حفاظٌ على الكفاءات أم تعسف؟ مشروع قانون يصعب هجرة أطباء تونس الجدد

يتجه البرلمان التونسي للمصادقة على مشروع قانون يعرقل هجرة الأطباء الجدد من البلاد.

Share
حفاظٌ على الكفاءات أم تعسف؟ مشروع قانون يصعب هجرة أطباء تونس الجدد
فقدت الوظيفة العمومية في تونس مكانتها الاجتماعية والاقتصادية | خدمة غيتي للصور

جهّز الاختصاصي في الطب النفسي سليم عياد حقيبته الأخيرة متوجهاً إلى مطار تونس قرطاج في طريقه لألمانيا سنة 2019، حاملاً في قلبه وجع الوداع ومرارة الانكسار من وطنٍ لم يَمنح أبناءه ما يستحقونه من تقدير. انطلق متسلحاً بأملٍ في فرصةٍ جديدةٍ قد يجدها في وجهته المقبلة، في بيئة عملٍ تقدِّر تخصصه وتحفظ كرامته وتوفر له فرص التطور المهني. ودّع سليم زملاءه وأحلامه المؤجلة بعد سنواتٍ قضاها في مستشفى الأمراض النفسية بالعاصمة تونس، حيث ضغط العمل لا يرحم والأفق مسدود والموارد شبه غائبة والأجر لا يكفي لضمان حياةٍ كريمة. لم يكن قرار الرحيل سهلاً، لكن البقاء في تلك الظروف كان أقسى.

وبينما اختار سليم عياد الهجرة بحثاً عن كرامةٍ مهنيةٍ وفرصٍ أفضل في الخارج، سلك الطبيب الراحل جاد الهنشيري طريقاً معاكساً. فقد عاد إلى تونس بعد تجربةٍ في فرنسا مؤمناً بأن التغيير الحقيقي يبدأ من الداخل، حتى في ظلّ بيئةٍ صعبة. عُرف الهنشيري بـاسم "طبيب الغلابة". ولم يكتفِ بممارسة المهنة، بل ساهم في تطوير الرعاية الصحية والدفاع عن حقوق الأطباء الشبان، واجتهد في مسار الإصلاح رغم التحديات.

عياد والهنشيري نموذجان لطبيبين تونسيين يشتغلان في المستشفيات العمومية، تشابهت دربهما مع كثيرٍ من أصحاب الكفاءات في تونس، خاصةً الأطباء والمهندسين. فقد بات جزءٌ كبيرٌ منهم يفضّل الهجرة بحثاً عن ظروفٍ أفضل، في حين اختارت فئةٌ أخرى البقاء إما طواعية أو تحت ضغط الواقع، رغم تدني الأجور وسوء بيئة العمل. وبين الفئتين، نمطٌ صار جلياً عن فقدان الوظيفة العمومية في تونس مكانتها الاجتماعية والاقتصادية بعد الثورة وإقصاء نظام بن علي سنة 2011. لكن مع تعاقب الأزمات الاقتصادية في العقد ونصف الماضي، اضطرت الدولة إلى مراجعة سياسات التوظيف والأجور، في ظلّ تصاعدٍ متواصلٍ للأسعار. كان الموظف أول ضحية في صُلب هذه التحولات، ما دفع كثيرين إلى البحث عن بدائل، لعلّ أبرزها الهجرة. وكان الأطباء في طليعة الفئات التي اختارت هذا المسار بحثاً عن ظروف عملٍ ومعيشةٍ أكثر عدلاً في الخارج، فيما يترنح القطاع الصحي التونسي وسط مشاكل تعرقل عمل الأطباء وفرص علاج المرضى على حدٍّ سواء.


تشير الأرقام الرسمية الصادرة عن الوكالة التونسية للتعاون الفني، وهي مؤسسة عمومية تابعة لوزارة الاقتصاد أُنشئت سنة 1972 لتنفيذ سياسة الدولة في تصدير الكفاءات، إلى أن تونس توفّر كفاءاتٍ كثيرةً تُنتدب لبلدانٍ عربيةٍ وإفريقيةٍ مباشرةً بعد انتهاء فترة تدريبها أو دراستها. ورد ذلك في تقريرٍ للوكالة صدر سنة 2023. ويتصدر قطاع الصحة قائمة الانتدابات الخارجية بعدد 1022 عاملاً طبياً وشبه طبي، ما يمثل نحو 35 بالمئة من إجمالي الكفاءات المنتدبة. وعن هذا تحدث نزار العذاري، الكاتب العام للمجلس الوطني لعمادة الأطباء لموقع "ألترا تونس" في يناير 2025، مشيراً إلى أن نحو 1450 طبيباً تونسياً هاجروا إلى الخارج سنة 2024، وفقاً لإحصائيات العمادة الأولية. ويُقارن هذا الرقم بعدد المتخرّجين السنوي من كليات الطب، والذي يُقدّر بنحو ألف وثمانمئة طبيب، ما يعكس حجم النزيف الذي يشهده القطاع الطبي في البلاد.

