في مصر أكثر من أربعين فناراً منتشراً على سواحل البحرَين، الأحمر والمتوسط. منها فنار الإسكندرية القديم الذي لا يزال الأثريون يبحثون عن بقاياه. فالفنار، الذي كان يقع على جزيرة فاروس محلّ قلعة قايتباي الحالية وعُدّ من عجائب الدنيا السبع، انهدم على مدى سنوات. فجاءت سنة 1100 وليس باقياً منه إلا طابقه السفليّ المربّع الذي بنُي فوقه مسجد. ثم قضى زلزال سنة 1323 على آخره. واستخدمت أنقاض الفنار في العصر المملوكي لبناء قلعة قايتباي. وما زالت البعثات الأثرية المتلاحقة إلى اليوم تبحث عن بقاياه تحت الماء، وآخرها بعثة مصرية أجنبية مشتركة أنهت أعمالها في نوفمبر 2024.
الاهتمام بالفنار الغارق يتزامن مع إهمال الفنارات الأثرية القائمة، والذي أدّى لخروج بعضها عن الخدمة واقتراب خروج باقيها. على رأس هذه الأخيرة فنار رأس غارب، أحد فنارات قناة السويس الخمسة التي أنشئت في عصر الخديوي إسماعيل بغرض توجيه وإرشاد السفن المتجهة إلى قناة السويس بعد افتتاحها سنة 1869. يقف فنار رأس غارب اليوم وحيداً، ينتظر مصير الغرق أو التفكيك الذي سبقه إلى الفنارات الأخرى، بفعل التغيّرات المناخية والإهمال الحكومي. في حالة فنار رأس غارب لم يقتصر الإهمال الحكومي على غياب الصيانة، بل امتدّ لضعف الاهتمام بتاريخه، حتى نُسب الفنار إلى المعماري الفرنسي الشهير غوستاف إيفل. وهي نسبة خاطئة كما تكشف رحلة البحث عن تاريخ الفنار.
يشهد فنار رأس غارب على تاريخ المدينة كلّه. لم تكن المدينة قد تأسست عند بنائه سنة 1871. حينئذٍ، لم يكن بالموقع سوى بعض تجمعاتٍ للبدو الرحّل الذين يتنقلون بين مكانٍ وآخَر. أما المدينة فتأسست مع اكتشاف البترول في الموقع سنة 1938. في يونيو 1949، نشرت مجلة "البعثة" الكويتية مقالاً لأحمد اللبّاد، من سكان رأس غارب، يحكي فيه تاريخ تأسيس المدينة. يرى اللبّاد، أن الفضل في التأسيس يعود لشركة آبار الزيوت الإنجليزية المصرية التي كانت تنقّب عن البترول في هذه المنطقة. بعد اكتشافه، أنشأت الشركة البيوتَ وأوصلت إليها الكهرباء والماء. كذلك أنشأت كلَّ سبل الحياة من نادٍ ومسجدٍ ومستشفىً وسينما ومدرسة.
أدت شركة آبار الزيوت الدور الرئيس في تعمير مدينة رأس غارب. تأسست الشركة سنة 1911، وكانت تابعةً لشركة شِلّ الإنجليزية. أُمِّمَت في عهد الرئيس جمال عبد الناصر سنة 1964، وتُعرف اليوم بِاسم شركة النصر للبترول. بحسب اللبّاد، كانت الشركة تعطي أجوراً سخيّةً بغرض جذب الحياة إلى المدينة. فقد وصل أجر العامل سنة 1949 إلى اثني عشر جنيهاً مصرياً، في وقتٍ كان ثمن غرام الذهب من عيار 21 يساوي جنيهاً ونصفه تقريباً. وكانت المدرسة والمستشفى اللتين أسستهما الشركة تقدّمان خدماتهما مجاناً للموظفين. حتى السينما كانت مجانيةً، والإيجار الشهري للمنزل الحديث رمزياً، لا يزيد عن خمسةٍ وثلاثين قرشاً.
يزاحم الفنار البترول في أهميته لرأس غارب. تستقبل المدينة زوارها بنموذجٍ مصغّرٍ للفنار قائمٍ في مدخلها. أما فنار رأس غارب فيقف على رأسٍ بارزٍ من اليابسة ممتدٍّ نحو البحر، ويقع قريباً من منطقةٍ عسكريةٍ تمنع الوصول إليه. لذا يجب التماس أقرب نقطةٍ تسمح بتصويره. وبين الفنار ونموذجه المصغّر شوارع واسعة وبيوت واطئة تتكون من طابقين أو ثلاثةٍ على الأكثر، لا تتمتّع بأيّ طرازٍ مميّز. الميادين صغيرة تزيّنها أعمال فنية متواضعة، من النوع الذي تنشئه الشركات والجهات على عجلٍ بدعوى تجميل المدينة، على أن تخصم تلك التكاليف من ضرائبها. يحمل أحد هذه النصب لافتةً مكتوب عليها "رأس غارب عاصمة البترول مع تحيات حزب المؤتمر"، وهو أحد الأحزاب التي تأسست بعد ثورة 25 يناير 2011.
