رائحة الأزمات الدينية والثقافية والسياسية في الطعام الليبي

أصبح الطعام في ليبيا رمزاً لصراعاتٍ على الهوية الثقافية والسياسية والدينية للبلد، وكان حاضراً رمزاً للحرب الأهلية.

Share
رائحة الأزمات الدينية والثقافية والسياسية في الطعام الليبي
يتحوّل الطعام في ليبيا من مسألةٍ عضوية إلى مسألةٍ اجتماعية وسياسية | تصميم خاص بالفراتس

كنتُ أتطلّع في خريف سنة 2017 إلى شاشة الحاسوب وأتصفح موقع فيسبوك عندما استوقفني منشور صديقةٍ لي تتحدّث فيه عن أكل اللحوم. من عادتي أن أتجاهل مثل هذه المناشير، لكنني أجبتها بالقول: "أجدادنا كانوا دائماً آكلي لحوم". تركت حاسوبي وذهبت لأشعلَ سيجارة. وعندما عدت، وجدت تعليقاً لإعلاميةٍ ليبيةٍ نباتيةٍ من الأمازيغ تهاجمني بقولها: "قل أجدادكَ الهمجيين، أجدادي كانوا يأكلون الخضروات قبل غزوكم لنا". سوء الفهم هذا بين ما كنت أقصده بأجدادنا "الصيّادين" الذين يمتد تاريخهم عشرات الآلاف من السنين، وبين ما قصدَتْه هي من أجدادٍ يعود تاريخهم إلى ألفٍ وأربعمئة عامٍ، جعلني أدخل معها معركةً أحاول فيها توضيح وجهة نظري. ومع أنّ السيدة لم تكن تعرفني ولا تعرف إن كنت عربياً أم أمازيغياً، وإن كان أصلي العرقي هذا يهمّني أم لا، إلا أنّها ظلت تهاجمني حتى انسحبتُ من الحديث.

أعادتني تلك المحادثة إلى أخرى حدثتْ أيضاً على الإنترنت. حينها كنت في السابعة عشر ومغروماً ببرامج المحادثات، مثل "نيمبز" الذي غزا هواتف جيلنا المحمولة منذ سنة 2008. اكتشفتُ أحد تلك البرامج وبدأت أتعرّف إلى الناس، حتى وجدت نفسي طرفاً في معركةٍ كلامية واجهت فيها أبناء بلدةٍ واحدةٍ يرجعون بأصلهم إلى قبيلة وِرفلّة شبه البدويّة. كنت أنا ابن ريف العاصمة الليبية. وهكذا دارت تلك المعركة يسخرونَ فيها من مدنيّتي، مع أنني لم أكن وقتها أعلم بوجود هذا الفرق بين الحضر والبدو. غادرتْ جلّ سخرياتهم ذاكرتي اليوم، لكنَّ مقطعاً شعرياً واحداً مازلت أردده دوماً عندما أذكر ورفلّة. كان المقطع يقول: "اتْريس تاكِل في الضَّب، مِشْ بوخَة وعصير عَنَب". والبوخة هي خمرٌ تُصنّع في ليبيا وتونس، تشبه مشروب العَرَق الكحولي عند الشوام، ويقال إنّ أصلها يهودي. أراد الورفليّون من ذلك الكلام أن يميّزوا أنفسهم. هم البدويون الرجال الحقيقيون أو "التريس" كما يقال في ليبيا، عنّي أنا ابن المدينة الطري الذي يعيش في رغد الحياة ويشرب عصير العنب.

وبأثر الحادثتيْن ما عدتُ أنظر إلى الطعام على أنّه مسألة عضوية خالصة تخصّ أعضاء الجسد، كالفم واللسان والمعدة. فصرت أبحث وأقرأ وألاحظ الحديث الذي يدور عنه، وكيف يتحوّل الطعام في ليبيا من مسألةٍ عضوية إلى مسألةٍ اجتماعية وسياسية. وكأيّ شيءٍ يمكن أن يعكس واقع المجتمع، وجدت أنّ للطعام حروبَه في ليبيا. فحتّى اليوم مازال أنصار الزعيم الراحل معمّر القذافي يتندّرون على فشل الثورة الليبية التي أطاحت به سنة 2011، بمقارنة سعر الخبز قبل ذلك العام وسعره اليوم. وحتى اليوم لاتزال الذاكرة الشعبية تحفظ قصصَ حروبٍ قبليّة يُشاع أنّها حدثتْ بسبب سوء فهمٍ في آداب الضيافة. وليس بعيداً عنّا الحرب التي شنّها خليفة حفتر وقوّاته، التي يسمّيها "الجيش الوطني الليبي"، على العاصمة الليبية طرابلس سنة 2019، واستُخدم فيها الطعام سلاحاً ثقافياً بين أبناء مدينة طرابلس الذين يأكلون معجنات "البريوش" (أو "الكرواسان" كما يعرفه العالم) وأبناء مدينة بنغازي الذين يأكلون شطائر الفاصولياء صباحاً.


تعود المقولة "تريس تاكل في الضبّ" إلى قصيدةٍ للشاعر الشعبي نور الدين العْزومي، وهو من شعراء قبيلة المقارحة جنوب ليبيا، أي أنّه شاعرٌ بدوي مخلص لبداوته. يظهر هذا الإخلاص والتباهي بالانتماء إلى البدو في جلِّ قصائد العزومي. فهو في معرض دفاعه عن العقيد معمّر القذافي وعنفوانه الثوري ضد الرئيس المصري أنور السادات، عند اشتعال الأزمة بين ليبيا ومصر منذ نهاية السبعينيات، قال: "السادات ذيب خَشْ [دَخَل] الغابة ومعمّر سلوقي مكشرات أنيابه". أي أنه شبّه السادات بذئبٍ أمام كلب سلوقي شرس. وقد أشيع أنّ العزومي سُجن فترةً بسبب تشبيهه القذافي بكلب سلوقي. غير أن الشاعر البدوي يستخدم مفرادت بيئته، فالسلوقي بالنسبة إليه أشرف من الذئب. وقصيدته، التي يبدأ فيها بالقول "تريس اللي تاكل في الضب"، لا تختلف عن نهجه في التشبيه. وهي قصيدة مشهورة في ليبيا حتى أصبحت جزءاً من الثقافة الشعبية ومثلاً، ويقول فيها: 

تريس اللي تاكل في الضَّبْ

اعْوِينَه في كُمَّه مَصْرور

موش ببسي ويوغا وعنب

ووجهه حَبْ

وشعره كيف أخته مظفور

ينتقل العزومي في قصيدته من المفاخرة بالبداوة إلى هجاء المدينة. فالقصيدة ترسم شخصية الفتى البدوي الصلب الذي يأكل من لحم الضب، وهو من سحالي الصحراء. و"عوينه في كمه مصرور" بمعنى أنّه متأهب للعمل العضلي. هذا الفتى ليس مثل فتيان المدينة الذين يشربون "ببسي" وعصير العنب و"يوغا"، وهي علبة عصيرٍ صغيرة جاء اسمها من علامة تجارية إيطالية. ويمتلئ وجه فتيان المدينة بالبثور ويطوّلون شعورهم ويظفرونها مثل الإناث.

