في الاجتماع دعا بعض الأعضاء إلى الالتزام بقرار التقسيم الأمميّ، والاقتصارِ على الحدود الممنوحة للدولة اليهودية التي شملت 56 بالمئة من أرض فلسطين التاريخية. شدّد هذا التيار على اعتماد إستراتيجيةٍ دفاعيةٍ تركز على حماية الدولة الناشئة من الهجمات العربية المحتملة، من غير توسيع رقعة القتال. في المقابل، برز تيارٌ معارضٌ بقيادة ديفيد بن غوريون، أحد أبرز مؤسسي الحركة الصهيونية، تبنّى إستراتيجيةً توسعيةً هجومية. ودعا إلى احتلال مناطق خارج حدود التقسيم، خصوصاً المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية مثل الجليل والساحل الأوسط وصحراء النقب.
أَولى بن غوريون اهتماماً خاصاً بصحراء النقب، وعدّها حجر زاويةٍ في الأمن القومي الإسرائيلي، لأنها تشكّل أكثر من نصف مساحة "الدولة" وتوفِّر عمقاً جغرافياً استراتيجياً بين الجنوب والوسط. بالإضافة إلى ذلك قد تكون أرضاً صالحةً للاستصلاحات الزراعية والمشاريع التنموية، على طبيعتها البيئية القاسية. والأهمّ من هذا وذاك، أنه رأى فيها مفتاحاً لبقاء الدولة الإسرائيلية، إذ قال علانيةً: "إذا لم ندافع عن النقب فلن تكون هناك تل أبيب".
اهتمت الحركة الصهيونية منذ تأسيسها بصحراء النقب، ورأت فيها موقعاً لا يقلّ أهميةً عن أيّ مركزٍ حضري. وبعد النكبة هجّرت إسرائيل معظم سكان النقب الفلسطينيين، وأبقت أقليةً منهم في منطقةٍ محددةٍ تحت السيطرة العسكرية. عمل الإسرائيليون على تغيير هوية النقب بتوطين اليهود القادمين من دولٍ عربيةٍ مختلفةٍ وتهويد أسماء المناطق وتهميش القرى العربية البدويّة، برفض الاعتراف بها وحرمانها من الخدمات الأساسية. وجُعلت النقب مركزاً للمشاريع الزراعية والعسكرية الكبرى، ضمن خطةٍ لإحكام السيطرة الجغرافية والسكانية عليها. أثناء سكني في المنطقة خمس سنواتٍ إبان عملي مدرّسةً في إحدى مدارس القرى غير المعترف بها، لفتَ انتباهي التطوير الذي تعمله إسرائيل في الصحراء. وبمحض الصدفة كانت مدرستي بجانب مجمَّعٍ سكاني إسرائيلي اسمه سديه بوكير، وقد أسّسه بن غوريون في النقب، ودُفن فيه لاحقاً.
وأبرزت وجهة نظره هذه، بحسب كتاب المؤرخ الإسرائيلي سيدرات عيدان بعنوان "ييشوف هانيجيف 1900-1960" (استيطان النقب 1990- 1960) الصادر سنة 1985، رؤيةَ المشروع الصهيونيّ في أرض فلسطين على المدى البعيد. خاصةً وأن الحديث حينئذٍ لم يكن قائماً، دولياً وداخل أروقة المؤسسة الصهيونية، عن احتلال النقب والاستيطان فيه، ولم يكن يُعرف بعد ما هي حدود الدولة التي يخططون للبقاء فيها.
وفي خطابٍ ألقاه أمام اللجنة الصهيونية، بتاريخ الثالث من فبراير 1948، أكّد بن غوريون أن هذا الاستيطان هو الخطوة الأولى وخطّ الدفاع الأوّل عن وجود تل أبيب، وأن خروج النقب عن السيطرة سيهدّد وجود تل أبيب.
