"شو طابخين اليوم؟"
فتح حديثي مع الرجل مداركي على هشاشة الوضع الغذائي في الأراضي الفلسطينية. تساءلتُ وقتها، لِمَ لا نَزرع في مدنِنا؟ ولِمَ لا نأكل ممّا نَزرع؟ انتشلَتني هذه الأسئلةُ وغيرُها وألقَتْني بعد عقدٍ من الزمن في حقلِ الزراعة الحَضَرية باحثاً. والزراعة الحَضَرية تعني إنتاج الغذاء وتوزيعه في المدن. وقد باتت اليومَ من ركائز التنمية المستدامة عالمياً في مواجهة التحدّيات الناتجة عن نموّ المساحة الحَضَرية والتدهور البيئيّ والتغيّر المناخيّ وازدياد معدّلات الفقر. في الجغرافيا السكّانية الفلسطينية حيث يعيش ثلاثة أرباع السكّان في المناطق الحَضَرية، فإنّ الاضطراب السياسيّ الناجم عن الاحتلال قد حَجّمَ قدرةَ الفلسطينيين على نَيل السيادة على غذائهم. وثمّةَ سببٌ داخليٌّ هو فقدان البيئات الحَضَرية في فلسطين مساحاتٍ زراعيةً إثرَ زحفِ العمران في المدن. الأسباب ليس أقلّها عجز السلطات المحلّية عن السيطرة على التوسّع العمرانيّ غيرِ المدروس للمدن وضعف الوعي بين المخطّطين بأهمّية الزراعة داخل المدن، والاعتقاد بأن الزراعة هي نشاطٌ ريفيٌّ ولا مكان له في المدن.
يستدعي هذا الواقعُ القاتمُ الحديثَ عن تراث الحاكورة أو الحديقة المنزلية، التي كانت يوماً تطبيقاً للزراعة الحَضَرية في فلسطين يكاد اليومَ يكونُ مَنسِيّاً. الحاكورة في جوهرها مساحةٌ للقِيم الاجتماعية والثقافية في المجتمع الفلسطينيّ، وما بقي منها اليومَ عُرضةٌ للتهميش والتدهور نتيجةً للتحوّلات السياسية والاقتصادية وظروف الانتقال الاجتماعي والتغيّر القِيَميّ وسطَ اضطرابٍ سياسيٍّ وحصارٍ يفرضُهما واقعُ الاحتلال. أَعْيَتْني ظروفُ الاحتلال، ولَم تسمح لي بالتجوّل في مدن الخطّ الأخضر وقطاع غزة، فبقيتُ حبيسَ جغرافيا فلسطينيةٍ مجزَّأةٍ في الضفّة الغربيّة. تجوّلتُ في بعضها بحثاً عن بقايا حواكير لَم تُنْسَ وما زال لها أصحابٌ لأسافر معهم في الزمن من أجلِ توثيقِ سِيَرِ الحاكورة وفهمِ قِيَمها من وحيِ ذاكرة أصحابِها وصولاً للحاضر. لم أحمل معي في جولتي أسئلةً محدّدةً، فقد وددتُ أن أفسح المجال لأبطال قصّتنا لسردِ ماضيهم وحاضرهم ومستقبلنا عن مفهوم الحاكورة الفلسطينية وشكلها وقيمها. وفي القلب من هذا كلّه قضيّةُ السيادة على الغذاء والتمكين الاقتصاديّ والحماية البيئية والحفاظ على الموروث الشعبيّ وما تبقّى من حواكيرنا لتبقى تراثاً شعبيّاً وهو ما يمثل جزءاً من معركتنا مع المحتلّ ووسيلةً للبقاء والصمود على الأرض.
تنتشر الحواكير في بلاد الشام عموماً، ولكنها دارجةٌ في فلسطين خاصّة. تقول الباحثة من مدينة الناصرة الفلسطينية داخل الخطّ الأخضر، نسرين مزّاوي، في بحثها المُعَنْون "تاريخ وثقافة الحواكير في مدينة الناصرة جزءاً من الثقافة البيئية الحضرية للمدينة"، إن الحاكورة "قطعةُ أرضٍ متّصلةٌ بالمنزل، وتحتوي على أشجارٍ مثمرةٍ وخضراواتٍ…". وتُردِف أنها من مكوّنات البيت الفلسطينيّ في مدينة الناصرة شمال فلسطين، حالُها في ذلك حالُ عكا وحيفا شمالاً مروراً برام الله والقدس والخليل في الضفة الغربية ثم لساحل فلسطين الجنوبيّ حيث يافا والمجدل وغزّة. وتضيف مزّاوي بأنه حتى سنة 1948، مثّلَت الحاكورةُ إحدى ركائز البيت النصراوي، مصدراً للغذاء والدَخل، كما كانت وما زالت في بعض الأماكن مساحةً للتفاعل الاجتماعي.