دفعت موجة هجرة الأطباء والكفاءات العلمية من تونس عدداً من نواب البرلمان إلى تقديم مبادرةٍ تشريعيةٍ ضمن مشروع قانون الموازنة لسنة 2025. وينصّ المقترح، الذي تقدّم به رئيس لجنة التربية والتكوين المهني والشباب والرياضة بمجلس النواب فخر الدين فضلون، على فرض تعويضاتٍ ماليةٍ على الكفاءات المهاجرة بنسبة 50 بالمئة من تكلفة تعليمهم. وبحسب النائب تُدفع هذه التعويضات على أقساطٍ تمتد خمسَ سنوات بعقدٍ يُبرم مع المشغّل الأجنبي. وذلك للحدّ من نزيف هجرة الأطباء والمهندسين، وتخفيف الأعباء المالية التي تتحمّلها الدولة، مع توفير موارد إضافية في ظلّ الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد. ويستثني المقترحُ الخريجين الذين يقررون العودة إلى تونس قبل انقضاء فترة الخمس سنوات، شرط الالتزام بالعمل داخل البلاد لمدة لا تقل عن ثلاث سنوات.

ولا يُعد هذا المقترح وليد اللحظة، بل كان توجهاً متنامياً لدى الدولة يرى أن أصحاب الكفاءات المتخرجين في منظومتها التعليمية "حق وطني" يمكن تقييده تحت مسمى "الوفاء للوطن". ويستند إلى مقاربة ترى أن أصحاب الكفاءات من المهاجرين ليسوا مجرد أفراد يغادرون البلاد، بل ثروة وطنية راهنت عليها تونس منذ الاستقلال لبناء الدولة الحديثة. فقد وُضع التعليم في صلب الأولويات الوطنية منذ استقلال تونس عن الاستعمار الفرنسي سنة 1956. وراهنت الدولة الناشئة على تحديث المجتمع بالتعليم، وبإصدار قانون يوحد منظومة التربية والتعليم على امتداد البلاد. بعد أن كان التعليم مفرقاً بين تعليم ديني زيتوني (نسبة لجامعة الزيتونة) وآخر فرنسي علماني.

وخصصت الدولة استثمارات كبرى لضمان مجانية التعليم وإتاحته لكافة الفئات الاجتماعية بلا تمييز. ومن هذا المنطلق، تُعد استفادة دول أخرى من الكفاءات التونسية دون مقابل خسارة فادحة للبلاد. ما يبرر – حسب المقترح التشريعي – ضرورة فرض تعويضات مادية. ويُنظر إلى هذا الإجراء على أنه جزء من المسؤولية الوطنية ورد جميل الدولة. لذا يُطلب من أصحاب الكفاءات المهاجرين المساهمة في استرداد جزء من كلفة الاستثمار العمومي في تعليمهم وتكوينهم.


وبغض النظر عن فكرة "رد الجميل" التي حملها مشروع القانون، إلا أنه أثار منذ الإعلان عنه موجةً من الانتقادات والتساؤلات بشأن جدوى تطبيقه وإشكالاته القانونية والأخلاقية، وفيما إذا كان تطبيقه واقعياً. خاصة وأنه طُرح في سياقٍ يتسم بتصاعد احتجاجات الأطباء للمطالبة بتحسين ظروفهم المهنية والمعيشية.

لم يكن هذا الجدل جديداً. سبق أن طرح مركز الدراسات الاستراتيجية التابع لرئاسة الجمهورية التونسية هذا المقترح في أكتوبر 2019 تحت مسمى "إلزامية ردّ الجميل". وذلك ضمن تقريره المعنون "هجرة الكفاءات والفاقد المهاري في تونس". وأشار التقرير إلى أن سياسات الهجرة المعتمدة لاتزال تستند إلى تصورات تقليدية تُعيد إنتاج مفاهيم، مثل الواجب والامتنان، وهي مقاربة اعتمدتها الدولة منذ عقود في تعاملها مع الكفاءات العلمية والمهنية.

تكرّست هذه المقاربة في دراسةٍ لاحقةٍ أصدرها المركز ذاته سنة 2024 بعنوان "أناليز أبروفوندي دو لا مغراسيون دي بروفيسيونيل دو سانتيه تونزيان" (مهنيّو الصحة ورهانات المنظومة الصحية في تونس). اقترحت الدراسة آلياتٍ إضافية للحد من هجرة الكفاءات. وشملت فرض تعويضاتٍ ماليةٍ تُستخلص عبر اقتطاعاتٍ من الرواتب أو ضرائب تُطبق على الأطباء والمهندسين المهاجرين، بموجب اتفاقياتٍ تُبرم مع دول الاستقبال. وأوصت الدراسة باشتراط حدٍّ أدنى لسنوات العمل داخل تونس قبل الهجرة، إلى جانب الالتزام بالخدمة المدنية، والتي تعني للأطباء العملَ عشرَ سنوات في المناطق النائية.