وفي معرض دفاعه عن أحلامه التوسعيَّة، ذكر بن غوريون أن الذين هاجروا من جيله إلى أرض فلسطين لم يأتوا من أجل الاستمتاع بما هو "موجود"، إذ لم يكن هناك شيءٌ "موجود" آنذاك، وفقاً للتصوّر الصهيوني. وقد بنوا بسواعدهم بِتاح تِكفا (مفتاح الأمل)، أول مستوطنةٍ صهيونيةٍ في إسرائيل، في حين كانت تل أبيب "موجودة" في مخيّلاتهم فقط. ووفقاً لبن غوريون كان "الوجود الخيالي" هو الدافع الأساسي، "للطلائعيين" للاستيطان في فلسطين. والطلائعيون (هحالوتسيم بالعبرية) مجموعةٌ من الشبّان اليهود الذين استوطنوا فلسطين في موجة الهجرة الثانية بين عامَيْ 1904 و 1914، ليصبحوا عمّالاً زراعيين في المستوطنات الصهيونية، وقد أطلق المؤرخون الصهاينة هذا الاسم عليهم.
واستحضر بن غوريون في خطابه الرجالَ الذين دافعوا عن حيّ "هتكفا"، الذي أقيم على أراضي بلدة "سلمة" الفلسطينية، ويعَدّ نقطةً مهمةً في الذاكرة الجمعية الصهيونية. فقد أوشكَ المستوطنون على مغادرة الحيّ عقب مواجهاتٍ شرسةٍ بينهم وبين الفلسطينيين أصحاب الأرض، إبان الثورة الكبرى سنة 1936 على الانتداب البريطاني والحركة الصهيونية، لولا الدعم العسكري الذي بذلَه البريطانيون للمستوطنين. وأكّد بن غوريون بأن الدفاع عن هتكفا لم يكن فقط من أجل الحيّ بحدّ ذاته، بل من أجل فكرة الأمل. وعلى غرار فكرة الأمل، ربط بين استيطان النقب وتأمين هذه الصحراء لليهود وبين فكرة الأمن الإسرائيلي عموماً.
الأهمية الإستراتيجية للنقب ليست وحدها الفاعل الأساس في فكر بن غوريون والحركة الصهيونية. إذ ثمّة جانبٌ توراتيٌ كذلك ساهم بصياغة نظرةٍ حالمةٍ للصحراء بالعموم، ووُظّف مبرّراً ودافعاً مضافَيْن لاستيطانها. في المخيال الجمعي اليهودي ارتبطت الصحراء – وخاصةً صحراء سيناء المصرية، التي تمتدّ منها صحراء النقب – بالخروج اليهودي من مصر في عهد النبيّ موسى هرباً من سطوة فرعون. ومن الخروج من مصر وما تبعه من تيهٍ في الصحراء، حسب النصّ التوراتي وما ارتبط به من طقوسٍ، نشأت رمزيةٌ عند بني إسرائيل أنهم قوم مؤمنون يأملون الخلاص بمعية القدرة الإلهية. لذا بات الخروج جزءاً أساساً من العقيدة اليهودية، يُعبَّر عنه بثلاثة أعيادٍ مهمة. أوّلها عيد الفصح اليهودي، الذي يُحْيِي خروجَ بني إسرائيل من مصر. يتبعه بعد خمسين يوماً عيد الأسابيع (أو عيد العنصرة) ويحتفل به بنزول التوراة على موسى في طور سيناء. أما الثالث فهو عيد العرش اليهودي، الذي يُحْيِي ذكرى خيام السعف التي سكنها اليهود في تيه صحراء سيناء.
وفي كلّ هذه الرمزيات الدينية يتكرّر التذكير بعلاقة اليهود بالصحراء. وتشير المؤرّخة الإسرائيلية يائيل زيروبافيل في كتاب "ديزيرت آز هيستوريكَل مِتَفور" (الصحراء رمزيةً تاريخية) الصادر سنة 2018، بأن تيهَ سيناء مثّل الخطوة السابقة أو المرحلة الانتقالية نحو "الخلاص" بالوصول إلى أرض الميعاد في فلسطين. وكانت صحراء النقب البوابة لهذه الأرض.