لا يتوقف الشاعر عند هذا الهجوم على المدينة، بل يتحسّر في قصيدةٍ أخرى مناجياً ناقةً هجرها أصحابها بالقول:

يا ما لاه [يا حسرتاه] يا بنت الإبل سيادك وين عدوا [ذهبوا] للعمل

يا ما لاه يا بن الحنينة [إشارة للناقة] سيادك وين عدوا للمدينة

بديو شبح زولك كارهينه ذاقوا الليم [البرتقال] وايكال الفجل

في منظور العزومي فإنَّ تركَ الناقة، ويصفه في البيت أعلاه بكره وجهها، خيانةٌ للبداوة وطريقة عيشها من أجل فتات الدنيا مثل أكل "الليم"، أي البرتقال، والفجل. وليست قصائد العزومي بنادرةٍ في شعراء البداوة وانتقادهم لطرائق أكل أهل الحضر. فواحدة من أهم المقاطع الشعرية الشهيرة في غرب ليبيا وجنوب تونس تقول: "ناديت يا حمد هيه، فات الدكاكين غادي [هناك]. ومن ذاق خبز المدينة، ما عاد يآلف ابْادي [أي لا يألف البداوة]". وهذه القصيدة جاءت بأوجه عدّة ولها قصص عن أصلها كثيرة. مثل ما يشرحه الكاتب محمد بالطيّب في مقالته بمجلّة الفِراتس "من الرمال إلى الطابونة: حكايات الطعام التونسي من الاستعمار إلى الاستقلال". فينقل قصّةً أخرى عن ارتباط هذا البيت ببدايات تشكّل مدينة تطاوين، جنوب تونس، أيام الاستعمار الفرنسي.

ما يهمّ في المقطع الشعري هو هذا الربط الدائم بين أكل المدينة السهل الرطب والخوف من انحسار البداوة. هذا الربط لا يأتي هجاءً أو رثاء فقط، بل أحياناً في شعرٍ فكاهي. ومن قبيل ذلك أشعارٌ اشتهر بها الشاعر الشعبي بوبَكْر رابَح من إجدابيا شرق ليبيا، يروي فيها قصصاً فكاهيةً يلعب فيها على ثنائية ابن المدينة وابن البادية. يسرد الشاعر في إحدى قصائده قصة شاب من المدينة "يفطر غير علي زبادي، يشرب غير في جُهينة". أي أنه لا يفطر إلا على اللبن الزبادي ولا يشرب إلا حليب العلب "جُهينة"، وهو منتج مصري. وبطل بوبكر المَدني "يلبس غير من الفترينة [واجهة المحلات] ما يلبس في لبس بوادي"، أي يشتري الملابس العصرية الجاهزة ولا يرتدي مثل البدو. وهكذا يستمر الشاعر في تفصيل أمور حياة الحَضريّ المدنية ومعاشه العصري. فهو لا يخرج من المدينة ولا "يخبر شعبة [شعاب] ولا وادي"، حتى يدخل الشخصية المناقضة له التي عادةً ما تفعل عكس ما تفعله شخصية ابن المدينة. سواءً في الملبس أو الطعام أو طريقة الكلام أو حتى نبرة الصوت، التي عادةً ما تكون غليظة.

ومع أنّ البداوة التقليدية قد اندثرت منذ زمنٍ في ليبيا، إلا أنّ هذه الثنائية لا تتوقف عن التوالد. فكما ينتقد البدو أبناء المدينة، يفعل الأخيرون نفس الشيء. وأهم مثالٍ عليهم الإعلامي محمد امحيسن. ظهر امحيسن في بدايات الثورة الليبية سنة 2011 على شاشات القنوات الليبية معارضاً القذافي ونظامَه. لكن علا نجمه في 2024 أكثر عندما بدأ ينشر مقاطع مصوّرةً على فيسبوك في نقد "الدواخل"، أي أبناء المدن والقرى في دواخل مدينة طرابلس، لاسيما أولئك "الدواخل" الذين صاروا يسكنون العاصمة. أصبح محمد يهاجم طريقةَ عيش الدواخل وأسلوبَ كلامهم و"همجيّتهم"، بل يرى أنّهم أحد أهمّ أسباب خراب البلاد. ركّز الرجل في مقاطع مصورة كثيرة على مهاجمة طرق أكلهم، التي يراها غوغائية وبربرية ولا تحترم آداب الطعام الراقية. بل يهاجمهم لأنّهم يشتهون لحم الإبل والخروف، مع أنّ جلّ الليبيين يأكلون هذه اللحوم الحمراء.

يختصر امحيسن مشاعر كثير من الليبيين. وهذا يتضح من شهرة هذه المقاطع التي ينشرها وتعداد المعلّقين ومن يعيدون نشرَ كلامه، حتى أنّه صار شخصيةً مشهورةً أيضاً في الجنوب التونسي. ليس امحيسن وحده من يتحدث بهذه الطريقة في إظهار ثنائية الدواخل وطرابلس المدينة. فمنذ بداية تشكّل الدولة المركزية الحديثة، أصبحت العاصمة الليبية وجهةً لكلّ أبناء القرى والمدن الداخلية في البلد في خمسينيات القرن الماضي، حتى أصبح هناك رفضٌ شعبي لما ظنّه ناس "بَدونةً للمدينة". انتشرت في طرابلس نكات كثيرة عن الدواخل ومدنهم وأسلوب حياتهم "المتخلف" الذي لا يليق بالعاصمة. وأصبح أبناء مدينة ترهونة، جنوب طرابلس، الذين شكّلوا أكبر عددٍ من النازحين موضعَ السخرية والنكتة الطرابلسية التي تصوّرهم أغبياء أو جهلة لا يعرفون المدينة ويأتونها بطريقة عيشهم وأكلهم القادمة من عصورٍ سحيقة. فلم تكن النكات الطرابلسية عن أبناء ترهونة شائعة قبل تلك الهجرة الكبرى في الخمسينيات والستينيات.