وفي البيرة، المحاذية لمدينة رام الله، على بعد أقلّ من خمسين كيلومتراً شمال الخليل، آنَسْتُ رجلاً عجوزاً في فناء منزله ينوءُ بحملِ كيسٍ في حاكورة منزله الصغيرة. حينها كنتُ جالساً أحتسي فنجانَ قهوةٍ مع أصدقاء في مقهىً على سطح مبنىً ذي إطلالةٍ تشملُ المدينة. فهمتُ أن العجوز كان يسمّد النباتات. وعلى إثر ذلك قرّرتُ أن أضمّه إلى أبطال قصص الحواكير الفلسطينية. نزلتُ من المقهى مسرعاً لعلّي أحظى بمحادثةٍ سريعةٍ معه. استقبلني بترحابٍ وكأنه كان ينتظر من يعطيه قسطاً من الراحة. العمّ أبو خليل كان رجلاً سبعينياً، وبعد سؤاله عن حاكورته، حدّثَني قائلاً، "كنت أنا وزوجتي أمّ خليل نزرع حاكورتنا. وبعد أمّ خليل (الله يرحمها) فأنا أزرع الحاكورة مع ابني خليل، ونزرع كوسا وخيار وبندورة وبعض الخسّ والبقدونس والنعناع لاستخدامها في الطبخ، ولدينا في الحاكورة أشجار ليمون وتفاح وكرز ومشمش وزيتون". بدا لي أنّ أبا خليل يرى في حاكورته مكاناً ينسحب إليه، فيترك الدنيا وراءه بمتاعبها وصخبها. وهنا قال لي: "أنا بقضي معظم وقتي في الحاكورة بزرع وبتنفّس فيها. كثير برتاح فيها".
في رام الله القريبة، والتي أزورها تكراراً وأعشق مقاهيها وصخبها، أخبرني صديقٌ عن السيدة أمّ يعقوب من البلدة القديمة في رام الله. قال: "ما إلك إلّا أمّ يعقوب"، ثمّ أَردَف عندما رأى التساؤلَ على وجهي: "إمّ يعقوب جارتنا". استقبلَتْنا أمّ يعقوب الستّينيةُ على باب منزلها بابتسامةٍ عريضةٍ، وقد بدت أصغرَ من سِنّها، لربما بسبب هندامها المتناسق على بساطته، وكانت لبِقةَ الكلام. جلسنا خلف منزلها على عتبة الباب المؤدّي للحاكورة. سارعت أمّ يعقوب بالقول أن حاكورتها هي بيتها "لا أستغني عنها أبداً". أضافت بأنها وزوجها أبو يعقوب، الذي رحل منذ عدّة سنين، زَرَعا منذ أكثر من ثلاثين عاماً في حاكورتهما شتّى أنواع الأشجار المثمرة مثل الزيتون والليمون والتين، كما تزرع اليوم الخضراوات في الصيف كالبندورة والخيار والكوسا. فصل الشتاء له أيضاً مزروعاته، فتقول أمّ يعقوب: "في الشتاء نزرع خسّ وفجل وبصل وسبانخ". ثم أضافت مبتسمةً وقد بان على وجهها بعضُ أَمارات الفخر: " أنا أَصْلي من مدينة اللّدّ، وأهلي يسكنون في مدينة أريحا، وكنت أزرع بدار أهلي في أريحا. ولما تزوّجت وجيت على رام الله استمرّيت بالزراعة إلى اليوم".