اعتمدت الصهيونية على إعادة تأويل هذا القَصَص التوراتي وسيلةً للحشد والإلهام، ومصدراً لتثبت حقّاً عَدّته تاريخياً لليهود في فلسطين. فمثلاً في الكتابات الصهيونية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حسب زيروبافيل، صُوّرت النقب أرضاً قاحلةً وموحشةً ومعزولة. ولكن بعض هذه الكتابات، ومنها ما كتبه الطبيب اليهودي الروسي حاييم هيسيني في زيارته فلسطين سنة 1882، نَسَبَت هذه الوحشة إلى الشتات اليهودي في فلسطين قبل ألفي عام.
بنظر هؤلاء الكتّاب أُخرج اليهود من أرض فلسطين، ولم يُلْقِ مَنْ سكن الأرض بعدَهم بالاً لاستصلاحها، فَضلَّت الأرض معزولةً وقاحلة. ويبدو هذا السرد امتداداً وجزءاً من الرواية الصهيونية الأكبر، وهي أن أرض فلسطين كانت يباباً مهملةً، فجاءها اليهود الأوروبيون وحولوا الصحراء أرضاً خضراء يافعة. وصل الأمر ببن غوريون والمؤرخ الصهيوني يتسحاق بن زفي في كتابهما المشترك سنة 1918 وعنوانه "إيرتس يسرائيل بأفار أو فاهوفيه" (أرض إسرائيل في الماضي والحاضر)، للقول أن ما بقي من أشجارٍ في فلسطين حينئذٍ يعود بأصوله لفترةٍ سبقت "الغزو العربي" لفلسطين. فالعرب الفلسطينيون من هذا المنظار تركوا الأرضَ بواراً والنقبَ يباباً تلسعها أشعة الشمس الحارقة وتناثر الرياح رمالَها أكثر من ألف عام. يقول بن غوريون وبن زفي بأن منطقة "غزة [امتداد للنقب] لم يزرع فيها شجرة زيتونٍ واحدةٌ منذ الغزو العربي [لفلسطين]".
وإن كان بن غوريون علمانياً، فإن التأثير التوراتي الديني والتاريخي على الروايات المؤسسة للحركة الصهيونية قد ساهم في تشكيل وجدانه العاطفي تجاه النقب. يقول الأكاديمي والمؤرخ الفلسطيني نور مصالحة في كتابه "ذا زايونيست بايبل" (التوراة الصهيونية) الصادر سنة 2013، أن بن غوريون كغيره من أقطاب الحركة الصهيونية، ربط شرعية الحركة وإنشاء وطنٍ قوميٍ لليهود في فلسطين بالنصّ التوراتي واتخذه مرجعيةً تاريخيةً وسياسية. ففي شهادةٍ أمام لجنة بيل البريطانية، وهي اللجنة التي كلّفتها الحكومة البريطانية بالتحقيق في أسباب ثورة عرب فلسطين سنة 1936، قال بن غوريون إن "التوراة هي مصدر تفويضنا [إشارة للحركة الصهيونية]".
استقال لافون من منصبه بعد اتهامه بالمسؤولية عن هذه الفضيحة. لتتحول الاستقالة إلى صراعٍ داخليٍ في حزب "مباي" الحاكم، بين أنصار لافون وبن غوريون. وعندما ظهرت لاحقاً معلوماتٌ تشير إلى أن لافون ربما لم يصدر الأمر بالعملية فعلياً، طالب أنصاره بإعادة الاعتبار له، بينما أصرّ بن غوريون على موقفه ورفض تبرئته. وبلغ الخلاف ذروته مع تشكيل "لجنة السبعة" للتحقيق في القضية، إلّا أن هذه اللجنة زادت حدّة الانقسامات داخل الحزب، إذ شكّك بن غوريون في نزاهتها، ما دفعه إلى الاستقالة من رئاسة الحكومة مع بقائه عضواً في الكنيست.
