من الرمال إلى الطابونة: حكايات الطعام التونسي من الاستعمار إلى الاستقلال

من "خبز الملة" البدوي إلى "خبز الطابونة" الحضري، يشهد تاريخ الطعام في تونس على رحلة المجتمع من البداوة إلى الحداثة، محملاً برموز المقاومة والتكيف

Share
من الرمال إلى الطابونة: حكايات الطعام التونسي من الاستعمار إلى الاستقلال
مواطن تونسي يحمل رغيف خبز في مظاهرة ضد الرئيس التونسي زين العابدين بن علي في يناير 2011 (تصوير مارتن بيرو لوكالة الأنباء الفرنسية، خدمة غيتي للصور)

استمع لهذه القصة

00:00:0000:00:00

وُلدتُ في تطاوين جنوب شرق تُونس. وهي مدينةٌ خَطَّها الاستعمارُ الفرنسي سنة 1899 ضمن مشروعٍ عسكريٍّ واسعٍ لتَوطين البَدْوِ وضربِ حياة الانتجاع والتّرحال. كانت مشروعاً أرادت به فرنسا تفكيكَ البنية القَبَليّة للمنطقة وضبطَ المجتمع ضمن رؤيةٍ أمنيّةٍ جديدة. لم يكن الأمر سهلاً فقد كانت تلك الهزّةُ التي سبّبها الاستعمارُ ومشروعُه "التّحديثي" على القبائل عنيفةً وقويّة، إذ لم يَقبل الأهالي ذلكَ المشروعَ في البداية.

عَدّت القبائلُ حفاظَها على هُويّتها نوعاً من المقاومة الجَماعيّة. ويكشفُ لنا تقريرٌ أعدّه ضُبّاطُ مكتب الشؤون الأهليّة الفرنسيّة سنة 1931 تفاصيلَ عزوف الأهالي عن تسجيل أبنائهم في المدرسة التي بُنِيَت لتعليم الأطفال. وتَحفظُ لنا الذّاكرةُ الشّعبيّة الاستهجانَ الشّعبي لعمليات الإخضاع الفرنسية التي تدفعهم للاستقرار بالمدينة الجديدة والتخلّي عن حياة البادية والتَرحال والقِيَم القديمة.

في بيتين من أشهرِ بيوت الشّعر الشعبي التّراثي في منطقة تطاوين، يخاطِب أحدُ الشّعراء ابنَ عمّه الذي رَحل للاستقرار في المدينة التي بناها الاستعمارُ حول نواةِ سُوقٍ أسبوعيّةٍ وأنشأ فيها حَوانيتَ أراد بها تشجيعَ الأهالي على الاستقرار وليُبدّلوا بالارتحال التجارةَ. يقول الشاعرُ متأسِّفاً:

ناديتْ يا حِمَدْ هِيهْ   ...   فَات الحِوانيت غادي
وإلّي ضاق خُبز المدينة   ...   ما عاد يعمّر أُبّادي

يُنادي الشّاعرُ في البيتِ الأوّل ابنَ عمّه "حمد" أو أحمد الذي لا يستجيب للنّداءِ، فقد دخل السّوقَ وحوانيتَها مُتصالِحاً مع المدينة، بل راضخاً لها. ويتصالحَ الشّاعرُ نفسهُ بيَأسٍ في البيت الثّاني مع حقيقة أنّ من ذاقَ خُبزَ المدينة لن يُعمِّر الباديةَ بعد ذلك أبداً. يُكثِّف البيتان عُقوداً من الزّمن في تاريخ منطقةٍ حُدوديّة وطَرفيّة تتميّز بثرائها الثقافي والمعماري وموقعها الجغرافي المتاخِم "طرابلس"، الاسم القديم للغرب الليبي. وتنفتحُ المنطقةُ على الصّحراء ويختصُّ مجتمعُها بعاداتٍ وتقاليد وتراثٍ ثريٍ يختلفُ عن مدن البلاد الأخرى ومناطقها. ويصوِّر البيتان بالخُبزِ تحوّلاتٍ كبيرةً وجذريّةً عاشها المجتمع المحلّي والوطني.

وقد كان الخُبزُ تاريخياً حاملاً لشُحناتٍ رمزيّة تتجاوزُ كونَه طعاماً أو جُزءاً من الطّعام إلى كونه معبِّراً عن ثقافات الشعوب وانعكاساً لعاداتٍ اجتماعية. وفي البيتيْن السابقيْن، يرصدُ الخُبزُ التحّولاتِ التاريخيّةَ ويُوثّقها. ويتجاوز ذلك ليصبح مقياساً لتحوّل المجتمع من البداوة إلى الحداثة. فالخبزُ، ومِن خلفِه الطّعامُ والمائدة والمطبخ، أدواتٌ يُمكِنها أن تَكتب تاريخاً سياسياً واجتماعياً وثقافياً للدّول والشّعوب. وتاريخ تونس الاجتماعي قابلٌ للفهم والتحليل ضمن هذا السياق بالذّات. والمائدةُ التّونسيّة، بتنوّعها واختلافاتها، نِتاجٌ لمساراتٍ وتحوّلاتٍ تاريخيّة كاملة تشكّلت عبر الزّمن، وتأثّرَت بالتحولات السياسية والحضاريّة والأحداث الدّاخليّة والخارجيّة، وتراكمت مهاراتها وتقنياتها واغتنت بالهجرات الوافدة والداخلية وتبادلِ المعارف والسّلع والمواد.