ينطلق امحيسن ومناصروه وقبله الشعراء البدو، أمثال بوبكر رابح، من فرضية أنّ البداوة ما زالت حاضرة في ليبيا، وأنّها مختلفة في عيشها ومأكلها ومشربها عن المدينة. تمثّل هذه الفرضية سردية الصراع على الهويّة الليبية الذي اشتدَّ عند سقوط نظام العقيد معمّر القذافي سنة 2011 والانقسام السياسي والمجتمعي الذي حصل بعد ذلك.

كان القذافي قبل ذلك قد حدد هويةً واحدةً للمجتمع الليبي حتى طُمست ثقافات الأقليات الثقافية والاجتماعية. فكما يولِّد الضغط الانفجار، ولَّدتْ الصورة الوحيدة الذي أرادها العقيد للمجتمع هوياتٍ قد تكون متنافرة في أحيانٍ عدة، وقد تصل إلى درجة التناحر. أصبح الليبيون يعيشون في حالة "ردّ الفعل" على سياسات دولة الجماهيرية التي انبثقت من أطروحات "الكتاب الأخضر" لمعمّر القذافي، والمنشور على دفعاتٍ بدءاً من سنة 1975. اشتمل الكتاب على ثلاث أطروحات يشرح فيها نظام "سلطة الشعب" الذي بشّر به: جانبٌ سياسي وجانبٌ اقتصادي وثالثٌ اجتماعي. وفي هذه الأطروحة الاجتماعية يخلص القذافي إلى ضرورة أن يتشكّل النظام الجماهيري من قوميّة تجمع المجتمع، ولا يفرد إلا فصلاً صغيراً من ورقتيْن للأقليات لا يأتي به بجديد. فلا يعترف بالأقليات اعترافاً فعلياً، بل يعرّف معنى الأقلية ومن ثم يقول: "وهذه الأقلية لها حقوقها الاجتماعية الذاتية [. . .] ومن الجور المساس بتلك الحقوق من طرف أي أغلبية [. . .] أما مشكلاتها السياسية والاقتصادية فلا تحلّ إلا ضمن المجتمع الجماهيري الذي يجب أن تكون بيد جماهيره السلطة والثروة والسلاح".

أَنتجت سياسات العقيد غضباً عند قطاعٍ واسعٍ من الأمازيغ الليبيين. وقد قمعَ العقيد ونظامه جلَّ مطالبهم بالاعتراف بهم مكوناً ثقافياً في البلاد. بل سمَح للنخبة العربية المثقفة بالانتقاص من شأن الأمازيغ وأصلهم، فحاولوا ردّهم إلى أصلٍ عربي. كما فعل علي فهمي خشيم، أستاذ اللسانيات، بنشره لكتبٍ عدّة مثل "سفر العرب الأمازيغ" سنة 1995، يرجع فيها الثقافة الأمازيغية إلى العرب اليمانيّة.

هذا المدّ العروبي كان له نتاجه العكسي في ثورة فبراير بعد أن أصبحت القضية الأمازيغية أساسيةً في ليبيا الجديدة. وقد أنتجت المرحلة أصواتاً أمازيغيةً متطرّفة نسبياً في طرحها، ودخلت مثلما يفعل "البدو" و"الحضر" مرحلة ردّ الفعل. فصار الأمازيغ يهاجمون الثقافة العربية أو يستخفّون بها، مثلما حدث معي في القصّة التي ذكرتها أوّلَ المقالة. هم أيضاً وقعوا في ثنائية "الأمازيغ" و"العرب"، وأصبح هذا الصراع على الهويّة والثقافة الليبية يشمل كلّ مناحي الحياة حتى الطعام نفسه. فلم يعد الكسكس ولا البازين –الوجبة الأشهر في الغرب الليبي والتي تنتج من دقيق الشعير– ليبيين، بل أمازيغيين قبل كل شيء. بل تهجّمَ هؤلاء المثقفون على لفظة "عَرْبي"، كما تُنطق في اللهجة الليبية بمعنى "المحَلّي". وعادةً ما تقترن بأشياء كثيرة في الثقافة الليبية والمغاربية عموماً. مثلَ "الدَحِي العَرْبي" أي البيْض العربي، والمقصود به البيض المنتج محلياً، و"الزيت العَرْبي" أي زيت الزيتون المحلي الصنع. أصبحت هذه الكلمة الناتجة من الثقافة الشعبيّة مثاراً للجدل، مع أنّها وُلدت في الشمال الإفريقي قبل حتى نشوء فكرة القومية العربية. عندما زادَ حجم التبادل التجاري بين بلدان المغرب مع أوروبا في أوائل القرن التاسع عشر.


يبدو جدل ارتباط الطعام بصراع الهوية في ليبيا أمراً هيناً، إذا ما قورنتْ معه رمزية الطعام والشراب السياسية أثناء عهد القذافي. حتى اليوم لاتزال هناك مقارناتٌ دائمة بين عقود الجماهيرية الأربعة منذ 1977 وحتى 2011 وعصر ما بعد ثورة فبراير. يستحضر "الخضر"، الأوفياء لنظام سلطة الشعب، الأزمة الاقتصادية التي مرّت بها ليبيا منذ 2011. ويعيدون انتقاد ما يسمّونه "نكبة فبراير" بالمقارنة بين الأوضاع الاقتصادية في عهد الجماهيرية واليوم، ويستخدمون الخبز رمزاً لهذه المقارنة. فقد كان سعر خمسة أرغفة خبزٍ ربع دينارٍ فقط (بمعايير ذاك الزمان تقريباً ربع دولار). أمّا اليوم، فقد أصبح سعر ثلاثة أرغفة خبز يساوي ديناراً واحداً (بمعايير اليوم أقلّ من ربع دولار).

وإذا أخذنا الدولار معياراً، نجد أنّ سعر الخبز الليبي أصبح الأرخص مع أن المواطن الليبي لم يتمتع بتحسنٍّ ملحوظٍ في زيادة الرواتب منذ 2011. ولعلّه تبسيطٌ لروايتهم لغاية تثبيت وجهة نظرهم، لا يحتسب الخضر معدّل التضخم العالمي وتكلفة الاستيراد، إذ كانت ليبيا ومازالت تستورد 85 بالمئة مما تحتاجه من الدقيق. يستحضر الخضر خطاب سيف الإسلام القذافي في فبراير 2011 عندما خرج على شاشة الجماهيرية، القناة الرسمية وقتَها، ليحذّر الليبيين من الحرب الأهلية والاحتلال الأجنبي وتدهور الأوضاع الاقتصادية. أصبح ذلك الخطاب نبوءةً لليبيين. فقد قال فيه: "الخبز سيصبح بعشرة دنانير". ومع أنّ النبوءة لم تتحقق كلياً حتى هذه اللحظة، إلا أنّ ما حدث بعدها، من حربٍ أهلية وأزماتٍ اقتصادية وسياسية وانقسامٍ، جعل ليبيين كثر يحنّون إلى عهد الجماهيرية. بالأحرى إلى السنوات العشر الأخيرة من ذلك العهد.