هذه الاضطرابات السياسية واستقالة بن غوريون من رئاسة الحكومة لم تَعْنِ نهايته السياسية، فقد ظلّ على ساحة التأثير في صنع القرار في إسرائيل عدّة سنواتٍ بعدها. وبحسب زاكي شلوم في كتابه "بن غوريونز بوليتيكال سترغلز 1963-1967" (صراعات بن غوريون السياسية 1963-1967) الصادر في 2006، فقد كوّن الزعيم الإسرائيلي حزباً سياسياً جديداً بِاسم "رافي" سنة 1965. ومع نجاح الحزب في الحصول على عشرة مقاعد في انتخابات الكنيست سنة 1968 واستمرار بن غوريون عضوَ كنيست، إلّا أن الحزب تفكّك ذلك العام وانضمّ بعض أعضائه لحزب بن غوريون السابق "مباي"، وبعضهم لحزب "أخَدوت هعفودا" (ما بات لاحقاً حزب العمل).
شكّل بن غوريون حزباً آخَر بِاسم القائمة الوطنية، فاز بأربعة مقاعد في انتخابات الكنيست 1969، وكان هذا آخِر عهد بن غوريون بالسياسة. حسب زاكي شلوم في كتابه، فإنَّ بن غوريون كان على طريق الانفصال عن العمل السياسي قبل ذلك بأعوامٍ قليلة. ويُستدَلّ بذلك على عدم معرفته بالظروف الأمنية التي سبقت حرب يونيو 1967، وكأنه فقد الصلة بالواقع. ومع نهاية مسيرته السياسية، لم ينسَ بن غوريون أحلامَه في النقب التي عمل على تحقيقها طوال وجوده في السلطة. وفي يونيو 1970 في الرابعة والثمانين من عمره، انتقل ليمضي ما تبقّى من حياته في كوخٍ متواضعٍ في سديه بوكير، حيث علّق في غرفته صوراً لغاندي وإبراهام لنكولن والنبيّ موسى.
عُثر لاحقاً في بيته على مقابلةٍ مسجّلةٍ معه عن أسباب انتقاله إلى سديه بوكير بغتةً هكذا، فجاءت إجابته: "جئت إلى الصّحراء حيث لا شيء: لا تراب ولا ماء ولا أشجار. جئت لحراثة الحقول التي لم تمسسها يدٌ آدميةٌ من قبل. سنخلق كلّ شيءٍ من البداية، كلّ شيءٍ هنا سيكون من صنع أيدينا نحن. وعندما أرى شجرةً، سأكون متأكداً بأننا الذين زرعناها، لا الآخَرون".
عقب إعلان قيام دولة إسرائيل سنة 1948، كان غالبية سكّان النقب قد هُجّروا أو هَرَبوا أثناء النكبة إلى غزة والأردن ومصر والضفّة الغربية. ولم يبقَ من سكّان النقب إلّا أحد عشر ألفاً تعود أصولهم لعشر قبائل، من أصل خمسةٍ وستّين إلى خمسةٍ وتسعين ألفاً سكنوها قبل النكبة، ينتمون لخمسٍ وتسعين قبيلة. وقد طبّق المسؤولون الإسرائيليون في ذلك الوقت خطّة إخلاء النقب من سكّانه، أو حشر من بَقِيَ منهم في مناطق محدّدةٍ شرقيّ بئر السبع تحت حكمٍ عسكريٍّ، وسُمّيت المنطقة "السياج". وذلك من أجل توفير الأراضي اللازمة لاستيطان اليهود ولبناء قواعد للجيش الإسرائيلي وإبعاد بدو النقب عن الطرق الرئيسة. ظلّ بدو النقب، كما سائر العرب الفلسطينيين ممّن بقوا داخل الخط الأخضر بعد النكبة، تحت حكمٍ عسكريٍ إسرائيليٍ حتى سنة 1966. فرضت عليهم في تلك المدّة قيودٌ على التنقل والعمل، ومنعوا من التواصل مع ذويهم ممن هُجّروا إلى خارج حدود الدولة الجديدة.