ففي الجنوب التونسي، يروي الخبزُ قِصّةَ تحوّلٍ اجتماعي وسياسي عميق. ولقد أدّت محاولاتُ التوطين من المستعمر الفرنسي إلى تغييراتٍ كبيرة في العادات الغذائية، حيث أصبح خبزُ المدينة رمزاً للحداثة والاستقرار. ومع الاستقلال، سعت الدولة التونسية إلى توحيد ثقافة البلاد، ممّا أدّى إلى اندماج تقاليد الطعام البدوية مع الحضرية. هذا التحول لم يكن مجرَّدَ تغييرٍ في نمط الأكل، بل كان انعكاساً لتحوّلاتٍ اجتماعية أعمق، إذ أصبح الخبزُ مقياساً للفقر والثراء، ومؤشراً على التفاوتات الطبقية. من خبز "الملّة" الذي يُخْبَز في الرمل إلى خبز "الطابونة" الحضري، يظلّ الخبزُ في تونس شاهداً على رحلة المجتمع من البداوة إلى الحداثة، محمَّلاً برموز المقاومة والتكيّف مع التغييرات السياسية والاجتماعية.


ظلّت عائلتي منذُ نشأة النّواة الأولى للمدينة، وحتى نهاية الثمانينيات وفيّةً لتقاليدها البدويّة العريقة بكلّ ما فيها من عاداتٍ ومَلْبَسٍ ومأكلٍ، بل ظلّ تقاسُمُ الأدوار الاجتماعيّة بين الرّجل والمرأة على ما هو عليه. ومع ذلك فقد كان أبي أوّلَ مَن سَكَن المدينةَ مِن أفراد العائلة بدايةَ التسعينيات عندما أَصبحَ موظّفاً حكومياً، لذلك عشتُ طفولتي بين البادية والمدينة.

في طُفولتي عايشتُ الأُفولَ البطيءَ لِظاهرةِ الأكلِ الجماعيّ للشُّرْبةِ من القَصْعَة في شهرِ رمضان، وهي حساءٌ قوامُه الشعيرُ ولحمُ الضأن. ويمكنني تحديدُ الفترة الزّمنيّة التي بدأَت فيها هذه الظّاهرةُ في الانحسار ثمّ الاندثار كُلّياً مع بداية الألفيّةِ الجديدة، إلّا أنّه لا يُمكنني في المقابل تحديدُ السَّنَة التي أَصبحَ فيها هذا الطّبقُ جُزءاً من مائدتنا الرمضانيّة. لكنّني أقدِّر أنّه طبقٌ دخيل ووافد بعد تأثّر أهالي المدينة بالمذياع ثمّ التلفاز بوصفِهما ناقلَيْن لثقافة المركز الوطنيّة نحو الأطراف والهوامش والتّخوم. وبالتالي أُرجِّحُ أنّ حضورَها بدأ منذ السّبعينيات عندما انتشر الجهازان انتشاراً واسعاً في هذا الطّرَف الصحراوي الجنوبي للبلاد.

والشُّرْبةُ طبقٌ حَضَريّ بالأساس؛ إذ ليس له أيّ حُضور تاريخي في ثقافة البدو الغذائيّة الرّمضانيّة أو اليوميّة قبل انتشار وسائل الإعلامِ المسموعِ ثُمّ المرئيّ لاحقاً. لذلك تبدُو هي الأخرى كما خُبزُ المدينة علامةً تاريخيّة على تحوّلاتٍ اجتماعيّة محليّة وعلامةً أُخرى على الحداثةِ التي ظلّت تزحف على البداوة طيلة عُقود.

يبدُو مشهدُ الأكل الجماعيّ للشُّربة من القصعة مشهداً اجتماعياً غنيّاً. فهو من جهةٍ يكشفُ عن مسارات انتقال الثقافة وانتشارها وعن مَدى قُدرة التّحديث على اختراق البُنَى العتيقة، ولو رمزياً، بدخُول أطباقٍ جديدة للمطابخ التقليديّة والمحليّة. ومن جهةٍ أُخرى، يكشفُ عن ذلك المعنى الذي أسماهُ عالمُ الاجتماع المغربي عبد الرّحيم العُطري في كتابه "قَرابة الملح" بالهندسة الاجتماعيّة للطّعام. إذ يصعبُ اليومَ تخيُّلُ قومٍ يجتمعون لأكل الشّربة من الطبق نفسه لاعتباراتٍ تتعلّق بطبيعتها كطبقٍ سائلٍ ولاعتباراتٍ أُخرى ذوقيّة أو صحيّة. كان يستحيل في المجتمع البدوي تخيُّلُ أنّ يستقّلَ إنسانٌ ما بصحنِه للأكل ضمن الجماعة. فالأكلُ في قصعةٍ مُشترَكةٍ كان يُمثّل المشهدَ الرئيسَ لصورة العائلة الممتدّة والكبيرة والمُوحَّدة. لذلك كان دُخول هذا الطّبقِ بالذّات مُكثَّفاً بالرمّزيّة.