ومع تعدد النصوص القانونية والمبادرات المعلنة، ومع المبررات التي يسوقها المشرّع لمحاولة تعويض الدولة عن خسائرها الناجمة عن هجرة الكفاءات، إلا أن الدولة تبدو عاجزة عن تقديم حلول تعيد ثقة الكفاءات في مستقبلهم ببلدهم. الانتقادات الأولى وجّهت لهذا الطرح لأنه متناقضٌ مع روح ثورة 2011، التي رفعت شعارات الشغل والحرية وحقوق الإنسان. وعُدّ هذا التوجه مخالفاً للمواثيق الدولية والاتفاقيات التي تكفل حرية التنقل، والتي صادقت عليها تونس وأدرجتها في دستورَيْ 2014 و2022. من هنا رأى نزار العذاري الكاتب العام لعمادة الأطباء أن الإجراءات الواردة في المبادرة التشريعية ذات طابع زجري وتمثل مساساً بالحريات الفردية. وأكد للفراتس أن مشروع القانون من شأنه أن يُفاقم ظاهرة هجرة الأطباء بدلاً من الحدّ منها، خاصة في ظل الظروف الصعبة التي يمرّ بها قطاع الصحة العمومية في البلاد.

وأوضح أن إلزام الأطباء الراغبين في العمل بالخارج بدفع تعويضات مالية قد يُفضي إلى عزوف الشباب عن دراسة الطب، نظراً لما يفرضه من قيود مالية ونفسية مبكرة. وحذّر من أن هذا التوجه قد يُغلق الباب أمام عودة الكفاءات الطبية من المهجر، خصوصاً من يفكرون في الاستثمار أو إطلاق مشاريع صحية في تونس مستقبلاً. ولفت إلى أن سنة 2024 وحدها شهدت مغادرة نحو ألف وثلاثمئة طبيب تونسي، أغلبهم من الأطباء الشبان.

ويرى الطبيب المختص بالطب العام وعضو المنظمة التونسية للأطباء الشبان، بولبابة مخلوف، في تصريح للفِراتس أن الأرقام المتداولة لكلفة تدريب الطبيب تفتقر إلى الدقة، نظراً لتداخل المعطيات وتعدد مصادر التمويل. فعلى سبيل المثال، يتقاضى أساتذة كليات الطب أجورهم من وزارة الصحة، مع حصولهم على منح إضافية مقابل مهامهم التدريسية. وطلبة الطب يقدّمون في سنوات تدريبهم خدمات صحية فعلية داخل المستشفيات العمومية، ما يُعد مساهمة مباشرة وملموسة في دعم المنظومة الصحية الوطنية.

ويقول مخلوف إن هذا التوجه لا يعالج أصل الأزمة وإنما يعمّق الفجوة الطبقية، فيصبح من يملك المال قادراً على السفر وتطوير مسيرته الأكاديمية والمهنية. بينما يُحرم الطبيب من الطبقات المحدودة الدخل من هذه الفرص، ما يُكرّس غياب العدالة ويضرب مبدأ تكافؤ الفرص. ويرى مخلوف أن فرض الخدمة المدنية الإلزامية مدة عشر سنوات على الأطباء الجدد أو مطالبتهم بتسديد تكاليف الدراسة والتدريب انتهاكٌ لمبدأ مجانية التعليم وعموميته. وبدلاً من البحث عن حلول واقعية وشاملة لأزمة القطاع الصحي، يُلاحظ توجه الدولة نحو سنّ إجراءات عقابية تمسّ حرية الأطباء وتقيّد قدرتهم على تحسين أوضاعهم المهنية والمعيشية.

وفي تصريح المتحدث إشارة بينة للشرخ بين الطرح الحالي، في مقابل الميراث والإطار التعليمي الذي وضعت لبناته الدولة التونسية في بداياتها وعماده التحديث والبناء اعتماداً على الكفاءات الوطنية. 


آمن الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة بأن الاستثمار في التعليم وتكوين الموارد البشرية هو العمود الفقري للتنمية المستدامة. وكان بورقيبة في كل خطاب يذكر بأهمية التعليم، ووصل حد البكاء في أحد خطاباته الشهيرة قائلاً: "بابا كان يقلي اقرى على روحك بش متهزش البردعة". ويقصد "ادرس حتى لا ينتهي بك الأمر لرفع سرج الحمار"، ويعني مجازياً ادرس كي لا تضطر للعمل سائس حمير. لخص بورقيبة بهذه الجملة معاناة والده وجيل التونسيين في فترة الاستعمار، الأمر الذي دفعه إلى تخصيص ثلث ميزانية الدولة للتعليم.

