تعكس هذه القصة التحدي الكبير الذي تواجهه الحركات التقدمية، وهي المؤسسات التي تعمل لأجل العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان على مختلف المستويات، في العالم العربي منذ اندلاع الحرب في غزة صباح السابع من أكتوبر 2023. تتألف هذه الحركات من مجموعة متنوعة من المؤسسات والتنظيمات المتباينة التوجهات والأهداف، لكنها تشترك في سعيها إلى العدالة الاجتماعية والسياسية. لكلِّ مؤسسة موقعُها ودورها الذي يتيح تعاملها مع الأحداث الكبرى التي تعصف بالمنطقة بطرق متعددة. تمتد جذور هذه الحركات إلى تاريخ طويل من نضال الاستعمار والاستبداد، وليست وليدة اللحظة. تعاملت كل مؤسسة من هذه المؤسسات بطريقتها مع التحديات السياسية والاجتماعية الراهنة، وأدّت دوراً في بناء خطاب نقدي يعزز الاستقلالية والمقاومة، ويعزز تفاعلها مع الأحداث المفصلية مثل العدوان الأخير على غزة وأثر ذلك في خططها المستقبلية.
بعد السابع من أكتوبر 2023 اضطرت الحركات التقدمية العربية إلى إعادة صياغة خطابها في ظل تصاعد الرقابة، متبنيةً لغة حقوقية تستند إلى القانون الدولي للتواصل مع المجتمع الدولي وتجاوز القيود المحلية. وواجهت هذه الحركات ضغوطاً تمويليةً. فسعت للحفاظ على استقلاليتها باختيار ممولين يشاركونها القيم الأساسية رغم التحديات المالية التي يفرضها هذا الخيار. ثمَّ وجدت نفسها في مواجهة قوانين وسلطات تبدو مصممة لشل حركتها، مما دفعها إلى تبني استراتيجيات مرنة تعمل في الخفاء لتجنب القمع المباشر. ورغم كل هذه العقبات، ظلت الحركات متمسكة بأملها في التغيير والعدالة، مشددة على الترابط بين النضالات الإقليمية وداعية إلى التضامن العابر للحدود لتحقيق تحرر شامل.
أصدرت منظمة "اليوم التالي" في الثامن عشر من أكتوبر 2023 بياناً وقعت عليه منظمات سورية متبنيةً خطاباً حقوقياً موجَّهاً إلى المجتمع الدولي يستند إلى مبادئ حقوق الإنسان والقانون الدولي في الدعوة إلى التضامن مع الشعوب المضطهدة في سوريا أو فلسطين. تدعم "اليوم التالي" التحولَ السياسي في سوريا، وكانت قد أدركت منذ البداية أن قضيتها لا تنفصل عن السياق الإقليمي الأوسع. بعد السابع من أكتوبر كان موقف المنظمة واضحاً في ربط القضية الفلسطينية بالنضال العربي المشترك من أجل التحرر والعدالة. وفي مقابلة للفراتس، أكّد المدير التنفيذي للمنظمة معتصم السيوفي، أنَّ "سوريا ليست منفصلة عن قضايا المنطقة" مشيراً إلى أنَّ القضيةَ الفلسطينية جزء لا يتجزأ من وجدان الشعب السوري ونضاله الطويل ضد الاستبداد والاحتلال.
صيغَ بيان "اليوم التالي" بعناية ليتناسب مع المتطلبات الدولية، وأدان الانتهاكات الإسرائيلية انطلاقاً من القانون الدولي وحقوق الإنسان. وأشار بلغة القانون الدولي إلى انتهاكات محددة تعدُّ جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية في النظام الأساسي لمحكمة الجنايات الدولية. ودعم إدانته بشواهد موثقة وتقارير من منظمات حقوقية دولية مثل "هيومن رايتس ووتش"، واستند إلى ردود فعل صادرة عن هيئات دولية مثل الأمم المتحدة. بالإضافة إلى ذلك، اعتمدَ البيانُ لغة تدافع عن حقوق الإنسان وتؤكد احترام الشرعية الدولية، وتخاطب الرأي العام العالمي والمؤسسات الدولية.
ينسجم هذا الخطاب مع استراتيجية المنظمة في التواصل مع المنظمات الدولية وصناع القرار في العواصم الغربية، إذ تسعى المنظمة إلى توفير الدعم الدولي لقضاياها بإطار قانوني وحقوقي واضح. و يرى السيوفي أن الانتقادات العالمية الشديدة لهجوم السابع من أكتوبر صاحبها تضامنٌ شعبيٌّ واسعٌ مع الفلسطينيين في دول غربية مثل إنجلترا وألمانيا، رغم قمع السلطات أحياناً. أمّا في فرنسا فكان الأمر أكثر اعتدالاً سياسياً. ورغم الإدانات الرسمية الغربية ما يزال الفلسطينيون يحظون بدعم حقوقي وشعبي واسع. وقد كان الموقف الذي تبنته الأطراف المناصرة للفلسطينيين حقوقياً تحررياً بحتاً، مع رفض توازن الخطابات السياسية، إذ اعتمدوا لغة حقوق الإنسان والتحرر الوطني.