وعلى غرارِ خُبز المدينة الذي جاء نتيجةً لتحديثٍ استعماريٍّ قسريٍّ، فإنّ انتشار الشّربة في الجنوب التونسي بعد وصولها من العاصمة التونسيّة جاء نتيجةً لمسارٍ آخَر من التحديث الوطني الذي صنعَته الدولةُ الوطنيّة، إذ كان همُّ الرّعيل الأوّل من قادة البلاد غَداةَ الاستقلال بناءُ ما أطلقُوا عليه الأُمّةَ التّونسيّة. وقد جاء هذا في وصفِ الرّئيس الأوّل للجمهوريّة، الحبيب بُورقيبة، حين قال في خطابٍ له في العام 1973 بأنّه حوّلَ مجموعاتٍ من غُبار الذّواتِ (أي حفنةً من تُراب) إلى أُمَّة. وقد استلزم ذلك توحيدَ الثقافة توحيداً مركزياً بتعميم عاداتٍ حديثةٍ ومشترَكة ومتماثلة. وقد كان دَوْرُ المذياع والتّلفاز في ذلك رئيساً ومحورياً.

كان مشروع التّحديث الوطني هذا في السياق العامّ لمفهوم الدّولة القومية الذي تبنّاه الحزبُ الحُرُّ الدستوريّ، وعلى رأسِه الرئيسُ الحبيب بُورقيبة، يستلزمُ أيضاً توحيدَ الدّولة ومؤسساتِها، وتوحيدَ التعليم، وإلغاءَ القضاء الشّرعي، وصَهْرَ التناقضات الاجتماعيّة بإلغاءِ الألقاب القَبَليّة. وقد استلزمَ أيضاً ضَرْبَ مشروعِ العائلة الموسَّعة بتحديدِ النّسل، ومنعِ تعدُّد الزوجات، وتحديثِ قوانين الأحوال الشّخصيّة، وتشجيعِ المرأة على الدّراسة والخُروجِ للعمل. وقد أَنتج هذا في النهاية انتشارَ مفهومِ العائلةِ الصّغيرة وتفكُّكَ العائلة التقليديّة المُوسَّعة والقبيلة، ممّا أدّى لاتّساع القِيَم الفردية على حساب النّزعة الجماعيّة. لذلك كان استقلالُ الأفراد داخلَ العائلات التقليدية المُوسَّعة، كلّ واحدٍ بصحنه في الشّربة وغيرها من الأطباق، علامةً اجتماعيةً وسياسيّة لانتصارٍ آخَرَ للحداثة على البداوة.

وضِمنَ هذا البُعد الاجتماعي والسياسي نفسِه للطّعام، عايشتُ صغيراً في منزل عائلتنا الكبيرِ الفصلَ بين الذّكُورَ والإناثِ في الأكل. وشهدتُ كيف كانت النّساءُ تأكلُ بقايا طعامِ الرّجال، إذ كانت نساءُ العائلة بمن فيهن أُمّي يُعددِن الطّعام ويقدِّمنه في القِصاع للرّجال، وحين يَفرغون من الأكل يعُيدون ما تبقّى لتأكلَهُ النّساءُ والأطفال. وبعد وفاةِ جَدّي، صار عمّي الأكبرُ كبيرَ العائلة، فصارَ هُو مَن يفتَتِحُ الأكل ولا يَبدأُ أحدٌ قَبْلَه. فكان هو أوّل من يغسلُ يديه وأوّل من يُناوَلُ كأسَ الشّاي بعد العَشاء. كما لا تشربُ النّساءُ الشّايَ في المجلسِ أبداً، إنّما يشربنَه في فضائهنّ منعزِلاتٍ عن الرجال.

تقعُ كلُّ هذه المشاهد ضمن مفهوم الهندسة الاجتماعيّة للطّعام، أي التقاسُم الجنساني للأدوار والمزايا الاجتماعية والاقتصاديّة بالطّبخ والأكل. لذلك يرسمُ الطّعامُ دوماً حُدودَ السّلطة ويوضِّحُ تراتُبيّتَها ويكشف عن طبيعة المُجتمع الأبويّة والذّكوريّة ونظام القرابة القائم فيه. وبالتالي، فهُو ليسَ تعبيراً عن حاجةٍ جسديةٍ وطبيعيّةٍ عند البشر فقط، بل يتعدّى ذلك ليعبِّر عن جملة المعاني الثقافية والاجتماعيّة والسياسيّة التي يعيشُ الإنسانُ ضمنَها. وهذا ما يراه عالمُ الأناسة كلود ليفي ستراوس، إذ يقول بأنّ الطّعام هو المرحلةُ التي تتوسّط انتقالَ الإنسان من الطّبيعة إلى الثّقافة.

وفي سياق المعنى الثقافيّ للطعام، يُمكنُ وصفُ مطبخِنا البدويّ في الجنوب التونسي بأنّه "فقيرٌ" لقيامه أساساً على الحُبوبِ وافتقاره للخضراوات. كما أنّه مطبخٌ يفتقد التنوّع والثّراء على صعيد الطّبخات والوصفات، على خلاف المطبخ الحَضري والشّمالي الغنّي بتنوّع الأطباق والمُكوّنات. وقد يُفْهَمُ هذا ضمن الخارطة الشّاملة للمطبخ التّونسي التي تتنوَّعُ بتَنَوُّعِ الطبيعة الجغرافيّة والمناخيّة للبلاد. فالشّمال التّونسي مَطِيرٌ وتُربتُهُ خصبةٌ وطبيعتُه سَهليّةٌ وغطاؤُهُ النّباتيّ غزيرٌ ومتنوِّع. بينما الجنوب التّونسي صحراويٌّ وجَبَليٌّ وتُربتُهُ رمليّةٌ وكِلْسِيّةٌ ضعيفةٌ، وقاحلٌ شحيحُ المياه حدَّ الجفاف. 