بشّر العقيد معمّر القذافي بعصر الجماهير في السبعينيات. أراد أن يخلق جنة الله على الأرض وأن يكون النظام الجماهيري أكثر الأنظمة السياسية والاقتصادية مثالية. حتى أنّه سَمّى ما جاء به في الكتاب الأخضر "النظرية العالمية الثالثة" بعد الرأسمالية والشيوعية. تتجلّى نظرة النظرية العالمية الثالثة في الأطروحة الاقتصادية أكثر من الوجهَين الاجتماعي والسياسي. فقد رأى القذافي أنّ الشعوب لاتزال مستَعمرة ومستَعبدة مادامت تستورد طعامها من الخارج. ويقول في كتابه الأخضر: "لا حرية لشعبٍ يأكل من وراء حدوده".

ولهذا الشعار سياقاته التاريخية. فقد كان الشعب الليبي يعيش على التجارة والزراعة والرعي، لاسيما غرب البلاد، وجلّه تحت خطّ الفقر في الخمسينيات. اعتمدت المملكة الليبية بين سنتَي 1951 و1969 على المساعدات الدولية، خاصةً من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا لقاء إنشاء الدولتيْن قواعدَ عسكريةً في البلد. ولم ينقِذ الليبيين من الفقر سوى اكتشاف النفط وبدء تصديره سنة 1963. لكن مع نشوء اقتصاد النفط بدأت الدولة تقلل اهتمامَها بالقطاعات الفرعية، مثل الزراعة والرعي والصيد البحري، واهتمتْ بإنتاج النفط والغاز. وتظهر الأرقام التي يردها كتاب "تاريخ ليبيا من نهاية القرن التاسع عشر حتى عام 1969"، المنشور سنة 1999 للروسي نيكولاي بروشين، تراجعاً كبيراً في حجم الصادرات الليبية من المحاصيل المعدّة للتصدير. كان من بين تل المحاصيل عشبة الحَلْفاء التي كانت أهمّ النباتات ولها استعمالات متعددة، منها طبية، وكانت ليبيا تصدّرها منذ القرن التاسع عشر. فنزل معدل تصديرها خلال الستينيات أربع مرات، وأصبح الليبيون يستوردون جلّ ما يأكلون من الخارج.

أراد العقيد إعادة الاعتبار إلى قطاعَي الإنتاج والزراعة برفض المستورد من الطعام. وحتى يفعل ذلك، كان عليه القضاء على التجارة لأنّ التجّار سيملكون دوماً ثقلاً سياسياً يسمح لهم بمعارضة الدولة. وبما أنّ النظام الجماهيري هو نظام الشعب، فلا يمكن أن توجد فيه معارضة. وهكذا سيطرت الدولة الليبية منذ السبعينيات على قطاعات الإنتاج كلّها. فصارت هي التي تزرع وهي التي تحصد وتنتج وهي التي تبيع.

انتفتْ منذ نهاية السبعينيات المحلات التجارية الخاصة وحلَّت محلّها الجمعيّات، وهي ما يمكن تسميتها "متاجر الدولة". اشترى المواطنون من هذه الجمعيّات بثمنٍ زهيدٍ كلّ المستلزمات اليومية. من زيتٍ ومعجون طماطم ودقيق وأرز وسكّر وقهوة وشاي إلى البسكويت والشوكولاتة والسكاكر والعصير والمشروب الغازي وحتى الملابس والأدوات المدرسية. كان عهد الثمانينيات عهداً حاول فيه الليبيون تطبيقَ النظام الجماهيري بحذافيره. لكن وجدت الدولة الليبية نفسَها في أحيانٍ كثيرة في أزمات اقتصادية وعاجزة على تلبية حاجيات المجتمع من المواد الأساسية. كأن يُفقد الشاي لأسابيع أو يغيب الدقيق. تفاقَم الأمر مع الأزمة الليبية الأمريكية التي تطوّرت بدءاً من 1985 عند تفجير ملهىً ليلي في برلين، اتُهمتْ ليبيا بتنفيذه، ثم تفجير الطائرة بان آم 103 سنة 1988 والتي عُرفت بقضية لوكربي.

ومازالت الذاكرة الشفهية الليبية تحفظ نكتاً عن تلك الأزمات الاقتصادية، لاسيما فيما يتعلّق بالخبز. ومن تلك النكت التي حكاها لي أبي، أنّ خبّازاً انطلق في عزاء أحدهم يهاجم العقيد بسبب أزمة الدقيق. فسمعه مُخبران. ووجد الرجل نفسه بعد ذلك بأيامٍ في زنزانة وقد دخل نفس الرجلين بهيئة محققَين. وضعا كيساً كبيراً من الدّقيق أمامه، وقالا له: "لقد سمعنا شكواك بسبب نقص الدقيق، فقررنا أن نحجز لكَ كيساً". وأمراه بأكل الكيس كاملاً حتى يخرج من الحبس. ويُحكى أيضاً أنّه كان في مدينة البيضاء، شرق البلاد، رجلٌ يُدعى بوغنيوة جاء ليشتري خبزاً من المخبز. كانت البلاد تمرّ بإحدى أزمات الدقيق، فدخل في زحمة صفوف الناس وطالب بمئة رغيف خبز. لكن الخبّاز زمجر فيه بأنّ العدد كثير. فقال له بوغنيوة: "أنا عندي نعاج، والنعاج لا تتوقف عن الصياح والتذمر، ليست مثلكم". فصار الناس يتندرون بقصّته على ضعف الشعب الليبي وصمته في ذاك الزمان.