قدمت الحركة السياسية النسوية السورية نموذجاً مشابهاً في تبنيها خطاباً حقوقياً موجَّهاً إلى المجتمع الدولي. وقد تأسست الحركة السياسية النسوية السورية سنةَ 2017 في باريس رداً على التهميش السياسي للنساء السوريات مع مشاركتهن الكبيرة في الثورة السورية سنةَ 2011. هدفت الحركة إلى بناء دولة ديمقراطية تقوم على المواطنة المتساوية وإلغاء التمييز ضد النساء. وسعت الحركة إلى تحويل مطالب الشعب السوري بالحرية والعدالة إلى واقع ملموس، مع العمل من منظور نسوي في القضايا السياسية بالتكامل مع القوى السياسية الأخرى.
ومع أن عملها يتركز على حقوق النساء في سوريا إلا أن الحركة لم تتردد في التفاعل مع القضية الفلسطينية باعتبارها قضية إنسانية. تقول رويدة كنعان عضوة في الحركة: "موقفنا الإنساني كان واضحًا جدًا، إذ نقف مع المدنيين والمدنيات في كل مكان"، وهو ما يعكس تركيزهم على مخاطبة المنظمات الدولية والرأي العام العالمي بلغة حقوقية واضحة تدعو إلى حماية المدنيين والمدنيات وتطبيق القانون الدولي.
يجمع بين "اليوم التالي" و"الحركة السياسية النسوية السورية" التزامهما بتبني خطاب حقوقي دولي يتجاوز الحدود المحلية والإقليمية ويعكس رؤيتهما الساعية إلى تحقيق العدالة. فبينما تركز "اليوم التالي" على الربط بين النضالين الفلسطيني والسوري في سياق التحرر من الاحتلال والاستبداد، تتبنى "الحركة السياسية النسوية السورية" منظوراً نسوياً تقاطعياً يعترف بتداخل أشكال القهر المختلفة، إذ تواجه النساء القمع السياسي والتمييز الجندري والثقافي والديني والفقر، مما يجعل تجربتهن مع الظلم مركبة ومعقدة. ويركز هذا المنظور على ضرورة التحرر من أشكال الظلم والقمع المركب الذي تعاني منه الشعوب، بما في ذلك الاستعمار. هذا المنظور لا يقتصر على حقوق النساء فقط، بل يشمل نضالاً أوسع من أجل العدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، إذ يُنظر إلى التحرر من الاستعمار على أنه جزء لا يتجزأ من مقاومة كافة أشكال الهيمنة والقهر.
يعمل فرع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في باريس على تجسير الفجوة بين الباحثين العرب والغربيين، وتقديم تحليلات معمقة موجهة إلى الجمهور الأوروبي. في مقابلة الفراتس مع سلام كواكبي، المدير التنفيذي للمركز في باريس، أوضح أنَّ المركز يعنى بتقديم أبحاث علمية تغطي خمسة محاور رئيسة تشمل فلسطين، والهوية والمواطنة، والعلاقات العربية الأوروبية، والبيئة، والأمن.
واجه المركزُ تحدياتٍ فرضها تضييق الخناق على الخطاب المؤيد لفلسطين في فرنسا بعد أحداث السابع من أكتوبر. أشار كواكبي إلى أن "فرنسا، دولة حقوق الإنسان والحريات، تعيش مرحلة تتراجع فيها الحريات فيما يتعلق بانتقاد إسرائيل"، وهذا يعكس التحدي الذي يواجهه المركز في صياغة خطاب يحافظ على الحياد من غير أن يخضع للضغوط السياسية. وأوضح كواكبي أن المركزَ نشر بعد السابع من أكتوبر مقالاتٍ وتحليلاتٍ تربط بين السياق التاريخي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي وما يجري الآن. ومع أنَّ المركز لا يمجِّد المقاومة المسلحة إلا أنه يسعى إلى تقديم صورة دقيقة عن جذور الصراع، مشيراً إلى أن العملية نتيجة "80 سنة من الاحتلال والاستعمار الاستيطاني". ويركز خطاب المركز على وثائقه العلمية والتاريخية، وهو ما يضفي على أعماله صبغة موضوعية رغم البيئة المشحونة في فرنسا.