وبحسب إحصائيات من جامعة بن غوريون في النقب، يتجاوز عدد السكان الفلسطينيين في النقب اليوم ثلاثمئة ألف مواطن. جزءٌ من هؤلاء يسكنون أراضيَ نقلتهم الحكومة الإسرائيلية إليها طوعاً ضمن مشاريع إعادة التوطين. إذ بعد انتهاء الحكم العسكري، بَنَت السلطات الإسرائيلية بين سنتَيْ 1968 و 1989 سبع بلداتٍ لتسكين البدو، وعرض عليهم الانتقال إليها والحصول على الخدمات المدنية والبنية التحتية مقابل تخلّيهم عن أماكن سكنهم التاريخية. وبالفعل انتقل نصفهم تقريباً إلى هذه البلدات في سنواتٍ معدودة.
في المقابل، ما زال نحو مئةٍ وخمسين ألفاً آخرين في قرىً استوطنها البدو من مئات السنين، ولم تعترف دولة إسرائيل بوجودها. وذلك لأسبابٍ تاريخيةٍ متعلّقةٍ بطريقة تسجيل الأراضي التي كانت متّبعةً في النقب قبل سنة 1948. إذ إن هناك خلافاً قانونياً وسياسياً حول مسألة الملكية على الأراضي، وتستند إليه إسرائيل من بين جملةٍ من الأمور الأخرى لإبطال الاعتراف بوجود هذه القرى. بالمقابل، بَنَت الدولة مئات المستوطنات اليهودية في النقب، بل وشجّعت المستوطنين على الانتقال إلى هناك.
بعد بداية الألفية الثالثة وبعد نزاعٍ مستمرٍ مع السكّان، اعترفت إسرائيل بإحدى عشرة قريةً من أصل ستٍّ وأربعين، وظلت خمسٌ وثلاثون قريةً بلا اعترافٍ رسمي. ترفض إسرائيل مدّ هذه القرى بالكهرباء والماء، ولا تسمح بإصدار تراخيص البناء، وتهدم ما يُبنى سراً أو غير قانونيّ. كذلك يستوطن أربعمئة ألف يهوديٍ منتشرون في المدن والمجمعات السكانية المختلفة. ويختلف المجمع السكاني عن المستوطنة، وإن كان نوعاً من المستوطنات، فهو أشبه بالقرية التعاونية الزراعية ذات الطابع الاشتراكي.
عند انتقال بن غوريون إلى سديه بوكير، لم يكن المجمع على شكله المتطور اليوم. بل عمل رفقة المستوطنين هناك في الزراعة وتطوير الأرض، حتى إنّ غولدا مائير، رابع من تولى رئاسة وزراء الحكومة الإسرائيلية، قد سخرت من اختيار بن غوريون العيش في هذا المجمع الصغير غير المتطوّر بينما تل أبيب وبيتاح تكفا قائمتان. لكن اختياره هذا لم يأتِ من فراغٍ، فقد اختار البدء منذ احتلال فلسطين بالعمل على تطوير النقب زراعياً، حتى جاء اليومَ جيلٌ إسرائيليٌّ يكتب في الإعلانات الترويجية للسياحة في النقب، مقولته عن أهمية هذه المنطقة.
كتب بن غوريون في يومياته عند زيارته النقب في الحادي عشر من يونيو سنة 1949: "من إيلات – العقبة – عبر فضاءات وادي عربة. من عين حصب إلى عين وهبة. علينا أن نعطي أسماء عبريةً لهذه الأماكن. أسماء تاريخيةً، وإن لم توجد، فلتكن أسماء جديدة".
وفي يوليو 1949، اقترح بن غوريون تشكيل لجنةٍ يوكَل لها مهمّةٌ محدّدةٌ جغرافياً في منطقة النقب فقط، أي في النصف الجنوبي من أرض فلسطين، وذلك "لتحديد أسماء عبريةٍ للأماكن كافّةً، الجبال والوديان والينابيع والطرق وما شابه ذلك في منطقة النقب". عملت هذه اللجنة حتى سنة 1951، وحدّدت 533 اسماً عبرياً جديداً حلّت محلّ الأسماء الجغرافية العربية للنقب. كثيرٌ من الأسماء الجديدة استندت على أسماء عربيةٍ سابقةٍ إما بترجمتها حرفياً أو إبقاء الاسم العربي على حاله. بقي الاسم العربي في ثمانِ حالاتٍ فقط، واستخدمت الأسماء التاريخية العبرية في مئةٍ واثنتين وعشرين حالةً، والأسماء التوراتية في خمسين حالةً، واستُحدِث ثلاثون اسماً.