عمل بورقيبة على تطوير شبكة واسعة من المؤسسات التعليمية والصحية، ودعم الموظفين العموميين لأنهم المساهمون الأساس في إدارة الدولة وخدماتها والاستثمار في كفاءاتها العلمية. وهو مايفسر أن تونس وإلى اليوم تعد واحدة من وجهات السياحة الاستشفائية الهامة في العالم، بفضل ما تقدمه من خدمات صحية جيدة جعلت الوافدين يعودون أكثر من مرة بالسنة ومن مختلف الدول خاصة الإفريقية والأوروبية. وعلى حد تصريح رئيس غرفة التجارة والصناعة ببنزرت، فوزي بن عيسى، في حوار مع مجلة "إكسبرس" في سبتمبر 2024، فإن تونس تستقبل بالعام حوالي مليون ونصف المليون سائح لأغراض صحية. 

وأدت سياسة بورقيبة إلى رفع مستويات الوعي العلمي والمهني وفتح فرصٍ واسعة للارتقاء الاجتماعي. إذ كانت الوظيفة العمومية التي راهنت عليها دولة الاستقلال في الستينيات هي السبيل التقليدي للحصول على الاستقرار ومكانة اجتماعية محترمة. وظلت تونس متمسكة بنموذج الوظيفة العمومية، وأغرقت الإدارة بمن تمتعوا بالعفو التشريعي العام. وهو إجراء قانوني نص عليه المرسوم رقم 1 لسنة 2011، والذي يقضي بإسقاط التتبعات أو العقوبات في حق من سُجنوا أو حوكموا لأسباب سياسية أو نقابية أثناء حكم بن علي، ويهدف إلى ردّ الاعتبار لضحايا القمع والاضطهاد السياسي.

لكن أُوقف التوظيف العمومي سنة 2014 بسبب الأزمة السياسية والاقتصادية المركبة التي حاقت بالبلاد بعد الثورة. بالإضافة إلى ضغط المؤسسات المالية الدولية، وأهمها البنك الدولي، التي فرضت إجراءات تقشفية تهدف إلى تقليص كتلة الأجور الحكومية والإنفاق العام والتوجه نحو الخصخصة.


توقّف التوظيف في القطاع العمومي بتونس خلّف آلاف الخريجين من حاملي الشهادات الجامعية بلا فرص عمل، ما ساهم في ارتفاع معدلات البطالة. معطوف على هذا التراجع غياب بدائل حقيقية في القطاع الخاص الذي شهد معوقات بسبب لجوء الحكومة للاقتراض الداخلي ومزاحمة هذا القطاع. وتشير دراسة لمعهد كارنيغي الأمريكي في فبراير 2024 إلى أن حجم تمويل النظام المصرفي للقطاع الخاص ومعدلات الائتمان التي كانت تمنحها البنوك له تضاءلت منذ 2011. ومع تراجع القطاع العام وتعثر القطاع الخاص، وجد كثير من حاملي الشهادات أنفسهم مضطرين للبحث عن فرص عمل خارج البلاد.

انعكست هذه الأزمة خاصةً على القطاع الصحي، إذا يُواجه الأطباء ضغوطاً اقتصادية واجتماعية متزايدة، لعلّ أبرزها تراجعٌ حاد في رواتبهم مقارنة بتزايد تكاليف المعيشة. ويبلغ أجر الطبيب العام في تونس ما يعادل نحو ثمانمئة وأربعين دولاراً شهرياً، فيما يصل معدل أجر الطبيب العام في فرنسا ستة آلاف وأربعمئة يورو (حوالي سبعة آلاف وثلاثمئة دولاراً) شهرياً.

أما وضعية المستشفيات العمومية، فيؤكد الطبيب بولبابة مخلوف للفِراتس، أنها تشهد نقصاً حاداً في المعدات الطبية وتردياً في البنية التحتية، خصوصاً في المناطق الداخلية البعيدة عن المدن الرئيسة. وتفتقر العديد من المرافق إلى أبسط مقومات الراحة، مثل قاعات الانتظار، ما ينعكس سلباً على جودة الخدمات الصحية ويتسبب في حالة من الإحباط بين الطواقم الطبية.

ويقول مخلوف إن نقاش الوضع الاقتصادي والاجتماعي للأطباء في قطاع الصحة يجب أن يراعي الفروقات بين القطاعين العام والخاص. فمع أن مؤشرات الهجرة تشمل كلا القطاعين، إلا أن الأسباب التي تدفع الأطباء إلى المغادرة تتفاوت. فبعضهم يهاجر لاستكمال التخصص، وآخرون يغادرون بعد سنوات من العمل في تونس، ما يعكس أزمة أعمق تشمل النظام الصحي برمّته.