ولئن كان تحدي المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في تضييق الخناق على الخطاب المؤيد لفلسطين في فرنسا، فإن تحدي منصات إعلامية تقدمية أخرى، مثل "الجمهورية" السورية، في التوفيق بين تغطية أحداث السابع من أكتوبر والأحداث السورية المستمرة. الجمهورية منصةٌ إعلامية ومعرفية تأسست سنةَ 2012 بمبادرة من كتّاب وصحفيين سوريين ملتزمين بقيم الحرية والعدالة الاجتماعية. تسعى إلى تعزيز الفكر النقدي وإثراء النقاشات الحرة عن قضايا الاستبداد، والهوية الوطنية، والتنمية، وتواصل دورها المحفز للنقاش السوري والعربي المستقل في مواجهة التحديات السياسية والاجتماعية. تعتمد الجمهورية في تمويلها على منح دولية تدعم حرية الإعلام والفكر، مع الحفاظ على استقلالها بتقديم خدمات تضمن استدامتها، وتصدر عن مجموعة مسجلة في برلين.
في مقابلة مع كرم نشار، المدير التنفيذي للمنصة الإعلامية السورية "الجمهورية"، ناقش التحديات التي واجهت المنصة في تحقيق التوازن بين تغطية أحداث السابع من أكتوبر واستمرار متابعة الملف السوري. أوضح نشار أن المسألة لم تكن صعبة، لأن "الجمهورية" منصة سورية ولن تتوقف عن الكتابة في الشأن السوري، لاسيما في ظل لحظة سورية حرجة حينها، مثل انتفاضة السويداء والاحتجاجات التي تبعت الزلزال وعودة سوريا إلى الجامعة العربية. ومع تركيز المنصة على الشأن السوري، فقد عنيت بالقضايا العربية الأوسع، مما جعل من تغطية القضية الفلسطينية جزءاً طبيعياً من عملها.
في بداية تغطيتها أحداثَ السابع من أكتوبر، ركزت "الجمهورية" على المعاناة الإنسانية لأبناء غزة نتيجة الرد الإسرائيلي على العمليات. ومع مرور الوقت، توسع الفريق التحريري في فتح مساحة نقاش سياسي وتفكير نقدي بهذه الأحداث. كانت البداية تجريبية، إذ ركزت المنصة على القضية الفلسطينية، لكنها اكتشفت تدريجياً أنَّ قدرتها على تقديم قيمة مضافة محدودة بسبب مواردها، فأعادت تنظيم الأولويات وركزت على مجالات محددة يمكنها فيها تقديم نقاش أعمق ومحتوى أميز.
أشار كرم إلى أن سياسة "الجمهورية" التحريرية القائمة على التنوع وعدم أحادية الرأي تعرضت لانتقادات من كلا الجانبين. التيار المؤيد للمقاومة رأى أن نقد حماس غير مبرر، وكان في بعض الأحيان أكثر تشددًا من المقاومة نفسها، إذ يتبنى خطاباً غاضباً يرفض النقاش، رغم أن حماس أحيانًا تتحدث "سياسة" وتخطط. من الجهة الأخرى، توقع بعضهم أن تكون "الجمهورية" أكثر حدة في انتقاد حماس، لكن المنصة رفضت تبني مواقف تبسيطية وركزت على تقديم تحليل يعكس تعقيد الوضع بين حماس والاحتلال الإسرائيلي.
نرى في التجربة التي خاضتها "ذا سكس توك بالعربي" بعد السابع من أكتوبر مثالاً حياً على كيفية تكيف المبادرات النسوية مع الأزمات السياسية والإنسانية التي تتجاوز إطار عملها التقليدي. إذ انطلقت المنصة لتعزيز الوعي بالصحة الجنسية والجنس في السياق العربي، فوجدت نفسها مجبرة على التعامل مع تعقيدات جديدة فرضتها الأحداث في غزة. أدركت "ذا سكس توك بالعربي" أن الصحة الجنسية والإنجابية ليست موضوعات ثانوية، بل أساسية، حتى في زمن الأزمات. فالنساء في غزة، كما في أي مكان آخر، يحتجن إلى دعم خاص لصحتهن وحقوقهن الجسدية، وهي أمور يتجاهلها الناس غالباً في زمن الحرب. هذه الرؤية تعكس فهماً عميقاً لأهمية الحفاظ على حقوق المرأة، حتى في أصعب الأوقات.