استحال فنار رأس غارب أثراً بمرور الزمن. في سنة 1987، خرج الفنار من الخدمة بسبب تدهور حالته وبناء فنارٍ بديل. وأعقب خروجَه إطلاق الآثاريين مناشداتٍ لترميمه وتسجيله في عِداد الآثار الإسلامية والقبطية التي تشمل المبانيَ المعمارية ذات الطراز الفريد والمبنية قبل أكثر من مئة عام. ظلّ الفنار مهملاً بلا صيانةٍ حتى عاينته اللجنة الدائمة للآثار الإسلامية والقبطية في مايو 2017. وفي سبتمبر من العام نفسه، وافقت اللجنة على تسجيله. فتبعه إصدار وزارة الآثار قراراً بتسجيل الفنار برقم 80 لسنة 2019.
جدّد قرار تسجيل فنار رأس غارب أثراً بابَ الجدل في مصمّمه. في يناير 2021، شكّك مفتش الآثار بمنطقة البحر الأحمر محمود توني شعبان في نِسبة الفنار إلى غوستاف إيفل. وفي حديثه لجريدة "المصري اليوم"، نَسَبَ شعبان الفنارَ إلى مهندسٍ فرنسيٍّ آخَر يُدعى بركار. وقد استند في ذلك إلى وثائق تعود لسنة 1871 تفيد بموافقة المجلس الخصوصي على صرف مبلغ 97786 فرنكاً للخواجة بركار نظيرَ تركيبِ فنار رأس غارب. بعدها بأيامٍ، ردّ حسام محمود، المهندس بمدينة رأس غارب الذي نشط في حملة مطالبة وزارة الآثار بتسجيل الفنار أثراً. وفي حديثٍ لصحيفة "أخبار اليوم" القومية، قال إن بركار قام فقط بأعمال تركيب الفنار الذي صمّمه غوستاف إيفل.
أوصد باب الجدل رسمياً مع صدور قرار تسجيل فنار رأس غارب أثراً. استغرق التسجيل بعد صدور القرار سنة 2019 خمس سنوات. نشرت بعدها الجريدة الرسمية في 26 مارس 2024 قرار وزير الآثار خالد العناني بتسجيل الفنار في عِداد الآثار الإسلامية والقبطية. استند القرار إلى مذكرةٍ أعدّها المجلس الأعلى للآثار في نوفمبر 2017، نسبت تصميم الفنار إلى غوستاف إيفل. وذلك بناءً على إشارةٍ مدّعاةٍ من علي مبارك، المؤرّخ المصري الذي عاصر تأسيس الفنار، في كتابه "الخطط التوفيقية" الصادر سنة 1886.
على أن الحسم الرسمي لم ينهِ التساؤل عن هوية مصمم فنار رأس غارب. اقتبسَت مذكرة المجلس الأعلى للآثار فقرةً واحدةً من كتاب "الخطط التوفيقية". وتحدّثت عن قرار الحكومة بناءَ الفنارات، وخَلَت من أيّ إشارةٍ لمصمّمها. جاء في الفقرة إنه "لَمّا قَربَ انتهاء أشغال القناة [قناة السويس] والتهيئة لسَير المراكب فيه، أُمعِن النظر في ضرورة تنوير ساحل البحر في نقاطٍ معيّنةٍ من الساحل لتهديَ بنورها السفنَ التي تتردد على القناة. فعُقد لذلك مجلسٌ من العلماء وغيرهم، وحصل امتياز النقط بمعرفة المهندسين من البحّارة وغيرهم، وصدر أمر الخديوي إسماعيل باشا إلى الكومبانية بعمل تلك الفنارات". لم تتضمن المذكرة فضلاً عن هذه الفقرة أيّ إشارةٍ لمصدرٍ تاريخيٍّ يدلّ على مصمّم الفنار.
حاولت بعدها تتبّع استدلال المجلس الأعلى للآثار. تواصلت مع عددٍ من المسؤولين في المجلس للاستفسار عن الدليل الذي استندوا إليه في نسبة فنار رأس غارب إلى غوستاف إيفل. إلّا أن جميع من تواصلت معهم امتنعوا عن التعليق أو الإدلاء بأيّ تصريح. وأوضح بعض المسؤولين أن منشوراً داخلياً أصدرته وزارة الآثار يمنع موظفيها من التعامل مع وسائل الإعلام أو الإدلاء بأيّ تصريحاتٍ. وأنّ مخالفة القرار الوارد بهذا المنشور قد تؤدّي إلى تحويل الموظف إلى التحقيق.