لم تكن السياسات الاقتصادية الصارمة التي اتبعها النظام الجماهيري لتدوم. فقد فرضت الولايات المتحدة وحلفاؤها الحصار على ليبيا فترة التسعينيات بسبب قضية لوكربي. اضطّر النظام لإعادة الاعتبار إلى التجّار، وإن بما يتماشى مع الطموح الجماهيري. فكانت الخدعة أن تعاد تسمية المحلات التجاريّة إلى "موزّع فردي". وكان القذافي في الثمانينيات والتسعينيات يعلّق على كلّ القضايا، ولم تكن تفوته الأزمة الاقتصادية التي خلقَتها مغامراته الثورية في دعم الفصائل المسلّحة حول العالم. وفي شريطٍ تسجيلي يعود إلى فترة الثمانينيات، يتحدث العقيد عن عادات الأكل عند شعبه. فيقول: "اللحوم الحمرا للذيابْ والكلاب لا مؤاخذة [. . .] هذه قمّة البدائية إنّ اللحم مخلوق آخر تاكل فيه [. . .] والنشويات اللي تعطيك حرارة لجسمك عشان الحركة ما هو ضروري تكون رز وتكون مكرونة وتكون موز".

وقد كان العقيد يقظاً دائماً لما يحدث في الشارع من غليان، ولا يتورّع أبداً عن الحديث في هذه المسائل وردّها إلى عيبٍ في الشعب نفسه. لم يرضَ أبداً بالاعتراف بفشل تجربة النظرية العالمية الثالثة. فقد قال من ضمن ما قاله في عبارةٍ يحفظها كثير من الليبيين عن ظهر قلب فترة الثمانينيات أيضاً: "فيه دولة اسمها سويسرا بدأت تطبّق ما نطبّقه، أما نحن خلاص وصلنا إلى نهاية المطاف". يقصد أنّ ليبيا أصبحت رائدة العالم وجنّة الله على الأرض بتطبيقها النظام الجماهيري.

كانت ملامح نهاية المطاف هذه واضحة بالنسبة إلى جيلنا، نحن مواليد الثمانينيات وبداية التسعينيات، فقد ارتبطنا بعلاماتٍ تجاريةٍ ليبيةٍ شكّلت وعينا ونظرتنا إلى العالم. لم تكن تباع "كوكا كولا" أو غيرها من المشروبات الغازية العالمية حتى نهاية التسعينيات. كنّا نشرب علاماتٍ تجارية ليبية تشبه في شعاراتها العلامات العالمية لكن أسماءها عربية، ضمن موجة التعريب التي اتخذها النظام. فبدلاً من كوكا كولا كنّا نشرب مشروب "كَوْثَر"، وبدلَ بيبسي كنّا نشرب "السعادة"، و"مَرَادة" –على اسمِ قريةٍ ليبية– بدلاً من ميرندا. وهكذا كان التوجه ابتداع أسماءٍ عربية لكلّ شيء حتى علامات الملابس. فكنّا نرتدي أحذية تسمى "راتا"، اختصاراً لمدينة مصراتة شرق طرابلس. كذلك كانت عندنا علامات تجارية ليبية للشوكولاتة والمثلّجات والبسكويت. كانت هذه العلامات التجارية كلّها تعطي انطباعاً أننا حققنا معجزة الشعب الذي لا يأكل من وراء حدوده. لكن الحقيقة، مثلها مثل معجزة الإنتاج في عهد الجماهيرية، أنّ هذه المنتجات جلّها كانت تُصنّع موادها الأولية خارج ليبيا ولا يعمل الليبيون فيها إلا بالتعبئة أو التجميع، وكل شيء يتوقف على مدى توفر المواد الأولية.

وقد فضحت أيام الحصار الدولي في التسعينيات ضعف النظام. فكان الليبيون يسافرون إلى تونس ومصر أو عبر البحر إلى مالطا، ليشتروا المواد الأساسية وما يمكنهم الوقوع عليه من هناك ليعيدوا استيراده إلى ليبيا بعد أن سمحتْ لهم الدولة بذلك. ومازلت أذكر في طفولتي كيف كنت مدهوشاً عندما أدخل أحد المحلّات التجارية التي تبيع هذه المواد المستوردة، وكيف كانت تلك المواد مثل الشوكولاتة حلم أطفالٍ عديدين لا يمكنهم شراؤها لأنّها غالية جداً بالمقارنة مع متوسّط الأجور الذي لم يزد عن مئة وخمسين ديناراً (أي ما يقارب المئة دولار نهاية التسعينيات). ومازلت أذكر شوكولاتتي المفضّلة "كِندر سربرايز" التي كنّا نسمّيها "شكلاتة الدحية" لأنّها تشبه البيضة، وقد كان سعرها يساوي خمسة دنانير ونصف (أربعة دولارات ونصف تقريباً).

كان الليبيون منزعجين من العقيد ومن أطروحاته الاقتصادية، ويتضح هذا الانزعاج من نكتةٍ شعبيةٍ جريئةٍ كنت أسمع والدي يقولها في التسعينيات. وفيها أنّ العقيد كان في زيارةٍ لشيوخ في مدينة بني وليد، مرابع قبيلة ورفلّة، وقد ضيّفوه وجبة البازين. وحين كان يأكل معهم كان يحدّثهم عن النظرية العالمية الثالثة وسلطة الشعب ثم يتوقف عن الأكل، إلا أنّ شيخاً من الشيوخ استغلّ الفرصة وقال له: "ارفس يا قايد ارفس". كلمة "ارفس" في هذه النكتة لها معنيَيْن مختلفيْن. الأولّ أنّ فعل تغميس عجين البازين في الطبيخ اسمه رَفْس، والثاني أنّ القائد بدأ يهذي. هنا يحضر الطعام في ليبيا وسيلةً لنقل النكتة السياسية التي تصف عقداً من التجارب الاشتراكية التي اضمحّلت مع دخول الألفية الجديدة واحتلال العراق سنة 2003 وتصالح العقيد مع الغرب.

عندما يتحدث الخضر عن أيام العقيد الجميلة أو ما يسمّونها "أيام العز" يتناسون عقدَي الثمانينيات والتسعينيات الصعبَين. إذ يربطون ذاكرتهم بآخر سنوات ذاك النظام عندما انتعشت الحياة الاقتصادية. لكن ذلك الانتعاش لم يكن ليحدث لو أصرّ العقيد على التطبيق الحرفي لمقولاته. فقد انفتحت البلاد انفتاحاً عجيباً، حتى إنّ العلامات التجارية المحلية التي عايشتها حينها كادت تختفي جميعها، وحلّت محلّها مئات العلامات التجارية من كلّ بلدان العالم. لم نعد نشرب "السعادة" بل صرنا نشرب "بيبسي"، وأصبحت شوكولاتة "كندر سبرايز" بأقلّ من دينارٍ واحد، والموز برخص التراب بعدما كان قبلها بعشر سنوات من علامات الثراء. بدأت العجلة تتحرّك وصار الليبيون يأكلون رسمياً من وراء حدودهم. ليس لأنهم لم يكونوا قادرين على حمل رسالة الكتاب الأخضر وتطبيقها، بل لأنّ العقيد نفسه أدرك فشلها لكن صعب عليه الاعتراف بذلك. ولهذا، جعل ابنه سيف الإسلام القذافي رسولاً يعلن عن حزمة إصلاحاتٍ اقتصادية وسياسية داخل النظام. نادى سيف الإسلام بدستورٍ للبلاد فيما يتنافى مع قاعدة الكتاب الأخضر الذي يرى أنّ "القرآن الكريم شريعة المجتمع" وأنّ الدستور لا حاجة له، لأنّ أقوال العقيد وأفكاره كانت هي الدستور.