ويضيف مخلوف أن المنظومة الصحية في تونس أصبحت منقسمة بين مستشفيات عمومية موجهة للفقراء والطبقة المتوسطة، تقابلها مصحات خاصة تستقبل الفئات القادرة على الدفع. تُساهم هذه الثنائية في تعميق الفجوة في جودة الرعاية الصحية، إذ تعاني المستشفيات العمومية من نقص حاد في الموارد البشرية، سواء الطواقم الطبية أو شبه الطبية، فضلاً عن ضعف منظومة الأجور. هذا الوضع ينعكس سلباً على جودة الخدمات ويزيد من احتمالية وقوع الأخطاء الطبية. ويقول مخلوف إن المرضى في القطاع العمومي يضطرون أحياناً إلى انتظار مواعيد طبية تمتد أشهراً، ما يُفقد المنظومة الصحية مصداقيتها أمام المواطنين.

ويتابع قائلاً إن "الحديث عن إصلاح المنظومة الصحية بدأ منذ ثورة 2011 لكن دون نتائج ملموسة. وخلال أزمة جائحة الكورونا، تضاعفت أهمية القطاع الصحي، غير أن هذه القيمة لم تترجم إلى إجراءات حقيقية. خصصت وزارة الصحة وقتها أقساماً لمواجهة الجائحة وتعهدت بمنح أجور إضافية للأطباء العاملين بها، لكن تلك الأجور لم تُصرف حتى اليوم".

ثم إن النقابات المهنية، على حد قول مخلوف، مازالت تطالب بتحسين مِنح العدوى والخطر في القطاع الصحي، لكن هذه المطالب تُقابل بالتجاهل. ما يدفع الأطباء إلى ترك المستشفيات العمومية إما للالتحاق بالقطاع الخاص داخل البلاد أو الهجرة إلى الخارج بحثاً عن ظروف عمل أفضل.

من جهته قال الطبيب النفسي التونسي المقيم في ألمانيا، سليم عياد، للفِراتس إن في تونس مناخ منفر لأصحاب الكفاءات، ومشروع القانون الذي اُقترح في مجلس النواب غبي ودكتاتوري. والقطاع الصحي في تونس "يعاني مشاكل كثيرةً، منها سعي القطاع الخاص لتحقيق الربح، يقابله الفوضى العارمة في القطاع العام التي تجعل رؤساء الأقسام يتحكمون في عمل الأطباء. فضلاً عن الأجور المتدنية، مما يتسبب في غياب أي عدالة مهنية أو مادية".

أضاف عياد أنه لا ينوي العودة إلى تونس قائلاً إن "القطاع الصحي متدهور ولا توجد نية واضحة للإصلاح، ولا طبيب يعود لتونس إلا بسبب ظروف قاهرة قد تكون عائلية، أو لأنه عجز عن التأقلم في الخارج بعيداً عن بيئته الأصلية".

ولا تقتصر مشاكل المنظومة الصحية العمومية على النقص في الموارد البشرية وضعف الأجور، بل تتجاوز ذلك إلى غياب البيئة الملائمة للبحث والتطوير. وهو ما يدفع الأطباء للبحث عن سبل للهجرة. البحث العلمي في تونس مهمش نتيجة الميزانيات المحدودة التي تخصصها الدولة لهذا القطاع. وقد بلغت ميزانية البحث العلمي سنة 2025 حوالي 204.787 مليون دينار تونسي (ما يعادل نحو 65.5 مليون دولار)، وهو ما يمثل 9 بالمئة فقط من ميزانية وزارة التعليم العالي والبحث العلمي.

وقد أشار الطبيبان بولبابة مخلوف وسليم عياد إلى أن ندرة فرص التدريب والتطوير، وضعف المشاركة في المؤتمرات العلمية الدولية، أمر يعيق تطوير الكفاءات ويضعف قدرة تونس على مواكبة التطورات العلمية العالمية والانخراط فيها.


يرى الباحث في الدراسات الاجتماعية في مركز الدراسات والبحوث الاجتماعية والاقتصادية ماهر حمدي، في حديث لمجلة الفِراتس، أن نزيف الكفاءات الطبية التونسية هو نتيجة تضافر للعوامل الآنف ذكرها. ويضيف أن هجرة الأطباء تعود إلى "جملة من الأسباب البنيوية والمعقدة". من بينها طول سنوات التدريب الأكاديمي، والعراقيل الإدارية التي تواجه الأطباء الراغبين في التخصص. إلى جانب النظام الوظيفي التقليدي الذي يُعلي من منطق الولاءات على حساب الكفاءات. ويُضاف إلى ذلك تهميش ملف إصلاح المنظومة الصحية وتدني الأجور وغياب مخابر البحث العلمي والتكوين المستمر، ما يجعل بيئة العمل غير محفزة ويُدفع بأصحاب الكفاءات إلى البحث عن آفاق أفضل خارج البلاد.