أرسلت رسالةً إلى جمعية أحفاد إيفل تتضمّن سؤالاً واحداً: "هل صمّم غوستاف إيفل فنار رأس غارب في مصر؟". بعد أيامٍ وصلني ردٌّ من معماريٍّ أستونيٍّ يدعى إندريك لاوس، وهو باحث في أكاديمية الفنون الأستونية ومهتمّ بالفنارات القديمة. أخبرني لاوس أنه كان في مصر منذ بضعة أشهرٍ، وذهب إلى رأس غارب خصيصاً لرؤية الفنار ومعاينته عن قرب. وكشف لي سرّ الفنار وأعطاني مفاتيح جديدةً للبحث.
كان غوستاف إيفل من المتقدمين لمسابقة فنارات قناة السويس، بَيْد أن تصميمَه لَم يفُز. بحسب الباحث الأستوني، قدّم إيفل تصميماً لفنارٍ حديديٍّ مثمَّن الشكل يرتكز على ثماني دعاماتٍ حديديّة. لا تتوفّر رسومٌ للمشروع الذي تقدّم به إيفل. وأغلب الظنّ أن التصميم كان مشابهاً للفنار الذي بناه لاحقاً في فالاساريت بفنلندا سنة 1885. خسر غوستاف إيفل المسابقة لصالح مهندسٍ فرنسيٍّ آخَر، هو لويس إدوار لوكوانتر. ولوكوانتر هو كبير مهندسي الشركة الجديدة للحدادة وأحواض السفن في البحر المتوسط، وفقاً لموقع الأرشيفات الوطنية لعالم العمل. وهي مؤسسة فرنسية تسعى إلى جمع الوثائق الاقتصادية والمهنية وتصنيفها وأرشفتها. فالشركة فرنسية تأسست سنة 1856 على يد أرماند بيهيك.
يعبّر تصميم لوكوانتر، الذي سجّلت الشركة ملكيّته الفكرية سنة 1868، عن الابتكارات الهندسية الفرنسية في القرن التاسع عشر. يتكون التصميم من عمودٍ مركزيٍّ يحتوي على سلالم الصعود التي تؤدّي إلى غرفة الفنار. وهو مثبّتٌ بثلاث دعاماتٍ طائرةٍ (بالتعبير الهندسي) تتحمّل الجرّ والضغط. تكمن عبقرية تصميم لوكوانتر في أن الفنار سهل التركيب ويمكن نصبه على الأراضي غير المستقرة أيضاً. وإذا تعرّض لمَيلٍ لأيّ سببٍ، فيَسهل بوسائل بسيطةٍ ضبطه وتعديله وإعادته إلى أصله. وذلك خلافاً للفنارات الخرسانية التي لا يمكن تعديلها والتي تتميز أيضاً بثقل وزنها، وتكون بالتالي أكثر عرضةً لتخلخل أساساتها. لذا فالتصميم مناسب جدّاً لفنارٍ مبنيٍّ على شاطئٍ رمليٍّ يجعله معرّضاً دائماً لحدوث مَيل. فيمكن ضبطه على الوضع العمودي بيُسرٍ حين الضرورة.
نفّذ لوكوانتر أربع نسخٍ من تصميمه للفنار الحديدي في ورش الشركة في مدينة مارسيليا بفرنسا. وأرسلت شركة قناة السويس مهندساً من طرفها إلى مارسيليا ليتابع العمل. وجمّعت قطع الفنارات في كلٍّ من رشيد والبرلس ودمياط.
بدأ فنار دمياط عمله في مارس 1870، ويسمّى هذا الفنار أحياناً فنارَ عزبة البرج. وفي أبريل من العام نفسه، دخل فنارا رشيد والبرلس الخدمة. وبعدها في سنة 1871، نفّذ لوكوانتر فنار رأس غارب. وهو نسخةٌ مطابقةٌ للفنارات الثلاثة في دمياط ورشيد والبرلس.

لم يغفل علي باشا مبارك الوصفَ والتأريخَ للفنارات في كتابه "الخطط التوفيقية الجديدة". فقال: "لما قرب انتهاء أشغال القنال وتهيؤه لسير المراكب فيه أمعن النظر في ضرورة تنوير ساحل البحر فيما بين الإسكندرية وبورت سعيد فنارات في نقط معينة من الساحل". وأضاف: "وقد جعل ارتفاع طبلية الفنارات الأربعة العليا ثمانيةً وأربعين متراً على استواءٍ واحدٍ في الجميع. وبين هذا الارتفاع وبين السطح الأعلى لقبّة آلات التنوير نحو ستة أمتارٍ أو سبعة. ونور كلّ واحدٍ منها يُرى من مسافة عشرين ميلاً إنجليزياً في البحر". وذكر أيضاً: "رسا فنار رشيد والبرلس ودمياط على كومبانية [شركة] فرنسا، ورسا فنار بورت سعيد على كومبانيةٍ أخرى".