وبالتوازي مع فرض حقائق على الأرض، اعتمدت إسرائيل منذ تأسيسها على قوانين لفرض واقعٍ استعماريٍ على الفلسطينيين المتبقّين داخل إسرائيل وسلبهم أملاكهم، ومنهم بدو النقب. من أهمّ هذه القوانين قانون أملاك الغائبين، الصادر سنة 1950، وبموجبه صادرت الدولة ممتلكات الفلسطينيين الذين نزحوا من بيوتهم سنة 1948 وأراضيهم. وقانون أملاك الدولة الصادر سنة 1951، ويشير للمساحة التي أصبحت خاضعةً لسلطة إسرائيل بعد النكبة ويمنحها حقّ التصرف فيها. وقانون استملاك الأراضي الصادر سنة 1953، ويمنح الدولة حقّ السيطرة على الأراضي لأغراض "التطوير" و"الاستيطان".
يضاف لهذه القوانين قانون أراضي إسرائيل سنة 1960، وهو قانونٌ يُعرِّف ويحدِّد الأراضيَ التي تملكها الدولة والتي يملكها الصندوق القومي اليهودي ويمنع التصرف بها. في 1967 سُنّ أيضاً قانون الاستيطان الزراعي (يسمى أيضاً قانون التقييدات على استخدام الأراضي الزراعية والمياه)، ويضع قيوداً على استخدام الأراضي والمياه الزراعية والمتاجرة بها. بعد عامين، خرج للضوء قانون تسوية الحقوق في الأراضي، لاسيما ما تعرفه الدولة العبرية "أراضيَ متنازعاً عليها".
وظلّت رؤية بن غوريون سنين بعد وفاته جزءاً من السياسة الإسرائيلية، وإن لم يكن وحيداً في رؤياه هذه. فقد تبنّى أرئيل شارون مثلاً عند توليه رئاسة الحكومة سنة 2001، مخططات وإجراءات لطرد بدو النقب من أراضيهم. وحسب ما يذكر حسن مواسي في مقالته "النقب والمثلث ووادي عارة والجليل" الصادرة سنة 2014، هُدم 133 منزلاً عربياً في النقب في 2003، ومئةٌ وخمسون مبنىً آخَر في 2004. وفي سنة 2005 طالت أوامر الهدم مئتين وعشرين مسكناً ومبنى. يضاف لذلك الاعتماد على قانون "إخلاء الغزاة" الذي بلوره الكنيست سنة 2024، ويستهدف عرب النقب ممّن لا يملكون أوراق "طابو" تثبت ملكيتهم أراضيهم.
لم ينتهِ الأمر هنا، فقد جاء مشروع قرار برافر سنة 2013 بناءً على توصيةٍ من وزير التخطيط الإسرائيلي إيهود برافر سنة 2011 لمصادرة مزيدٍ من أراضي العرب في النقب. يقضي المشروع بالاستيلاء على نحو سبعمئة ألف دونم، بما يعني حصر العرب الذين يشكّلون 30 بالمئة من سكّان النقب في 1 بالمئة فقط من أراضي المنطقة. إلّا أن إسرائيل تراجعت عن تطبيق هذا القانون في نهاية العام نفسه، نتيجة الضغوط الشعبية داخل الخط الأخضر.
يرى وايزمان أنّ تقاطع عنف الصهاينة مع العنف الإيطالي لم يكن في الممارسات وسياسات التدخل البيئي وحسب، بل في المِخيال لكلا الاستعمارَيْن. كانت الصهيونية تسعى إلى "إحياء تراث الأجداد" في صحراء النقب وسائر فلسطين، في حين عمل الإيطاليون على إعادة "أمجاد" الرومان في الصحراء الإفريقية.