ويؤكد حمدي أن هذه الظروف لا يمكن فهمها بمعزل عن الخيارات السياسية التي تبنّتها الدولة في العقود الأخيرة، والمتمثلة في التوجه نحو الخصخصة وتهميش القطاع العمومي. ثم إن هجرة الأطباء برأيه ليست مجرد خيار فردي، بل تعبّر عن أزمة ثقة عميقة في الدولة ومؤسساتها. كما تعكس نمطاً ممنهجاً من الإقصاء الموجّه للشباب، خاصة في قطاع حيوي وحساس مثل قطاع الصحة.

لهذا مثلاً نظمت منظمة الأطباء الشبان منذ أبريل إلى يونيو 2025 سلسلة من التحركات الاحتجاجية، تعبيراً عن تفاقم حالة السخط داخل القطاع. وتطالب المنظمة بصرف المستحقات المالية المتأخرة في نحو ثلثي المستشفيات العمومية، إلى جانب مراجعة الأجر الشهري للخدمة المدنية، وهي الخدمة التي يقدمها طلاب الطب بُعيد تخرجهم، الذي لا يتجاوز ما يعادل مئتين وخمسين دولاراً شهرياً. وتدعو إلى اعتماد معايير واضحة وشفافة للمصادقة على فترة التدريب.

لوّحت المنظمة بإمكانية انسحاب أعضائها من المستشفيات العمومية احتجاجاً على ما وصفته بمماطلة السلطات المستمرة وهشاشة السياسات العمومية في التعاطي مع أوضاع القطاع الصحي. وأكدت أن الطبيب الشاب يُعد من أكثر الموظفين التزاماً من حيث ساعات العمل، التي قد تتجاوز أحياناً مئة وعشرين ساعة أسبوعياً (بمعدل سبع عشرة ساعة عمل يومية بلا إجازات أسبوعية)، في مقابل أجر شهري لا يتعدى ما يعادل ثمانمئة وأربعين دولاراً.

يقول رئيس منظمة الأطباء الشبان وجيه ذكار إن الطبيب الشاب يُجبر على التنقل كل ستة أشهر بين ولايات مختلفة دون توفير سكن مطمئن، ما يزيد من أعبائه المالية في ظل ارتفاع أسعار الإيجار، خصوصاً في المدن الكبرى. ويُطلب منه المشاركة في مؤتمرات علمية وطنية على نفقته الخاصة، ولا يُمنح في المقابل إعفاءً من الخدمة العسكرية، مع الظروف الاجتماعية الصعبة التي يعيشها.


وفي ظل الأزمة المتفاقمة التي يعيشها القطاع الصحي، تبرز محدودية السياسات العمومية في الاستجابة لتطلعات المهنيين، رغم المسار التشريعي الذي أعقب ثورة 2011. فقد اضطلع مجلس نواب الشعب آنذاك بدور محوري في صياغة التشريعات، مستنداً إلى مقاربة تشاركية شملت مختلف مكونات المجتمع المدني، من أحزاب ومنظمات وجمعيات مهنية. وأسهمت هذه التجربة في بلورة دستور 2014، الذي كرّس مبادئ المشاركة والتمثيل. إلا أن تطبيق هذه المبادئ ظل منقوصاً، خاصة في ما يتعلق بإصلاح القطاعات الحيوية مثل الصحة والتعليم.

غير أن هذا النهج التشاركي شهد تراجعاً تدريجياً، لاسيما بعد إلغاء دستور 2014 وتبنّي دستور 2022، الذي نقل أغلب الصلاحيات التشريعية إلى مؤسسة الرئاسة. فأصبحت رئاسة الجمهورية الجهة الرئيسة في إصدار المراسيم دون الحاجة إلى مناقشات برلمانية، وفي ظل غياب للنقاش العمومي والتشاور مع مختلف الفاعلين السياسيين والاجتماعيين.

واللافت أن البرلمان بدلاً من أن يضطلع بدوره الرقابي والتعديلي، اختار دعم توجّه الرئاسة نحو الانفراد بالتشريع بتبنّيه ما يُطلق عليه رئيس الجمهورية "ثورة تشريعية". فقد أكد الرئيس قيس سعيد في أكثر من مناسبة أن "القانون هو الحل الوحيد"، مشدداً على أن "الاحتكام إلى النصوص الصادرة عن الإرادة الشعبية هو ما سينقذ الدولة". وهي رؤية تضع التشريع في صلب العمل السياسي، لكن بلا اعتبار كافٍ لإشراك الأطراف المتدخلة أو فتح نقاشات مجتمعية واسعة عن مضامين هذه القوانين.