غيرَ أنّ ثراء المطبخ الحَضريّ عُموماً لا تشكّله كثرةُ الموادّ وسهولةُ توفُّرِها في الطبيعة وحسْب، بل يُشكِّله أيضاً تراكُمُ المهارات والمعارف المطبخيّة نتيجةَ تأثير الهِجرات الأجنبيّة المتركِّزة في الشّمال الخصيب وعلى السّواحل مع ما تَجلبُه من ثقافاتِ طبخٍ جديدة. قدّم لنا أستاذُ علم الاجتماع في الجامعة التّونسية محمّد الجويلي ذاتَ مرّةٍ في إحدى المُحاضَرات تفسيراً اجتماعياً يذهبُ فيه إلى أنّ ثراءَ المطبخ الحَضريّ بالمُقارَنة مع المطبخ البدويّ يصنعهُ أيضاً فضاءُ تَمَيُّزِ المرأةِ وإبداعها. ففي حين يُتاح للمرأة البدويّة التميُّزُ في مجالاتٍ أرحبَ خارجَ البيت، بالعمل الفِلاحي وتربيةِ المواشي والزراعةِ والرّعيِ، فإنّ مجالَ تميُّز المرأة الحَضريّة الوحيدُ هو داخلَ البيت وخصوصاً المطبخ. لذلك تجدُ المرأةُ الحَضريّةُ الوقتَ والطاقةَ أكثرَ من نظيرتها البدويّة للتميُّز في إنتاج الطّبخات وتجويد الطّعام وطرائقِ عَرْضِه وإبداعِ وصْفاتِه.


في طُفولتي المنقسِمة بين المدينة والبادية في التسعينيات، كان الخُبزُ عُنواناً لذلك التنافُرِ المَطبخيّ بين المجالَيْن. فقد كان خُبزُ المدينة متنوّعاً بين خُبز المخابز العصريّة المُدعَّم بأنواعه الكثيرة والمختلفة، بالإضافة إلى نوعٍ آخر يُجَهَّز في المنازل ويُباعُ أحياناً في المَتاجرِ يُسمّى "خُبزة الطّابونة". والطّابونة هي فرنٌ منزليٌّ ثابتٌ من الطين يُشبه ما يُسمّى التنّور. أمّا خبزُ البادية كان "خُبزة الملّة" و"خُبزة الحمّاس".

وخُبزُ الملّة خُبزٌ يُصنَع تحت الرّمال التي تُسَخَّنُ بالجّمر. وهو خُبزٌ صحراويٌّ يَستلزم تُربةً رمليّةً نقيّة، أمّا خُبزُ الحمّاس فيُصنَع في وعاءٍ دائريٍّ صغيرٍ وخفيفٍ من المعدن أو الطّين، يَسهُلُ نقلُه مع المتاع عند التَرحال والتنقُّل. ولا يُتقِنُ البدوُ أصنافاً أُخرى من الخبز بخلافِهما. وقد فَرضَت حياةُ البدو الرُحَّل هذين الصنفَيْن فلا تسمحُ ظروفُ الانتجاع غير المستقرّة ببناءِ أفرانٍ كبيرةٍ وثابتة. وقد فَرضَت هذيْن النوعَيْن من الخُبز نُدرةُ الموادّ الأساسيّة وعدمُ تنوُّع الحُبوب، حيث كان الغذاءُ يعتمِدُ أساساً حتى سنواتٍ قريبةٍ على الشّعير، وبصفةٍ أقلّ على القمح.

لذلك فإنّ خُبزَ البدو يعكسُ أيضاً علامةً اقتصاديّةً بارزةً هي "اقتصاد النُّدرة". تلك النُّدْرَةُ التي تُكيِّفُ نمطَ الغذاءِ ونمطَ الحياة كلّها. فنُدرة المطر تَجعل التَّرحال ديْدَن البدو الذين يَبحثون عن الكلأِ والمَرعَى. ونُدرة الحبوب والموادّ الغذائيّة الأساسيّة تَصنعُ فقرَ المائدةِ البدويّة وافتقادَها للتنوّع والثّراء. وقد كان الوعيُ بالنُّدرة هذا، كما تكشِفهُ مائدةُ البدوِ الفقيرةُ، مُحفِّزاً على ابتكار عمارةٍ وزراعةٍ تؤمِّنُ شيئاً من الأمن الغذائي وتستثمرُ فيما تنتجُه الطبيعةَ الشحيحةَ وتقاوم حدَّتَها المناخيّةَ وشُحَّها المائيَّ. فبُنِيَت القُصورُ التي تُعتمَدُ مخازنَ للحبُوب المزروعة في السّنوات المَطيرة. وهذه القُصور التي يعود تاريخُ تأسيس بعضِها إلى قرونٍ عديدةٍ هي رمزٌ معماريٌّ مميّزٌ للمنطقة الممتدّة من جنوب شرق تونس حتى جنوب العاصمة الليبية طرابلس.

