهدفت القادة المشاركين في العمليات، واستشهد قائد العملية التي ظهر فيها صاروخ "كورنيت" محمد محيي الدين، ومعه محمد إبراهيم والطبيب حسين درويش. تبع ذلك سلسلة اغتيالات قادة ميدانيين آخرين، بمن فيهم شرحبيل السيد ومحمد جبارة وآخرين، حتى وصل الأمر إلى اغتيال اثنين من أبناء الجماعة برفقة الشيخ صالح العاروري.
ومع تراجع وتيرة العمليات العسكرية التي أعلنتها قوات الفجر لاحقاً، يصرّ نجم على أن الجماعة تستفيد من الدروس السابقة لتطوير أدائها العسكري، على غرار حزب الله الذي دفع ثمناً باهظاً بداية معاركه. وأصبحت قوات الفجر اليوم عمود الجماعة الإسلامية، بعد غياب دام أربعة عقود عن هذا المستوى من العمل العسكري.
التغيير في قيادة الجماعة أدى إلى تحوّل في استراتيجيتها، فبدلاً من الدفاع في حال تقدم العدو، انتقلت قوات الفجر إلى الهجوم المباشر. هذا التحول الجذري هو نتيجة لتغيير القيادة الحالية، التي قررت مساندة جبهة ثانية بالتعاون مع حزب الله. لم يكن هذا مطروحاً في تاريخ الجماعة حتى الثمانينيات. اليوم تقف الجماعة أمام تحد جديد وهو مواكبة التصعيد العسكري الإسرائيلي الهائل، وربما تعودُ الجماعة للواجهة إن نفّذت إسرائيل اجتياحاً برياً للبنان.
برز اسم الجماعة الإسلامية في لبنان اليوم بفضل دورها المقاوم، وبسبب تأثيره الداخلي أيضاً. فهي الفصيل السني الوحيد بعد جماعة الحريري الذي يمكن أن يملأ الفراغ في قيادة الساحة السنية. تملك الجماعة حضوراً في أنحاء لبنان، و شرعية دينية، ونواة بشرية صلبة، وهي الآن تعود إلى دائرة الضوء من بوابة العمل العسكري والتقارب مع حزب الله.
تواجه الجماعة أسئلة كبيرة، فمع امتلاكها المؤهلات لتأدية دور رئيس في الطائفة السنية، تظل بعيدة عن حزب الله في القدرة العسكرية والتمويل. وهذا النقاش عن قدرة الجماعة على تحمّل تبعات المشاركة العسكرية يحدد موقعها المستقبلي في السياسة اللبنانية، وانعكاسات هذه الحرب على الجماعة والواقع السني في لبنان ستكشف كثيراً عن مستقبلها.