ويُعد مشروع قانون "رد الجميل" مثالاً بارزاً على هذا التحول في المنهجية التشريعية. لم ينبثق مشروع القانون عن حوار وطني شامل ولا عن تشاور مع الجهات المعنية بالملف من نقابات مهنية ومنظمات مجتمع مدني، أو حتى مع الكفاءات المستهدفة نفسها. وغاب عن مسار صياغته أي نقاش عمومي أو تداول فعلي داخل البرلمان. ناهيك عن أن مشروع القانون يبدو انعكاساً لإرادة رئيس الجمهورية، الذي شدّد في لقائه مع وزير التعليم العالي والبحث العلمي منصف بوكثير في فبراير 2024 على ضرورة مراجعة النصوص القانونية التي يرى أنها ساهمت في تفاقم ظاهرة هجرة الكفاءات، لا سيما في مجالات الهندسة والطب والعلوم. ويأتي هذا التصوّر ضمن رؤية رئاسية تعتبر التشريع أداةً أساسيةً لمعالجة الاختلالات الكبرى في البلاد.

يقول الباحث ماهر حمدي لمجلة الفِراتس إن هذا الانكماش في الحوكمة التشاركية لا يعبّر فقط عن تراجع في مكتسبات ثورة 2011، بل يكشف أيضاً عن تحول عميق في طبيعة العلاقة بين الدولة ومواطنيها. ويرى أن السياسات العمومية، بما في ذلك تلك المرتبطة بمصير الكفاءات التونسية، باتت تمليها وتقترحها السلطة التنفيذية شبه حصري. في حين تحوّل مجلس نواب الشعب إلى جهاز إجرائي يمرر المقترحات بلا مراجعة جوهرية أو نقاش فعلي.

ويضيف إن تونس تعيش اليوم لحظة من اللامبالاة القصوى، في ظل تحوّل الدولة من فاعل اجتماعي يسهر على ضمان العدالة الاجتماعية والحق في الصحة، إلى مجرد وسيط حدودي يقتصر دوره على تصدير الكفاءات الطبية نحو أوروبا. هذه الأخيرة تستفيد من رأس المال الرمزي والمعرفي لتونس. ويضيف حمدي أن هذا الواقع يزداد قتامة في ظل غياب إرادة حقيقية لإشراك الشباب والمجتمع المدني في صياغة السياسات العامة، لا سيما تلك المتعلقة بقطاعات استراتيجية مثل الصحة والتعليم والتشغيل. فبدلاً من أن تكون هذه الفئات شريكة فاعلة في رسم ملامح مستقبلها، حسب حمدي، تُهمش ويُقتصر حضورها على أرقام مدرجة في تقارير الهجرة ونسب البطالة.

وحتى موعد نشر المقال، لم يُعرض مشروع قانون "ردّ الجميل للدولة" أمام الجلسة العامة للتصويت، ولم يُسحب رسمياً من النقاش التشريعي. ومع ذلك، يواصل عدد من النواب من بينهم النائبة فاطمة المسدي التمسك بالمشروع. وقد كتبت المسدي منشوراً في فيسبوك أكدت فيه أن المقترح لايزال قائماً، وأن "للحديث بقية". وفي يناير 2025، وجهت النائبة مراسلةً إلى رئاسة الحكومة تطلب فيها توضيحات بشأن تكلفة تكوين الكفاءات وتعليمها، ما اعتبره البعض استخداماً لهذا المشروع أداة ضغط على المجتمع والنخب العلمية.


لا تقتصر الانتقادات على مضمون مشروع القانون أو تفرد رئاسة الجمهورية بالتشريع، بل تشمل أيضاً السياق الإداري الذي يحيط به. إذ يرى الطبيب بولبابة مخلوف أن الكفاءات الطبية الشابة تُحاصر داخل منظومة حكومية متعثرة تتسم بالبطء والتعقيد، في ظل سياسة مماطلة تنتهجها وزارة الصحة تجاه مطالب الأطباء. هذا الواقع يعيق اندماجهم المهني ويقوّض قدرتهم على الإبداع والعطاء داخل القطاع العمومي. مؤكداً أن هذا الواقع يفاقم مشاعر الإحباط داخل القطاع، ويجعل من الإجراءات القسرية، مثل محاولة إلزام الأطباء بالعمل عشر سنوات في القطاع العام، خطوات غير مجدية وغير قابلة للاستمرار.

ويوضح مخلوف أن هذا النوع من الإجراءات لا يعالج جذور الأزمة، بل يُفرغ مهنة الطب من بعدها الإنساني، حين يُختزل دور الطبيب في مجرد أداء واجب مفروض عليه، لا مهمة نابعة من قناعة ورسالة. ذلك يخلق، حسب تعبيره، شعوراً لدى الطبيب وكأنه "يقضي عقوبة سجنية" ينتظر فقط انتهاء مدتها ليغادر خارج البلاد.