مع أنّه يمكن للمرء أن يحقّب لفشل التجربة الاشتراكية في النظام الجماهيري بالطعام، إلا أنّ الليبيين لم يموتوا جوعاً في ذلك الزمان ولم يرتبط الطعام بالدم كما حدث بعد الثورة الليبية. صارت مسائل الطعام في ليبيا منذ سنة 2014 رمزاً للحرب الأهلية الليبية وبدأ الليبيون يؤرّخون لتلك السنوات به.

بدأت الحرب الأهلية الثانية بين أصحاب الأمس الذي أطاحوا بالقذافي مع حلول رمضان سنة 2014، وأصبح رمضان حينها شهراً يخشى الليبيون حضوره لأنّه ارتبط عادةً باندلاع معارك مسلّحة. كان أن أعلن خليفة حفتر عملية الكرامة التي أطلقها أوّل الأمر في مدينة طرابلس بدعمٍ من مجموعاتٍ مسلّحة من مدينة الزنتان، جنوب غرب طرابلس. وواجهته مجموعات إسلامية مسلّحة من طرابلس، ومن مدينة مصراتة التي أطلقتْ عملية سمّتها "فجر ليبيا" في 13 يوليو 2014. كان جلّ الصراع يدور بالقرب من مطار طرابلس الدولي وصهاريج تخزين النفط جنوب العاصمة، وقد طال الخراب كل شيء. إذ كانت قذائف الغراد، روسية الصنع، تتساقط على البيوت وتدمّر ما تتلقفه كأنّها وحشٌ غاضبٌ وأعمى. ومن طرائف ما حدث أن خرج عبدالله ناكر، أحد قوّاد الجماعات المسلّحة من الزنتان ورئيس حزب القمة لاحقاً، بتصريحٍ يحذّر فيه أعداء مدينته بأنّ قوّاته يمكنها أن تصيب الهدف بدّقة. فقال: "يمكن أن نصيبه في صحن المعكرونة". ظلّت جملة صحن المعكرونة تعبيراً عن الدقة ومخالفتها للخراب الذي طال صهاريج النفط التي احترقتْ محلَّ سخرية الليبيين الذين ظلّوا بعد ذلك يتناولون الجملة تعبيراً عن عبثية الحرب.

وفي بنغازي حدثَ أمرٌ شبيه عندما فشل حفتر في السيطرة على طرابلس والتفتَ إلى محاربة أنصار الشريعة. وهم مجموعات إسلامية شكلت جزءاً كبيراً من ثوّار المدينة أيام الثورة، وتحالفت بعد ذلك مع تنظيم الدولة الإسلامية. مرّت المدينة بأيامٍ صعبة لم يكن فيها الحصول على الحاجيات الأساسية، مثل الدقيق، سهلاً. ينقل إليَّ الكاتب الليبي حسام الثني مشاهدَ تلك الأيام بالقول: "وقتها واجهت المدينة نقصاً في الدقيق حتى قيل وصلتْ شحنة من الإمارات فيها دقيق، فصار الناس في بنغازي يصنعون العصيدة احتفالاً بالفرج". وهكذا أصبحت العصيدة، وهي أكلة تصنع بعجين دقيق القمح مع عسلٍ أو دبس التمر، رمزاً لانتصار مقاومة الناس في المدينة على حسب حسام. وذلك بعد أن كانت طبيخة الفاصوليا رمزاً للاعتزاز عند أهل بنغازي، عندما دعمت مجموعات مسلّحة من مدينة مصراتة المجموعات الإسلامية في حربها على قوّات حفتر.

مرّت البلاد جميعها في الفترة بين 2014 و2016 بأزماتٍ غذائية متعددة. فقد واجهت شحّاً في الحليب وامتدت صفوفٌ طويلة في العاصمة لتوزيع الحليب وحليب الأطفال. إلى أن أصبحت مشاهد الاصطفاف الطويلة أمام المخابز أمراً اعتيادياً. وزادت كثافة العمل الإغاثي بتوزيع المنظمات الخيرية المواد الغذائية الأساسية على الناس. وقد كنت شاهداً على أعمال إحدى تلك المنظمات واسمها "منظمة الشيخ الطاهر الزاوي الخيري". عملت في الجهاز الإعلامي لهذه المنظمة وكنت أوثّق مشاهد توزيع الاحتياجات الغذائية للنّازحين في المخيّمات والفقراء، وكان رمضان دوماً أهمَّ مواسم التوزيع حتى اقتصر جلّ عمل المنظمة على جانب توزيع المواد الغذائية.

وأذكر أنّه في طرابلس وفي نفس الفترة، سيطرت مجموعات مسلّحة من مصراتة على المدينة وحدثت صراعات بينها وبين المجموعات المسلّحة المحلية. فبدأت مرحلة جديدة من التوتر داخل المدينة كان الطعام أحد عناوينها، وسيلةً لتغذية الانشقاق الاجتماعي. صار الطعام في ليبيا يُستَخدم للتندّر بين أنصار المجموعات المسلحة. فكان بعضٌ من أنصار المجموعات المسلّحة من مصراتة يسخرون من أهالي طرابلس بالقول إنّ عليهم العودة لتجهيز الكسكس لرجال مصراته. فيذكّرونهم بأيام الثورة الليبية عندما كان الرجال والنساء من أحياء المدينة يجهّزون وجبات الطعام للثوّار من مصراتة الذين حرروهم من القذّافي كما كان يشاع. وزادت العصبية تغذي الأحقاد بين أهالي المدينتيْن حتى رُبط أهالي طرابلس بأكلهم للبريوش في رمزٍ لطراوتهم وضعف عزيمتهم. ورُبط أهالي مصراتة بالزبادي لأنّ مدينتهم كانت تحتضن مصنع "النسيم"، وهو أشهر مصنعٍ لمنتجات الحليب في البلد.