وكغالبية الفلسطينيين ممّن هُجّروا في نكبة 1948، ينُسب أصلُ الشخص إلى مكانِ تهجيره أو عائلتِه من فلسطين التاريخية قبل إنشاء إسرائيل، وليس إلى مكان ميلاده، فأمّ يعقوب أصلُها من اللّدّ، أي مِن حيثُ هُجّرت عائلتُها إبّان النكبة. ومدينة اللّدّ الكنعانية الغائرة في التاريخ كانت واحدةً من مئات البلدات والقرى الفلسطينية التي هاجمتها العصابات الصهيونية وهجّرت أهلها فباتت جزءاً من الدولة اليهودية الجديدة. كان عدد سكّان اللّدّ حين النكبة ما بين خمسين وسبعين ألف نسمةٍ، ربعُهم تقريباً من مهجَّري مدينة يافا الساحلية التي كانت حملاتُ التطهير العرقيّ الصهيونيةُ طالتها في أبريل من ذلك العام. فُرّغت اللّدّ من أغلب سكّانها الفلسطينيين بعد مقاومةٍ شرسةٍ مع القوات الصهيونية في يونيو خلال ما سُمّي بعملية "داني". وكان إسحاق رابين، الذي أصبح في التسعينيات رئيس وزراء إسرائيل، من قادة القوّات المهاجِمة آنذاك. تشتّت أهلُ اللّدّ بين غزّة وأجزاء من الضفّة الغربية. ويبدو أن عائلة أمّ يعقوب انتقلت إلى أريحا القريبة من غور الأردن، ومن ثمّ انتقلت هي إلى رام الله وهناك قضت جلّ حياتها.
كانت رام الله مركزاً علمياً وثقافياً جاذباً لأبناء الريف الفلسطيني في الضفة الغربية وبالأخص شمالها. كانوا يأتون إلى رام الله للدراسة الجامعية أو باحثين عن فرص. تركّزت المؤسّسات الحكومية ومؤسّسات المجتمع المدنيّ فيها بعد تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية في بداية التسعينيات، فباتت المدينةُ أكثرَ جذباً لأبناء الريف، ولا سيّما بين فئة المتعلّمين من الفلّاحين الباحثين عن فرص عملٍ جديدةٍ في تلك المؤسسات. انقسم هؤلاء إلى نوعَيْن، الأوّل هو الفلّاح المتعلّم الذي ظلّ مرتبطاً بثقافته الزراعية وحاول الاستمرار بممارستها في الزراعة الحَضَرية، ومنها الحاكورة على اختلاف أشكالها. أما النوع الثاني فهو الفلّاح المتعلّم الذي قرّر أن يخلع عباءة الفلّاح التي لبسها في قريته والتجرّد من صفاته التي ارتبطت بها لغاية الاندماج في المجتمع المدني.
كثير من سكّان رام الله والبيرة جاؤوا بالأصل من بيئاتٍ ريفيةٍ تعتمد على الزراعة نشاطاً. فنقلوا معهم المعارف والمهارات الزراعية من أماكنهم الأصلية إلى المدينة وعزّزوا الزراعة الحَضَرية والتوسّع العمراني فيها. ولا يَغفل المرءُ عن ذكر حقيقة أن جزءاً من الحركة السكانية من القرى المحيطة برام الله إلى المدينة كان وما زال مدفوعاً بواقع الاحتلال الإسرائيلي. فالظروف السياسية والاقتصادية الصعبة الناتجة عن الممارسات والقوانين التعسفية للاحتلال، لا سيّما بناء الجدار العازل وفصل المراكز السكانية، وبالذات في مناطق "جيم" في الضفة الغربية، وهي منطقةٌ خاضعةٌ للسيطرة الكاملة للسلطات الإسرائيلية وفق اتفاقات أوسلو، تدفعهم للبحث عن ملجأٍ في البلدات والمدن القريبة في مناطق خاضعةٍ بالغالب للسيطرة المدنية للسلطة الفلسطينية، ومنها رام الله والبيرة.
يتشارك أبو أحمد الرأيَ مع أبي هيثم من مدينة البيرة المجاورة، والذي صادفتُه وأنا أجول في المنطقة مقتفياً أثر حواكيرنا المنسيّة وما ارتبط بها من حكاياتٍ وتقاليد. يقول أبو هيثم: "اسمع يا ابني، أكلاتنا الشعبية كانت بسيطة ومتطلباتها بسيطة… شويّة عدس وبصل. كانت الحياة بتمشي. بس اليوم متطلبات الحياة صارت صعبة ومكلفة على ربّ الأسرة". وعند سؤاله عن التكافل مع الجيران وتبادل الأطعمة معهم وبالأخصّ وقتَ الحروب والانتفاضات الشعبية، أجاب بأنه "خلال انتفاضة الأقصى قبل أكثر من عشرين عاماً كان الجيران يجوا (يأتوا) عنا، ويأخذون حاجتهم من الخضار من حاكورة الدار بدون مقابل، الجيران لبعضهم والحمد لله كان عنّا مكان نزرع فيه، ونوكل (نأكل) ونطعِم جيراننا منه كمان".