لذا يؤكد مخلوف أن تجاوز الأزمة لا يكون عبر الإجراءات القسرية، بل بتبني بدائل أنجع تُحفّز ولا تُكره. ويدعو في هذا السياق إلى تنظيم القطاع الخاص عبر فرض شروط واضحة لفتح العيادات، بما يحد من الفوضى ويضمن تكافؤ الفرص. ويقترح ربط أجور العاملين في القطاع العام بمعايير أداء موضوعية، مثل عدد العمليات أو الاستشارات، بما يكرّس عدالة مهنية حقيقية، ويعزز الاستقرار الوظيفي ويُعيد الثقة إلى الأطباء في مؤسساتهم.

وإذا كان التحفيز المادي والمعنوي يُعد أحد مفاتيح إصلاح المنظومة الصحية، فإن محاربة الفساد تمثل مفتاحاً آخر لا يقل أهمية. فبحسب الطبيب مخلوف، تشهد عدد من المستشفيات العمومية انتشاراً ممنهجاً للفساد، يمتد من الاستقبال إلى الإدارة ويشمل أحياناً بعض رؤساء الأقسام، ما يكرّس الإحباط ويدفع بأصحاب الكفاءات نحو الهجرة. ويرى أن التصدي لهذا الوضع يمرّ بالضرورة عبر تحسين أجور الطواقم الطبية وتوفير بيئة عمل تليق بمكانتهم، مع تقديم حوافز واقعية من شأنها تشجيع الأطباء الشبان على البقاء والمساهمة في إصلاح القطاع.


هشاشة القطاع الصحي في تونس لا تقتصر على الأطباء الممارسين فقط، بل تمتد لتشمل فئات واسعة من المواطنين المهمّشين الذين يعانون من ضعف التغطية الصحية أو انعدامها، مثل النساء العاملات في القطاع الفلاحي والمهاجرين والعاملين في القطاعات الصغيرة غير المرخصة كالباعة المتجولين ونحوهم. هؤلاء يُحرَمون من الحق في الرعاية الصحية ما يؤدي إلى تأخرهم في طلب العلاج، ويُفاقم من تعقيد الحالات المرضية ويُضعف فعالية التدخل الطبي. وفي هذا السياق، يشير مخلوف إلى أن عدداً من زملائه يبدون استعدادهم للعودة إلى تونس، لكنهم يربطون ذلك بتحسين ظروف العمل ومراجعة منظومة الأجور وتوسيع التغطية الاجتماعية لتشمل جميع الفئات دون تمييز.

وانطلاقاً من أن القطاع الصحي العام لا يمكن أن يصلح بمعزل عن تنظيم القطاع الخاص، يرى الطبيب مخلوف ضرورة فرض ضريبة استثنائية على شركات التأمين والمصحات الخاصة التي تحقق أرباحاً طائلة ولا تساهم في دعم المرفق العمومي. ويُوضح أن "توجيه جزء من هذه الأرباح نحو تمويل المستشفيات العمومية يمكن أن يُساهم في تقليص الفوارق وتحسين جودة الخدمات الصحية".

إلا أنه لا يُخفي في المقابل تخوّفه من نفوذ تكتلات التأمين التي تضغط، بحسب تعبيره، بشدة لعرقلة مثل هذه المبادرات، وتسعى إلى تمرير قوانين تُفصّل على مقاس مصالحها، على حساب المصلحة العامة والمنظومة الصحية كاملة.


في خضم تفاقم أزمة الكفاءات وهجرة الأطباء خارج البلاد، تتكشّف صورة قاتمة للقطاع الصحي العمومي في تونس، تعكس تراكمات عقود من الإهمال والسياسات الارتجالية والفساد المؤسسي. فالأطباء اليوم يواجهون واقعاً صعباً يتجلى في أجور زهيدة وتجهيزات متهالكة وميزانيات لا تفي حتى بأبسط متطلبات البحث العلمي الجاد.

وفي المقابل، لم يعد القطاع الخاص يخفي طابعه الربحي. فالخدمة تُقاس بقدرة المريض على الدفع، لا بحاجته إلى العلاج. وبين هذا وذاك، تتردّد شعارات شعبوية تروّج للقانون حلاً سحرياً لأزمة معقدة ومتجذّرة، ويُقترح به منع الأطباء الجدد من الهجرة إلا بعد استكمال عشر سنوات في تونس بعد التخرج خدمةً لتونس. في حين أن الإصلاح الفعلي قد يمرّ عبر إرادة سياسية صادقة واستثمار فعلي في الإنسان والمرفق العمومي.

اشترك في نشرتنا البريدية