وبمرور السنين طُوِّرَت عمارةٌ مائيّةٌ خاضعةٌ لقوانينَ عُرفيّةٍ صارمةٍ وثّقَها أحدُ العلماء الموسوعيين، وهو أبو العبّاس الفرسطائي، في مُجلَّدٍ سمّاهُ "القسمة وأُصول الأرضين". وهي عِمارةٌ تعتمد على السّدود الرمليّة والصّخريّة الجبليّة وتقنياتٍ أُخرى كثيرةٍ في تصريف الأودية والشّعاب لاستغلالها في الزّراعة وتأمين الحدّ الأدنى من الاحتياجات الغذائيّة. وتعدّى الأمرُ إلى إنشاءِ مُسطَّحاتٍ مائيّةٍ لتجميع مياه الأمطار وتخزينها في "مَواجِل" و"فَساقي"، وهي خزّاناتٌ مائيّةٌ تُحفَر في الأرض وتُغلَّف بموادّ عازلة، وتُستخدَم في الشّرب وسَقْيِ الماشية. وهي عمارةٌ عبقريّةٌ في قُدرتها على الوقاية من العطش في طبيعةٍ قاحلة وجافة.

إضافةً إلى كل هذا، فإنّ الخبزَ يروي تاريخاً واسعاً على صعيدٍ وطنيٍّ تونسيٍّ أَشْمَل. وهذا ما توضِّحه دراسةٌ لأستاذ التاريخ بالجامعة التونسية جمال بن طاهر بعنوان "خُبز الفقراء وخبز الأغنياء بالبلاد التّونسيّة خلال العصر الحديث" (الصادرة ضمن كتابٍ جماعي بعنوان "المُهمّشون في تاريخ تونس الاجتماعي" عن بيت الحكمة التّونسي). ويشير الأستاذ جمال بن طاهر إلى معالمَ طبقيّةٍ يرسمُها الخُبزُ في تونس منذ العهدِ الحُسينيّ في القرن الثامن عشر. فيوردُ خُبزاً أسماهُ "خبز البلاط" يتناوله الحكّامُ والوزراءُ والحاشيةُ والمُقرَّبون من السّلطة. فمثلاً كان "الباي" يَمنحُ عطايا وهِباتٍ تُسمّى "العوايد". ويكون من بين العوايد حِصَصٌ يوميّةٌ من "الخبز الأبيض" الذي لا يتناوله إلاّ المحظوظون، على حدِّ تعبير الكاتب. كما يورِد جمال بن طاهر أصنافاً أُخرى، منها ما أسماهُ "خبز التموين" الذي يأكله الجنود والعساكر. وهناك "خبز المنازل" بمختلف أصنافه الحضريّة والرّيفية والبدويّة. ومنها أيضاً "خبز السّوق" بتنوّعه الكبير. وينقُل الأستاذُ جمال عن المؤرّخ التونسي محمّد بيرم الخامس، الذي عاش في القرن التاسع عشر، توفُّرَ اثني عشر نوعاً من الخبز في سوق مدينة تونس في تلك الفترة.

ترسمُ دراسةُ جمال بن طاهر خارطةً اجتماعيّةً مميّزةً لتونس في العصر الحديث عبر الخُبز. وتوضِّح تلك الدراسةُ توزيعَ الخُبز وأصنافَه ومذاقاتِه وموادَّه الأساسيّة التي يُصنَع منها وطرقَ صناعته بالشّكلِ الذي يؤكّد كثافة القدرة الرّمزيّة للخبز وقوّتها. فالخُبزُ مقياسٌ سياسيٌّ واجتماعيٌّ ورمزٌ ثقافيٌّ وعلامةٌ تاريخيّة. فقد كان الخبزُ في تونس مؤثّراً جداً في تاريخها السياسي. ولعلّ "ثورة الخبز" في العام 1984 تحملُ وحدَها التكثيفَ الرّمزيَّ المُباشر لهذا المعنى. كما أنّ الصّورة الشّهيرة للمحتجِّين أثناء الثورة التونسية على نظام زين العابدين بن علي عام 2011 وهم يحملون أرغفةَ الخُبز في أيديهم في مواجهة الشرطة تصبُّ في المعنى ذاته. بل كان الشّعارُ الأساسيُّ لتلك الثّورةِ صريحاً فيقول "خُبز وماء، وبن علي لا".

الخُبزُ غنيٌ بالرّمزيّات ويُحاطُ أيضاً بهالةٍ من التّقديس المترسّبة دينيّاً تجدُها في كلّ الأديان التي مرّت على تونس. فهو كما في مُعظَم المجتمعات، يحمل قداسةً أعلى من باقي أصناف الطّعام. في تونس، عندما تجدُ قطعةً من الخُبز ملقاةً على الأرض أو الطّريق، فإنّ عليك واجبَ رفعِها ووضعِها في مكانٍ عالٍ كيْ لا تُدنَّس بالأقدام، وهو ما نجدُه في مجتمعاتٍ عربيةٍ أُخرى. ويُسمّيه الناسُ "النّعمة" أو "نعمة ربّي". كما يحملُ أيضاً كلَّ تلك المعاني الاجتماعيّة النبيلة المُتعارَفة من عِشرة وأُخوّة وصُحبة، والتي يصنعُها التشارُك في رغيف الخُبز خاصّة والطّعام عموماً. ويندرج ذلك ضمن المفهوم الذي أسماهُ عالِمُ الاجتماع المغربي عبد الرّحيم العُطري "قرابة الملح"، بمعنى أنّ الطعامَ يؤسِّس لقرابةٍ شبيهةٍ بقرابةِ الدّم.