يمثّل التكافل الاجتماعيّ حالةَ انتقالٍ من الفردانية إلى الحيّز الجمعيّ الأكبر من أجل تلبية احتياجات الآخرين داخل المجتمع أو المجموعة نفسها. تكافلُ بعض هذه المجموعات مع بعضٍ يَقوَى بمصلحةٍ مشتركةٍ وسياقٍ ديدنُه القِيَمُ والهويّةُ الواحدة، ما يعزّز الشعورَ بالانتماء والوحدة في مواجهة التحدّيات والتهديدات المشترَكة. وفي السياق الفلسطينيّ يمثّل الاحتلال تحديّاً شاملاً ووجوديّاً يشترك الفلسطينيون جميعاً بمواجهته، ويتّضح هذا الشكل من التكافل جليّاً في الأزمات والحروب والانتفاضات الشعبية. في ذاكرتي، مثّلَت الانتفاضةُ الثانيةُ نموذجاً حيّاً للتكافل الاجتماعيّ. فعندما اجتاحت الدباباتُ الإسرائيليةُ المدنَ الفلسطينيةَ في عملية عُرفت باسم الدرع الواقي، والتي قادها رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون في مارس 2002، دَمّرت إسرائيلُ البنيةَ التحتيّةَ للسلطة الوطنية الفلسطينية وما قام عليها من مصادر اقتصاديةٍ، ممّا قلّص قدرةَ السلطة على توفير الغذاء، وبالأخصّ في المدن. اضطُرّ الأفرادُ والعائلاتُ إلى الاعتماد على منهجيّة التكافل الاجتماعيّ من أجل الصمود على الأرض، إذ مَثَّلَت الحواكيرُ الفلسطينية مساحاتٍ لدعم الأمن الغذائي والسيادة على الغذاء في مواجهة الحصار الإسرائيلي.
ومِن موردٍ للترابط والتكافل الاجتماعيّ والمساهمة بسدّ الفجوة في الأمن الغذائي، لعبت الحواكير دوراً في التنوع الغذائي. هذا ما لمستُه في مدينة نابلس في شمال الضفة الغربية. وفي تجوالي في منطقة وادي التفاح في المدينة صادفتُ الحاجّة أمّ عليّ، وكانت سيّدةً في العقد السادس من عمرها، على محيّاها ابتسامةٌ لطيفةٌ دفعتني للحديث معها وسؤالها إنْ كانت تزرع في حاكورة منزلها. جاءت الإجابة فوراً بالإيجاب. بعدها دعتني إلى حاكورة منزلها، وكان فيها شجرةُ زيتونٍ وليمونٍ وبعضُ المزروعات الأخرى. قالت لي: "اسمع، كنّا بنزرع وبنعرف شو بنزرع. واليوم كمان بزرع علشان أطعمي أولادي أكل صحّي مش مثل اللي الموجود بالسوق اليوم ما بنعرف من وين جاي وكيف مزروع". وتلمّح أمّ عليّ بهذا إلى الكيماويات التي تستخدَم لتسميد النباتات. أعادني هذا الحديثُ إلى أمّ يعقوب من رام الله، والتي قالت لي "أنا هوايتي أزرع، وبستمتع وأنا بزرَع، وحتى اللي بزرَعه صحّي وله طعم خاصّ، حتى الزهرة (القرنبيط) اللي بزرَعها في حاكورتي طعمها غير". أحببتُ هذه العلاقة النفسية بين الطعم الخاصّ والزراعة، مع أنني غير متأكّدٍ من الأساس العلميّ لهذا الادّعاء. وتساءلتُ إنْ كان الأثرُ بعضُه نفسيّاً متعلّقاً بثقّة الشخص فيما تغرسه أو تصنعه يداه.