تكررت هذه الثنائية علامةً على الانقسام المجتمعي الليبي في الحرب التي شنّها خليفة حفتر بدءاً من إبريل 2019 على مدينة طرابلس، بدعوى تطهيرها ممن وصفهم بالإرهابيين. قبل ذلك كانت الأطراف السياسية تحاول الوصول إلى حلٍّ لأزمة الانقسام السياسي في البلد. وقد أخذت حكومة الوفاق الوطني التي شُكِّلت في طرابلس سنة 2016 تتفاوض مع الحكومة التابعة لمجلس النوّاب الليبي الذي كان مقرّه مدينة طبرق، أقصى شرق البلاد، أي في نطاق سيطرة خليفة حفتر الجغرافية. كانت قوّات حفتر تحقق نجاحاتٍ عسكريةٍ على الأرض بدءاً من نهايات 2018 وتقترب أكثر فأكثر من العاصمة. وقبل انعقاد مؤتمر غدامس للمصالحة الوطنية في العاشر من إبريل 2019، فاجأ حفتر الجميع في الرابع من إبريل بزحف قوّاته نحو طرابلس وتطويقها من الجنوب.

اندلعت الحرب الأهلية من جديد، وهذه المرة سيكون أثرها أقسى على الليبيين. انتشر مقطعٌ مصوّر لأحد جنود حفتر يقول فيه: "وراس أمي مانا موخرين . . . بعد حقيناها بالعين وشمينا بنّتها [رائحتها] . . . نشمّوا في بنّة الزبدة متاع البريوش". ويقصد أنّ السيطرة على طرابلس قريبة لا محالة. أغاظ هذا المقطع العديد داخل المدينة وأصبح البريوش رمزاً للمقاومة الطرابلسية للغزاة من الشرق في حادثةٍ تستعيد قصة مشهورةً عن منشأ هذا الخبيز عندما أحاطت القوات العثمانية مدينة فيينا في القرن السابع عشر. خرجت مظاهرات في ميدان الشهداء وسط طرابلس تندد بالحرب على المدينة، ورفع المتظاهرون فيها أرغفة البريوش عالياً، ووزعوا الحلويات الطرابلسية كالبقلاوة والعْبَمْبِر، وهو من حلويات المدينة المصنوعة من عجين اللوز. حتى إنّ منظر المتظاهرين هذا جذب انتباه عبدالسلام المسماري، المتحدث الرسمي لقوّات حفتر، فصرّح بوجود إرهابيين في مؤتمرٍ صحفي "يأكلون البريوش". وقد أنتج المدافعون عن طرابلس أغنيةً تسخر من قوّات حفتر، تقول في أحد مقاطعها: "عادي عادي عادي [. . .] قولوا علينا بريوش قولوا علينا زبادي [. . .] وطرابلس ما تهون يموت عليها تريس، مش زيّك يا ملعون [يقصدون حفتر] جايب الفرنسيس [. . .] يا ناري واعرة حرّيق عليك [أي طرابلس عصيّة]".

وبينما كانت المعارك على أشدِّها في سنة 2019 وحتى صيف 2020 كانت تدار حربٌ أخرى على وسائل التواصل الاجتماعي ضد البريوش رمز طرابلس، وضدّ شطائر الفاصوليا رمز بنغازي. اختصر الليبيون هويتهم المطبخية والثقافية في هذَين المكوّنَين، مع أنّهم جميعاً يأكلونهما في مناسباتٍ عدّة. انطلقت النكات التي تقارن بين الوجبتيْن. يرى بعض الطرابلسيين أنّ البريوش، وجبة الإفطار الشعبية، دليلٌ على تحضّر المدينة وأهلها ورقيّهم. بينما سخروا من تناول أبناء مدينة بنغازي ومن ثمّ أهل الشرق الليبي شطائر الفاصوليا صباحاً، واستخدموها دليلاً على العقلية البدوية لجنود خليفة حفتر. وفعلَ بعض أهل الشرق الليبي نفس فعلهم بجعل البريوش علامةً على الضعف، وتناول الفاصوليا صباحاً علامةً على الرجولة. بدا المشهد تعليقاتٍ ساخرة وبريئة وحسب أثناء الحرب، إلا أنه ينمّ عن جذورٍ عميقةٍ لمسألة ارتباط الطعام في ليبيا بالهوية الثقافية وكيف يرى الليبيون أنفسهم وغيرهم وكيف يستعمل الطعام سلاحاً للنيل من الخصوم. وقد تناولت وكالة رويترز للأنباء هذه الحرب المذاقيّة في مسألة الإفطار، في تقريرٍ نشرته في الثالث من مايو 2019، بعد شهر من بدء الحرب على طرابلس. استعرض التقرير كيف أصبحت وجبة الإفطار رمزاً للانقسام في البلد. وقد وردَ فيه رأيٌ للصحفية الإيرلندية الخبيرة بالشأن الليبي، ماري فيتزجيرالد، تقول فيه إنّ "الأمر قد يؤخذ على سبيل المزاح"، إلا أنّه يرمز لأسس الانقسام التي يقوم عليها الصراع "ويعكس هذا كيف عمّق الانقسام، الذي نجم عن الصراع على مدى سنوات، الأفكار عن الهوية على أساس الانتماء إلى المدينة أو الأقاليم". 


وإن كانت الحرب الأهلية قد توقّفت اليوم وحلّ محلّها التنافس الاقتصادي وتأزم الانقسام السياسي، إلا أنّ حرباً أخرى تُدار عن الهوية الدينية للبلد. وكالعادة، يصبح الطعام في ليبيا أحد محاورها. فقد واجهت ليبيا تحدياتٍ جديدة فيما يخصّ الهوية الدينية منذ موجة الصحوة التي ألمّت بالعالم العربي في الثمانينيات. إلا أنّ نظام العقيد لم يرأف بالسلفيين والمجموعات الإسلامية الأخرى وطالهم عنف النظام. ومازلت شاهداً على زميلِ دراسةٍ لي في بداية الألفية كاد يُسجن لأنّه كان سلفياً ويداوم على صلاة الفجر في المسجد، مع أنّه لم ينتمِ إلى أي جماعةٍ وكان ومازال حتى اليوم يعيش قناعته الدينية لنفسه.