يلتصق الخبزُ أيضاً بمعانٍ اجتماعيّة وثقافيّة غزيرة. فيَحمل في الثقافة الشّعبيّة التّونسيّة مدلولاتٍ كثيرةً تتجاوزُ كونَه طعاماً إلى كونِه رمزاً يُحيل على سَعْي الإنسانِ وراءَ الرّزقِ مثلاً. فنَقُول عن الشّخص المُهاجِر من أجل كسب المال بأنّه "يتبّع في الخُبزة". كما يحضرُ الخُبزُ بكثافةٍ في الأمثال الشّعبيّة، فتعبيرٌ من نوع "الخُبزة مُرّة" تُحيل على التّعب والشّقاء والكّدح الذي يبذلهُ الإنسانُ في سبيل العمل وكسب المال. ويلتصقُ الخبزُ أيضاً بمعنىً نقيضٍ هو الجُوع والمجاعة. ويعني الجُوعُ في تعريفه الأكثر اختزالاً في الذّهنيّة الشّعبيّة بأنه الفشلُ في تأمين الخُبزِ على صعيدٍ فرديّ، بينما تَحمل المجاعةُ المعنى نفسَه ولكن على صعيدٍ جماعيّ.

والمجاعةُ علامةٌ مُؤثّرة في التاريخ الاجتماعي والسياسي للبلد. فالذّاكرةُ الشّعبية تَربط الكثيرَ من تواريخِها بالمجاعاتِ أو نُدرةِ الطّعام، مثل "عام الرّوز" أو عام الأرُزّ الذي بدأ في 1936 وامتدّ حتى العام 1938، وأعقبَته واحدةٌ من أكبر الأحداث السياسيّة في تاريخ تونس تحت الاستعمار، وهي أحداث أبريل 1938 والتي ما زالت تونس تُحيِي ذِكراها حتى اليوم باسم "عيد الشّهداء".

وعبر تاريخ تونس الحديث، كانت المجاعاتُ تتلازمُ مع الاضطرابات السياسيّة. ففي أعقاب ثورة قائد القبائل التونسية علي بن غذاهم على البايات في عام 1864، شهدت البلادُ اضطراباتٍ واسعةً وحالةً من المجاعة بلغت درجاتٍ مؤثّرةً في التركيبة الاجتماعية التّونسية. وينقلُ المؤرّخُ الهادي التيمومي في كتابه "تونس والتّحديث" رسالةً من قايد الفراشيش، وهي قبيلةٌ بالوسط الغربيّ للبلاد، إلى الوزير الأكبر محمد العزيز بوعتور بتاريخ الرابع والعشرين من يناير عام 1867 يقول له فيها: "أكلت النّاس جميع ما عندها من الحلال والحرام حتى الخيل والأحمرة وماتَ جُلّها وصارت الناس تأكلُ في أمواتها بحيث أنّ كلّ من يموت يُجرّدُ ويطيّبُ ويؤكَلُ مثل الشّاة". وهي حوادثُ تكرّرت كثيراً في تلك الفترة، وفق المراسلات والمصادر التاريخية. 

في كتابها المرجعيّ "الفلّاحون التونسيون" الذي يَدرس المجتمعَ التّونسيَّ في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، أَفردَت المؤرِّخةُ "لوسات فالنسي" فصولاً واسعةً للطعام في تونس. فقد جَرَدَت وثائقَ الأرشيف التونسي وكلَّ ما يتعلّقُ بتوريد الموادّ الغذائيّة. وقَدّمَت عَرْضاً مُوسَّعاً لخارطةِ الموادّ الغذائيّة في البلاد ومختلف جوانب ثقافتها المطبخيّة. ثم استَعرضَت تاريخَ دخول أطعمةٍ وخضراواتٍ وموادّ استهلاكيةٍ إلى البلاد.

وممّا تكشفهُ لوسَات فالنسي في كتابِها التأكيدُ على فقر المطبخ البدوي الجنوبي مقارَنةً بغيره من مطابخ البلاد التّونسيّة، وقد أضافت مُعطىً آخَر، وهو ضُعْفُ الأسواق المحليّة في الدّواخل البعيدة عن السّواحل والحواضر الكُبرى، وعجزُها عن اجتذاب التّجّار بما ينعكسُ على تفاوت الموادّ الغذائيّة والخضراوات والغِلال المنتشرة بين سواحل البلاد وحواضرها الكبرى، وبين مُدُنها الدّاخليّة والطّرفيّة ومجالاتها البدويّة.