ثم وصف علي باشا مبارك الفرق بين الفنارات التي جُعِل لكلٍّ منها نمط ضوئيٌ مختلف للتمييز بينها. ففنار رشيد "آلاته متحركة بدورانٍ بطيءٍ وأنواره متنوعة إلى أبيض وأحمر. تتغير الحمرة إلى البياض وعكسه بعد كلّ عشر ثوان".

وفنار البرلس "ثابت الآلات بنورٍ واحدٍ ويضيء في خمسة أثمان الأفق". أما فنار دمياط فآلاته متحركة و"نوره أبيض غير ثابتٍ بل يظهر ويختفي بعد كلّ دقيقة". فنار بورت سعيد "مطربٌ [كتِبَت هكذا، ولعلّه يقصد مضطرب] مرتعشٌ كهربائيٌ له بعد كلّ ثلاث ثوانٍ غمضةٌ وانفتاح". لم يذكر علي مبارك فنار رأس غارب الذي بُني لاحقاً.
الوصف الذي عرضه علي باشا مبارك، سواءً للقياسات أو الأنماط الضوئية، كان دقيقاً ويتفق مع ما أوردته جريدة "أخبار البناء والهندسة" في عددها الصادر يوم 17 سبتمبر 1869. وهي جريدةٌ بريطانيةٌ مهتمةٌ بأعمال البناء والهندسة كانت تصدر في لندن بين عامَي 1857 و1926. وقد نشرت في العدد المذكور التصميمات التي وضعت للفنارات الفائزة في المسابقة.

إبّان عمليات الإنشاء الأولى، بُني فنارٌ مؤقتٌ من الخشب. أما الفنار الذي صمَّمه الفرنسي كونييه فكان الثانيَ في تاريخ المدينة، واستمرّ في العمل حتى سنة 1997. بعدها تلاشت الأضواء التي كانت تنبعث منه. والتوسعات التي شهدتها بورسعيد حجبت الوصول إلى السفن في عرض البحر، كما حالَ بناء الأبراج السكنية دون المبنى الأثري الفريد. فوقفت الأبراج حاجزاً في الاتجاهات جميعها بين أنوار الفنار والسفن. ما دفع المسؤولين عن السلامة البحرية إلى استبدال فنارٍ آخَر به على الشاطئ.
سُجّل فنار بورسعيد في عِداد الآثار الإسلامية والقبطية بقرار وزارة السياحة والآثار رقم 392 لسنة 2012 المنشور في يونيو 2013. ويسعى محافظ بورسعيد الحالي إلى طرح الفنار أمام المستثمرين لتحويله مشروعاً سياحياً. ويسعى كذلك إلى بناء فندقٍ على الجزء الخالي من الأرض المقام عليها الفنار، وفقاً لتصريحٍ نشر في جريدة "المال" بتاريخ 15 يناير 2025.
لم يختلف حال الفنارات الحديدية عن الفنار الخرساني. فلم يتبقَّ من فنارات قناة السويس الأربعة المتماثلة اليوم سوى فنارَيْ رأس غارب والبرلس. وقد توقّف فنار رأس غارب عن العمل سنة 1987، فيما توقّف البرلس سنة 1992.
ومع تسجيل الفنارين في عِداد الآثار الإسلامية والقبطية، البرلس في يونيو 2000 ورأس غارب قبل بضعة أشهرٍ، لم تترتب على ذلك أيّ عمليات ترميمٍ تضمن الحفاظ عليهما من التآكل والغرق والسرقة، كما حدث مع فنارَي رشيد ودمياط (عزبة البرج).
زحف البحر تدريجياً على فنار رشيد حتى غرق سنة 1982، مع أنه نُقل جنوباً ثلاث مرّاتٍ لتفادي ذلك. وحسب روايات أهالي رشيد فقد سُرقت بعض أجزائه من تحت الماء، وهو ما تكرّر مع فنار دمياط (عزبة البرج). فقد قال أهالي المحافظة إن أحد المحافظين السابقين أمر بتفكيكه وبيعه خردةً في تسعينيات القرن العشرين.
عجيبٌ أن يرتبط اسم غوستاف إيفل بتصميم فنارات قناة السويس بمحض مشاركته في المسابقة، بينما يختفي اسم المصمّم الأصلي، فلا يكاد يعرفه أحد. وهكذا يمكن للأسماء اللامعة أن تطمس جهود من لم يحالفهم الحظّ بالشهرة نفسها. وبينما يتألق برج إيفل في سماء باريس، تقف فنارات لوكوانتر متآكلةً مهمَلةً في انتظار مصيرٍ مجهول.