وقعت مبادرة "ذا سكس توك بالعربي" على بيان "مناهضة الاستعمار قضية نسوية" الذي دعا إلى دعم المقاومة الفلسطينية. مع أنه ينتقد ما أسماه "الثنائيات التبسيطية"، أصرّ البيان على رفض أي تشكيك في المقاومة الفلسطينية، مؤكداً أنها فعل تحرري خالص. ووصف أساليب المقاومة الفلسطينية بأنها "ممارسة مجيدة". وقع على هذا البيان حوالي مئةٍ وخمسين نسوية ومنظمة نسوية. هذا ما أكدته فاطمة إبراهيم، مشيرة إلى أنه "بالنسبة لنا، هذا ليس شيئاً جديداً أو مستغرباً... لقد نشأنا على قصص الاستعمار والمقاومة، وهذا جزء أساسي من جهود التحرير." وكان موقف المبادرة واضحاً في دعم المقاومة الفلسطينية، إذ دعمتها بلا استثناءات، مع التفريق بين انتقادات حماس في بعض أفكارها ودعم المقاومة حقّاً مشروعاً للشعوب المحتلة. أكدت المديرة هذا بقولها: "نستطيع التفريق بين دعم حماس كحركة وأيديولوجيا وبين دعم المقاومة".
وكانت إحدى التحديات الكبرى التي واجهها الفريق التعامل مع الرقابة التي فرضتها منصات التواصل الاجتماعي. إذ أشارت فاطمة إبراهيم إلى أنه "بسبب عملنا على وسائل التواصل الاجتماعي فيما يتعلق بالأزمة، بدأت منصة ميتا حاضنة انستغرام وفيس بوك بالرقابة علينا بشكل متكرر أدت إلى مسح محتوانا. عندما توقفنا لفترة، قررنا ألا ننشر أي محتوى جديد على منصاتنا، لكن إذا كانت هناك حاجة لنشر شيء مهم، كنا نلجأ لنشره عبر القصص أو إعادة نشر ما ينشره الآخرون. كما أننا قررنا إذا لم يكن بإمكاننا إضافة شيء جديد، فالأفضل أن نكتفي بمشاركة محتوى الآخرين. في الوقت نفسه، بدأنا نعيد تفعيل منصاتنا لأن ميتا قامت بفرض الرقابة التامة، "الشادو بان"، على حساباتنا مما أدى إلى إغلاقها تماماً. لذلك، كان من الضروري إعادة تفعيل المنصات، على استحياء، لضمان أن يكون لها تأثير إذا احتجنا يوماً ما إلى نشر شيء ما وزيادة الوعي حول موضوع محدد". زاد هذا إحباط الفريق، لا سيما مع تعاظم الضغط النفسي بسبب الأزمة المستمرة. تثير هذه الرقابة الأسئلة عن دور هذه المنصات في تقييد الأصوات النسوية الجذرية والداعمة للقضايا التحررية. الرقابة التي تعرضت لها "ذا سكس توك بالعربي" ليست عقبة تقنية، بل تجسيد لتعامل المنصات العالمية مع الأصوات المعارضة للأنظمة القمعية، مما يضاعف الإحباط والضغوط النفسية على كل جهة تحاول إيصال صوتها مع كل التحديات.
قررت الحكومة الألمانية في نوفمبر 2023 إيقاف تمويل مشروع لمناهضة الاتجار بالنساء، تديره مؤسسة قضايا المرأة في مصر، بعدَ أن وقعت عزة سليمان، رئيسة مجلس أمناء المؤسسة، على بيان يدعو إلى وقف الحرب على غزة ومقاطعة المنتجات الإسرائيلية وقطع العلاقات معها. أوضحت عزة سليمان لموقع مدى مصر أنَّ هذا الموقف دفع السفارة الألمانية في القاهرة إلى إنهاء دعمها المشروع. وقد رفضت السفارة الألمانية في القاهرة التعليق على هذه المسألة مؤكدة لمدى مصر أنَّ ألمانيا لا تناقش قرارات التمويل المتعلقة بشركائها فرديّاً، لكنها أشارت إلى أن التمويل الحكومي لا يُمنح للمنظمات المتحالفة مع حركة مقاطعة إسرائيل، بي دي إس، أو التي تدعو إلى مقاطعة إسرائيل بأي شكل من الأشكال.
كشفت عزة سليمان عن تلقيها رسائل عدّة من السفارة بين السابع و الثلاثين من نوفمبر تعتذر فيها عن إيقاف التمويل بسبب توقيعها على البيان الذي يدعو إلى مقاطعة إسرائيل. ومع أنَّ القانون الألماني لا يحظر دعم منظمات حقوقية مثلها، إلا أن السفارة استندت إلى قرار صادر عن البرلمان الألماني سنةَ 2019 يمنع دعم أنشطة حركة مقاطعة إسرائيل "بي دي إس"، هذا القرار أبطلته عدة محاكم ألمانية. أبدت عزة استغرابها من هذا التناقض، وطلبت من السفارة تقديم نصٍّ قانوني يوضح سبب وقف التمويل، لكنها لم تتلقَ سوى نسخة من مناقشات البرلمان الألماني القرار. وعندما أصرت على توضيح أكبر، جاء الرد بأن قرار الوقف يعود إلى مادة في قانون الموازنة الألماني، التي تشترط أن يكون لأي مشروع ممول "منفعة معتبرة" لألمانيا. ورأت عزة في هذا الموقف ازدواجية الحكومة الألمانية في معاييرها، التي "تتحجج بمواقف سياسية غير ملزمة"، مشيرة إلى أنَّ ألمانيا تدافع عن حقوق الإنسان في خطابها العام، بينما تعاقب المنظمات التي تنتقد الحرب على غزة.