وتعدّ سياسة التشجير والتحريج واحدةً من أبرز سياسات الحركة الصهيونية التي مارستها في فلسطين بعد احتلالها. وكانت ممارساتها في النقب الأعنفَ تجاه الإرث البيئي للمنطقة، إذ لم تتوقف هناك عند السياسات الاستعمارية الاعتيادية للتشجير والتحريج، بل امتدّت للعمل بمقولة بن غوريون لاحقاً "لِهَبريخ إت هَانيجيف" بما معناه تَخضير النقب ضمن سياسة الإنبات الاستعماري للبيئة.
عمل بن غوريون بحسب نظريته "تخضير النقب" على طرد السكّان البدو الأصليين، إذ هُجّر ما يعادل 90 بالمئة من سكّان النقب سنة 1948 إلى الأردن وغزّة. وقد أوضحت دراسةٌ جرت سنة 1998 أن عدد اللاجئين من النقب بلغ أكثر من نصف مليون نسمة، ومن تبقّى في قضاء النقب بعد حملة التهجير لم يتجاوز عشرة آلاف نسمة في السنوات اللاحقة. احتلّ مستوطنون يهودٌ النقبَ، وقد جاؤوا من دولٍ عربيةٍ مثل المغرب والعراق واليمن. وبنظرةٍ استعلائيةٍ غربيةٍ وُطّنوا في النقب، لاعتقادٍ سائدٍ بأنهم سيتحمّلون المناخ الصحراوي لقدومهم من مناخٍ مشابهٍ، خلافاً للمستوطنين القادمين من أوروبا.
وفي محادثةٍ سابقةٍ لكاتبة المقال مع الباحث والكاتب يهودا شنهاف عن كتابه "اليهود العرب: قراءةٌ ما بعد كولونيالية في القومية والديانة والإثنية" المترجم للعربية سنة 2016، قال بأن جَدّته لم تعرف العبرية، وعند هجرتها لإسرائيل في خمسينيات القرن العشرين، وُطّنت في النقب دون رغبةٍ منها. وأجبرت مع آلاف اليهود العرب على البقاء في النقب حتى أتقنوا اللغة العبرية، ثم سمح لهم بالانتقال إلى حيث يرغبون.
المشروع الأوّل هو مشروع خطّ ريّ "اليركون – النّقب" الذي نُفّذ سنة 1952، إذ ضخّ المشروع مياه منابع نهر العوجا وسط فلسطين عبر قنواتٍ مائيةٍ إلى مناطق شمال شرق النقب. والمشروع الثاني الذي نُفّذ سنة 1964 وهو مشروع الريّ القُطري (يسمّى بالعبرية: هَموفيل هآرتسي) يحوّل المياه من بحيرة طبريا شمالي البلاد إلى رأس العين في وسطها على طول مئةٍ وثلاثين كيلومتراً، ثمّ يمتد إلى النقب جنوباً. وقد جاءت مبادرة تحريج النقب في سنة 1939 من الصندوق القومي اليهودي "ككال"، إذ عملوا مبادرة فحص إمكانية تخضير النقب بغرس أصنافٍ من الشجر الحراجيّ فيه، بما يتناسب مع طبيعة تربته الجافّة وعالية الملوحة. غير أنّ التحريج فعلياً قد بدأ في مطلع الخمسينيات بعد قيام الدّولة. وذلك بعد توطين يهود شمال إفريقيا فيه، إذ استُغِلّوا للأعمالٍ الشاقّةٍ من بينها الغرس والحفر.
رفض معظم الأهالي ترك بلداتهم. واليوم عندما تسير في النقب، ستلاحظ وجود بيوتٍ من الصفائح المعدنية "الزينكو" والخيام على جانبَي الطريق، بجانب مستوطناتٍ ومدنٍ يهوديةٍ تتوفّر فيها كلّ سبل الرفاهية. وفي أماكن أخرى لا يفوت الناظر مشاهد لبقايا قرىً بدويةٍ هدمت وما زال يرزح بعض سكانها بين أنقاضها، يعيدون بناءها أحياناً. وليست قرية العراقيب قرب بئر السبع، التي هدمتها إسرائيل ما لا يقلّ عن مئتي مرّةٍ، سوى مثالٍ حيٍّ على سياساتٍ تهدف لاقتلاع ما بقي من بدو النقب من أراضيهم.