ولِتكتملَ صورةُ "البَرَاح"، أي الراحة النفسية والجسدية، في فضاء الحاكورة، استُخدِمَت الحاكورة أيضاً مساحةً للترابط العائليّ وفضاءً لتنمية أواصر التقارب والألفة مع الجيران والمعارف. كانت الأُسَر الفلسطينية وما زالت تجتمع في ليالي الصيف الدافئة، تتسامر تحت ظلال أشجار الحاكورة وبين "زريعتها" (زرعها)، بعيداً عن التلفزيونات والهواتف والألواح الذكية. وهنا توثّق أمّ عليّ هذا الجانب بقَولِها: "زمان ما كان في تلفزيونات ولا تلفونات وكنّا نجمع العائلة كلّ ليلة نسهر مع بعض، ونتسامر في حاكورة الدار، وبالأخصّ في الصيف والجوّ حلو مع لمّة العائلة. كانت أحلى. ولليوم أحفادي دائماً بيلعبوا في ساحة الدار والحاكورة". بدَورِها أمّ محمّد من الخليل تستذكر كيف كان للحاكورة شأنٌ ساحةً للوصال مع الجيران وتبادل الأخبار والقصص، فتقول وإنْ شابَ لهجتَها شيءٌ من الحسرة لربما على زمنٍ ماضٍ ما بقيَ من دفئه إلّا القليل: "كنت زمان أنا وجاراتي نجتمع في حاكورة دارنا نشرب قهوة وشاي. بس اليوم يا دوب العيلة". أيْ أنّ ما بقي من تجمّعات اليوم في الحاكورة يكاد يقتصر على العائلة دون غيرهم.
ارتبط إرثُ الحاكورة الفلسطينية أشدَّ الارتباط بكونِها كانت مسرحاً للمناسبات الاجتماعية حتى عهدٍ قريب. يقول أبو أحمد من بيتونيا متذكّراً: "استضافت حاكورة عائلتي اجتماعات العائلة لعقد القِران، وفيها أقيمت الأفراح وبيوت العزاء". كلامٌ مشابهٌ سمعتُه من أبي هيثم: "البيت عنّا صغير، فكنّا نعمل بعض المناسبات في ساحة الدار تحت دالية العنب في الحاكورة، وأحياناً في الشارع بجوارها". قال هذا ثمّ أشاح بنظره قليلاً، متأمّلاً فضاءَ الحاكورة الذي ما زال يحتفظ بجزءٍ من تلك الذكريات. بعد برهةِ صمتٍ قصيرةٍ، عاد بابتسامةٍ خفيفةٍ وسألني: "متأكّد ما بدّك كمان كاسة شاي؟" وكأنّ الحديث عن الماضي أعاده إلى تفاصيل تلك الأيام، التي كانت الحاكورةُ فيها قلبَ الحياة الاجتماعية. ولربما أحبّ أن يعيد إحياءَها بكرمِ ضيافته.
وتمثّل الحاكورة جزءاً محورياً من التراث الشعبيّ الفلسطينيّ وساحةً لرواية القصص والشِعر والأمثال الشعبية. هكذا كانت في نظر الحاجّ أبي حاتم من طولكرم في شمال الضفة الغربية، والذي التقيتُه في تجوالي بالمدينة. قال لي أبو حاتم: "بتعرف، ما كان في تلفزيونات مثل هسّا (الآن)، وكان جدّي الله يرحمه يجمعنا ويحكي لنا قصص من زمن العصملّي (العثمانيين) والإنجليزي وشو كان يصير بالبلاد".
غيرَ أن أبا هيثم له رأيٌ آخَرُ، فيَعزو سببَ خسارة الحواكير إلى التغيّر في أولويّات الأجيال الجديدة وظروفهم وحاجاتهم، قائلاً: "جيل اليوم معظمهم موظفين يعتمدون على الراتب وغير مهتمين بالزراعة أبداً". وليس ببعيدٍ عن هذا الرأي، تقول أمّ يعقوب: "أنا معظم أولادي بيشتغلوا برّا البلد، وأنا اللي بزرَع بس في البيت. مش عارفة شو بدّو يصير بحاكورتي بُكرة… أنا كثير تعبت ومفاصلي بيضربوا عليّ كثير. الله أعلم".