يثير هذا التناقض السؤال عن دور التمويل الغربي في تشكيل الخطاب الحقوقي في البلدان النامية. فعندما يصبح التمويل مشروطاً بتجنب قضايا سياسية حساسة، مثل الحرب على غزة، يُضعف ذلك قدرة المؤسسات المستقلة على ممارسة دورها الرقابي والتوعوي. وبذلك، قد تجد المنظمات المدنية نفسها أمام خيارين إما قبول الشروط المفروضة من الدول المانحة والابتعاد عن قضايا محورية في حقوق الإنسان، وإمّا التضحية بالتمويل والبحث عن بدائل قد تكون محدودة وصعبة الوصول.
تحدثت فاطمة إبراهيم، مديرة "ذا سكس توك بالعربي"، عن التحديات التي واجهتها المؤسسة في التعامل مع التمويل بعد السابع من أكتوبر. بدأت "ذا سكس توك" جهةً تعتمد على العمل التطوعي، ولم تبحث عن التمويل إلا مؤخراً. أشارت فاطمة إلى أن المؤسسة كانت واضحة منذ البداية في العمل مع ممولين يتشاركون القيم نفسها، مما جعل الخيارات محدودة وهشة. ومع أنَّ فرص التمويل من جهات مثل الأمم المتحدة كانت موجودة، لم يتقدم الفريق بطلبها بسبب اختلاف القيم. تواجه المؤسسة صعوبة لأن الممولين الذين تتعامل معهم، مثل "فريدا" و"ميدتيرينيان وومن فوند"، هي أيضاً حركات نسوية تعاني من هشاشة مالية تتأثر في الأزمات. تتوقع فاطمة أن تواجه "فريدا" صعوبات كبيرة قد تؤدي إلى إغلاقها، بينما قدّمت "ميدتيرينيان وومن فوند" دعماً كبيراً لغزة، لكن التضييق الدولي القانوني على ما قد يفسّر دعماً للمقاومة المسلحة ربما يؤثر على استمراريتهم. تكشف هذه الهشاشةُ عن عيبٍ جوهريٍّ في نماذج التمويل التقدمي، فالاعتماد على موارد ضيقة ومتأثرة بالأزمات يجعل هذه المنظمات أقلَّ قدرة على التأثير على المدى الطويل، ويضعها في خطر دائم. وأمّا عن إمكانية العمل من غير تمويلٍ، أكَّدت فاطمة أنه كان ممكناً فترة طويلة ولكنه كان مقيداً بالموارد المحدودة. وبعد الحصول على التمويل، مع الاستفادة من الموارد الإضافية، ظهرت تحديات إدارية مرتبطة بإدارة المنح. ومع ذلك حافظ الفريق على قدر من الحرية بتعامله مع ممولاتٍ نسويات يتفهَّمن طبيعة عمل المبادرة ولا يفرضن متطلبات صارمة.
تعتمد الحركة السياسية النسوية السورية على نموذج مختلف في التمويل. تحدثت رويدة كنعان، عضوة في الحركة، أن الحركة تعتمد على استضافة التمويل في الرابطة النسائية الدولية للسلام والحرية، إذ تتلقى الرابطة المنح في حسابها المصرفـي نيابة عن الحركة وتقدم المدفوعات بالتنسيق مع الفريق التنفيذي للحركة، لأنَّ الحركة لم تسجل ولم تحصل على ترخيص رسمي حتى الآن. ومع مخاوف بعض العضوات والأعضاء من احتمال تأثير المواقف السياسية للحركة بعد أحداث السابع من أكتوبر على التمويل، أكدت رويدة أن التمويل الذي حصلوا عليه في مارس 2024 لم يتأثر. ومع أن تمويل المنظمات السورية ينخفض عموماً، ترى رويدة أن موقف الحركة من غزة أو أي طرف آخر لم يكن له تأثير مباشر على تمويلهم حتى الآن. ولا تهدد كذلك مواقفُهنَّ من غزة الشراكةَ مع الرابطة لأنَّ موقفهم واضح جداً، فهم ضد العدوان الإسرائيلي وضد الإبادة الجماعية. ويكشف هذا النموذج عن تعقيدات إضافية للحركات التي تعمل في بيئات غير مستقرة أو تحت أنظمة قمعية، فالتمويل يصبح أداة بقاء، لكن دون تسجيل رسمي، يبقى النشاط في مساحة رمادية من الشرعية القانونية، مما يزيد من هشاشة الحركة أمام الضغوط السياسية والتمويلية.