كان النظام يرى في الجماعات الإسلامية، لاسيما عند حربه مع الجماعة الليبية المقاتلة التي حاولت الإطاحة به، خطراً داهماً وسمّاهم تسميات مثل "الزنادقة" و"الكلاب الضّالة". وكان "الموجهون الفكريون" المنتدبون من الحكومة لا يتوقفون عن زيارة المدارس الابتدائية والإعدادية لتحذيرنا من هؤلاء "الزنادقة". لم تدم حرب النظام هذه خصوصاً بعد أن أعلن السّاعدي القذافي، ابن العقيد، تبعيته للمنهج السلفي. وقد كان السلفيون المداخلة، نسبةً إلى السعودي ربيع المدخلي، ذخيرةً دينية للقذافي في ثورة 2011 لإيمانهم بطاعة وليّ الأمر. مع ذلك، وبعد سقوط العقيد، بدأوا يتغلغلون في المجموعات المسلحة ويؤثرون على الشباب أكثر. وقد شهدت السنوات من 2012 وحتى 2016 ارتفاعاً في عنف السلفيين، ولاسيما المداخلة، ضد التيارات الدينية التقليدية في ليبيا وعلى رأسها الصوفية الأشعرية والإباضية التي يتبعها جلّ أمازيغ ليبيا. استُهدفت أضرحة كثير من الأولياء الصالحين في الغرب الليبي. ومن أهمهم ضريح من القرن العاشر الهجري لعبدالسلام الفيتوري في مدينة زليطن، شرق طرابلس. وضريح محمد الأندلسي في تاجوراء، الضاحية الشرقية للعاصمة، وضريح الشعّاب وسط طرابلس، وهو أحد مشايخ طرابلس وأعلامها في القرن الثالث الهجري. أَضعفت هذه التفجيرات الطرق الصوفية في ليبيا، فوجدتْ نفسها في واقعٍ جديدٍ تخلّى فيه الجيل الجديد من الليبيين عنها وصاروا يفضّلون المداخلة.

تغلغل المداخلة في مفاصل الدولة الليبية حتى سيطروا على الهيئة العامة للأوقاف والشؤون الإسلامية، وهي جهاز تنفيذي مثل الوزارة يتبع الحكومة الليبية معنيٌّ بتنظيم المساجد والأوقاف العامة. فمنعوا في مراتٍ عديدةٍ عادة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف في المساجد لأنّها "بدعة"، مع أنها عادة وجدت في المجتمع الليبي منذ قرون. إذ يحتفل الليبيون صباح الثاني عشر من ربيع الأوّل بمولد النبي محمد بإعداد وجبة العصيدة ويحيون الذكر وينشدون أشعار المديح النبوي.

شكّلت هذه الطقوس علامةَ جدلٍ سنوي بين أتباع التيّار المدخلي وأتباع الطرق الصوفية، وكانت العصيدة جزءاً لا يتجزأ من هذا الجدل. ففي كلّ عامٍ عند اقتراب تاريخ المولد، تنشط الصفحات المدخلية في نشر الفتاوى التي تحذّر من أكل العصيدة في هذا اليوم بالذات. وتنشط معها الصفحات التابعة للمذهب المالكي، الذي تندرج تحته الطرق الصوفية الليبية، في نقد المداخلة الذين يعتبرونهم غرباء على الهوية الثقافية والدينية للبلد يريدون تحطيم الثوابت الدينية. ولم تكن الهيئة العامة للأوقاف ببعيدة عن هذا الجدل، فهي تحرص في كلّ عام على التحذير من تناول العصيدة يوم المولد. بل إنّها بفرعيْها، الذي ينضوي أحدهما تحت حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس والحكومة الليبية في بنغازي، يتحدان في مناهضة ادعاءات الصوفيّة في مشهدٍ فريدٍ من الاتحاد المؤسساتي داخل منظومة الحكومات الليبية المنقسمة والمتنازعة. وهكذا يصبح طبقٌ مثل العصيدة مقياساً للاستقطاب الديني في البلد.

لا يتوقف هذا الجدل على العصيدة وارتباطها بالمولد النبوي، بل يمتد إلى أطباقٍ ليبيةٍ أخرى تُعدّ في مناسباتٍ أخرى. يعاود الجدل مثلاً في الاحتفال بيوم عاشوراء من كل عام. وعاشوراء هو اليوم الذي نجى الله فيه النبي موسى وبني إسرائيل من فرعون. اعتاد الليبيون في هذه المناسبة منذ زمن أن يحضّروا طبقاً يسمّونه "الخلط"، وهو خليط من البقوليات. فيبدّع المداخلة من يتناول هذا الطبق وغيره من المأكولات المخصصة لعاشوراء. ويصف الصوفية المداخلة بالتيّار الدخيل الذي يريد تدمير البنية الاجتماعية والهوية الدينية الليبية. يتكرر الأمر مرةً أخرى في الخامس والعشرين من رمضان في مدينة هون وسط ليبيا، إذ تنتشر عادة احتفال الأطفال بقرب ليلة القدر. فيرتدون الأزياء الشعبية ويطوفون على البيوت لأخذ "القلية"، وهي حبوب القمح المحمّص، والبيض المزيّن. وهذه أيضاً يراها المداخلة "بدعة". وهكذا تصل الاتهامات بالابتداع والردّ عليها بمحاولة تغيير الهوية الدينية للبلد حتّى كعكات عيد الميلاد والاحتفال برأس السنة الميلادية. وقد شهد ديسمبر 2024 حملاتٍ لجهاز الحرس البلدي داخل المحلات التجارية ومعامل الحلويات لضبط الحلويات التي تعبّر عن هذه المناسبة السنوية ومصادرتها.


يحضر الطعام في تعريف الليبيين أنفسَهم رمزاً إيجابياً في أحيانٍ عدّة، فهم شعبٌ يعتزّ بثقافته المطبخية. يحبّ الليبيون المعكرونة "المْبَكِبْكَة"، إحدى أشهر أكلاتهم. ويغالون في حبّها وحبّ وجبة "الرشتة"، وهي عجينٌ يشبه المعكرونة. حتى إنّهم يعتقدون أنّ الإيطاليين أخذوا عنهم الوصفة وطوّروها ونسبوها إلى أنفسهم.

وقد يصبح الطعام في ليبيا مثالاً للتلاحم الاجتماعي في أوقات الأزمات أو في رمضان، كما يحدث كل عامٍ بانتشار خِيمٍ توزع وجبات الإفطار في كلّ أنحاء البلاد. لكن في أوقات الضياع والحرب على الهوية، يصبح الطعام رمزاً للصراع السياسي والديني والثقافي والاجتماعي. ويمكن عبره تأريخ حركة المجتمع الليبي، وبحثه عن ذاته، وكيف يرى نفسه.

اشترك في نشرتنا البريدية