عاش جدّي، الرجُلُ البدويُّ الصَلْبُ، الجزءَ الأكبرَ من حياتِه مُهرِّباً للشّايِ من غَرْب ليبيا. وقد وُلِد في عام الغزو الإيطالي لليبيا 1911. وحين أَصبح يافعاً، استقرّ الليبيّون بهجراتٍ كبيرةٍ في تونس وانتشَروا في مختلف أرجائها من الشّمال إلى الجنوب. وما زالت آثارُ "الهجرة الطرابلسيّة" أو الهجرة الليبية حاضرةً إلى اليوم في التركيبة الاجتماعية التّونسيّة وفي الثقافة والطعام والشراب واللهجة. لكنّ التأثيرَ الأكبر للهجرة الطرابلسيّة نحو تونس بعد الغزو الإيطالي يتجلّى في انتشار الشّاي. وهذا ما تُفصِّله فالنسي في كتابها المذكور، حيث تُؤكِّد على هذه الفرضيّة، مفنِّدةً أيَّ حضورٍ يُذكَر للشّايِ في تونس قبل العام 1911. فكان الليبيّون بذلك، كما الموريسكيون والأتراك والفرنسيون والإيطاليون والمالطيون، جُزءاً من الفسيفساء الثقافية والاجتماعيّة التي شَكّلت تاريخَ تونس المطبخيَّ. فكلُّ هؤلاءِ قَدِموا بمادّةٍ جديدةٍ إلى المطبخ التّونسي، فزادَ ثراءُ المطبخ بالبقوليات والغِلال والخضراوات والوصفات الجديدة. كذلك كان تأثيرُ التونسيين العائدِين من الحرب العالمية الثّانية، الذين جنّدَتهم فرنسا في جيشها وعادوا بثقافاتٍ جديدةٍ في الأكل واللباس ونمطِ الحياة.

حين نقارِنُ مائدتَنا البدويّةَ في الجنوب التّونسي بمُعظَم مطابخِ البلاد، لا سيّما في الشّمال الغربي، نجدُ أنّها لَم تتأثّر بشُحِّ الموارد الطبيعيّة وضُعفِ الغطاء النباتيّ ونُدرةِ التنوّع الحيواني، ولا ببُعْدِ الأسواق الكبيرة والثريّة غذائياً وحسْب، بل تأثّرَت أيضاً بضُعف حضُور الهجرات من شمال المتوسّط. فمُعظَمُ تلك الهجرات، لا سيّما الموريسكيون، وهُم الأندلسيون الذي رُحِّلو وطُرِدوا من بلادِهم بعد استيلاءِ الأسبان عليها، استقرّت في الشمال الغربي والوطن القبليّ شرقَ العاصمة. وكذلك فَعَلَ يهودُ مدينة ليفورنو الإيطاليّة، الذين شكّلوا في تونس ما نُسمّيه إلى اليوم "يهود القرانة"، بالإضافة إلى المالطيين والفرنسيين والإيطاليين. كلُّ هؤلاءِ كانت مجالاتُ استقرارهم الشّمالَ والسّواحل. ولنأخُذ على سبيل المثال تعدُّدَ أصناف الخُبز الموجودة في مدينة تستور في الشمال الغربي ونلحَظُ ثراءَ مائدتِها في الطّعام وتنوُّعَ أطباقِها، فنقفُ على حجم الاختلاف الذي تَصنعه كلُّ هذه العوامل الطبيعية والتاريخيّة والسياسيّة على المائدة وثقافة الطّعام.

تستور هي مدينةٌ نموذجيّة لفهمِ تشكُّل المجتمع التّونسيّ عبر هجراته الدّاخليّة والخارجيّة، إذ يعيش فيها المسلمون واليهود. وهي من أهمِّ حواضر الموريسيكيين في تونس. كما أنّها أيضاً من أهمّ مجالات استقرار قبيلة "وسلات" التي هُجِّرَت من جبل وسلات، قرب القيروان في وسط البلاد، منتصفَ القرن الثامن عشر، بعد أن تَصارع شقّا العائلة الحسينيّة الحاكمة حينذاك. وتبدُو تستور، بثرائها المطبخيّ، صورةً دقيقةً لتأثير الهجرات على ثقافة الطّعام وأصنافه ومهاراته، ومثالاً مهمّاً على معنى التاريخ الاجتماعي للطّعام. وكذلك تُقدِّم تفسيراً حَيّاً لإمكانيةِ كتابةِ تاريخٍ تُونسيٍّ اجتماعيٍّ وسياسيٍّ انطلاقاً من المائدة والمطبخ، فهي مدينةٌ خصبةٌ وقريبةٌ من العاصمة، أي المركز، وقريبةٌ من الأسواق الكبيرة. وتستور أيضاً حاضنةٌ لمعظَم الهجرات التي عاشتها البلاد.


حين كبُرَ جدّي وصار يافعاً، كان الشّايُ قد انتشر في تونس بفِعل تأثير المهاجرين الليبيين. وكان ذلك هو الحدثَ التاريخي والسياسي والاجتماعي الوحيدَ الذي أثّرَ في حياة جدّي كلّها وصنعَ منهُ ثروتَه الشخصيّةَ. لكنّه ظَلَّ حتى رحيله في تسعينيات القرن الماضي رجُلاً بدوياً صلْباً يرفضُ سكنَ المدينة ويأبى أن يستكين إلى خُبزِها.

لم يكن الحدثُ الاستعماريّ فارقاً في حياة جدّي وحدَه، بل كان حدثاً فارقاً في التاريخ المغاربي السياسي والثقافي والاجتماعي كاملاً. وقد أثّرَ الاستعمارُ الفرنسي بقوّةٍ في مختلف مناحي الحياة التّونسّية، وبلغ تأثيرُه المطبخَ نفسَه. بل وَصَلَ تأثيرُ الفرنسيين إلى المَزارع والفِلاحة، لذلك كان الاستيطانُ الزراعيّ وعلاقتُه بالمائدة والثقافة الاستهلاكيّة واحداً من أهمّ جوانب هذا الاستعمار الذي استمر من عام 1881 حتى 1956. 