يخشى بعض القائمين على المؤسسات من فقدان دعم الجهات المانحة إذا ما ناقشوا موضوعات حساسة، لاسيما فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية. ويرى السيوفي، المدير التنفيذي لمنظمة "اليوم التالي" أن هذا التردد في مواجهة هذه القضايا خطأ، لأن المساومة على حقوق الإنسان في قضية معينة، مثل القضية الفلسطينية، يمكن أن يمتد تأثيرها السلبي إلى قضايا حقوقية أخرى. وعندما تتجنب المؤسساتُ نقاشَ موضوعات حساسة أو تتنازل عن مواقفها مخافة فقدان التمويل، فإنها تفتح الباب لتكرار هذا السلوك في قضايا أخرى. فإذا تخلّت المؤسسةُ مثلاً عن موقفها من انتهاكات حقوق الفلسطينيين، فقد تجد نفسها مضطرة لتقديم تنازلات في قضايا أخرى كالقضية السورية أو حقوق النساء أو الأقليات أو حرية التعبير. هذه التنازلات قد تصبح جزءاً من نهج المؤسسة، مما يؤدي إلى تآكل مبادئها الأساسية ويضعف قدرتها على الدفاع عن حقوق الإنسان.
لم يرَ السيوفي حتى الآن أي تأثير مباشر على التمويل، على الأقل في تجربته الخاصة. ومع ذلك، يشير إلى تجارب لبنان وتونس، إذ كانت بعض الجهات المانحة مستعدة لسحب الدعم بسبب مواقف سياسية. وعندما سألتُه عن التمويل الغربي، كان رده حاداً ومباشراً: "رغم أن الدول الغربية قد تكون متورطة في بعض التناقضات فيما يتعلق بحقوق الإنسان، فإنها تبقى أقل سوءاً مقارنة ببعض الممولين الذين يحملون أجندات واضحة. ولفت الانتباه إلى المفارقة الكبيرة: الولايات المتحدة، التي تمول مشاريع مدنية، هي ذاتها التي تسلّح إسرائيل لقصف غزة". لكنَّ الصورة بدأت تتغير، كما يقول السيوفي، خاصة بعد السابع من أكتوبر. إذ بدأت دول مثل النرويج وأيرلندا وإسبانيا وبلجيكا تتَّخذُ مواقف مؤيدة للفلسطينيين، مما يعكس تحولاً تدريجياً في المشهد الأوروبي. ويرى السيوفي أن الاعتماد على التمويل الخارجي في العالم العربي نتيجة حتمية لقمع الأنظمة العربية للموارد المحلية، تلك الموارد التي كان يمكن أن تغذي الحركات المدنية. ومع ذلك، يؤكد أنه مع عدم وجود رفاهية مقاطعة الممولين، فإن المؤسسات يجب أن تظل متمسكة بمبادئها الأخلاقية، وألا تسمح لأي جهة بفرض شروط على ما يجب أن يُقال أو يُلتزم به. "في النهاية، ليس الأمر مجرد أموال، بل معركة قيم ومبادئ".
يفتح كرم نشار، المدير التنفيذي لـ"الجمهورية"، نافذة على علاقة الصحافة المستقلة بالممولين، في زمن صار فيه رفع علم فلسطين فعل مقاومة في أوروبا، يقول: "لم نتلقَ يوماً اتصالاً يقول لنا: إذا قلتم هذا، سنقطع عنكم التمويل"، يؤكد نشار أنَّ مؤسَّسته لم تلجأ إلى الرقابة الذاتية، حتى عندما كان النقاش بعد السابع من أكتوبر عن أزمة حرية التعبير في ألمانيا، محل ترخيص "الجمهورية" ومقرها الرسمي.