كانت خسارة الحواكير في المدن الفلسطينية نتيجةً لتفاعل العوامل السياسية والعمرانية والاقتصادية والاجتماعية التي تجمع بين طيّاتها ما تَحدّث به أبطالُ حكايتنا وأكثر. على رأس هذه العوامل ممارساتُ إسرائيل الممنهَجةُ بحصار المدن الفلسطينية ومنع التوسّع العمرانيّ الطبيعيّ، وهو ما سبب ضغطاً على الحيّز المكانيّ الحَضَريّ، فزاد التنافس على الأراضي المتاحة وهي قليلةٌ جداً. ناهيك من الخسارة المستمرّة في مساحة الأراضي الزراعية بسبب التوسّع الاستيطاني ومصادرة الأراضي بحجّة أنها مناطق عسكريةٌ مغلَقةٌ أو معسكراتُ تدريبٍ للجيش الإسرائيليّ، كما هو الحال في منطقة الأغوار غرب الضفّة الغربيّة على الحدود مع الأردن. ويمتدّ هذا الأمر إلى مناطق "جيم" في الضفة الغربية التي تخضع للسيطرة العسكرية الإسرائيلية الكاملة. ومثلها في الغبن القرى المقاربةُ للمستوطَنات وجدارِ الفصل. حتى في مناطق تُصنّف خاضعةً للسلطة الفلسطينية كلّياً أو جزئياً، بما فيها مدنُ الضفّةِ الرئيسةُ مثل رام الله والخليل ونابلس وطولكرم وجنين وقلقيلية. ويُعدّ واقعُ الاحتلال العاملَ الأوّل في أزمة المياه في الضفة الغربية، ما يمثّل عائقاً فعلياً في الإبقاء على زراعةٍ حَضَريةٍ مستدامة. تكفي الإشارة إلى أن معدّل استهلاك الفرد الفلسطيني في الضفّة من المياه للعام 2020 مثلاً، وفقاً لمنظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية "بتسليم"، بَلَغَ نحو عُشْرَ معدل استهلاك الفرد الإسرائيلي. ووصل الأمرُ لأن يحصل ثلثُ السكان الفلسطينيين في المنطقة فحسبُ على مياهٍ جاريةٍ يومياً. يأتي هذا نتيجةَ عقودٍ من سياساتٍ إسرائيليةٍ آلَت في النهاية للسيطرة على 85 بالمئة من الموارد المائية في الضفة الغربية، لمصلحة المستوطنات والداخل الإسرائيلي. على الجهة المقابلة، تخسر الزراعةُ الحَضَريةُ، وفي القلب منها منظومةُ الحاكورة، أمام متطلّبات العمران الفلسطينيّ الذي بات يفضّل السكنَ والمصنعَ والمحلَّ التجاريَّ على أيّ نشاطٍ زراعيّ. أضف إلى ذلك نموّ النزعة الاستهلاكية التي صاحبت الانتقال من القرى للمدن، وتزايد الاعتماد على قطاعات الخدمات ووظائف القطاع العام في مؤسسات السلطة الفلسطينية، والتي بلغ عددُ موظّفيها ما يقارب مئةً وخمسين ألفاً بين الضفّة والقطاع. كذلك الإقبال على العمل في مؤسسات القطاع الخاص والشركات والمصارف التي توسّعت بعد اتفاقيات أوسلو في منتصف التسعينيات. وفي ظلّ هذه التغيّرات بات الأفراد يفضّلون بناءَ محلٍّ تجاريٍّ أو عقارٍ مُربحٍ أو مَسكنٍ، أو حتى موقف سيارةٍ، على حساب مساحةٍ من الأرض كانت يوماً مخصّصةً للحاكورة.
الحاكورة إذن ميراثٌ ممتدٌّ في فلسطين، مَثَّلَ مصدراً من مصادر الزراعة الحَضَرية فساهَمَ في الأمن الغذائيّ في ظلّ واقع الاحتلال، كما ساعد في تعميق سُبلِ التكافل والتواصل الاجتماعي. إلّا أنه، كأغلب عناصر البيئة الفلسطينية، بات عُرضةً للتهديد وجوداً وممارسةً، إمّا بسبب سياسات الاحتلال أو نظراً لتغيّر الظروف الاجتماعية والاقتصادية. وبين هذا وذاك يبقى السؤال، بل القلق، على مستقبل الحاكورة حاضراً في وجدان من عاشوا معها وفيها.