الاستيطانُ الزراعي جزءٌ من تغييرات كبيرةٍ وواسعةٍ أدخلَها الاستعمارُ الفرنسيّ على الاقتصاد التونسيّ برمّته، والتي أدّت لاحقاً إلى تحوُّلاتٍ ثقافيّة واجتماعيّة هامّة. وبخلافِ مشاريع توطين البدو في الجنوب وما خلّفَته من آثارٍ على الثقافة المحليّة، كان اكتشافُ "الفوسفات" في وسط غرب البلاد سنة 1885 حدثًا فارقاً في تاريخ تونس الاجتماعيّ. فقد غَيّرَ "الفوسفات" نمطَ حياة تلك المنطقة بأكملِها، والتي نُسمّيها إلى اليوم "الحوض المنجمي". فقد بَدّلت المناجمُ التركيبةَ الاجتماعيّةَ للمنطقة بشكلٍ كبير، عندما وَطّنَ الفرنسيّون قبائلَ الوسط، مثل "الهمامة" و"أولاد سيدي عبيد"، لتوظيفهم في شركات "الفوسفات". واستُقدِمَت اليدُ العاملةُ وبأعدادٍ كبيرة من الجزائر والمغرب وليبيا.

دَرَسَ المؤرِّخُ حفيظ الطبابي في كتابه "من البداوة إلى المنجم" المنشورِ عام 2012 هذه التحوّلات وما رافقَها من تغييرات على مستوى الثقافة الاجتماعية والحياة اليوميّة، بما فيها الطعام واللباس ونمط العيش. كما صَوّرَ مسلسلٌ دراميٌّ تونسيٌّ اسمه "ضفائر" أذيعَ سنة 2001 بدقّةٍ تاريخيّةٍ تحوّلاتِ المنطقة وتركيباتِها الاجتماعيّة وما دخل عليها من عاداتٍ ثقافيّةٍ جديدة في التقاليد ونمط الحياة والأكل والترفيه وحتى الوعي السياسي والنقابي.

ويندرج الاستيطانُ الزراعيُّ ضمن هذه التغييرات الجذريّة والتحديثيّة التي أدخَلَها الاستعمارُ الفرنسي على الاقتصاد التّونسي. وكان لذلك تأثيراته الكبيرة على المطبخ والثقافة التّونسيين، لا سيّما في شمال البلاد. فقد كانت غراسة الكروم منذ القِدَم جزءاً من الفِلاحة التّونسيّة. ومع تراجعها في القرون التي سبقت الاستعمار الفرنسي، فإنّ الاستيطان الزراعي أعاد إحياءَها لتصبحَ واحدةً من أهم الزراعات المُشكِّلة للفِلاحة والاقتصاد التّونسيَيْن. ففي كتابه "كروم الهيمنة: تاريخ اجتماعي للكحول في تونس زمن الحماية الفرنسية" يعود الباحثُ الفرنسيُ الجزائريُ الأصلِ نسيم زناين إلى أزمة حشرة فيلوكسيرا، التي ضَربت أوروبا انطلاقاً من فرنسا منتصفَ القرن التاسع عشر، لتصل حتى مَزارع الكروم في الجزائر، المستعمرة الفرنسية، مما أدّى إلى تحويل تونس بعد دخول الاستعمار إلى واحدةٍ من أهمّ مَزارع الكروم لتعويض نقص المحاصيل الموجَّهة لإنتاج النبيذ في أوروبا. ولتعود تونس إلى موقعها التاريخيّ القديم على خارطة "جغرافيا الكروم والنبيذ"، وتصبح لاحقاً واحدةً من أهمّ مصدِّري أنواعِه الأجودِ لموائد شمال المتوسّط.

كانت تلك المَزارعُ تقعُ في معظمِها في الشّمال التونسيّ الخصيب. أمّا هنا في الجنوب الصحراويّ القاحل، ومع ضُعف تأثير الهجرات والبُعد عن الأسواق الكبيرة، ظَلَّ المطبخُ فقيراً. وظَلَّ الإنتاجُ الفِلاحيُّ محدوداً وبَقِيَت قوائمُ السِلَع والموادّ الغذائيّة قليلةَ التنوُّع. واستمرَّ الأهالي طيلةَ عُقودٍ يُقاوِمون خُبزَ المدينة. وحتى عهدِ الاستقلالِ ومشروعِ التحديث الوطني، كان خُبزُ الحمّاس والملّة هما الخُبزان الرئيسيان في هذه المنطقة، فلَم تنتشرْ أنواعُ الخُبز الأُخرى إلا لاحقاً. فقد نَشَرَ المذياعُ والتلفازُ ثقافاتٍ جديدةً في المطبخ، وعاد أبناءُ الجنوب التونسي المهاجِرون بمهاراتٍ ومعارفَ أُخرى وضعوها في المائدة والذّوق وطرائق العيش. وتراجَع خُبزُ البداوة تحت وطأةِ التّحديث والحداثة، لكنّه بقيَ علامةً على سردٍ كاملٍ في تاريخ التحوّلات الاجتماعيّة المحليّة والوطنيّة.

اشترك في نشرتنا البريدية