هذه المرونة قد تبدو استثناءً في مشهد يميل فيه التمويل إلى فرض ضغوطات على المؤسسات، لكن السؤال الأكبر هنا: إلى متى يمكن لهذه الاستقلالية أن تصمد في مواجهة الضغوط الخارجية. في هذا السياق، يتحدث نشار عن واقعٍ "فاضح وجنوني"، إذ باتت الجالية العربية والمسلمة في ألمانيا تشعر أنَّها تسير على حبل مشدود، يكاد ينقطع عند كل إشارة إلى فلسطين. ومع ذلك، يصرّ: "لم نتردد في مناقشة هذه الأمور، ولم نخف من تأثيرها". لكن بعيداً عن التعميمات، يلفت نشار النظر إلى الفروق بين المؤسسات التمويلية، إذ "ليست جميعها كتلة واحدة صماء"، فمنهم مَن يساند الفلسطينيين في نضالهم بوضوح، ومنهم مَن يخضع لضغوط سياسية، ومع ذلك، يتفهّم الموظفون "حساسيتنا تجاه هذه القضايا". ويعترف نشار أنّ بعض المؤسسات تواجه ضغوطاً فعلية لوقف تمويلها، بسبب أسلوب تغطيتها أحداث غزة، ولا سيما الموقف من المدنيين الإسرائيليين. يحدث هذا حتى في مؤسسات إنسانية غير معنية مباشرة بالشأن الفلسطيني.
وعن مستقبل التمويل البديل، الهاجس لبقاء هذه المؤسسات، يرى نشار أنه ليس مسألة "نضالية" تُعبر عنها ردود أفعال لحظية، بل تتطلب تخطيطاً طويلَ الأمد يضمن بقاء المؤسسات في مشهدٍ يتداعى في العالم العربي، إذ أصبحت الاقتصادات طاردة لأي شخص يسعى إلى التأثير في الشأن العام. وبينما يستفيد بعضهم من "بنى التمويل القائمة بين الشمال الغني والجنوب الفقير"، فإنَّ الاستقلالية الكاملة لا تتحقق إلا بتقليص الاعتماد على تلك البنى. يقول نشار: "في الجمهورية، نحن نعمل على تقديم خدمات تحريرية، ولدينا منصة للتبرعات، ونعمل أيضاً على أفكار جديدة لتوليد الأموال بأنفسنا. في التحليل النهائي، إذا أردنا تحقيق استقلالية كاملة، فإن آليات التمويل الحالية المعتمدة على الميزانيات التنموية لدول غنية، خاصة في أوروبا وأمريكا، يجب إما أن نتخلى عنها كلياً، أو على الأقل أن نقلصها بحيث تشكل جزءاً صغيراً من الميزانيات التشغيلية لهذه المؤسسات". ويدعو إلى خطّة متكاملة تحافظ على العمل الضروري لهذه المؤسسات، التي تشكل "خط دفاع أخير" في مواجهة قوى أكبر بكثير.
يظهر التمويل الحكومي العربي في هذه البيئة معضلة قد تهدد استقلالية المؤسسات الفكرية بالضغط لتكييف رسائلها بما يتماشى مع التوجهات السياسية. هذه الضغوط تتراوح بين التوجيه الضمني للمواضيع المقبولة، والتدخل المباشر في صياغة الخطاب، مما يضع المؤسسات أمام تحدٍّ دائم لتحقيق التوازن بين تأمين التمويل والحفاظ على استقلاليتها الفكرية.
تقدّم تجربة سلام كواكبي، مدير المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات في باريس، مع التمويل القطري منظوراً مختلفاً. إذ يشير إلى أن تجربته في المركز العربي خلت من التدخلات التي اعتاد عليها في تجربته السابقة مع مركز فرنسي في سوريا، فقد كانت السفارة الفرنسية توجّه العمل البحثي. تدعم القوة الناعمة القطرية، كما يوضح كواكبي، الأبحاث والتعليم من غير فرض توجهات فكرية، مما أتاح لهم مساحة أكبر للعمل بحرية.
بينما يبدو نموذج التمويل القطري مرناً، يظل التمويل الحكومي العربي عموماً يحمل معه تحديات للاستقلالية. فالواقع أظهر لنا أمثلة عن مؤسسات إعلامية ومنظمات تدّعي الاستقلالية، لكنها مدعومة من جهات عربية وتخدم توجهات الدول المانحة وسياساتها الداخلية والخارجية. تُعد تجربة تمويل جهات عربية مشاريعَ ومنظماتٍ تجربة جديدة وتفتح نقاشاً يصعب تحديد الموقف منه بوضوح الآن، لكنها بلا شك تتيح إمكانية تحقيق التوازن بين الحصول على الدعم المالي والاحتفاظ بالاستقلالية الفكرية.
وعن التمويل في العالم العربي، يرى كواكبي أن الوقت الراهن يشهد نقصاً ملحوظاً في الحافز لدى رجال الأعمال والدول العربية لتمويل المشاريع المعرفية أو العلمية باستقلال وفعالية. ومع أنَّ المنطقة تزخر بالإمكانيات البشرية والفكرية الهائلة، إلا أن الاستثمار في تطوير الأبحاث العلمية والبنى المعرفية لم يحظَ بالأولوية المطلوبة من القطاع الخاص ولا من الحكومات. لا يعكس هذا النقص غياب رؤية استراتيجية طويلة الأمد لدور المعرفة والبحث العلمي في التنمية، بل أيضاً الحاجة الماسة لإعادة تقييم السياسات التمويلية.
أما في حالة المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات في باريس، فإن مواجهة الاتهامات بمعاداة السامية، مع عدم التعرض لضغوط رسمية حتى الآن يشير إلى وضع أكثر تعقيداً في علاقة المؤسسات العربية النقدية بالغرب. وفي هذا السياق، يمكن أن نرى أن المركز يتعامل مع ما يُسمّى "السلطة غير الرسمية"، إذ لا يأتي الضغط بالضرورة من الحكومات أو القوانين المباشرة، بل من جماعات الضغط القوية والإعلام الذي يشكل بيئة سياسية ضاغطة. هذه التحركات تُبرز تحدياً من نوع مختلف، إذ يتعين على المؤسسات النقدية التقدمية التعامل مع فضاءات تتقلص فيها حرية التعبير عن القضايا الحساسة مثل إسرائيل والفلسطينيين. والعلاقات القطرية الفرنسية التي تمنح المركز مساحة من الاستقرار مثالٌ آخر على تأثير السياسات الدولية على قدرة المؤسسات المحلية على العمل بحرية. يُمكن القول إنَّ هذه المؤسسات لا تعمل داخل الفضاءات القانونية المحلية وحسب، بل تتفاعل مع منظومة أكبر من العلاقات السياسية والإقليمية التي تتيح لها هوامش حركة معينة أو تحاصرها أحياناً.
الجمهورية، في السياق الألماني، تمثل حالة من الاستفادة من النظام القانوني الغربي. إن اعتماد استراتيجيتهم على "اختبار الحدود" يعكس مستوى من الجرأة المرهونة بوجود إطار قانوني قوي يحميهم. لكن لا يمكن تجاهل أن هذا الإطار الغربي نفسه قد يكون محفوفاً بالمخاطر في حالات أخرى. يقول كرم نشار: " اخترنا أن نكتب عن هذه المواضيع ومضينا في ذلك. ليس بدافع البطولة أو التباهي، بل لأنها بالنسبة لنا ممارسة طبيعية. نحاول قدر الإمكان أن نجرب، وإذا لم يتصل أحد بنا أو يطرق بابنا، نستمر في العمل. وإذا حدث العكس واتصل بنا أحد أو طُرق بابنا، عندها نرى كيف نتعامل مع الموقف".
بالنسبة لمبادرة "ذا سكس توك بالعربي"، فإن الشعور بالعجز الذي عبّروا عنه يعكس أزمة أعمق في العلاقة بين المؤسسات الصغيرة والنظام السياسي الأكبر الذي يتحكم في مساحات الحرية. مواجهة اتهامات بمعاداة السامية وتهديدات قانونية حقيقية تُظهر أن هذه المؤسسات ليست في مواجهة قوانين محلية وحسب، بل في مواجهة تيار عالمي متزايد يقمع الأصوات الناقدة للصهيونية تحت غطاء محاربة معاداة السامية. ومع ذلك، يستمرون في العمل مظهرين قدرة على المقاومة حتى في ظل هذه الضغوط، وإن كانت مشوبة بالإحباط والخوف من المستقبل. هذه التهديدات القانونية ليست تكهنات بل أدوات قمع معاصرة تستخدمها السلطات والأنظمة السياسية للسيطرة على الأصوات الناقدة.
من هذه المقابلات، نرى أن المرونة التي تتبناها هذه المؤسسات ليست مجرد وسيلة للحفاظ على الذات، بل هي جزء من مخطط مقاومة أوسع تتكيف مع الأطر السياسية والاقتصادية الدولية. تقدّم هذه المؤسسات نموذجاً لكيفية العمل في بيئات سياسية وقانونية معقدة ومتناقضة، إذ يتعين على المؤسسات التقدمية أن تجد توازناً بين الاستمرار في نشاطها السياسي والتعامل مع الضغوط المحلية والعالمية التي قد تتخذ أشكالاً قانونية أو غير رسمية. والخلاصة هنا تكمن في أن هذه المؤسسات لا تعمل في فراغ، بل تتفاعل مع قوى السلطة، رسمية أو غير رسمية، مباشرة أو غير مباشرة. وتعتمد قدرتها على الاستمرار في قدرتها على فهم هذه القوى والتكيف معها، مع الحفاظ على جوهر رسالتها ومواقفها السياسية. هذه القدرة على التكيف المرن والمقاومة في آن واحد هي ما يسمح لهذه المؤسسات بالاستمرار رغم التحديات الكبيرة التي تواجهها.